بوذا
كونفوشيوس
أبيقور
تيمور الأعرج
روسكين
نيتشه
تولستوي
غوته
رنان
هربرت سبنسر
الأرض المجهولة
جزيرة الأبالسة
الحماقة البشرية
العنصرية الروحية
يوليوس قيصر وشكسبير
بوذا
كونفوشيوس
أبيقور
تيمور الأعرج
روسكين
نيتشه
تولستوي
غوته
رنان
هربرت سبنسر
الأرض المجهولة
جزيرة الأبالسة
الحماقة البشرية
العنصرية الروحية
يوليوس قيصر وشكسبير
دنيا وأديان
دنيا وأديان
تأليف
نقولا فياض
بوذا
دين الخلاص
بين الرجال العظام الذين قادوا المجتمع البشري وظهروا فيه كالأعلام على مدار الحقب، وتركوا في أديم الحياة الإنسانية آثارا عميقة لا تمحوها رمال الزمن، تتجلى لنا من أعماق الماضي البعيد - على ضفاف الكانج ومن خلف غابات الهند الأزلية - صورة بوذا مؤسس الديانة الهندية.
يقال إنه حتى العشرين أو الثلاثين من عمره لم يكن يعرف شيئا مما يجري حوله من تصاريف الأيام؛ لالتزامه بيته حيث كان يقيم معه أستاذ يسهر على تربيته وثقافته. ولما خرج للمرة الأولى بصحبة أستاذه لاقى في طريقه أول ما لاقى شيخا محدودب الظهر مجعد الجبين يمشي متوكئا على عصاه، فسأل رفيقه: لماذا يمشي الرجل هكذا؟ فأجابه: لأنه عجوز هرم، قال: وما يعني؟ قال: إنه بلغ من العمر عتيا فوهنت قواه وهزل جسده وثقلت خطاه، إلى آخر ما يتبع ذلك من عيوب الشيخوخة.
وما ابتعد غير قليل حتى لفت نظره مريض مطروح على قارعة الطريق كعادة تلك الأجيال في عرض مرضهم على المارة، فسأل عنه، فقال له الرفيق: هذا مريض؛ يعني أنه كان قويا فصار ضعيفا، وكان يمشي أميالا فلا يتعب وهو اليوم لا يستطيع أن يخطو خطوة، وكان يأكل بشهية فانقطعت عنه القابلية، وكان لا يشكو ألما وهو اليوم كثير الأنين إلى آخر ما يرافق الداء من ألم وعذاب. ثم تابع سيره فالتقى بجنازة، فسأل: ما الخبر؟ فقال له معلمه: هذا ميت؛ يعني كانت فيه حياة فذهبت، وكان قلبه خفاقا فسكن، وكانت عيناه تبصران فزال منهما النور، وأذناه تسمعان فأصابهما الصمم، ولسانه يتكلم فنابه الخرس؛ فهو الآن في عالم غير عالمنا هذا.
أثرت هذه المشاهد في الأمير الشاب تأثيرا عميقا فارتد أدراجه إلى القصر، وذهب توا إلى أبيه الملك، وقال: ألا يمكنك يا أبتاه أن تمنع الهرم والمرض والموت؟ فأجابه أبوه: إنك تطلب المستحيل يا بني. وكان هذا الجواب كافيا ليتبين بطلان تعاليم البراهمة؛ فهجر قصر أبيه ولسان حاله يقول: تعسا للشباب الذي يغلبه الهرم! تعسا للصحة التي تهدمها الأمراض، تعسا للحياة التي يفنيها الموت!
هجر قصر أبيه الملك، واتخذ عزلته في الغاب بعيدا عن الناس يعيش عيشة التقشف، ذاهبا في تأملاته كل مذهب، باحثا عن دين يكون أقرب للإنسانية، فأطلقوا عليه اسم ساكياموني؛ أي ناسك ساكياس، قبل تلقيبه ببوذا؛ أي الحكيم الأكبر.
ومن هذه العزلة خرجت تلك الديانة القاتلة لإحساس الإنسان وشهواته، ومنها ارتفع ذلك الصوت القائل بغرور الحياة، الداعي إلى الزهد، طالبا وسط مفاسد العهد القديم أن يتجافى الناس مضاجع اللذة والسرور، قاتلين الرغبة بالتأمل، والتأمل بالغيبوبة، والغيبوبة بالفناء، حتى يصلوا إلى الغاية القصوى من الخير، وهي النرفانا؛ أي العدم.
والذي سهل انتشار هذه التعاليم الناتجة عن التشاؤم واليأس تلك العقيدة السائدة في الهند من تناسخ الأرواح؛ أي التقمص، فالحياة الأبدية في الهند أشبه بكابوس؛ يولد المرء ويتألم ويموت، ثم يولد ثانية ليتألم أبدا ويموت كذلك، وهكذا دواليك كأنما هي أشغال شاقة على الإنسان أن يتحملها في طريق الأبد.
وقد أراد بوذا تخليص الإنسانية من هذا الكابوس فلم يجد سوى حل وحيد لذلك، وهو إخماد عطش الأنانية؛ ففي إطفاء «أنا» كل النرفانا، وذلك بمحاربة الشهوات، وتضحية الفرد للمجموع، والرحمة الشاملة، ولو اقتضت أن نضحي بأنفسنا في سبيل سائر الخلائق من إنسان وحيوان. وهذه التعاليم السلبية فيما يتعلق بما وراء المادة نتيجتها العملية أدب كله إنكار ذات وعفة ورفق ومحبة.
ولا يخفى ما في هذه التعاليم من سحر الإغواء، وهذا ما يفسر لك انتشار البوذية الواسع فيما بعد، والذي يخلع عليها جاذبية خاصة هو الروح الشعرية التي تفيض حنانا في تلك الأساطير عن الحياة المتعددة السابقة التي مر بها بوذا في تقمصه إنسانا وحيوانا، فهنا ملك الوعول يضحي نفسه من أجل رفاقه، وهنا أرنب يطرح نفسه في النار ليطعم أحد البراهمة الجائعين، وهنا ملك الفيلة يقدم أنيابه لقاتله، إلى غير ذلك.
وكان أول ما بشر بالبوذية في مناطق الكانج الشرقية، ومنها امتدت إلى سائر الهند، والقائمون على هذه الكنيسة جماعة من الرهبان في الأديرة يحف بهم عدد من العوام المخلصين. ولا ريب أنه في العصور الأولى قد تقلب على البوذية أحوال تبعا للزمان، ولحاجات القلب البشري؛ فإن الوقوف عند بوذا التاريخ أصبح غير كاف؛ لأن انطفاءه بالنرفانا جعل الوصول إليه بالصلاة صعبا، فخلق الإيمان عددا غير قليل من أشباه بوذا، هم بوذوات المستقبل، هؤلاء ينتظرون في جنات تجري من تحتها الأنهار أن تدق ساعة تجسدهم، وفي مدة هذا الانتظار يعنون بخلاص الخلائق. وقد وجد بين هؤلاء من فاق بوذا التاريخ في استمالة الشعب إليه، فلقب بالمسيح أو العناية أو النور غير المتناهي، وكان له شأن لدى انتشار الديانة في أنحاء الشرق الأقصى.
هذه الصور الروحانية التي تقطر شفقة ورحمة كانت تخلق من حولها في عقول الناس وقلوبهم جوا من اليقين والتقوى والحنان لا مثيل له في آسيا الشرقية. وقد أخذت الصين - بوجه خاص - تجد فيها عالما روحانيا جديدا، ولاقت فيها الفكرة الفلسفية غذاء لا ينفد بفضل ما وراء الطبيعة الذي اقتحم البوذية الهندية في المائة الأولى من التاريخ المسيحي. فاتجهت الأفكار إلى مثل عليا مطلقة، قائمة على النظر إلى العالم وإلى «أنا» كأنهما غير موجودين حقيقة، ومن جانب آخر، فإن الجماعات - كما قلنا - كانت تجد نفسها مجذوبة بسحر هذه الأساطير الكثيرة المختصة بكل بوذا من بوذوات المستقبل، وهذه الصور الناعمة اللطيفة، وحياة القديسين، ولمعان الفراديس والجحيم فضلا عما كان يغريها به الفن البوذي نفسه.
كان الفن الهندي حتى بداية التاريخ المسيحي فنا لا يخلو من الجمال؛ لأنه من وحي طبيعة الهند الأزلية، غير أنهم ما كانوا يجرءون في الزمن الأول على تصوير بوذا لتحريمه كما حرم تصوير الله في ديانات أخرى، ولا ريب أن هذا التحريم لم يكن عن احترام فحسب بل فيه دخل كبير للمنطق؛ لأنه ليس من المعقول أن تحيي بالرسم من محته النرفانا؛ أي من ذهبت ذاتيته، فكانوا يعتاضون عن تمثال بوذا حتى في مشاهد الحياة اليومية برموز متفق عليها. ولكن هذه النظرية تغيرت عندما تطرقت اليونانية إلى شمال غربي الهند لعهد ملوك اليونان خلفاء الإسكندر، ثم لمن جاء بعدهم من ملوك الشيت.
لقد شعر اليونان الذين اهتدوا إلى البوذية بالحاجة إلى تمثيل بوذا تمثيلا صحيحا حقا، ولم يجدوا أمامهم سوى إلههم أبولون ليأخذوا عنه فقلدوه. وأول تمثال صنع لبوذا في أوائل العهد المسيحي في غندارة، وهو صورة طبق الأصل لأبولون مع زيادة الطابع العقيدي، كنقطة الحكمة بين العينين وغفرة الرأس، وطول شحمة الأذن؛ لثقل القرط الذي كان يعلقه بها بوذا أيام كان أميرا.
