غلبني القهر؛ فسكت، فقالت: زماننا يحتاج للصبر والحكمة.
أود أن أوصيها بسميرة وجمال، ولكن كيف؟ سوف تدرك مغزى زيارتي فيما بعد. هل تغفر سميرة وجمال لي ما فعلت؟ ما أشد اضطرابي. - ما رأيك في أن أصحبك الآن إلى طبيب؟ - لا ضرورة لذلك يا صديقة، سأذهب الآن؛ لإنجاز بعض الأعمال. - وكيف أطمئن عليك؟ - سأزورك غدا!
غدا؟! ها هو الطريق من جديد. انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، شاطئ اسبورتنج وحيد أيضا، خال من البشر وأمواجه تصطفق منادية بلا مجيب. القلب يخفق تحت غلاف الهموم المحكم. ساعة خرجت من الماء بجسمها الرشيق، مخضبة الإهاب بلعاب الشمس. تلفعت بالبرنس وهرعت إلى الكابينة؛ لتجلس عند قدمي والديها، كنت أتمشى في بنطلون قصير فالتقت عينانا. غمرني ارتياح ابتهج له قلبي، وناداني صوت فلبيت فوجدتني في مجلسها، وكان المنادى خالها وزميلي في الشركة. وتعارفنا وجرى حديث عابر ولكن ما كان أمتعه! لحظات من السعادة الصافية لا تشوبها شائبة. لا تتكرر، تأبى أن تتكرر، تطوف بقلبي الآن على هيئة حنين طائر. له وجوده الدافع رغم تمزق الخيوط التي ربطته يوما بالواقع. وقولها ذات يوم: قلبك طيب والقلب الطيب لا يقدر بثمن، حقا؟ من إذن القائلة لا يوجد من هو أخس أو أحقر منك، ومن القائلة ربنا خلقك لتعذيبي وتعاستي، كان على الحب أن يصمد أمام خلافات الأمزجة، ولكن الخلافات قضت على الحب. كلانا عنيد شعاره كل شيء أو لا شيء. أنت مجنونة بالمظاهر الفارغة. فتصرخ في وجهي: بل أنت متخلف. سميرة وجمال يلوذان بحجرتيهما مذعورين. شد ما أسأنا إليهما! عانى الحب بيننا ساعة بعد أخرى ويوما بعد يوم حتى لفظ أنفاسه. اختنق في لجة الجدل والخصام المستمرين، والشتائم المتبادلة. ولكن في هذا الكازينو، في هذا الركن بالذات، كاشفت خالها بإعجابي بها. - إنها متعلمة، لم تدخل الجامعة. أبوها له سياسة خاصة، بعد التعليم الثانوي يعد الفتاة للبيت اكتفاء بدخل لا بأس به.
قلت: هذا مناسب جدا، دعانا - أنا وهي - إلى عشاء في سانتالوشيا. التقينا في حديقة البجعة بعد ذلك، أيام الخطوبة والأحلام والسلوك المثالي أسمع نغمة جميلة تهيم رغم تقصف جميع الأوتار التي عزفتها. يا لها من ضربة قاضية! ماذا يحدث في الشقة الآن؟ لم لا تكون الحياة أيام خطوبة دائمة؟ آه يا أقنعة الأكاذيب التي نتوارى خلفها! لا غنى عن وسيلة ناجعة لمعرفة النفس. - أستاذ مصطفى إبراهيم؟
نظرت إلى المنادي، فإذا به مفتش بالشركة ماضيا ولا شك إلى عمل. - أهلا عمرو بك. - إجازة؟ - متوعك. - واضح جدا .. تحب أوصلك إلى أي مكان؟ - شكرا.
