ثم أن العبد كان في تلك الغضون، كتب لمولانا قدوة الاعالي والمدققين، وخلاصة الافاضل المتبحرين المحققين الشيخ اسماعيل النابلسي - أسبغ الله تعالى عليه سوابغ الأنعام - مكتوبًا تضمن نوعًا من ذم مصر ومدح دمشق الشام، فيه ما عبارته: وان سال مولانا - أدام الله تعالى أيامه الزاهرة - عن أحوال المحمية القاهرة، فقد وجد الفقير ما كانوا يصفونه من محاسنها إنما هو من طريق المبالغة بل من قبيل القول الكاذب، او من قبيل: " وللناس فيما يعشقون مذاهب " يعد من متنزهاتها المكان المسمى ببولاق، ولكن لطول الفصل بينه وبين مصر يعسر في كل آن غليه الذهاب والإنطلاق، وربما يكون طريقه مخوفًا فيحجم الإنسان عن السير ويحصل له الامتناع، ويستحضر قضية " مررت على وادي السباع ". على انّ المكان المذكور وأن اشتمل على الماء إلا انه عديمُ الخضرة، وليس به أنيس مكتس ملبسض النضرة. ومع ذلك لا يوجد فيه غير السمك لكن ترى الفلك فيه مواخر، وإذا افتخر فإنه مفتخر تقول له: " إذا ما تميمي اتاك يفاخر ". فقل لمن يقايس متنزهاتها بدمشق: هذا قياسٌ باطل، وانى يلحق الناقص بالكامل. واما حضرة الافندي - حفظ الله تعالى طلعته العلية - مغرم بمدح دمشق المحمية، دائماص يتذاكر ما مضى له فيها من الحضور في تلك الأيام الخالية، ويتاسف على ما مرَّ له من حلاوة العيش في هاتيك الاوقات الماضية، وينشد:
لله أيام تقضت لنا ... ما كان احلاها وأهناها
مرت فلم يبق لنا بعدها ... شيء سوى أن نتمناها
والفقير كثيرًا ما يستحسن دمشق على مصر فيوافقني على هذا الكلام ويقول للمخالفة:
فكيف إذا مررت بدارِ قومِ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرام
واماهذا العبد فطالما تحركه إلى جهتها سواكن الاشواق، وتكاد تجذبه إذا تقاعس بالأطواق، لا يصغي إلى تفنيد في حبها ولا ملام، وإذا مزج دمعه بدم يقال تذكر عهدًا بالشآم. وبالجملة فأن شطت بنا الدار وكان بيننا وبينها " كما حكم البين المشتُّ فراسخ " ولكن:
وأما الذي في القلب منها فراسخ
إذ تذكر تلك المعاهد يفيض دمعه من العيون، وان ذهب عنها كل مذهب ففي قلبه من قاسيون، نار شوق إلى الالمام بتلك الأماكن لا يملك القلب دفاعه، " ولو لم يكن إلا معرج ساعة "، وعلى كل حال فان اتهم القلب او انجد، وحيثما كان من الارض قرب أو أبعد، فلست عن حبكم ابدا ساليا، وغن ملت إلى جهة الجنوب " ينازعني الهوى عن شماليا " فالسلو عن عبوديتكم ومحبتكم من قبيل المحال، كيف لا " والقلب من جهة الشمال ". فنسأل الله تعالى ان يقرب ايام التلاق، بطي شقة البين والفراق، لنكون تحت نظركم السعيد، وظلكم المديد، لا " برح في الاقطار مخيمًا "، وقد يجمع الله الشتيتين بعدما والسلام إلى ساعة القيام. فاتفق أن مولانا الشيخ المشار إليه، وقف على ما تضمنه المكتوب واشتمل عليه، وحصل مع حضرته حالتئذ مباسطة في الكلام، وذكرنا طرفًا مما قاله ظرفاء الشعراء في مدح مصر والشام. وبعد ذلك بتنا عنده ليلة في بيته الذي على بركة القرع، وكانت ليلة مقمرة، وبوجوده الشريف مزهرة، اختلسناها من بين الليالي بايدي الفرص، فقص علينا من نفائس اشعاره البليغة أحسن القصص، وجلا علينا من أبكار معارفه عرائس أفكار حيرت الشعراء، ونثر علينا من لآليء معانيه البديعة دررا. ثم قال للعبد في أثناء المصاحبة: وهل يوجد في دمشق مثل هذا المكان؟ فقلت، وقد عرفت مراده: لا والله يا مولانا من حيث تشريفه بطلعتكم الرفيعة الشان. وقلت مخاطبًا لحضرته الشريفة رفع الله تعالى محلها:
وتستعذب الارض التي أنت حلها
فقال: مع قطع النظر عن الحيثيات والأغيار فانشدته: " وما حبّ الديار ". ثم إنه أورد شيئًا يتضمن مدح مصر بالمناسبة، وقصد الملاطفة والمصاحبة فانجز الكلام إلى ابن سناء الملك وجلالة قدره، واورد في المجلس شيء من شعره، فقال مولانا الشيخ حفظ الله تعالى حضرته العلية، وما احسن قوله كذا، وذكر شعرا يتضمن نوعا من ذم دمشق المحمية. فقلت له يا مولانا:
ولو كان شعرًا واحدًا لاتقيته ... ولكنه شعر وثان وثالث
1 / 13