هجر قصر أبيه الملك، واتخذ عزلته في الغاب بعيدا عن الناس يعيش عيشة التقشف، ذاهبا في تأملاته كل مذهب، باحثا عن دين يكون أقرب للإنسانية، فأطلقوا عليه اسم ساكياموني؛ أي ناسك ساكياس، قبل تلقيبه ببوذا؛ أي الحكيم الأكبر.
ومن هذه العزلة خرجت تلك الديانة القاتلة لإحساس الإنسان وشهواته، ومنها ارتفع ذلك الصوت القائل بغرور الحياة، الداعي إلى الزهد، طالبا وسط مفاسد العهد القديم أن يتجافى الناس مضاجع اللذة والسرور، قاتلين الرغبة بالتأمل، والتأمل بالغيبوبة، والغيبوبة بالفناء، حتى يصلوا إلى الغاية القصوى من الخير، وهي النرفانا؛ أي العدم.
والذي سهل انتشار هذه التعاليم الناتجة عن التشاؤم واليأس تلك العقيدة السائدة في الهند من تناسخ الأرواح؛ أي التقمص، فالحياة الأبدية في الهند أشبه بكابوس؛ يولد المرء ويتألم ويموت، ثم يولد ثانية ليتألم أبدا ويموت كذلك، وهكذا دواليك كأنما هي أشغال شاقة على الإنسان أن يتحملها في طريق الأبد.
وقد أراد بوذا تخليص الإنسانية من هذا الكابوس فلم يجد سوى حل وحيد لذلك، وهو إخماد عطش الأنانية؛ ففي إطفاء «أنا» كل النرفانا، وذلك بمحاربة الشهوات، وتضحية الفرد للمجموع، والرحمة الشاملة، ولو اقتضت أن نضحي بأنفسنا في سبيل سائر الخلائق من إنسان وحيوان. وهذه التعاليم السلبية فيما يتعلق بما وراء المادة نتيجتها العملية أدب كله إنكار ذات وعفة ورفق ومحبة.
ولا يخفى ما في هذه التعاليم من سحر الإغواء، وهذا ما يفسر لك انتشار البوذية الواسع فيما بعد، والذي يخلع عليها جاذبية خاصة هو الروح الشعرية التي تفيض حنانا في تلك الأساطير عن الحياة المتعددة السابقة التي مر بها بوذا في تقمصه إنسانا وحيوانا، فهنا ملك الوعول يضحي نفسه من أجل رفاقه، وهنا أرنب يطرح نفسه في النار ليطعم أحد البراهمة الجائعين، وهنا ملك الفيلة يقدم أنيابه لقاتله، إلى غير ذلك.
وكان أول ما بشر بالبوذية في مناطق الكانج الشرقية، ومنها امتدت إلى سائر الهند، والقائمون على هذه الكنيسة جماعة من الرهبان في الأديرة يحف بهم عدد من العوام المخلصين. ولا ريب أنه في العصور الأولى قد تقلب على البوذية أحوال تبعا للزمان، ولحاجات القلب البشري؛ فإن الوقوف عند بوذا التاريخ أصبح غير كاف؛ لأن انطفاءه بالنرفانا جعل الوصول إليه بالصلاة صعبا، فخلق الإيمان عددا غير قليل من أشباه بوذا، هم بوذوات المستقبل، هؤلاء ينتظرون في جنات تجري من تحتها الأنهار أن تدق ساعة تجسدهم، وفي مدة هذا الانتظار يعنون بخلاص الخلائق. وقد وجد بين هؤلاء من فاق بوذا التاريخ في استمالة الشعب إليه، فلقب بالمسيح أو العناية أو النور غير المتناهي، وكان له شأن لدى انتشار الديانة في أنحاء الشرق الأقصى.
هذه الصور الروحانية التي تقطر شفقة ورحمة كانت تخلق من حولها في عقول الناس وقلوبهم جوا من اليقين والتقوى والحنان لا مثيل له في آسيا الشرقية. وقد أخذت الصين - بوجه خاص - تجد فيها عالما روحانيا جديدا، ولاقت فيها الفكرة الفلسفية غذاء لا ينفد بفضل ما وراء الطبيعة الذي اقتحم البوذية الهندية في المائة الأولى من التاريخ المسيحي. فاتجهت الأفكار إلى مثل عليا مطلقة، قائمة على النظر إلى العالم وإلى «أنا» كأنهما غير موجودين حقيقة، ومن جانب آخر، فإن الجماعات - كما قلنا - كانت تجد نفسها مجذوبة بسحر هذه الأساطير الكثيرة المختصة بكل بوذا من بوذوات المستقبل، وهذه الصور الناعمة اللطيفة، وحياة القديسين، ولمعان الفراديس والجحيم فضلا عما كان يغريها به الفن البوذي نفسه.
كان الفن الهندي حتى بداية التاريخ المسيحي فنا لا يخلو من الجمال؛ لأنه من وحي طبيعة الهند الأزلية، غير أنهم ما كانوا يجرءون في الزمن الأول على تصوير بوذا لتحريمه كما حرم تصوير الله في ديانات أخرى، ولا ريب أن هذا التحريم لم يكن عن احترام فحسب بل فيه دخل كبير للمنطق؛ لأنه ليس من المعقول أن تحيي بالرسم من محته النرفانا؛ أي من ذهبت ذاتيته، فكانوا يعتاضون عن تمثال بوذا حتى في مشاهد الحياة اليومية برموز متفق عليها. ولكن هذه النظرية تغيرت عندما تطرقت اليونانية إلى شمال غربي الهند لعهد ملوك اليونان خلفاء الإسكندر، ثم لمن جاء بعدهم من ملوك الشيت.
لقد شعر اليونان الذين اهتدوا إلى البوذية بالحاجة إلى تمثيل بوذا تمثيلا صحيحا حقا، ولم يجدوا أمامهم سوى إلههم أبولون ليأخذوا عنه فقلدوه. وأول تمثال صنع لبوذا في أوائل العهد المسيحي في غندارة، وهو صورة طبق الأصل لأبولون مع زيادة الطابع العقيدي، كنقطة الحكمة بين العينين وغفرة الرأس، وطول شحمة الأذن؛ لثقل القرط الذي كان يعلقه بها بوذا أيام كان أميرا.
هذا المثال اليوناني لبوذا ذو الملامح الأبولونية والمطارف اليونانية الذي كشف عنه التنقيب في آثار غندارة وكابول سيجوب الزمان والمكان، من خلال آسيا الوسطى حتى الصين واليابان، مكتسبا في سفرته الطويلة بعض التغيرات، والتطبع بطابع صيني، حاملا تذكارات ماضيه اليوناني في الصورة والهندام.
Bilinmeyen sayfa