هذا المثال اليوناني لبوذا ذو الملامح الأبولونية والمطارف اليونانية الذي كشف عنه التنقيب في آثار غندارة وكابول سيجوب الزمان والمكان، من خلال آسيا الوسطى حتى الصين واليابان، مكتسبا في سفرته الطويلة بعض التغيرات، والتطبع بطابع صيني، حاملا تذكارات ماضيه اليوناني في الصورة والهندام.
وقد جاء انتشار البوذية في الصين متأخرا؛ أي في السنة الستين من التاريخ المسيحي، وبوذا مات حوالي سنة 480ق.م، فكأنها بقيت منحصرة في الهند ستمائة سنة قبل تمشيها إلى الصين، حيث استقبلت بادئ ذي بدء كبدعة من تعاليم ثاو، كما استقبل الرومان المسيحية كبدعة يهودية. وقد حملت البوذية إلى الصين فكر الهند وفن الإغريق وشيئا من حضارة إيران، غير أن نجاحها لم يطل، وبعد أن استفادت من بعض الشبه بينها وبين تعاليم ثاو قام الثاويون عليها، وناهضها كذلك أشياع كونفوشيوس ونعتوها بالغريبة؛ لأنها تقضي على الأسرة؛ إذ إن البوذي لا يهتم إلا بنفسه. ولا تزال الحرب سجالا حتى اليوم، والكونفوشيوسية وحدها دين الدولة ودين الملك. •••
لقد رسم بوذا للعالم القديم طريق الخلاص كما رآها، وقال له: لا تنس في هذه الطريق أن تمد إلى الإنسانية يد المعونة فترحم كل حي، وتعفو عن كل مذنب، وتنسى كل إهانة، وتعامل بالرفق والحق والجود إخوانك في هذا الوجود.
واليوم، بعد مرور خمسة عشر قرنا على بوذا، وبعد من تبعه من المصلحين والأنبياء والرسل، وهذه الأديان التي تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف، وبعد التقلبات الهائلة التي منيت بها الإنسانية، لا يزال الظمأ شديدا إلى هذه المبادئ والتعاليم كأننا لم نزل في الأعصر الأولى، أعصر الجهل والتباغض والعدوان ...
كونفوشيوس
دين الإصلاح
1
لقد ظهرت على مسرح هذا الوجود دول شتى، بلغت من حضارتها الأوج، ثم توارت تاركة آثارا تدل عليها، وتحدث عن خالي عظمتها كأقواس النصر والأهرام والعمد والهياكل وما شاكل. ولكن أبقى الآثار وأبعدها مدى في تصريف حياة الشعوب هي بدائع العقل البشري، وما كانت تجود به أدمغة العباقرة حينا بعد حين، فتقيمه كمنائر في طريق الحياة هدى للعالمين.
وفي هذه الأيام العصيبة التي تبرز فيها الصين على المسرح العالمي كدولة كبيرة، يجدر بنا أن نعود قليلا إلى ماضيها الحافل بالآثار الأدبية، فنراجع تعاليم أعظم فيلسوف أنجبته هذه البقعة العجيبة التي يتصل نسبها بمهد البشرية كما تتصل هي بمهد الشمس.
لقد تعاقب على الشرق منذ القدم ثورات وانقلابات بدلت معالمه وقوضت عروشه، وأنزلت إلى القبر حضارات أمم عظيمة لمعت في آفاقه منذ أربعة آلاف سنة، ولم يبق منها اليوم سوى أطلال دارسة، وآثار طامسة. هذه مملكة داريوس التي حفظت لنا كتب زرادشت شيئا من شرائعها، نحاول اليوم أن نتبين رسومها من خلال المخطوطات المسمارية لبابل وبرسوبوليس، وهذه دولة الفراعنة التي اضطجعت في أهرامها الخالدة بعد أن خلفت تلك اللغة الصورية المجبولة بالألغاز كأنما أرادت بها إعجاز الذرية، فلم يرتق العلم إلى مفتاحها إلا بعد جهود ألفي سنة.
ولكن الصين لم تقو عليها ثورات الطبيعة والإنسان، فبقيت وحدها واقفة بينما كان كل شيء يتداعى من حولها، كتلك الصخور الوعرة التي لا تزال تلتطم بها أمواج البحار منذ بداية الخلق دون أن تزعزعها. •••
لا ريب أن الحضارة الصينية أقدم حضارة على الأرض، يرجع تاريخها إلى ألفين وخمسمائة سنة قبل المسيح. فكان «فو هي» إمبراطورها الحكيم أول فيلسوف في مملكته. ولم تكن الكتابة معروفة لذلك العهد، فرسم حكمته في سطور سرية على ألواح محفوظة حتى اليوم، وعلم شعبه العدد والفلك، وعوده احترام الأجداد، ثم جاء بعده باو، وشون، وبو، فنظم الأول المواقيت، وسن الشرائع، واخترع كثيرا من الفنون المفيدة، وكان دمث الأخلاق، طيب القلب، إلى حد أنه منع العرش على بنيه؛ لأنهم لم يكونوا أهلا للحكم، ورفع إليه مزارعا بسيطا هو «شون» الذي اقتفى أثره، فاختار خليفة له مزارعا هو «بو».
باو، شون، بو، هم الأركان الثلاثة التي قامت عليها الفلسفة الصينية، وضعوا أسسها وقالوا للحكام: الرعية أبناؤكم، وقالوا للرعية: الملك أبوكم.
ومنذ دفع هؤلاء الصين في طريقها إلى الأمام أخذت تتقدم في معارج الارتقاء، يساعدها على ذلك غناها الطبيعي، واتساع ملكها، ومناعة حماها؛ بما حبتها الطبيعة من حدود ترد طرف الغزاة وهو حسير، كجبالها الشماء التي تعد أعلى جبال الكرة الأرضية، ومنافذها الشاسعة التي يعز اجتيازها على بني الإنسان.
وانصرف الشعب الصيني إلى إنماء تجارته وصناعته، وكان له من نجاحه المطرد وثروته الآخذة في الازدياد حافز للاهتمام بالفنون الرفيعة، ولا سيما الموسيقى، حتى إن الإمبراطور شون جعل لها في حكومته وزارة خاصة، وكان هم الصينيين متجها إلى توفير أسباب الراحة وحياة الخفض والدعة والسكون، فاكتشفوا بسهولة ما قضى الغرب زمانا طويلا قبل الوصول إليه. وقبل المسيح بخمسة عشر قرنا كانوا يعرفون الورق والكتابة ويستعملون البيكار، وكانوا يكرهون الحروب، وقد عودتهم أسوار الصين الهائلة أن يناموا في جناح آمن، فكانوا يحتقرون الأشياء العسكرية، ولا يريدون سوى التمتع بنعم السلم؛ ولهذا لم يحفظ التاريخ ذكرا لرجال الحرب منهم.
وكتب الآداب عندهم تلقن مبادئ العدل، وتنص على خلود النفس والثواب والعقاب في عالم آخر، وتأمر كالكتب الهندية بالرحمة والشفقة على الحيوان، واحترام العصافير الصغيرة في أعشاشها، والأشجار التي تعطي الظل، وتعلم أن الإنسان السعيد هو الذي يرى الخير، ويصنع الخير، وما أجمل هذا التعريف للسعادة!
والقضاء قديم في الصين، وهو عادل وصارم معا. وعقاب الصين قائم على العصا يخضع لها العظيم والحقير دون أن يجدوا من ورائها عارا أو تحقيرا. فترى القاضي نفسه إذا استحقها يخلع ثيابه ويحني ظهره ويتلقى الضربات ثم يقوم فيرتدي لباسه، ويعود إلى منصة القضاء دون خجل ولا استحياء، وأما الجرم السياسي فيعاقب بالتعذيب الشديد، والموت بلا شفقة.
وللشعب الصيني شعر وأدب، ولكنه شعر جامد وأدب لا يتغير؛ لأن طاعته العمياء وخضوعه للتقاليد قد وضعا الفكر والخيال في دائرة ضيقة لا يتعديانها، على أنه من العجب العجاب أن يكون لهذا الشعب فلسفة وعلم وأدب، في زمن كان العالم فيه غارقا في ظلمات الجهالة، وأن يتولى العقل زمام الأحكام فيه بينما كانت سائر الشعوب خاضعة للقوة، وربما كان من أهم أسباب ذلك الجمود الكتابة الصينية التي يحمل كل حرف منها صورة مرسومة، فلا يسهل حفظها؛ ولهذا لا يزال الصينيون يتكلمون اليوم كما كانوا يتكلمون منذ طفولة العالم بلغة كلها ألغاز ورموز يقضي الذكي منهم ثلثي عمره في تفهمها، والثلث الباقي في التبحر بها.
وفضلا عن ذلك فالصيني محكوم عليه بشرائعه أن لا يفارق موطنه؛ فحيث ولد يعيش، وحيث عاش يموت. وكما حرم عليه الخروج من أرضه فقد حرم على الغريب الدخول إليها. فإذا بهذه المملكة الكبيرة كالسجن المحكم الأقفال، لا تتسرب إليه أصوات الخارج، ولا يؤثر فيه ما يعصف حوله من الزعازع.
