ووقف القعقاع في المؤخرة حين طلعت الشمس ينظر إلى ناحية الصحراء، فلما بدأت خيله تقبل وكبر وكبر الناس معه وقالوا: جاء المدد، وأدرك هاشم بن عتبة وجنوده رجال القعقاع، فلما عرف ما صنع صاحبه جعل رجاله فرقا، وأمرهم أن يتلاحقوا دراكا، فلا تسير فرقة حتى تغيب الأخرى عن نظرها، وسار هو على رأس الفرقة الأولى ومعه قيس بن هبيرة، فبلغ القادسية حين أخذ المسلمون مصافهم للقتال، فلما رآه الناس ورأوه كبر، كبروا معه، واندفع هاشم إلى القلب حتى بلغ النهر وهو يرمي العدو بأسهمه، ثم عاد فكرر فعلته، فلم يجرؤ أحد على مصاولته.
لم يضعضع المدد الذي جاء المسلمين من عزيمة الفرس؛ فقد أصلحوا توابيت فيلتهم واقتحموا بها المعركة منذ طلعت الشمس، وهم موقنون أنها ستفتك بالمسلمين أكثر مما فتكت بهم يوم أرماث، وقد اتخذوا حيطتهم لكي لا يصنع المسلمون بها مثلما صنعوا ذلك اليوم حين قطعوا وضنها وقلبوا توابيتها وقتلوا رجالها ونخسوها فولت مدبرة فأحاطوها بفرسان يحمونها، وأنست الفيلة إلى هؤلاء الحماة فلم تفتك بهم، لكنها لم تفتك كذلك بعدوهم، ذلك أن الفيل إذا كان وحده كان أوحش، فإذا أطاف أصحابه به كان آنس، وقد شد فرسان المسلمين على حماة الفيلة من العجم فكانت المعركة تدور حول الحيوانات الضخمة فتذرها في حيرة لا تدري من تضرب ومن تدع؛ لذا ظل القتال على شدته سجالا بين الفريقين؛ يتقدم العرب تارة فيردهم الفرس، ويتقدم الفرس تارة فيردهم العرب، ثم يزداد الفرس بأسا إذ يقدم عليهم من المدائن حرس يزدجرد مددا، فلا ينهنه ذلك من همة العرب ولا يخفف من حر النزال.
على أن الفيلة ما لبثت حين ألفت الموقف واشتدت من حولها المعركة أن عادت إلى مثل فتكها يوم أرماث، ورآها سعد تفعل الأفاعيل وتفرق بين الكتائب، فسأل جماعة من الفرس الذين أسلموا عن مقاتلها، فقالوا: إنها مشافرها وعيونها، فأرسل إلى القعقاع وعاصم ابني عمرو يقول: اكفياني الأبيض وكان هذا الفيل بإزائهما، وبعث إلى حمال والربيل، وكانا من بني أسد، يقول: اكفياني الفيل الأجرب، وكان بإزائهما، وكان هذان الفيلان أشد الفيلة ضراوة، وكانت الفيلة كلها تتبعهما، وترجل القعقاع وعاصم فوضعا رمحيهما في عيني الفيل الأبيض، فتراجع الحيوان من الألم ونفض رأسه، وطرح سائسه ودلى مشفره فضربه القعقاع بسيفه، وحمل حمال والربيل على الفيل الأجرب ففقأ إحدى عينيه وضربا مشفره، وصاح الفيلان، وارتد الفيل الأجرب إلى ناحية صفوف الفرس فخنسوه، فانقلب إلى صفوف المسلمين فوخزوه، فجعل يهرول ذهابا وجيئة بين الصفين وهو يصيح صياح الخنزير، ثم اندفع فوثب في النهر فاتبعته الفيلة كلها وقد ألقت ركبانها عن ظهورها وتخطت الماء وولت مدبرة ولم تعقب.
هنا اضطرب ميزان المعركة؛ فقد بدأت كفة الفرس فيها ترجح حين بدأت الفيلة تفرق كتائب المسلمين، فلما اضطربت الفيلة بين الصفوف وقف الجيشان ينظران إليها يحاولان ردها واتقاء شرها، فلما رأوها تعبر العتيق وتوليهم أدبارها، قويت عزائم المسلمين ورأوا في فرارها آية من آيات الله لنصرهم على عدوهم، أما الفرس فاعتدوا بعددهم وبالمدد الذي بعثه يزدجرد إليهم، فأعادوا تنظيم صفوفهم واستأنفوا القتال بحماسة زادها فرار الفيلة استعارا، وكذلك التقى الجيشان في صدام أي صدام، وظلا يقتتلان حتى أقبل الليل والغبار مخيم، فلا سعد يعلم ولا رستم يعلم لمن الدائرة وعلى من تدور.
