ولكنه لم يتصل بي مرة أخرى. وغاص من جديد في ظلمات الاختفاء، فأعفاني من الحرج.
وتتابعت الأيام بأحداثها. رحل زعيم وتولى زعيم، وجاء عصر الانفتاح ساحبا وراءه التضخم، ورجعنا نحن - الموظفين - إلى المعاناة والضيق والخوف من المستقبل، بل تهددنا الجوع نحن وأبناءنا. وذهلت يوما وأنا أقرأ اسم صديقي القديم في مجلة ضمن أصحاب الملايين الجدد. وقرأت له في صحيفتي اليومية سلسلة من المقالات يهاجم فيها الزعيم الراحل وعصره، ويشيد بالزعيم الحالي ومآثره. وألتقي بصديق من كبار العهد الناصري، فيجول معي في أبعاد المواقع ثم يقول بحنق: أردناها ثورة بيضاء، وها نحن ندفع الثمن!
غير أن انشغالي بلقمة العيش لم تترك لي فراغا للكلام في السياسة. وفي حيرتي وعذابي تذكرت عهد الشرف الذي أعطانيه العبلاوي قبل الثورة إذا ولي الوزارة. أجل إنه لم يل الوزارة، ولكنه على وجه اليقين أغنى من الوزراء مجتمعين. ولن يعجزه أن يجد لي عملا في محيط نشاطه الحافل بالأعمال، وتحريت عن مكتبه حتى عرفت موقعه، ومضيت إليه كأمل أخير في حياتي العسيرة، والحق أنه استقبلني بحرارة نفت عني ارتباكي وحيرتي. وكان علي أن أستغل الوقت أحسن استغلال بين رنين التليفونات والداخل والخارج، قلت: هل تذكر وعدك القديم؟
فضحك عاليا ولم يتكلم، فقلت بإيجاز: لعلك تسمع عن معاناة ذوي المرتبات الثابتة.
فقال ساخرا: كما سمعت أنت عن ضحايا عبد الناصر.
فقلت بسرعة: لم أقصر في حقك، ولكنك اختفيت عني تماما.
فقال باسما: أدركت أنني أورطك فيما لا قبل لك به.
ثم بلهجة جادة: أتريد عملا في المكتب بعد الاستقالة من الحكومة؟ - كلا .. المعاش مهم أيضا .. أريد عملا إضافيا. - لا مجال عندي لبطالة مقنعة كما تعلم، ولكن توجد وظيفة إضافية لسواق سيارة!
لطمة هوت على كرامتي فلم أدر ماذا أقول. - لن يقل المرتب عن مائة جنيه!
تذكرت القبيلة الصغيرة التي تعاني في البيت، فقلت بتسليم: طبعا في غير أوقات العمل الرسمية؟!
Bilinmeyen sayfa