وفي منتصف القرن السادس قبل التاريخ المسيحي كانت الصين - بلا ريب - أعظم بلاد الله حضارة وأرقاها مدنية، مملكة واسعة الأطراف كاملة التنظيم، مقسومة إلى ولايات يديرها حكام باسم الإمبراطور، وفيها نظام للشرطة وللسلطات جميعا، وصناعاتها كثيرة كالحرير والخزف والصباغ والطباعة والحفر، وزراعتها زاهرة، وبساتينها خضراء، وحدائقها كثيرة غناء، ولا يخلو فيها بيت من روضة يقضي الصيني فيها معظم وقته مستسلما إلى الراحة، وأحلام النفس المطمئنة، في تلك الحقبة من الزمن بينما كانت ضفاف الكانج وغابات الهند الأزلية تردد صدى تعاليم بوذا كانت الصين تتلقى الحكمة من فم مرشدها وفيلسوفها الأكبر كونفوشيوس.
2
لا ريب أن القرن السادس قبل المسيح كان عصرا خصبا من عصور الفلسفة البشرية؛ ففي الصين كونفوشيوس، وفي الهند بوذا، وفي اليونان كان طاليس لا يزال حيا، وفيثاغور في أوج شهرته، وسولون في إبان شبابه، وسقراط على عتبة الدنيا يتمخض به الغد القريب، وقد مر بنا أن الصين كانت لذلك العهد في الذروة من حضارتها، وكان كونفوشيوس قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، بعد أن أكب منذ الصغر على درس كتب الأجداد، واستخلص منها تلك المبادئ العملية النافعة للحياة، وطبق عليها عاداته، فأصبح السيد المطاع، يشغل أسمى مناصب الدولة، ويتولى إدارة الأشغال العامة والقضاء، فكان في آن واحد المؤرخ والمشترع والوزير الأول.
وقد سبق القول: إن الصين كانت منقسمة إلى دويلات، فكان من نجاح دولة «لو» وازدهارها ما حرك الحسد في قلوب الجيران؛ فحاول ملك «تسي» إفساد ملكها بالهدايا، فأرسل إليه ثمانين فتاة من أجمل حظاياه، وجوقا من المغنين، وجيشا من الطهاة البارعين، ومائة وعشرين جوادا أصيلا، فاستسلم هذا الأخير إلى اللهو والملذات غير عابئ بنصائح وزيره، ضاربا بتعاليمه عرض الحائط، فلم يبق لكونفوشيوس سوى الاعتزال، فانسحب من مملكته مودعا آماله فيها وابتعد عنها وهو يتألم.
وبما أنه لم يكن يفكر بغير سعادة الشعب، فقد كان الفقر أسرع شيء إليه. ورأى الناس حينئذ، ويا له من مشهد محزن، هذا الرجل الحكيم شريدا طريدا، لا مأوى له ولا قوت ولا راحة، معرضا لإهانة الكبراء، واحتقار الشعب الذي قلما يحفظ الجميل، ورفع يوما أحد الأمراء سيفه عليه فلم يطأطئ رأسه بل قال: إذا كانت السماء ترعاني فما يهمني بغض الرجل القوي، فكأنه قضي على كل من يتطوع لخدمة هذه الإنسانية أن يتجرع كأس الآلام حتى الثمالة، كأنما هو يكفر بهذا العذاب عما أوتيه من المواهب السامية لأداء رسالته الإلهية على الأرض.
ومات كونفوشيوس في الثانية والسبعين، فكانت حياته ثلاثة أدوار؛ الدور الأول: درس واستعداد، والثاني: حكم وإرشاد، والثالث: عزلة واستشهاد، على أن الموت كان أعظم منصف له. وكما يقع للرجال العظام الذين تنكر أقدارهم وهم في الحياة فقد عاد نجمه إلى الإشراق بعد أفوله ، فأقيمت له الهياكل، وشيدت باسمه المدارس، فكان الأمير أو الحاكم إذا مر من أمام عتبتها يترجل احتراما، وصار الانتماء إليه أكبر شرف يحمله الحكماء والقضاة، وأرباب القلم والصولجان، وأصبحت أعظم مكافأة يحلم بها المتفوقون هي أن يلقبوا بتلاميذ كونفوشيوس، وعادت الكرامة لذويه، وأصبح الشرف إرثا في ذريته، وكتب الإمبراطور «بون» براءة يقول فيها: «إني أحترم كونفوشيوس، فالملوك هم سادة الشعب، وهو سيد الملوك.»
والحق أنه إذا كانت قيمة الإنسان وقوة تعاليمه على قدر ما يترك من التأثير في الناس، فقد جاز لنا أن نقول مع الصينيين: إن كونفوشيوس أعظم مهذب للجنس البشري أنتجته العصور. أما تعاليمه ففي الغاية من البساطة، وهي عملية مبنية على طبيعة الإنسان، تتناول كل حالات الحياة والصلات الاجتماعية، وتتلخص باستقامة القلب وحب الإنسان قريبه كنفسه. ليس فيها تحليق في الفكر ولا شيء من البطولة ولكن كثير من الحكمة؛ فهي أدب أكثر مما هي فلسفة، أدب يدرب العواطف، جاعلا من البر بالوالدين أساس الطاعة التي تمتد سلطتها إلى أبعد من العائلة، إلى الإمبراطور والحكومة والأمة.
والغاية القصوى التي تهدف إليها تعاليمه هي الكمال، الكمال الفردي أولا، وكمال المجتمع بعد ذلك؛ فيبدأ الإنسان بإصلاح ذاته وتحسين نفسه ثم ينتهي إلى إصلاح الآخرين وتحسينهم. ولا يستطيع الإنسان إصلاح غيره قبل إصلاح نفسه، وكلما تقدم المرء في الوجاهة وعلو الكلمة في قومه كانت واجباته أوسع وأعظم في السعي نحو هذا الكمال. وقد علمه درس التاريخ والقلب البشري أن السلطة تفسد على الإنسان نفسه، فينتفخ كبرا، ويزيد صلفا وعنادا، فكان لا يفتأ يذكر الحكام بواجباتهم، ملقيا عليهم كل تبعة، خيرا كانت أم شرا، غنى أم فقرا.
هذه الصبغة المادية لتعاليمه هي التي جعلتها طويلة العمر؛ لأنها بسيطة خالية من التعقيد، قريبة التناول من الأذهان. لقد فهم كونفوشيوس روح معاصريه حق الفهم؛ فكان ماديا في شعب لا يعرف غير فوائد المادة، شيوعيا بين قوم قوتهم قائمة على الاشتراك، مستبدا في مملكة تتمتع بأحسن نظام للشرطة. وسأجتزئ هنا بإيراد بعض الأمثلة من حكمه ؛ فهي تعطينا صورة جلية عن جمال تعاليمه، قال: ثلاثة على الحكيم احترامها: شرائع الطبيعة، وعظماء الرجال، وأهل الصلاح، وقال: أوصي الشعب باحترام الشرائع قبل درس العلوم، وقال: خمس قواعد لحكم العالم: العدالة التي تربط الحاكم بالمحكوم، والحب الذي يربط الآباء بالبنين، والعلاقة بين الزوجين، وخضوع الصغير للكبير، والصدق في الصداقة. كونوا أيها الحكام مثال الاستقامة والعدل؛ فلا يتجرأ أحد على العصيان أو التذمر. أيها الحاكم، إن أردت أن تدير ملكك فجرب ذلك أولا في داخل بيتك؛ فالعائلة هي المملكة الصغيرة.
وقال أيضا: الفقير الذي لا يتزلف إلى الناس، والغني الذي لا يصعر خديه خيلاء يستحقان الثناء، ولكني أفضل عليهما الفقير الذي يرى نفسه سعيدا في فقره، والغني الذي يعرف أن عليه واجبات نحو غيره. الشجاعة النادرة أن لا يخجل الإنسان من لباسه الزري، وأطماره البالية أمام صديق يلبس الخز والديباج. التقوى الحقيقية أن تحب الناس جميعا، والحكمة أن تفهمهم. تعلم أن تعيش مكرما لتموت مكرما. يمكن التغلب على قائد يحميه جيش كامل، ولا يمكن سلخ الحرية عن أضعف الناس، وقال أيضا: أربعة شروط للرجل الكامل وأراني مقصرا فيها:
أولا:
لا أستطيع أن أطيع أبي كما يطيعني أولادي.
ثانيا:
لا أخدم سيدي كما أريد أن يخدمني عبدي.
ثالثا:
لا أحترم من هو أكبر مني سنا كما أريد أن يحترمني من هو أصغر مني.
رابعا:
لا أؤدي لصاحبي الواجب الذي أريد أن يؤديه لي. - إذا عرض لنظرك شيء غير شريف فلا تره، أو لأذنيك فلا تسمعه، أو لفمك فلا تنطق به. - من لي بإنسان يكون الرقيب لنفسه والشاهد عليها، والخصم والحكم معا، فيعترف بخطئه، ويجلس إلى محكمة ضميره، ويرسم لنفسه عقابها. - ليكن سلوكك كما لو كانت عشر من الأعين تحدق فيك، وعشر من الأيدي تشير إليك.
وأخيرا، هذه الحكمة البالغة التي أوصى بها السيد المسيح: قابل الإساءة بالإحسان. لا تفعل بالناس ما لا تريد أن يفعله الناس بك، واعمل للآخرين ما تريد أن يعمله الآخرون لك.
أبيقور
دين اللذة
لم أجد رجلا أثار من الضجة حوله مثل الذي أثاره أبيقور؛ فأحبه فريق وأبغضه فريق، وانهال عليه قوم بالمديح وقوم بالذم، ورأى فيه بعضهم نعمة للبشر وبعضهم الآخر ويلا عليهم، فكان في آن واحد ملكا كريما وشيطانا رجيما.
