ولكن لم يقدر له أن يخوض المعركة الانتخابية، ولا أن يتولى الوزارة فقد انسد طريقه بغتة بقيام ثورة يوليو، وتبدى واجما من اليوم الأول، وسألني في حيرة: هل سمعت شيئا؟
فقلت ببراءة: إنها كما تعلم الخلافات المعروفة بين الملك والجيش، وسوف تسوى لحساب الجيش.
فقال شاردا: لا .. إنها أكبر مما تظن.
واستقال صاحبي من وظيفته باختياره، واختفى من مجالي تماما. وسارت الثورة في طريقها المعروف، وتغير النظام الطبقي في مصر تغيرا ملموسا، وتفتحت دنيا الآمال أمام أمثالنا. لم تقع عيني على صديقي القديم زمنا طويلا، وكان يخطر ببالي في مناسبات كثيرة مثل الإصلاح الزراعي، التأميم، الحراسة، المصادرة. أحداث اتسمت بالحزم، واستجابت لها أنفس لا حصر لها بالارتياح وأحيانا بالشماتة، ولم يكن من السهل لدى كثيرين نسيان القرون التي استعبد فيها الشعب لصالح قلة من المواطنين. فأي ظلم في أن يرتفع المظلومون ويهبط الطغاة؟! وكدت أنساه تماما حتى صادفته مقبلا نحوي في شارع طلعت حرب في الستينات. من أول نظرة تم التعارف والتذكر، وكأنما لم نفترق إلا أمس، ولكنه شخص آخر تماما. وتساءلت: ترى هل أدركني نفس التغير وأنا لا أدري؟ كلا، ليس السن وحدها. تلاشت تماما الأناقة والرونق، وبرزت معالم شيخوخة قبل أوانها، فابيض شعره كله وتجلت عظام وجنتيه، وأفظع من ذلك كله نظرة العينين الخابية المنهزمة الضائعة، وصوته المنخفض، كأنه الخائف الأبدي أو المراقب أو المطارد. - كيف حالك؟ - الحمد لله. - أين أنت الآن؟
فأجبت متلعثما: مدير الإدارة القانونية. - مبارك. - وأنت؟ - كما ترى !
ثم بصراحة غريبة: لولا حلي زوجتي لهلكنا جوعا!
فارتبكت كأنني المسئول عما حل به، وقلت مجاملا: غير معقول. - أصادف أحيانا وزراء سابقين في سوق بيع الحلي. - يؤسفني أن أسمع هذا يا عزيزي.
وهم بالانطلاق في الحديث، ولكنه عدل فجأة، وتحول به عن مجراه فسألني: هل أستطيع أن أعتمد على معاونتك في نشر بعض القطع المترجمة بأي ثمن؟ .. لا شك أنك تعرف صديقا هنا أو هناك يمكن أن تقبل شفاعته في ذلك.
فقلت بصدق: أعدك ببذل أقصى ما لدي من جهد.
وتصافحنا ومضى. ولم أقصر، فطرحت الموضوع على صحافي صديق، رحب من ناحية المبدأ، ولكنه عندما سمع اسم المترجم «العبلاوي»، هتف: يا خبر أسود، أسعى في الخير اليوم؛ لأجد نفسي غدا في المعتقل!
Bilinmeyen sayfa