وبينما هؤلاء وأولئك في شغل بهذا الأمر كان القعقاع بن عمرو التميمي يسرع السير في ألف من الجند الذين فصلوا من الشام نجدة لجيش العراق تنفيذا لأمر عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة أن يرد جيش العراق إليه بعد أن ينصره الله بدمشق، فلما فتحت دمشق وانتصر المسلمون بفحل، سار هاشم بن عتبة في ستة آلاف مددا لسعد بن أبي وقاص، وجعل القعقاع بن عمرو على مقدمته وعجله أمامه كي يدرك سعدا قبل فوات الوقت، والقعقاع هو ذلك البطل المعلم الذي أمد به أبو بكر خالد بن الوليد عشية مسيرته إلى العراق، فلما قال له قوم: أتمد رجلا ارفض عنه جنوده برجل؟! كان جوابه: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا، وصدق أبو بكر، فقد سار القعقاع مع خالد في غزو العراق فكان عنده في مثل مكانة المثنى بن حارثة، بل كان أقرب إلى فؤاده وأعظم حظوة عنده؛ لذلك جعله على الحيرة مكانه حين فصل إلى دومة الجندل مددا لعياض بن غنم، ثم اختاره من أمراء جنده حين فصل من العراق إلى الشام، لا عجب وذلك شأنه أن يكون من أجرأ العرب على الفرس بالعراق وأعرفهم بأساليب حربهم، ثم لا عجب أن يقدمه هاشم بن عتبة وأن يعجله لغياث سعد والمسلمين، فجيش فيه مثل القعقاع لا يهزم.
كان القعقاع على مقبرة من القادسية فجر الغداة من يوم أرماث، وليشد مقدمه عزائم المحاربين في الموقعة الخطيرة قسم رجاله الألف عشر فرق، وعهد إليهم ألا تسير فرقة حتى تكون الفرقة التي سبقتها على مدى البصر، ثم سار هو على رأس الفرقة الأولى، وبلغ سعدا وأصحابه بالقادسية قبل استئناف المعركة، فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وإقبالها، ثم تقدم الصفوف يستفتح القتال بعد أن قال للناس: اصنعوا كما أصنع، فلما كان بين الصفين نادى: من يبارز! فخرج إليه ذو الحاجب وعرفه بنفسه قائلا: أنا بهمن جاذويه! عند ذلك صاح القعقاع: يا لثارات أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر! ولم يطل بين الرجلين الجلاد، فقد انقض القعقاع على ذي الحاجب وأورده حتفه.
ورأى الناس صنيعه ورأوا الجنود المقبلة من الشام ترد داركا فتنشطوا وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وزادهم نشاطا أن لم يروا الفيلة بينهم؛ فقد تكسرت توابيتها بالأمس فأصبح الفرس يعالجون إصلاحها، فلم يفرغوا من ذلك حتى دارت رحى القتال وحمي وطيسه، وكان القعقاع كلما رأى فرقة من فرق جيشه كبر وكبر الناس معه، فازدادوا بذلك نشاطا وألقوا في روع الفرس أن هذا المدد المقبل عليهم لا آخر له ولا طاقة لجنود رستم بقتاله، وكيف يطيقونه وقد رأوا القعقاع وحده يصرع كل من يلقاه! صرع ذا الحاجب! فأراد فارسان معلمان من أبطال فارس الصناديد، أن يثأرا لصاحبهما، فخرجا يبارزان القعقاع فلقيهما ومعه الحارث بن ظبيان بن الحارث فأورداهما حتفا كحتف ذي الحاجب، ونادى القعقاع في الناس: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسيوف فإنما يحصد الناس بها، فتواصى الناس وحملوا بسيوفهم على الفرس وجعلوا يضربونهم حتى المساء.
وكان سعد بن أبي وقاص قد حبس أبا محجن الثقفي وقيده كما قدمنا، وكان أبو محجن من فرسان العرب المشهود لهم، فلما اشتد القتال وتردد تكبير الناس في أذنه، صعد يجر أغلاله حتى أتى سعدا يستعفيه ويستقيله، لكن سعدا زجره ورده، فذهب إلى زوجه سلمى بنت حفص فطلب إليها أن تحل قيده وأن تعيره البلقاء فرس سعد، وأقسم إن سلمه الله أن يرجع فتضع رجله في القيد، قالت سلمى: وما أنا وذاك! فرجع مكتئبا يرسف في القيد ويقول:
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت
مصاريع دوني قد تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة
فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
Bilinmeyen sayfa