ونحن اليوم إذا أردنا أن نصدق أولئك أو هؤلاء، ونحكم له أو عليه، فليس لنا سوى الرجوع إلى ما كتب أو ما كتب عنه؛ لنتبين الحقيقة من أقواله وأعماله، ويقول بعض مؤرخيه: إنه صنف نحوا من ثلاثمائة كتاب لم يصل إلى أيدينا منها سوى رسائل ثلاث، الواحدة في الأجرام السماوية، والثانية في الطبيعة، والثالثة في سيرة الحياة، مع وصيته الأخيرة ومقتطفات من خطرات أفكاره. ومن الذين كتبوا عنه: سنيك، وبلوتارك، ولكن أهم مؤرخيه: الشاعر لوكرس الذي أفاض في شرح فلسفته، فجاء كتابه من أجمل آثار الأدب اللاتيني، وسيبقى المرجع الوحيد لدراستها. •••
أراد أبيقور الوصول بالإنسان إلى السعادة على الأرض، فلم ير بدا من إزالة الأوهام العالقة به، وخط أدبا جديدا له في الحياة، فجاءت فلسفته مادية بحتة، رأى الشقاء المخيم على البشر وحياتهم الملأى بالأنين والشكوى فعزا ذلك إلى سببين، السبب الأول: الخوف من الآلهة؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن هذه الآلهة تراقبهم من سمائها، وتعد عليهم حركاتهم وخطواتهم، وتحاسبهم على نياتهم وهفواتهم، فشغلوا بها عن العمل لما فيه خيرهم، وتركوا كل شيء إلا التفكير الدائم بالكهان، وما يتنبئون به، وما يأمرون به، وقد يكون الضرر البليغ فيما يأمرون، كما جرى لأغاممنون؛ إذ صدقهم فضحى بابنته أفيجيني.
والسبب الثاني: الخوف من الموت؛ فهو الكأس الدائرة على الورى، وكل واحد يشعر بالموت يدنو منه يوما بعد يوم حتى صار شبحه ملازما للناس يتبعهم في رواحهم وغدوهم وقيامهم وقعودهم، فوجدوا أنفسهم على شفير الهاوية، واستحكم منهم الدوار، وما دام هذان الخوفان مسيطرين على النفوس فالتعاسة لا مناص منها. وهذا ما أراد أبيقور محاربته بتنوير الأذهان بدروس الطبيعة، فأظهر أولا أنه لا داعي للخوف من الآلهة؛ لأنها مشغولة عنا، لا يهمها معاقبة المجرمين أو مكافأة المحسنين، وليست في حاجة لأن نستجلب رضاها أو نثير غضبها، وأن الظواهر الجوية التي تهلع لها قلوبنا، كالصواعق والزلازل والكسوف والخسوف والإنذارات التي تدعي الكهنة أنها تتلقاها فتئولها كما تشاء، لا علاقة لها بالغيب، ويمكن تعليلها بأسباب طبيعية.
وقدم مثلا بسيطا على ذلك؛ وهو أن الصاعقة التي يزعمون أن جوبتر جبار الأولمب يرسلها قصاصا للمجرمين قلما تصيب أحدا من هؤلاء، بل هي لا تقع إلا في القفر، أو على الهياكل والتماثيل ومعابد الآلهة نفسها، أفليس هذا دليلا ناصعا على عدم اهتمام الآلهة بنا؟ وهنا يخوض أبيقور للتعليل عن وجود الكائنات في بحث فلسفي، لا مكان له في هذه الأسطر، راجعا في كل شيء إلى رأي ديمقريطس في الجواهر الفردة، مفسرا تكون العوالم بتصادم هذه الجواهر، تاركا بين هذه العوالم خلاء جعله مقرا للآلهة. ويشرح وجود الإنسان على الأرض بالتولد الذاتي، ثم يبين ارتقاءه من ظلمة الكهوف والعزلة والجهل إلى ذروته الحاضرة ليقول: إن هذه المدنية صنع يديه، فلا شأن للآلهة بها.
نعم، على الإنسان أن يؤمن بالآلهة ويحترمها، ويقتدي بها في حياتها الهادئة السلمية، ولكن من العبث والتضليل أن يصلي ويضحي لها، ويغريها بالهدايا، ويشغل أفكاره بها أبدا كأنها قاعدة له كل مرصد. أما الموت فلا داعي للخوف منه؛ لأن الجسم ينحل به روحا وبدنا، فتذهب التذكارات والهموم والتأسفات، ولا يبقى شيء يهدد به. ولا صحة لما يزعمون من أن الروح موجودة قبل الجسد وباقية بعده؛ فإذا كانت موجودة قبل الجسد فمتى دخلته؟ أقبل الولادة أم قبل التكون في البطن؟ تصوروا إذن هذه الأرواح المزدحمة في الغيب تنتظر كلها ساعة الحب لتهجم على أجسادها وتدخلها، وإذا كانت باقية بعده فأين تذهب؟ إلى إنسان، وما رأينا أحدا يحفظ في حياته تذكار حياة سابقة، أم إلى حيوان، ولا يعقل أن يكون في الخروف روح أسد!
وإذا عرفنا أن الروح فانية مع الجسد بدا لنا الموت كأنه راحة لا عناء، ونسيان لا تذكار؛ فلا سبيل إلى الخوف منه أو القلق بسببه. وهكذا يزيل العلم بالطبيعة الخوف المسيطر على البشر من الآلهة ومن الموت، ومتى تم ذلك وتخلص الإنسان من ربقة هذا الاعتقاد فقد تم نضجه وصار أهلا للحكمة.
ما هي هذه الحكمة؟ هي اجتناب الألم والبحث عن السعادة. تلك هي في نظر أبيقور غاية الإنسان على الأرض، وهو يعتقد أن أكبر عامل في السعادة هو اللذة، لا يعني بذلك الاستسلام بلا حساب إلى الملذات كما يقول الشاعر:
لا تقف في وجه لذاتك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دنياك هذي مرتين
بل اللذة المعتدلة بالحياة المطابقة لمطالب الطبيعة كما يعيش سائر الحيوان والنبات، ويمكن حصرها في قواعد أربع:
أولا:
خذ اللذة التي لا يعقبها أدنى تعب.
ثانيا:
اهرب من التعب الذي لا يعقبه أدنى لذة.
ثالثا:
اهرب من اللذة التي تحرمك لذة أخرى أعظم منها.
رابعا:
اقبل بالتعب الذي ينجيك من تعب أكبر، ويعطيك لذة أوفر.
وعليه فهو يميز أولا: بين الملذات الطبيعية والضرورية؛ كالشرب عند الظمأ، والأكل عند الجوع، وهذا ما يجب الأخذ به، وثانيا: الملذات الطبيعية غير الضرورية؛ كالتفنن في الأكل وإرضاء الشهوات، وهذا ما يجب الاعتدال فيه، وثالثا: الملذات التي هي غير طبيعية وغير ضرورية؛ كالسكر والإفراط في أكل اللحوم، وكل ما يدفع إليه الطمع والبخل من رغبات لا حد لها، فلا يخمد الإنسان واحدة منها حتى تستيقظ الثانية، وهكذا يزلق المرء من شهوة إلى شهوة، ومن وهم إلى وهم، ومن خيبة إلى خيبة، ومن اضطراب إلى اضطراب؛ فهذه الملذات غير الطبيعية ولا الضرورية يجب الإقلاع عنها.
تلك هي فلسفة أبيقور. لقد أساء الناس فهمها فرموا صاحبها بكل شائنة، وأنزلوا عليه اللعنات، وجعلوا منه منافقا وفاسقا ونهما، حتى ادعى تمقراط، أحد تلاميذه، أنه كان يتقيأ ما يأكله مرتين في النهار، وإلى يومنا هذا لا يزال اسمه رمزا لحب الذات وحب المتعة، فيقولون «هذا أبيقور» لكل مسترسل في شهواته لا يهتم إلا بذاته، مع أن أتباعه ومريديه يمجدونه كإله، ويمدحون كرم طباعه وبساطة عيشته، ويؤكدون أن غذاءه كان من الخبز المبلول بالماء، وكتابه الأخير إلى تلميذه «أيدومنة» دليل على تعففه وتقشفه؛ فقد مات في السبعين بعد عذاب أيام بداء المثانة، وكتب قبل موته يقول: «أكتب لك هذا في اليوم الأخير والسعيد من حياتي: أن آلامي لا تطاق، ولكن يعزيني فيها الذكريات التي أستمدها مما علمت وصنفت.»
لقد كان أبيقور أكبر معلم للبشر بدرسه أوفق الشروط للسعادة؛ فقد رأى أحسن من كل إنسان أن هذه السعادة لا علاقة لها بالمال والشهرة والمركز الاجتماعي. ولا ريب أن سقراط لم يجهل هذه الحقائق، وكذلك الرواقيون أتباع زينون، ولكن أبيقور خلع عليها حلة خضراء من سحر لسانه، وقوة بيانه؛ حتى أصبح المرجع فيها لكل من قال حكمة في العالم، ومن الغريب أنها لم تدرك كما يجب، ولم يكن عدد الذين استفادوا منها أكثر مما هو.
كلا لم يكن أدب أبيقور ليجعل من الناس قطيعا من الخنازير كما ادعى أعداؤه، ولو أن الإنسانية عملت بما علم لحققت المثل الأعلى، وكان لها مجتمع سلمي يبحث فيه كل فرد عن سعادته في الحياة البسيطة، والاعتدال والرضى بملذات الفكر واحترام الآخرين، فلم نصل إلى ما نحن عليه من فتنة مال، وخيبة آمال.