لعله أول شاهد، كلا. رآني جاري الدكتور وأنا أغادر الشقة، هل لاحظ شيئا غير عادي؟ رآني البواب أيضا. لا أهمية لذلك، لم أفكر في الهرب قط، في الانتظار حتى النهاية. لولا هيامي الأخير بالوداع لذهبت بنفسي، لم أسع إلى نبذ الحياة باختياري. انتزعت من بين يدي عنوة، ما قصدت هذه النهاية أبدا، بيني وبين الخمسين خمس. ورغم المعاناة فالحياة حلوة، لم تستطع سهام أن تبغضها إلي، هل أزور سميرة وجمال بكلية العلوم؟ ذهبا دون أن أراهما ولم أكن أتوقع ما حدث، ولن أجد الشجاعة للنظر في عينيهما، ويعز علي أن أتركهما لمصيرهما. أتصورهما يطرقان الباب دون أن تهرع ماما لفتحه. سيخلف هذا اليوم أثره حتى نهاية العمر، وإذا لعناني فلهما الحق. متى أتناسى كربتي وأخلص للوداع؟ انظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان. السوق .. يوم سرنا في السوق لنبتاع الدبلتين، ويشعر من يمتلك العروس أنه يتحفز لامتلاك الدنيا. ويشعر بأن السعادة قد تكون أي شيء إلا أن تكون كالكحول، وأقول لها بوجد: إلى سان جيوفاني.
فتقول مشرقة: أتلفن لماما.
الرقة والعذوبة والملائكية في أيامنا الأولى. متى وكيف ظهرت المرأة الجديدة؟ بعد الأمومة ولكن دون تحديد حاسم، كيف هيمن علي شعور بخيبة الأمل؟ قالت لي سميرة مرة: ما أشد غضبك يا بابا وما أسرعه! واعترفت لسهام مرة قائلا: قد أنسى نفسي وقت الغضب، ولكنني لا أغضب إلا لسبب! - وبلا سبب .. إنه سوء الفهم. - تهدرين حياتنا في السفاسف. - السفاسف؟! إنك لا تفهم الحياة. - أنت مستبدة، لا وزن للعقل عندك، وما في رأسك يجب أن يتم دون اعتبار لأي شيء. - لو احترمت آراءك لحقت علينا اللعنة!
أنظر وتمل وانتقل من مكان إلى مكان، أبو قير مصيف الفطرة. ليكن الغداء سمكا، املأ بطنك، وحركه بشيء من النبيذ الأبيض، هذا المكان جلسنا فيه سويا، وعلمنا فيه سميرة وجمال السباحة وهما صغيران، اهدأ يا اضطرابي فاليأس إحدى الراحتين. ألم يكن الأفضل أن أطلقها؟ - طلقني وخلصني. - عز المنى لولا إشفاقي على سميرة وجمال. - بل تشفق على نفسك بعد أن وضح لك أنك شخص لا يطاق.
الحق أني تمنيت كثيرا موتك، بيد الأقدار لا بيدي، أي متاعب تهون إلى جانب جحيم الكراهية، نتبادل الكراهية دون خفاء. بعد تبادل أقسى الألفاظ وأفظعها، كيف تناولت طعامي بشهية؟ حقا لليأس سعادة لا يستهان بها، وترامت من راديو أغنية «أنا والعذاب وهواك» فارتجف قلبي، أغنية أحببتها كثيرا في ذلك الشهر المراوغ شهر العسل. كيف تتلاشى السعادة بعد أن تكون أقوى من الوجود نفسه؟ تتطاير من القلوب لتعلق بأجواء الأماكن بعد اندثار مصدرها، ثم تقع كالأطيار على الأرض الجافة، فتزخرفها بوشي أجنحتها ثواني من الزمن، أنا والعذاب وهواك وهذه الضربة القاضية، لعله اليوم الذي انقضضت فيه على سميرة بجنونك؛ ففزعت أدفعك عنها فسقطت على رأسك. يومها اشتعلت في عينيك نظرة غير إنسانية تمج سما: إني أكرهك. - في داهية. - أكرهك حتى الموت. - إلى الجحيم. - إذا تعكر قلبي، فهيهات أن يصفو.
Bilinmeyen sayfa