ولله عهد لا أخيس بعهده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
فلما سمعت سلمى شعره رقت له وقالت: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، وأطلقته، فاقتاد البلقاء وركبها وعليه سلاحه، وانطلق بين الصفين يكبر ويركض الفرس إلى الميمنة حينا وإلى الميسرة حينا آخر، ويقصف الأعداء قصفا منكرا، ولم يعرفه الناس فظنوا أنه بعض أصحاب هاشم بن عتبة، أما سعد بن أبي وقاص فجعل ينظر من القصر ويقول: والله لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء، فلما انقضى اليوم رجع فوضع رجليه في القيد، وتحمل سعد فنزل فوجد فرسه يعرق، فسأل في ذاك فروت له سلمى ما حدث، فرضي عن أبي محجن وأطلقه.
4
واتصل القتال يومئذ إلى منتصف الليل والمسلمون يرون فيه الظفر، وقد بلغ من ابتهاجهم على أثره ما تشهد روايات المؤرخين به، ذكروا أن القعقاع وحده قتل يومئذ ثلاثين رجلا، وقد رفه غياب الفيلة عن المسلمين فازدادوا إقداما وازدادوا للفرس توهينا.
ويضيف المؤرخون أن بني عم القعقاع جللوا إبلا وبرقعوها، ودفعوها تحمل على الفرس كأنها الفيلة، فكان أثرها فيهم يومئذ كأثر الفيلة في العرب يوم أرماث؛ فقد ولت خيل الفرس نفارا من منظرها، فركبتهم قوات المسلمين وأعملوا فيهم السيوف قتلا وبترا، وبلغت الحماسة من بعض الجند فاندفع خلال صفوف الفرس يريد قتل رستم، فلما كان على مقربة منه موشكا أن يضربه بسيفه تعرض له من الفرس من قتله وأنقذ رستم من يده، وكذلك تنصف الليل والمسلمون يزاحفون عدوهم يريدون إجلاءه عن مواقعه، فيصيبون منه ويكثرون القتل فيه، ويكادون يظفرون به لولا كثرة عدده وشدة مقاومته، فلما تنصف الليل لم يكن للفريقين بد من أن يرجع كل إلى عسكره يعيد تنظيم صفوفه ليعود في الصباح إلى الزحف ابتغاء الظفر.
يطلق المؤرخون على هذا اليوم الثاني من أيام القادسية اسم أغواث، ويحسب بعض المستشرقين أنهم اختاروا له هذا الاسم؛ لأن القعقاع أغاث فيه جيش سعد بمن جاء بهم من الشام، وليس من اليسير إقرار هذا التفسير إلا أن نجد لسائر أيام الغزاة تفسيرا من نوعه، وقد رأينا أن يوم أرماث لا يمكن أن يكون له مثل هذا التفسير، أما الليلة التي انقضت بين يوم أرماث ويوم أغواث فيطلق المؤرخون عليها اسم ليلة الهدأة، كما أنهم يطلقون اسم السواد على الليلة التي تلت يوم أغواث.
بلغ من اغتباط المسلمين بيوم أغواث أن باتوا على إثره ينتمي كل منهم إلى قبيلته، وبلغ من اعتباط سعد به واطمئنانه إلى قوة المسلمين بعده أن قال لبعض من عنده حين عزم النوم: «إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوهم، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظني فإنهم على السواء، فإن سمعتهم ينتمون فأيقظني فإن انتماءهم من السوء.»
اطمأن سعد ونام، أما القعقاع بن عمرو فبات ليله يسرب أصحابه الذين جاءوا معه من الشام إلى المكان الذي كانوا فيه بالصحراء صبح يوم أغواث، وقد أمرهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة على نحو ما فعلوا في أمسهم، فإن أدركهم هاشم بن عتبة وجاء بمن معه يشارك في المعركة فذاك، وإلا جددوا للناس رجاء في المدد، فزادهم هذا الرجاء إقداما في الحرب وإيمانا بالفوز فيها.
أصبح الناس والجيشان في مواقفهم، وبين الصفين من القتلى والجرحى ألفان من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ودفن كل جيش قتلاه، ونقل الجرحى إلى حيث يعنى بهم، وكانت نساء المسلمين يعنين بالجرحى ويمرضنهم، ويبذلن من صنوف العناية ما يرفه عنهم وما ينسيهم ألمهم، بذلك اشتركن في هذه المعركة الحاسمة، فكان لهن فيها فضل سجله الشعراء وخلدته كتب التاريخ.
Bilinmeyen sayfa