تيمور الأعرج
دين البطش
كان تيمور لنك من أعظم ملوك المغول شأنا، وأوسعهم سلطانا، وأشدهم طغيانا، يمت بنسب بعيد إلى جنكيز خان - على ما يقال - وبينهما مائة وسبعون عاما؛ فقد ظهر جنكيز في منتصف القرن الثاني عشر، وظهر تيمور في أوائل القرن الرابع عشر. وتخلل العهدين ظهور هولاكو الذي اشتهر بتخريب بغداد وقتل المستعصم واضعا السيف في دار السلام أربعين يوما، محرقا دورها، نابشا قبورها، بانيا بكتب العلماء مجبولة بالطين إصطبلات خيوله، وجاعلا منها جسورا على نهر دجلة للعبور عليها.
جاء في دائرة المعارف عن القرماني: كان تيمور رجلا ذا قامة شاهقة، كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة والرأس، شديد القوة والبأس، أبيض اللون إلى احمرار، عظيم الأطراف، عريض الأكتاف، مستكمل البنية، مسترسل اللحية، أعرج اليمينين، وعيناه كشمعتين، جهير الصوت، لا يهاب الموت. وكان من أبهته وعظمته أن ملوك الأطراف وسلاطين الأكناف إذا قدموا عليه وتوجهوا بالهدايا إليه كانوا يجلسون على أعتاب العبودية والخدمة نحوا من ممد البصر من سرادقاته، وإذا أراد منهم واحدا أرسل أحد خدمه ينادي باسمه فينهض في الحال.
وقد اختلفت الأقوال في نشأته، وكثرت حولها الأساطير؛ فقيل: إنه لما ولد كانت كفاه مملوءتين دما، فقال بعضهم: يكون شرطيا، وقال بعضهم: ينشأ لصا، وقال بعضهم: قصابا سفاكا، وقيل مثل ذلك في جنكيز خان. والسبب في تسميته بالأعرج أنه سرق في بعض الليالي غنمة فشعر به الراعي فضربه بسهمين، أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه؛ فأبطل كلتيهما فازداد كبرا على فقره، ولؤما على شره.
وكان جده حاكما على كرش فاغتصبت منه وعمر تيمور ثلاث سنوات، فقضى طفولته في الفاقة والحرمان. ولما بلغ أشده جمع من البادية والصحراء والغاب رجالا أقسموا له اليمين أن يساعدوه على استرجاع ملكه. وكان هو ورفاقه يسرقون ما وراء النهر، فشعر بهم السلطان حسين، صاحب هراة، وظفر بهم فضربهم، وأمر بصلب تيمور. وكان للسلطان ولد يقال له: غياث الدين، فشفع فيه واستوهبه من أبيه، فقال له أبوه: هذا مادة فساد، وإن بقي ليهلكن العباد، فقال غياث الدين: وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أصيب بالدواهي؟
فوهبه له، فقربه منه وزوجه شقيقته، ثم إنه غاضبها بعض الأيام فقتلها، فلم يبق له إلا الخروج والتمرد، إلى أن كان من أمره ما كان، حتى استصفى ممالك ما وراء النهر، واسترق العباد، وصافى المغول، وتزوج بنت ملكهم قمر الدين، ثم ظفر بغياث الدين فقتله، ووضع السيف في أهل سجستان، واستخلص ممالك العجم، ثم زحف إلى الهند فاقتحم دلهي، وأسر مائة ألف من السكان، وأحرق البيوت والهياكل ثم انتقل إلى الشام والعراق فاكتسحها، وبلغ بلاد أرمينيا وملك بني عثمان، وكانت له تلك الوقائع المشهورة.
واتخذ سمرقند قاعدة لملكه، وبنى فيها الجوامع وجملها بالحدائق الغناء، وأحاطها بالأسوار، ولقب نفسه الخان الأكبر مرددا قول أحد شعرائه: «يجب أن لا يكون على الأرض سوى سيد واحد، كما أنه لا يوجد في السماء غير إله واحد.»
وكان يحسن الفارسية والتركية والمغولية، وله إلمام بالأدب وغيرة على الدين الإسلامي؛ ولهذا كان يعفو في فتوحاته عن رجال القضاء والشرع والعلم، ويهتم ببناء الجوامع، على أن هذا لم يكن يمنعه من التخريب، مضيفا إلى فظائعه بذخا غريبا.
من هذه الفظائع أنه بعد ذبحه سكان أصفهان أمر كل جندي أن يأتيه بعدد من الرءوس المقطوعة، وكان الجنود قد تعبوا من التقتيل فصاروا يشترون الرءوس ويقدمونها له حتى بلغ عددها سبعة آلاف، وفي «الأبخاز» حمل الناس على الإسلام، ومن أبى عذبه، ومن هرب إلى الكهوف أضرم فيها النار وأحرقه، وفي هراة بنى من الجماجم أبراجا، فعدوا منها 70 ألف جمجمة، وفعل مثل ذلك في تكريت وحلب وبغداد، وعندما حاصر سيواس بعث أهلها نحوا من ألف ولد يحملون نسخا من القرآن وهم يضجون «الله! الله!» راجين بعملهم هذا اكتساب عطفه، فقال: ما هذا الثغاء الذي أسمعه؟ وأمر أن تؤخذ الكتب منهم، وأن تدوسهم الخيل، فهلكوا جميعا.
ولما دخل دمشق أظهر التشيع وأوقع على أهلها جريرة كونهم أعانوا بني أمية وهم سنة، وأحرق المدينة عقابا لهم، وفي بغداد أباح النهب ثمانية أيام، ثم قتل أهلها وبنى من رءوسهم 120 برجا، ثم خرب البلد إلا المستشفيات والمدارس والجوامع، وفي إحدى مدن آسيا الصغرى ربط رءوس الفرسان الأرمن بأرجلهم وألقاهم في الحفر ودفنهم أحياء، وتغلب على بايزيد فوضعه في قفص من حديد حتى مات.
وكان يتسلى بمجادلة علماء السنة في حلب وتخويفهم، وقد ألقى عليهم يوما هذا السؤال: من هم الشهداء حقيقة؟ من قتلوا من جنودي أم من أعدائي؟ فقال أحدهم: من قاتل في سبيل الله فهو الشهيد، وقال تيمور: أنا أعرج وضعيف، وقد فتحت إيران وطوران والهند، فأجابه المفتي: احمد الله ولا تقتل أحدا، فقال: والله ما قتلت أحدا بإرادتي، وما كنت أبدا البادئ بالعدوان، وأنتم علة مصائبكم. بهذه الأحاديث كان يتلهى مع العلماء بينما كان رجاله يقيمون من الجماجم أهراما.
أما بذخه الغريب فيمكننا أن نأخذ صورة عنه فيما صنعه في سمرقند ، بعد رجوعه إليها ليستريح من وعثاء السفر والحروب، وهو في الستين من العمر. فقد بنى قطرا من المرمر المزدان بألوان الخزف والفسيفساء، وجعل فيه مستسقيات ينبعث منها الماء عمدا في السماء، ونصب مائتي خيمة من الحرير المقصب والمخمل المذهب لسكناه، وأقام ملاعب للخيل وأمكنة لأجواق الموسيقى، ثم أولم وليمة فخمة حضرها بنوه والملكات والحكام والعظماء، وسفراء الدول كالصين وروسيا واليونان ومصر وإسبانيا.
وكانت الهنود ترقص على الحبال، وأرباب الفنون والصناعات الذين كان يستقدمهم من جميع البلاد التي غزاها يتبارون في إظهار مهارتهم؛ فالفراءون يلبسون جلود الدببة والنمرة والسباع، والفراشون يعملون من أمراس الكتان جمالا تتحرك، ومن الأقطان عصافير ومنائر، والسراجون يصنعون الهوادج على الجمال، وفي كل هودج فتاة تفتن الأنظار، وصانعو الحصر يرسمون بالخط الكوفي سطورا مؤلفة من القضبان.
وكانت الخمور تسكب في أكواب الذهب، واللحوم تشوى على الأشجار المقطوعة من الغاب، والموائد مبسوطة على مدى النظر وعليها كل ما راق وطاب. في ذلك اليوم زوج ستة من أحفاده، فكانوا يبدلون ثيابهم تسع مرات، وكلما بدلوها تركوا ما عليها من الحلي والجواهر لأتباعهم. وكان رجاله ينثرون على الضيوف بين الحين والحين قطعا من المرجان والياقوت والعقيق والفيروز والذهب والفضة، بينما الشعراء ينشدون قصائد المديح بالعيد.
ولم يكن تيمور ينتهي من بذخه إلا ليعود إلى غزوه وتفظيعه، فلما انقضى هذا المهرجان العظيم التفت إلى من حوله وقال: إن انتصاراتي لم تتم دون إراقة دماء؛ ولهذا عزمت على التكفير عن ذلك بمحاربة عباد الأصنام في الصين؛ فليكن الجيش الذي ساعدني على ارتكاب القتل عوني في التكفير عنه؛ ليقيم الجوامع على أنقاض الهياكل. وخرج من سمرقند في مائتي ألف مقاتل، ولكن البرد والجليد أفنيا الكثير من جنوده، وأصابته الحمى في أترار فقضى نحبه.
هذا هو تيمور الأعرج الذي يعد أكبر الفاتحين منذ الإسكندر إلى اليوم، والفرق بينه وبين جنكيز خان أنه كان ذا علم ومعرفة، وله اطلاع على آداب العرب والفرس، بينما كان جنكيز أميا لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب، ولكن الاثنين أمعنا في التخريب. نعم، إن تيمور كان مسلما فأبقى على الجوامع وشاد كثيرا منها، غير أن جنكيز المجوسي لم يكن يفرق بين الأديان؛ فأدخل في بلاطه الأكفاء بلا نظر إلى المذهب، ووضع لأمته شرائع قيمة. وعلى كل، فقد كان الطاغيتان أكبر نقمة نزلت على البلاد الشرقية، والمدنية الإسلامية.