أترى الجنود رجعوا إلى صفوفهم كما فعلوا أول من أمس؟ أتراهم واصلوا القتال جانبا من الليل ثم رجعوا كما فعلوا أمس؟ لا هذا ولا ذاك، بل واصل الجيشان القتال وكأنما دار بخواطر الجند من الفرس والعرب جميعا ألا يضعوا السلاح حتى يحسم بينهم، وكأنما دار هذا الخاطر بأنفسهم من غير أن يكون لسعد أو لرستم في الأمر رأي، بل لقد حدث الأمر وليس يعرف أحد من المسئول عن حدوثه؛ فهي الأقدار قضت به ودفعت إليه، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له، ولا راد لقضائه.
والواقع أن القتال هدأ وطيسه حين أقبل الليل، وقدر سعد أن الجيشين سيقضيانه يتهيآن ليوم رابع أشد من أرماث وأغواث وعماس فتكا، لكنه خشي أن يأتيه العدو من مخاضة بأسفل العسكر، فأرسل طليحة وعمرا في جماعة من الجند وقال لهما: «إن وجدتما القوم قد سبقوكما إليها فانزلا بحيالهم، وإن لم تجداهم علموا بها فأقيما حتى يأتيكما أمري.» ولم يجدا على المخاضة أحدا، فسولت لهما نفساهما أن يخوضاها، وأن يأتيا الأعاجم من خلفهم، واختلفا كيف يفعلان، أخذ طليحة مكانه وراء العسكر وكبر ثلاث تكبيرات ارتاع لها أهل فارس، وظنوا أن جيش المسلمين أزمع الغدر بهم، وتعجب لسماعها المسلمون وظنوا أن الأعاجم فتكوا برجالهم فهم يكبرون مستغيثين، وأغار عمرو على جماعة من الفرس أسفل المخاضة، فلم يبق لديهم ريب في غدر العرب بهم فقدموا صفوفهم زاحفين، ورأى القعقاع صنيعهم! فزاحفهم من غير أن يستأذن سعدا، وأطل سعد من مجلسه بقديس وقد بدأ يحسب لزحف الفرس الحساب، فلما رأى القعقاع يزاحفهم قال: اللهم اغفر له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني! وقال لأصحابه إذا كبرت ثلاثا فاحملوا، لكنه ما لبث حين كبر الأولى أن رأى أسدا تزحف، والنخع تحمل، وبجيلة تندفع في الغمار، وكندة تتقدم، ورأى رحى الحرب تدور حول القعقاع، فاستغفر الله لهؤلاء جميعا ودعاه أن ينصرهم، وكبر الثانية والثالثة، فلحق الناس بعضهم بعضا، واستقبلوا الفرس بالسيوف وخالطوهم؛ فكان للسيوف قعقعة وصليل كصوت القيون، وكان المقاتلون لا يتكلمون بل يصيحون، وكان القتال يشتد أو يحمى وطيسه كلما تقدم الليل، وبات الجيشان يقتتلان أشد قتال وأقساه، وسعد ورستم قد انقطعت عنهما الأصوات والأنباء فلا يعلمان من أمر ما يدور شيئا، ولا يملك سعد في مرضه غير الدعاء يقبل عليه في ضراعة وابتهال أن ينصر الله جنده، ولم يغمض لسعد، كما لم يغمض لأحد من الجند تلك الليلة جفن، فلما بدأ الصبح ينبلج عن الأفق نوره جعل المسلمون ينتمون إلى قبائلهم، عند ذلك اطمأن سعد إلى أنهم الأعلون، وأنهم آخذون برقاب الفرس أخذا، وزاده طمأنينة أن سمع القعقاع بن عمرو يرتجز:
نحن قتلنا معشرا وزائدا
أربعة وخمسة وواحدا
نحسب فوق اللبد الأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا
Bilinmeyen sayfa