وقد جاء انتشار البوذية في الصين متأخرا؛ أي في السنة الستين من التاريخ المسيحي، وبوذا مات حوالي سنة 480ق.م، فكأنها بقيت منحصرة في الهند ستمائة سنة قبل تمشيها إلى الصين، حيث استقبلت بادئ ذي بدء كبدعة من تعاليم ثاو، كما استقبل الرومان المسيحية كبدعة يهودية. وقد حملت البوذية إلى الصين فكر الهند وفن الإغريق وشيئا من حضارة إيران، غير أن نجاحها لم يطل، وبعد أن استفادت من بعض الشبه بينها وبين تعاليم ثاو قام الثاويون عليها، وناهضها كذلك أشياع كونفوشيوس ونعتوها بالغريبة؛ لأنها تقضي على الأسرة؛ إذ إن البوذي لا يهتم إلا بنفسه. ولا تزال الحرب سجالا حتى اليوم، والكونفوشيوسية وحدها دين الدولة ودين الملك. •••
لقد رسم بوذا للعالم القديم طريق الخلاص كما رآها، وقال له: لا تنس في هذه الطريق أن تمد إلى الإنسانية يد المعونة فترحم كل حي، وتعفو عن كل مذنب، وتنسى كل إهانة، وتعامل بالرفق والحق والجود إخوانك في هذا الوجود.
واليوم، بعد مرور خمسة عشر قرنا على بوذا، وبعد من تبعه من المصلحين والأنبياء والرسل، وهذه الأديان التي تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف، وبعد التقلبات الهائلة التي منيت بها الإنسانية، لا يزال الظمأ شديدا إلى هذه المبادئ والتعاليم كأننا لم نزل في الأعصر الأولى، أعصر الجهل والتباغض والعدوان ...
كونفوشيوس
دين الإصلاح
1
لقد ظهرت على مسرح هذا الوجود دول شتى، بلغت من حضارتها الأوج، ثم توارت تاركة آثارا تدل عليها، وتحدث عن خالي عظمتها كأقواس النصر والأهرام والعمد والهياكل وما شاكل. ولكن أبقى الآثار وأبعدها مدى في تصريف حياة الشعوب هي بدائع العقل البشري، وما كانت تجود به أدمغة العباقرة حينا بعد حين، فتقيمه كمنائر في طريق الحياة هدى للعالمين.
وفي هذه الأيام العصيبة التي تبرز فيها الصين على المسرح العالمي كدولة كبيرة، يجدر بنا أن نعود قليلا إلى ماضيها الحافل بالآثار الأدبية، فنراجع تعاليم أعظم فيلسوف أنجبته هذه البقعة العجيبة التي يتصل نسبها بمهد البشرية كما تتصل هي بمهد الشمس.
لقد تعاقب على الشرق منذ القدم ثورات وانقلابات بدلت معالمه وقوضت عروشه، وأنزلت إلى القبر حضارات أمم عظيمة لمعت في آفاقه منذ أربعة آلاف سنة، ولم يبق منها اليوم سوى أطلال دارسة، وآثار طامسة. هذه مملكة داريوس التي حفظت لنا كتب زرادشت شيئا من شرائعها، نحاول اليوم أن نتبين رسومها من خلال المخطوطات المسمارية لبابل وبرسوبوليس، وهذه دولة الفراعنة التي اضطجعت في أهرامها الخالدة بعد أن خلفت تلك اللغة الصورية المجبولة بالألغاز كأنما أرادت بها إعجاز الذرية، فلم يرتق العلم إلى مفتاحها إلا بعد جهود ألفي سنة.
ولكن الصين لم تقو عليها ثورات الطبيعة والإنسان، فبقيت وحدها واقفة بينما كان كل شيء يتداعى من حولها، كتلك الصخور الوعرة التي لا تزال تلتطم بها أمواج البحار منذ بداية الخلق دون أن تزعزعها. •••
Bilinmeyen sayfa