روسكين
دين الجمال
كان والد روسكين تاجر خمور، ولكنه كان يتعشق الطبيعة، ويحب الأدب والتصوير، ويميل إلى الأسفار، وقد ترك لابنه ثروة واسعة، مع هذا الغرام الفطري بالطبيعة والجمال. على أن الجمال لم يكن يتجلى له بادئ ذي بدء إلا من خلال الضباب الضارب قبابه في كل ناحية من لندن. ولما خرج منها إلى الأرباض أخذ يتعرف إلى جمال الأشياء فيما كانت تقع عليه عيناه من المروج الخضراء وبساتين الكرز والتوت، ومناظر تلك الثمار السحرية المتعددة الألوان، وعناقيد اللآلئ المخبأة بين الأوراق، فكان الفتى روسكين يرى فيها فردوسه الأرضي، ويقضي عندها الساعات الطوال سابحا في بحر الخيال بين التأملات والأحلام.
وكانت أمه من المتزمتات لا تني في أداء مهمتها كزوج وكأم، حتى رضيت أن ترافقه إلى أوكسفورد الغريبة عنها؛ لتكون على مقربة منه تسهر عليه وتقصي عنه الألم ما أمكن، والأخطار ما استطاعت، وإن أدى ذلك إلى إضعاف بنيته، أو سد أبواب اللباقة والمهارة في وجهه. وكانت تعنى بتعليمه العهدين القديم والجديد، فترعرع في النعمة والترف، لا يعرف ما هو الهم، ولا يفهم معنى للحسد أو الطمع، ولا تقرع أذنيه كلمة لوم أو جدل، فكان السلام والطاعة والإيمان الإطار الذي يكتنف حياته؛ فنما الذوق فيه بعيدا عن المؤثرات الخارجية.
وكان أبوه يقوده في ساعات الفراغ إلى الأنقاض والمعابد والقصور التي يمر بها في أسفاره العديدة، فيملأ منه السمع والبصر بالأناشيد والأشعار والصور، فزار إسكتلندة في الخامسة من عمره، وباريس في السادسة، وشهد تتويج شارل العاشر، ووقف في ساحة واترلو، وعاد إلى إنكلترا وهو يكتب ذكريات ويخط رسوما، فيصف المدارس والكنائس، وموسيقى أوكسفورد وقبر شكسبير، ومعملا للدبابيس في برمنكهام، وينظم الشعر في العاشرة ، ويجمع الحجارة النادرة في الأودية، ويراقب الأنوار ويقيس الأبعاد. وكل ما كان يستشفه بفكره الثاقب كان يتعشقه بقلب خلي بكر ظمآن. وكان يهتم بالأشياء أكثر من اهتمامه بالأحياء، ولا سيما ما اتصل منها بالجمال، وفيها ما فيها من أسباب اللذة أو الألم، فتراه مثلا مشغولا بالصور المعلقة على جدران البيت الذي يزوره عن أهل البيت أنفسهم.
وأول ما تعرف إلى الجمال كان عندما رأى في الأفق غيوما صافية كالبلور، وقد صبغتها شمس المساء بلونها الوردي، فما كان الفردوس المفقود بأجمل منها في عينيه!
وأصبحت تأملاته في الطبيعة لا للتسلية، بل نوعا من دعوة قدسية نحو المثل الأعلى. فصار تاريخ حياته منذ ذلك الحين تاريخ اجتماعه إلى الطبيعة في سفراته المتعددة كل عام، والتي لم يكن يأتيها حبا بالاستجمام فحسب، بل كان يذهب إليها كما يذهب إلى الله الذي يفتح للشباب أبواب الفرح!
ولم يكن يستطيع وصفها وتعريفها، فكان يقول: «أي نوع من الشعور البشري هذا الإحساس الذي يحب فيه الحجر للحجر والغيم للغيم؟ إن القرد يحب القرد لأنه قرد، وتحب شجرة الجوز لثمرها، ولكن الحجر لا يحب لأنه حجر. أما أنا فقد كانت لي الحجارة خبزا.»
ولكي يرى هذه الحجارة عن كثب كان يصرف الأشهر الطوال في سويسرا وإيطاليا. وأحب أن يقيم في «شافونكين»، إلا أن تزاحم السياح منعه، ففكر في شراء قمة «برازون»، ولكن الفلاحين تعجبوا كيف تشرى مثل هذه الأرض الصخرية القاحلة؛ فظنوا أن هناك كنزا وما زالوا عليه حتى أبعدوه.
وما كاد يرفع عينيه عن كتبه حتى وقعتا على فتاة قلبه وعمره 17 سنة. وكانت إسبانية المولد، باريسية التربية، كاثوليكية المذهب، فلم يرق لأمه البروتستانتية هذا الحب، وما زالت به حتى حملته على نسيانها مستعينة بالأسفار بين فرنسا وروما وجبال الألب.
وكان حبه للطبيعة ككل حب؛ أي مزيجا من الفرح والكآبة، واللذة والألم، فإذا مر يوما بمكان تبدل العهد به فرآه على غير ما عرفه من قبل؛ لوجود ميناء جديدة مثلا، أو سكة حديد، أو أبنية لتنشيط السياحة ، شعر بجرح في فؤاده كأنما هي حبيبته قد أهينت، وصاح بمواطنيه: «إنكم احتقرتم الطبيعة وكل ما تثير فينا مناظرها من نبيل الشعور. إن الثوار في فرنسا جعلوا الكنائس حرائس للخيل، وأنتم حولتم إلى ميادين سباق كل معابد الأرض؛ أي الجبال التي يمكن فيها عبادة الله بأحسن ما يعبد، وأقصى أمانيكم أن تمروا في السكة الحديدية من أمام هذه المعابد، وتأكلوا على مذابحها.»
هذا الإغراق في حب الطبيعة كان يلهيه عن كل ما حوله، وكثيرا ما بقي أياما يجهل الجديد من الأحداث في بلاده، وهكذا سقطت الخرطوم وقتل غوردون باشا، ولم يعرف بهذا ولا ذاك.
وتزوج سنة 1848، ثم طلق زوجته بعد ست سنوات، ولم تخب نار الحماسة فيه يوما، ولا تحول نظره في الآفاق المشعة التي علق بها فؤاده. •••
هذا الرجل السابح في الخيال كان في الوقت عينه رجل عمل، وبذلك يختلف عن غيره من النقاد والشعراء الذين يكتفون بالوصف والغزل دون أن يفكروا بالإصلاح العملي، فكان كلما أرسل فكرة أو أخرج كتابا ينزل بنفسه إلى المعركة؛ ليرى ما صارت إليه فكرته، وليدافع عنها. وقد نادى بتربية الذوق وتنمية روح الفن في الجماعات فلم يسمع نداؤه؛ فقدم نفسه لإعطاء دروس ليلية في الرسم مدة أربع سنوات، وأنشأ بماله متحفا للفن على رابية تطل على المروج الخضراء، ثم عين أستاذا في أوكسفورد، فأراد أن يقرن العلم بالعمل؛ فأقام فيها متحفا ووهب المدرسة مالا، وتطوع طوال ثلاث عشرة سنة لعبادة الجمال، والتبشير به.
ولما أدخلوا في التدريس علم التشريح استقال؛ لأن التشريح في نظره بشاعة، فضلا عن قلة فائدته، بدليل أن كثيرا من العلماء كانوا في غنى عنه، وأن النحاتين اليونان كانوا يجهلون التشريح.
ولكن ما الفائدة من المجامع العلمية وما يقدم فيها من أمثلة للجمال ما دام العالم مملوءا بالبشاعة، وما دام رجال القرى يتركون الأعمال التي تقوي عضلات الجسم، ويتزاحمون في المدن لخدمة الآلة، وقد أصبحوا مثلها في أيدي رؤسائهم؟ ما الفائدة من المتاحف ما دامت أجمل مناظر الطبيعة تتوارى خلف البنايات الحديثة والمصانع التي تخنق خضرة الدمن، وتسود بالدخان وجه السماء؟ إن دخان المعامل كالبرص يأكل المباني ويهين المدن ويفسد المناظر. البلد الغني بلد بشع، والآلة تحط من مقام الإنسان.
هو يريد أن تكون أراضي إنكلترا جميلة هادئة، لا أدوات بخار ولا سكك حديد ولا أناس لا إرادة لهم ولا تفكير. هو لا يطلب الحرية، بل المساواة في الخضوع للشرائع والقوانين، وإذا احتيج إلى التنقل من مكان إلى آخر فليكن ذلك براحة وأمان، دون التعرض لأخطار السرعة وغير ذلك. هو يطلب كثيرا من الأزهار وكثيرا من الشعر والموسيقى.
حلم من الأحلام ساوره أيام قامت ثورة الكومون في فرنسا، وأراد أن يحقق ما بشر به، فجاء باللآلئ للمتاحف، وبالخبز للأكواخ، ودفعه حبه للزراعة إلى منح بعض أراضيه للشيوعيين؛ ليجربوا آراءهم في استثمارها على شرط أن يحتفظوا بآرائه فيما يختص بجمال الأشياء، غير أن التجربة لم تنجح، ولم تسفر إلا عن خلق بعض المقاهي وأندية اللهو.
