ثم ضحك كثيرًا وألتفت إلى الشيخ نور الدين العيسلي وقال له: يا مولانا وفاضل عصرنا، أن الشيخ محب الدين من اكبر المتعصبين على مصرنا، ولو رأيتم المكتوب الذي كتبه سابقًا إلى دمشق يتشوق إلى اخوانه، ويتشوف إلى أوطانه، ومدحته لدمشق المدحة الوافرة، وتفضيله لها على المحمية القاهرة، لرايتم العجب العجاب، إلى غير ذلك من الملاطفة في الخطاب. والتقطنا تلك الليلة من فوائده الشريفة ما يفوق الدرر، وشاهدنا من حسن محاضرته لطفًا ارق من نسيم السحر، وقضيناها ليلة كاد يسبق آخرها أولها آخرها، ولم يكن عيبها إلاّ تقاصرها. ثم إن عوامل المودة بيننا تأكدت بحيث صار الفؤاد مشغوفًا بمحبته، وكان العبد دائمًا يعطر مجالس قاضي القضاة بمدحته. فاتفق أنه جاء في بعض الليالي لزيارة مولانا قاضي القضاة فأبدى من نكته ولطائفه العجب العجاب، واملى من فوائده وفرائده ما حير العقول والألباب. فعرض عليه مولانا قاضي القضاة هذا الفقير وقال له: هذا الشيخ محب الدين ما هو غلا عبد جنابكم الخطير، فو الله لقد وقع هذا الكلام عند العبد ألطف موقع، وحل من قلبه أحسن موضع، وانشدت عند ذلك:
مذ صح عندي أنني عبدٌ لكم ... صغر الوجود بعينه في همتي
ولقد أتيه على الوجود تعززًا ... لما نسبت لكم وصحت نسبتي
ثم تشرفت بعد ذلك المجلس بمشاهدة ذات المحمية، وعرضت عليه قصة المحبة والعبودية، وقلت له: يا مولانا ان عبودية هذا المخلص لكم مبينة لا تحتاج في غثباتها إلى بينة، كيف لا وقد حكم بموجبها قاضي المحبة، وشافهكم بذلك مرة في أثناء الصحبة. ولله دره قاضيًا أحسن في أداء هذه الشهادة الحسنة الحسبة، فأني والله لم أزل اثني على مقاصده المستجادة، وأشكره ولا كشكري على هذه الشهادة. هذا ولو ذكرنا بعض فضائل مولانا وماسحنه، لعجز عن حصرها القلم وكل لسانه، وضاق صدر الطرس وأن كان متسعًا ميدانه:
وليس يزيد المرء قدراص ورفعة ... إطالة وصاف وإكثار مادح
وقد تعين أن نذكر حينئذ شيئًا من تراجم المشهورين من علماء الديار المصرية بطريق الإيجاز والإختصار، واما ترجمتهم بالاطناب فذاك شيء لا تحويه الاسفار.
محمد الرملي، فأما الإمام العالم العلامة، والحبر البحر الفهامة، شمس الملة والدين، الشيخ محمد الرملي الشافعي - فسح الله تعالى في أجله، ونفع المسلمين بعلمه وعمله - فأنه هذب المذهب وحرره، وتكاد غالب مسائل الفقه في حفظه مصورة. انتهت إليه معرفة الفقه في هذه الديار، واشتهر بذلك غاية الاشتهار، بحيث لا يختلف في ذلك اثنان، ولا يحتاج فيه إلى غثبات حجة وإقامة برهان، وإنه بلغ فيه إلى الدرجة القصوى، وصار المعول عليه في هذا العصر في الفتوى. وصل في ذلك إلى أسنى محل وارفع مقام، حتى يقال عندما يتكلم " إذا قالت حذام ".
نجم الدين الغيطي، وأما حافظ الوقت وحيد دهره، ومحدث عصره، الرحلة الغمام والعمدة الهمام، الشيخ نجم الدين الغيطي فأنه محدث هذه الديار على الإطلاق، جامع للكمالات الجمة ومحاسن الاخلاق، حاز أنواع الفضائل والعلوم، واحتوى على بدائع المنثور والمنظوم. إذا تكلم في الحديث بلفظه الجاري، أقرّ كل مسلم بانه البخاري. أجمعت على صدارته في علم الحديث علماء البلاد، واتفقت على ترجيحه بعلو الإسناد.
الطبلاوي، وأما الفاضل العلامة، والمدقق الفهامة، الشيخ ابو النصر ابن الطبلاوي المدقق الكامل، فأنه مشتمل على أنواع من الفضائل، فاق بعدة فنون على أقرانه، وتميز بذلك على ابناء زمانه، أقرت له الفضلاء بالاعتراف، واتفقت على انه فاضل وقته بلا خلاف.
يوسف الشامي، وأما جمال الملة والدين الشيخ يوسف الشامي، ذو التحقيق والفضل السامي فهو في العلوم الغريبة والفنون الدقيقة، افضل من في مصر على الحقيقة. مشغول دائمًا بإقراء التفسير والمطول والعضد والرضي والمواقف والمطالع. وأن عز مشكل أو غريب فإليه يشار بالأصابع. وأما تواضعه وخفض جناحه فلا يتأتى من صاحب نفس بشرية، والعجب أنه مع اشتماله على هذه الفضائل والكمالات ليس له من الجهات في مصر إلا نحو أربعة عثمانية. وقد عجبت حيث كان نصيب هذا الفاضل نصيبًا محقرًا، وفي الحقيقة لا عجب فأن من عادة الدهر أن يمشي بمثله القهقرى:
والأحمق المرزوق أعجب من أرى ... في دهرنا والعاقل المحروم
وبالجملة:
1 / 14