هي الحقيقة للأسف، يا ذات القلب الأسود، لم يجد اعتذار أو مجاملة أو توادد، ولم يجر بيننا حديث بعد ذلك إلا عن الواجبات والميزانية، واختلط الانتقام بتكاليف المعيشة. ونضب معين الرحمة، حامت أحلامي حول الهروب كالسجين أو الأسير. جفت رغبات قلبي وأطبقت عليه الوحشة، وراحت تتصرف تصرف المرأة الحرة، فتذهب وتجيء بلا إذن أو إخطار، يلفها الصمت فلا تند عنها كلمة إلا للضرورة، وانطوت على سرها كبرياء، فلم تشكني إلا لأختي صديقة. ولما لم تقم بما توقعته منها، وقصدت التوفيق كرهتها بدورها. وقالت: إنه ليس بجنون رجل ولكنه جنون متوارث عن أسرة. وانتهزت فرصة انفرادي بسميرة وجمال، سألت عن رأيهما فيما يشهدان من أحوالنا. قال جمال: حالكما لا يسر يا بابا، كحال بلدنا أو أسوأ؛ لذلك فإني سأهاجر في أول فرصة.
أعرف الكثير عن تمرده، أما سميرة فبنت عاقلة، متدينة وعصرية في آن، ولكنها قالت: معذرة يا بابا، لا تسامح من ناحيتك أو ناحيتها. - كنت أدافع عنك يا سميرة. - ليتك ما فعلت، كانت ستصالحني بعد ساعة، لكنك سريع الغضب يا بابا. - لكنها غير معقولة. - بيتنا كله غير معقول! - اخترتك قاضية. - كلا .. لا يحق لي هذا أبدا. - لم أجد عندكما أي عزاء.
فقال جمال: لا عزاء عندنا ولا عزاء لنا.
إذا لم يحبني هذان الاثنان كما أحبهما؛ فأي خير أرجو في هذا الوجود؟! آه! .. انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، بحق الحياة الضائعة، عش الساعة التي أنت فيها وانس الماضي تماما، املأ عينيك؛ فما تغادره لن تراه مرة أخرى، كل لحظة هي اللحظة الأخيرة، من دنيا لم أشبع منها ولم أزهد فيها، وانتزعت من بين يدي في هوجة غضب. أي شارع من هذه الشوارع لم يشهدنا معا؟ أو يشهد أسرتنا الكاملة وسميرة وجمال يتقدماننا. ألم تكن توجد وسيلة لإصلاح ذات البين؟ أقسى عقوبة أن تودع الإسكندرية في مجلى خريفها الأبيض، وفي عنفوان الرجولة والرشاد. وهذا هو البحر الصامت في الناحية الأخرى من أبو قير، ونغني معا: «يا للنعيم اللي انت فيه يا قلبي»، في حوار غنائي بين قلبين يقظين، وسميرة وجمال مبهوران بعد قوارب الصيد الراسية فوق شعاع القمر. هل يكفي يوم واحد للطواف بمعالم ربع قرن؟ لم لا نسجل الاعترافات العذبة في إبانها لعلها تنفعنا وقت الجفاف؟ الذكريات كثيرة مثل أوراق الشجر والمدة الباقية قصيرة مثل السعادة، السعادة تغيب الوعي حين حضورها وتراوغنا بعد زوالها، ومن لي بمن يجمعني بدولت؟ لا سبيل إلى ذلك اليوم. ولو تيسر لزادني ارتباكا وفضح أمري قبل الأوان. وما جدوى ادعاء حب لا وجود له؟ اليأس وراء انزلاقي فيه. ولم تكف أبدا عن التلويح لي بالزواج دون اكتراث لمصير سميرة وجمال، ليس هو بحب ولكنه نزوة انتقام. ليتني وقفت عنده ولم أعبره للضربة القاضية. المساء يهبط والبحث عنى يشتد ولا شك، فلأنتظر في إستريا أحب أماكن المساء إلي، مجمع الأسر والعشاق والأحلام الوردية. الجعة والعشاء الخفيف والمرطبات، ربما أكون المنفرد بنفسه الوحيد. معذرة يا سميرة معذرة يا جمال، استقبلت الصباح بنية صافية، ولكنه الغضب يطوح بنا فوق المحاذير، ضرعت إلى الساعة أن تتأخر دقيقة واحدة. ولما تلاشت التوترات العنيفة لم يبق إلا اليأس بوجهه الثلجي الأبكم، وجلت جولة الوداع يتبعني الموت حينا ويتقدمني حينا آخر. أختزل العمر في ساعات، فعرفت الحياة أكثر من أي وقت مضى. ما أسعد الناس من حولي ولو وقفوا على سري لسعدوا أكثر، ويسألني النادل مجاملا: أين الهانم؟
فأجيبه باكتئاب خفي: مسافرة.
لم يعد في الوقت بقية. عما قريب سيقترب مني رجلان أو أكثر: حضرتك مصطفى إبراهيم؟ - نعم يا أفندم. - تسمح تتفضل معنا!
أقول بهدوء كامل: كنت في انتظاركم.
أحلام متضاربة
كنا زميلين في العمل بسكرتارية وزير المعارف، كما كنا زميلين من قبل بكلية الحقوق. عمل هو - محمد العبلاوي - سكرتيرا خاصا للوزير بحكم قرابته له، ولمرانه على لقاء كبار الزوار؛ اكتسابا من نشأته في الطبقة العليا، وعملت أنا كاتبا مختصا بشئون الصحافة. وسمعته يوما يعلن قراره عن خوض معركة الانتخابات القادمة بعد وعد من عمه - نائب الدائرة - بتنحيه عنها له، وليس ذلك غالبا إلا تمهيدا لتوليه الوزارة في أول فرصة تسنح. وكانت علاقتنا طيبة جدا كما كانت علاقته بإخوانه على أتم ما يكون من المودة والمروءة، وقلت له يوما: ستكون نائبا، ثم وزيرا، فعدني بألا تنساني.
فابتسم مبتهجا بوجهه الجامع بين الجمال والوقار رغم شبابه اليافع، وقال: لك مني وعد شرف بألا أنسى العهد أبدا.
Bilinmeyen sayfa