لقد أراد هذا المجدد الرجعي أن يعود بعصره القهقرى، بترك الآلة والبخار واعتماد اليد والمغزل، ونفس الإنسان الحي؛ فعم هذا العمل بين النساء، وأصبح من العادات السائدة أن يهدى للعروس نسيج روسكين، واستغني عن الآلة أينما أمكن أن يقوم العمل اليدوي مقامها؛ تمرينا وتقوية للعضلات. ولم يكن كبعض القسس الذين يعظون الفقراء ويتنعمون بمآكل الأغنياء، بل أجرى على نفسه ما سنه من الخضوع لشرائع الجمال، وقام بتجفيف الأراضي على ضفاف بحيرة كونيستون، غير آبه بالنفقات ليلهي الفلاحين عن المدينة، وبنى جسرا صغيرا على البحيرة بمعونة بعض تلامذته، وتعلم النجارة والدهان؛ فهو من هذا القبيل يشبه تولستوي الذي قال عنه: إنه من أعظم رجال العصر.
وأنشأ في البرية مكتبة جامعة كان يحمل إليها الكتب على ظهور البغال احتجاجا على المدينة وسكك الحديد. وكانت بعض العائلات تقوم بترتيب هذه الكتب وإرسالها لمن يريد مطالعتها خدمة له، وإعجابا به، فلا ناشر ولا وسيط، بل هي الأيدي نفسها التي كانت تنظم الكتب كانت تنسخها وتكتب المقالات عن مذهب المعلم وتحفر له الرسوم. وكان يقول: في وسعي أن أربح من كتبي ما شئت إذا رشوت النقاد في المجلات والجرائد، ودفعت نصف ما أربح للمكاتب ولمن يلصق الإعلانات، وسايرت أسقف بتربوروف.
وقد أفلح في مشروعه؛ فإن كتابا من كتبه «المصابيح السبعة للبناء» ربح 75 ألف فرنك، وكتابا آخر عنوانه «السمسم والزنابق» يباع منه كل عام 3 آلاف نسخة.
وكان المتحف الوطني لسنة 1845 فقيرا خاليا من التحف الثمينة، فرفع صوته مطالبا بالعناية به، فأغناه بألواح من أشهر الفنانين مما لا تجده حتى في اللوفر. ولما ظهر كتابه «حجارة فينيسيا» وكتابه الآخر «المصابيح السبعة» تغير البناء الإنكليزي واكتسب مسحة جديدة جميلة. وفي سنة 1854 شهر الحرب على «سراي البلور» منتقدا هذا البناء القائم على الحديد والزجاج وما يقتضي من النفقات، وطلب تأليف لجنة لحماية البناء الحجري؛ فكان له ما أراد. وأدرك الناس ما في جانب هذا الرجل من الحق، وأن مناظر الطبيعة منبع غنى، فأصبحوا إذا أرادوا مد سكة حديد في مكان ما يستعينون برأي أصحاب الفن، فلا يقدمون على تشويه جمال تلك البقعة. ولم تلق دعايته للألبسة القديمة والأعياد الرمزية آذانا صماء. والغريب أن الذي يمر اليوم بمدرسة البنات في «شلسا» أول أيار يرى المعبد والدار مزدانة بالأزهار مهداة من كل أنحاء إنكلترا. فتنتخب الطالبات ملكة أيار من بينهن فتمر تحت قبة من الأغصان المتعانقة، ووراءها ملكة العام الماضي، ثم تعتلي العرش بين صفين، وتمر الطالبات من أمامها يتقبلن الهدايا من يديها، وكلها مؤلفات روسكين. •••
لم يفهم الناس روسكين فرموه بالتعصب والكبرياء والتناقض، وجعلوا إخلاصه استبدادا، وكرمه الحاتمي محبة ذات؛ ذلك لأنه كان صريحا إلى أبعد حدود الصراحة، لا يبالي برضاء الناس أو غضبهم. قال له أحدهم يوما: إني معجب بما تكتب، فأجابه: وما يهمني إعجابك، أتراك استفدت شيئا مما أكتب؟ وجاءه وفد من طلاب غلاسكو يرشحونه لرئاسة جمعيتهم فسألوه: هل هو مع دزرائيلي أو غلادستون؟ فأجابهم: وماذا يهمكم دزرائيلي أو غلادستون؟ أنتم طلاب علم، وما عليكم أن تهتموا بالسياسة أكثر من اهتمامكم بمطاردة الفئران، ولو أنكم قرأتم عشرة أسطر لي لأدركتم أنني لا أسأل عن غلادستون أو دزرائيلي، ولكني أكره التحزب السياسي كرهي للشيطان. وأنا، مع كارليل، لله وللملك.
ولم يسلم هو نفسه من نقداته اللاذعة، وكم رجع عن خطأ سابق! وكان صارما في انتقاده كتبه. وكان إنسانيا بكل ما في هذه الكلمة من معاني الإنسانية؛ فساعد الفقير والعامل، وبدد ثروته البالغة خمسة ملايين في جواهر للمتاحف وخبز للأكواخ.
وكان إلى ذلك خطيبا ساحرا. انظر إليه وهو يصعد إلى المنبر في أوكسفورد وقد ضاق النادي بالحاضرين وهجر التلامذة صفوفهم ليسمعوا، وامتلأت النوافذ والشرفات، وتعذر إقفال الأبواب لازدحام الناس، والنساء كالرجال عددا، وبينهن أمريكانيات عبرن الأطلسي لسماع ذاك الذي يسميه كارليل «روسكين الأثيري». وما كاد يطل عليهم حتى علا الهتاف من كل جانب، ووقف الناس على رءوس أرجلهم ليروا تلك القامة المديدة، والشعر الطويل، والعينين المتغيرتين كالأمواج، والفم المتحرك كالقوس عندما ينطلق عنه السهم، والسحنة الجامعة في ملامحها بين الحماسة والهزء والتأمل، حتى إذا أنصت القوم حياهم بابتسامة، وأخرج بين يديه أشياء مختلفة من حجارة ومعادن وصور ونقود وما شاكل، يستشهد بها في عرض حديثه، ثم يبدأ بالكلام بهدوء كأنه قس يتلو صفحة من التوراة، ويرتفع صوته شيئا فشيئا فيترك أوراقه جانبا، ويجيل بصره في الجمهور وقد ملك عليهم مشاعرهم.
وكان محاميا فصار نبيا. أغريزة أم علم أم دهاء أم عبقرية؟ لا يعرفون، ولكنهم يصغون إليه وقد طرحوا الورق والقلم، وأعرضوا عن تدوين ما يسمعون، ومشوا وراءه في الطريق الملتوية التي يقودهم فيها، وفي كل منعطف واد جديد وأفق جديد. وما هي إلا لحظات وإذا بهم يرتفعون معه ارتفاعا مستمرا حتى يصلوا إلى القمة التي تشرف على العالم.
هذا الساحر العظيم كانت له أسطورته كالأبطال. يقال: إنه دخل يوما مخزن مجوهرات فعرفه البائع، فأقبل عليه يعرض كل ما عنده من الحجارة الكريمة، طالبا إليه أن يكشف عن أسرارها، وتألبت من حوله فتيات المحل والسيدات الشاريات، فوقف بينهن وتكلم، تكلم بعلم الزعنفة الذي يسلب الأمواج درها، وسحر الجنية التي تحرس الدر: هذا الياقوت الأحمر وردة فارسية، لون الفرح والحب والحياة على الأرض، الزهرة التي استخدم برعمها لإناء العطر الذي سكبت منه المجدلية على قدمي المخلص، وهذا اللازورد مثل الفرح والحب في السماء، لا تفرق عن الياقوت إلا بلونها الأزرق، وهذه اللؤلؤة خضوع الضياء، رمز الصبر، لون الحمامة التي تبشر بتراجع المياه، والمرغريت زهرة اللؤلؤ، والأقحوان رمز التواضع، ولكنها غالية الثمن؛ لأن التواضع يفتح أبواب الفردوس المطعمة جدرانه بالزبرجد.
وقص عليهن ولادة هذه الأحجار في أعماق الأرض والبحار، ثم التفت إليهن يقول ما معناه: «هل من المعقول أن نحب هذه الحجارة ونكرمها؟ نعم، على شرط أن تكون هي التي نحب لا ذواتنا. إن عبادة الحجر الأسود الهابط من السماء لا تبعد كثيرا عن الحكمة التي هي عبادة السماء نفسها. وليس من الجنون أن نفكر في أن الحجارة ترى، بل الجنون إذا فكرنا أن العيون لا ترى. ليس من الجنون أن نفكر أن اليوم الذي تجمع فيه الجواهر تكون حجر الزاوية لجدران الهيكل، ولكن من الجنون أن نظن أن يوم انهيار الهيكل تذهب الأرواح هباء ولا تبقى روحانية ما فوق الأنقاض.» «نعم، أيتها السيدات الجميلات، أحببن الجواهر واعتنين بها، ولكن أحببن نفوسكن أكثر، واعتنين بها ليوم يجمع السيد جواهره.»
وكانت السيدات يصغين بخشوع ووهن إلى هذه الأقوال التي لم يسمعنها من أفواه من يرقص معهن في ساعات اللهو والسرور.
هكذا تريد الأسطورة أن يلقي المعلم تعاليمه لا في المدارس والمعاهد فقط، بل على الطرق أيضا.
