لئن أوحشت تونسَ بعد بُعْدٍ ... فأنت لمصرَ ملكَ الحُسْنِ تُؤْنِسْ
ثم انعطفنا الى مقام الليث بن سعد، ومقام السيدة نفيسة، وما امتنف تلك البقاع من الاماكن الانيسة. ثم زرنا مقام سيدي عمر بن الفارض، وشاهدنا في مقامة الانس اللائح والنور الفائض. ثم بعد ذلك توجهنا للجيز لزيارة كعب الاحبار، وما في تلك البقاع من قبور الصالحين الاخيار. ولم يكن دأب مولانا الاّ قصد الزيارات واستباق الخيرات.
ثم لما قضى تلك الزيارات تصدى لفصل الأحكام الشرعية بين الانام، متمسكًا من تقوى الله تعالى بالسبب الاقوى، محافظًا على العمل بالأوامر الشرعية في السر والنجوى، فسار - أدام الله تعالى أيامه - في الناس سيرة حسنة، ونطقت بالدعاء له من الخواص والعوام جميع الألسنة. وسلك - أسبغ اللع تعالى نعمه عليه - مسلكا لم يسبقه أحد من القضلة إليه.
وكان يجلُّ العلماء غايةَ الاجلال والاعظام، ويعاملهم بانواع التبجيل والاحترام. واتبع حذوَ والده المرحوم في جميع مقاصده، ولا غرو أن يحذوَ الفتى حذو والده. وأحاط بأحوالِ مصر علمًا حتى بلغ أقصاها، ولم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة غلاّ احصاها. ووجه إلى إزالة المنكرات همةً عالية عظيمة، حتى قطع أصل أمّ الخبائث من مصر فكانت عقيمة، ولم يدعْ بيتَ خمرٍ ألاّ كسرَ دنانه، وخلع أوتاده وقطع ايبابهُ وهدم اركانه، ولم يبقِ حانًا في مصر العتيقة وبولاق غلاّ جعلها " خاوية على عروشها " ولخمرها أراق، حتلا سلا الناس عن ارتضاع كاس المدام:
سلو رضيعٍ قد علاهُ فطامُ
ولقد شاهدنا كسر دنان خمرفي مصر العتيقة على طرف النيل، فخالطته بحيث غيرت لونه الأول، وذكرنا ذلك قول القائل:
فما زالت القتلى تمجُّ دماءها ... بدجلةَ حتى ماءُ دجلة أشكلُ
وأما المساجد والأوقاف فقد عمر كثيرًا منها بعد أن آل أمرها إلى الاضمحلال، وصارت بحيث يذكر فيها اسم الله ويسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال. ومن جملة ما ازاله من المنكرات، وقطع اصله من البدع المحدثات: استيلاء طائفة الكفار على الإماء المسلمات. فصرف إلى ذلك عزمه الشريف وسعى فيه سعيًا جميلًا، وأجبر الكفار على بيعهن للمسلمين عملا بقوله تعالى: " ولن يجعلَ اللهُ للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
وكان يبذل الجهد في نصرة الحقّ ويجادل عنه ويباحث، ولعمري ليس له في القضاء ثان بل لعمري أنه الثالث. وبالجملة فصفات هذا المولى الجليل تجلّ عن أن تحصر، أو تكتب في الدفاتر وتسطَّر:
فوا عجبا مني أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيسُ والصحفُ
أقاضينا هذا الذي أنت أهلعه ... غلطت ولا الثلثان منه ولا النصف
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعفِ الضعفِ بل مثله ضعفُ
ثم أن مولانا - أدام الله تعالى رفيع جنابه - وجه همته في منصب القضاء لعبد بابه، وكان يعرفه كثيرًا عند حضرة اسكندر باشا بكمال التعريف، ويذكره عنده بما يليق بوصفه الشريف. فكان العبد يتردد إلى حضرته العلية، وهو يميل إلى المباحثة مع اهل الفضل ويحبهم محبةً كلية. وكنت اقابل له بعضَ كتب التفسير، وأصححها غاية التصحيح والتحرير. فاتفق في ذلك الاثناء وفاة قاضي التزمنتية، ففوّض قضاءها للعبد وعرض الأمر إلى السدة السنية العلية. وتوجه الفقير إلى القضاء المذكور لتنفيذ الأحكام، وأرسل العرض مع مندوبه فسبقه خبر وفاة قاضيها ببعض ايام، فاعطي القضاء المذكور لقاض من القضاة، وكانت عدد ايام اقامتي بها كعدد ايام الميقات.
ثم توجهت بعد ذلك إلى المحمية القاهرة، فألفيت الخبر جاء من دمشق بوفاة المرحوم فوري أفندي المفتي المشار إليه أعلاه وانتقاله إلى الدار الآخرة. فكان خبرًا أظلم الوجود لوصوله، وحل الهم المبرح بحلوله، وأجرى الدمع من العيون، وأوجع القلوب وقرح الجفون. فعاين العبد من هذا الخبر أن سماء قلبه انفطرت، ونجومها انكدرت، وتفتت منه الأحشاء وتقطع الفؤاد، وذكره فقده، وما كان ناسيا، أن الموت نقادٌ، فياله مولى أظلمت الدنيا لفقده، وخلت ربوع الفضائل من بعده:
فلكل معدوم سواه مشبه ... ولكل مفقود سواه نظير
وبالجملة:
ولو كان غير الموت شيء اصابهم ... عتبت ولكن ما على الموت معتبُ
1 / 17