وبينما هو يرتجز طارد فارسيا نفر منه، فلقي فارسا معه بغل ففر الفارس واستاق عاصم البغل والرحل، فإذا الرجل خباز الملك، وإذا في الرحل طعام رستم، فلما نظر فيه سعد نفله الناس ليأكلوه.
كبر سعد الرابعة فالتقى الجيشان، فأبلى أبطال المسلمين بلاء لم يعرف سعد له نظيرا، وقد كان هؤلاء الأبطال يقدرون ما رمتهم به فارس من عدد وعدة فنزع ذلك من قلوبهم كل رحمة، كان عمرو بن معدي كرب يحرض الناس بين الصفين إذ خرج إليه رجل من الأعاجم يرمي بنشابه فلا تنزل واحدة منها الأرض، ورمى بنشابة أصابت درع عمرو، فالتفت إليه فحمل عليه وكسر عنقه، ثم وضع سيفه في حلقه فذبحه، ثم ألقاه وهو يقول: هكذا فاصنعوا بهم، ثم إنه أخذ سواري الفارس القتيل ومنطقته ويلمق
3
ديباج كان عليه.
ورأى الفرس بني بجيلة وعليهم جرير بن عبد الله يصولون ويجولون، فوجهوا إليهم ثلاثة عشر فيلا حملت عليهم، ففرت خيلهم نفارا وبقي الرجال وتكاد الفيلة تبيدهم، ورأى سعد ما أصاب بجيلة فأرسل إلى بني أسد ليذبوا عنهم، فخرج طليحة بن خويلد وجماعة من قبيلته كل واحد في كتيبة وطليحة يصيح بهم: «يا عشيرتاه! لو علم سعد أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم استغاثهم، ابتدئوهم الشدة، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعله، شدوا ولا تصدوا، وكرروا ولا تفروا! شدوا عليهم باسم الله.» فشدوا عليهم فما زالوا يطعنونهم حتى حبسوا الفيلة عنهم، لكن الفيلة عادت فحملت عليهم، فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو يقول: «يا معشر بني تميم، ألستم أصحاب الإبل والخيل! أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟» قالوا: بلى والله! ونادى عاصم الرماة ليذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل وليستدبروا الفيلة وليقطعوا وضنها، وخرج يحميهم والرحى تدور على أسد، وصنع أصحاب عاصم بالفيلة كما أمرهم، فاستدبروها وضربوها بالنبل فارتفع عواؤها وألقت بركبانها فقتلوا، ونفس عن أسد وعن بجيلة جميعا بعد أن قتل من أسد وحدها أكثر من خمسمائة.
كان سعد رابضا في محبس مرضه بقديس ينظر إلى هذه المعركة الدائرة الرحى، ويعجب حينا بفعال أبطال العرب، ويفزع حينا مما تصيب به الفيلة والفرسان رجال بجيلة وأسد، ويحز في نفسه ألا يخوض هذه الحرب الزبون كما خاض من قبل أمثالها، وكانت سلمى بنت حفص زوج المثنى بن حارثة ثم زوج سعد من بعده مقيمة إلى جانبه ترى ما يرى، وتذكر ما كان لزوجها الأول من مواقف في مثل هذه الأيام الكبر، فلما رأت الفرس يشتدون على أسد ويقتلون منهم صاحت: «وامثنياه! ولا مثنى للخيل اليوم!» قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه وفي نفسه، وأثار كلامها سعدا فلطم وجهها وقال: «أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى!» يعني أسدا وعاصما.
ولم تطأطئ اللطمة من رأس البدوية الأنوف، بل حدقت في سعد وقالت: «أغيرة وجبنا!» وخجل سعد لما صنع فتندى بالعرق جبينه وقال: «والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي!» وعرف الناس ما دار بين سعد وسلمى، فأكبروا البدوية الجريئة، ولم يبق شاعر إلا اعتد بها، وإن عرفوا سعدا غير جبان ولا ملوم.
مع ما كان من الفعال المجيدة والبلاء العظيم الذي أبلاه المسلمون، ظل سعد مشفقا من مصير المعركة لما كان يراه من شدة الفرس وكثرة عددهم وفعال فيلتهم، وانقضى النهار وغربت الشمس والقتال لا يزال حاميا وطيسه، فلما ذهبت هدأة من الليل رجع الجيشان كل إلى مواقفه، وكل يحسب للغد حسابه، والمسلمون أشد لهذا الغد حسابا بعد ما نزل بهم في ذلك اليوم الأول من كوارث.
ويطلق المؤرخون على هذا اليوم الأول من أيام القادسية اسم أرماث، وليس يذكر أحد منهم لهذه التسمية سببا، ويحسب بعض المستشرقين أن أرماث اسم للمكان الذي وقع القتال فيه، وليس لهذا الظن ما يسوغه، فقد اتصل القتال بالقادسية ثلاثة أيام وليلة في مكان واحد، ثم أطلق على كل يوم من هذه الأيام اسم يميزه.
رجع الجيشان مساء يوم أرماث كل إلى مواقفه، فلما تنفس الصبح شغل العرب وشغل الفرس بدفن القتلى ونقل الجرحى، وقد دفن المسلمون قتلاهم بواد قريب من العذيب، ونقلوا الجرحى إلى العذيب ليقوم النساء على العناية بهم، أما الفرس فدفنوا القتلى في المؤخرة وحملوا الجرحى إلى الضفة الأخرى من النهر.
Bilinmeyen sayfa