إن فضل روسكين أنه أيقظ الأفكار، ولفت نحو الجماعات أنظار الأدباء والفنانين، وساعد بتعاليمه في أوكسفورد على نشر الفلسفة والفن؛ لأنه لا يكفي أن يكون في الناس فنانون، بل يجب أن يوجد من يتذوقهم ويقرأهم ويشجعهم. وكان بعد كارليل أول من نادى بالإخاء ومساعدة العمال بوضع حد أدنى للأجرة، والضمان ضد البطالة. وهو مع ذلك عدو الاشتراكية، ويعتبر المساواة وهما؛ لأن دونها أهوال المطامع التي لا تحد، والكبرياء التي لا ترد.
غير أن أتباعه ومريديه توسعوا في تفسير أفكاره، حتى إن بعض النساء نشرن جريدة فوضوية بعنوان «المشعل»، ولكن هذا المشعل ما عتم أن انطفأ في الضباب اللندني؛ لأن الفكرة الواقعية غالبة في الإنكليز. وهذا وليم موريس الشاعر المزوق مات مؤخرا عن نصف مليون من الجنيهات تركها لورثته الأقربين دون أن يستفيد منها أحد من العامة.
لقد نظر روسكين إلى الطبيعة بعاطفة محب للفن مؤمن به، فلم ير منها سوى مظاهرها الغرارة. وإن الإنسان، عندما يفكر بهذه المأساة الأزلية الغامضة الأسرار التي تمر بنا على مسرح الحياة، وهذه الحرب الدائمة التي لا هوادة فيها ونتيجتها أبدا انتصار القوي وانهزام الضعف، وهذه المذبحة التي تولد وتموت فيها مواكب الناس بعد تهاويل الحياة وشقاء التقلبات، لأميل إلى تشاؤم دارون الطبيعي منه إلى تفاؤل روسكين السماوي. إن دارون وروسكين على طرفي نقيض في فهم الإنسان والطبيعة؛ ولهذا كان روسكين يكره دارون.
إن عبادة الجمال طريق لعبادة الله، وهذه النظرة إلى الجمال كانت تلائم - كما يقول تين - إنكليز ذلك العهد المحافظين المتزمتين، فكان روسكين يشعر بالحنين إلى العصور الماضية، عصور الحرارة والإيمان، ويثني على معابد الطراز القوطي في فرنسا وإنكلترا؛ لأنها تمثل تلك العصور، وكان يعجب بالقدامى من أهل الفن؛ لطهارة الشعور فيهم. وفي رأيه أن التقهقر في الفن بدأ من عهد رفائيل؛ فقد كان الفن من قبل وسيلة لإظهار الدين، فصار الدين وسيلة لإظهار الفن. وبلغ به التعصب في هذا الباب أنه لو استطاع لأحرق جميع النساء العاريات لروبنسن وجوردانس؛ ولهذا سماه بعضهم «توركمادا جمال».
ويطول بي الشرح لو أردت تعداد كل ما فكر به روسكين أو قاله أو عمله. ومن عادة الناس أن يستهزئوا بالخارجين على التقاليد والعادات، وينعتوهم بالمتهوسين، غير أن ذلك لا يمنعهم غالبا من أن يتبعوهم مأخوذين بحرارة القلب والإيمان والكلام، وعلى هذا الوجه قاد روسكين الرأي العام. وفي هذيانه الشعري المبعثر في ثمانين مجلدا كان يشعر بأخطار الحالة الاجتماعية، ويرى ما في حرب الطبقات والديمقراطية من الأسباب المؤذنة بانهيار المدنية. وجاءت ثورة الكومون في باريس وحرق باريس بعد الحصار «وقد ساهم بسخاء في إنعاشها» فثبتت روسكين في مخاوفه، على أن تفاؤله السماوي لم يفارقه يوما؛ ولهذا ظل رسول ألفة وسلام بين الطبقات. •••
هكذا كان حب الطبيعة الألف والياء في حياة روسكين، فظهرت آثاره في قسمات وجهه، وتجعدات جبينه، وأملى عليه كل حرف من كلماته، ووجه كل خطوة من خطواته، وأجرى كل معين من أفكاره. وكان له النور الذي يضيء، والنار التي تعطي الحرارة وتطهر؛ فأقصاه عن صغائر البغضاء وعن عذاب الحب، وأطلقه في ميادين الأبحاث العلمية؛ لأن العلم وحده يساعد على الدخول على الطبيعة في هيكل أسرارها.
ولا عجب إذا اعتبره الناس رجل أسطورة وهو الذي حارب وحده عالما بأسره، لا من أجل الحقيقة التي لها أنبياؤها، ولا من أجل العدالة التي لها رسلها، ولا من أجل الدين الذي له شهداؤه، بل من أجل ما هو فوق هذه الأشياء، وربما اجتمعت كلها فيه: الجمال.
نيتشه
دين القوة
لقد شبه بعضهم المذاهب الفلسفية بالأزياء العصرية، وهذا التشبيه على ما فيه من قلة الاحترام إذا قابلنا بين الهدف الأسمى الذي ترمي إليه الفلسفة، وهي الحقائق الخالدة، وما تمثل الأزياء من أباطيل العالم الزائلة، لا يخلو من الحقيقة؛ لأننا نرى الفلسفة تتبدل كالثياب والقبعات وربطات العنق؛ ذلك لأن الإنسان مطبوع على حب الجديد والرغبة في التنقل، فترى كل جيل يسعى إلى معارضة الجيل السابق، وكل فرد يحاول أن يتخذ مكانه تحت الشمس، فينكر أقوال من تقدمه، ويثور على أفكار السلف وعاداته وأذواقه، منزلا عن العروش آلهتها ليقيم بدلا منها هياكل أخرى.
بالأمس جاء شوبنهور فصور الحياة في أسوأ مظاهرها، وأشدها ظلاما، وأبعدها يأسا، وطلع علينا تولستوي يحمل غصن الزيتون، ويبشر بديانة الإنسانية المتألمة، وهي كلمات كانت لها روعتها عندما قيلت للمرة الأولى، صادرة عن ضمير حي واحترام صادق. أما اليوم فقد أصبحت تردد على كل لسان بحكم العادة دون إخلاص أو اقتناع. وبعد شوبنهور وتولستوي لفت أنظار الناس في العالم القديم والجديد تعاليم سترنر ونيتشه ، وهي تناقض كل المناقضة ما ألفوه. ولقد كان المعروف عن الفلسفة أنها محبة الحكمة، فجاء سترنر ونيتشه يجردان الحكمة من الآداب والأخلاق. وبينما الناس تردد مع الشاعر العربي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نسمع صوتا جديدا يقول: «إن الآداب فكرة حمقاء، وإن الشعب المتعلق بأخلاقه قاصر العقل، قليل الإبداع، عاجز عن الرقي، وإن الشهوات وحب التمتع بالملاذ دون الرجوع إلى نداء الضمير أو الشعور بوخزاته هي التربة الصالحة التي تنمو فيها أنصع زهرات الفكر.» وقد جاءت هذه الفلسفة مطابقة لأميال الكثيرين، فصادفت مرعى خصبا في نفوسهم، وسرت حركة جديدة ضد الدين وضد الآداب وضد الاجتماع. ولكي نفهم حقيقة فلسفة نيتشه علينا أن نتكلم أولا عن سترنر، وسترنر يرجع بنا إلى فيلسوف ألماني آخر سبقه في هذه الطريق هو هجل. كان هجل يقول: لا يوجد دين بل أديان، لا يوجد مبادئ بل وقائع، لا يوجد آداب بل عادات.
فتلقى تلاميذه هذا الكلام كسيف ذي حدين وتمادوا في استعماله، هادمين التقاليد الكنسية والعقائد الدينية. وبعد أن كان الإنسان ظل الله على الأرض صار الله ظل الإنسان في السماء. حينئذ ظهر سترنر فحطم صنم الإنسانية وبدل منه عبادة الأنانية المطلقة في كتابه «الوحيد وملكه»، ثم جاء نيتشه فحصر هذه الأنانية في الإنسان الأسمى؛ أي السوبر مان.
وقد حاول سترنر، بمنطق لا يخلو من الأناقة في التعبير، أن يبرهن أن ما نسميه إنسانية غير موجود، وأنه ليس على المرء أن يخضع لما هو خارج عنه، سواء أكان إلهيا أم بشريا، وأنه لا حقوق إلا حقوق الفرد، وأن ما ألفناه واتخذناه كآيات منزلية، مثل الأدب والفضيلة وعظمة الشعب وما شاكل فكرة فرضت علينا وأشربتها نفوسنا، فصارت شغلنا الشاغل كالفكرة الراسخة في ذهن المجانين. وأي فرق بين مجنون يظن نفسه إمبراطورا أو إلها، ورجل من الناس يتصور أنه وجد على الأرض ليلبي دعوة ربه، فيكون مؤمنا أو وطنيا أو ذا فضيلة.
هذه الفكرة الراسخة التي تحمل الإنسان على احترام الحكومة أو المعبد أو المجتمع هي في نظر سترنر عفريت يمتص دم الحياة، ولا يكون الإنسان حرا إلا إذا أنكرها وطردها من رأسه، وأبى الخضوع لها، وحريته لا تكون حقيقية إلا إذا استخدمها من أجل ذاته، وجعل من «أنا» الألف والياء؛ أي بداية كل شيء ونهايته، حتى إذا ما قطع كل الصلات الاجتماعية أمكنه أن يقول كما قالت إحدى بطلات كورنيل، عندما سئلت بعد قتلها أولادها: ماذا يبقى لك؟ فأجابت: يبقى أنا، أنا وحسبي. «أنا» أي محبة الذات في أقصى حدودها، وأسمى ذرواتها، وكل عوامل الأدب والأخلاق التي شغلت البشرية، وضغطت عليها طوال العصور ليست إلا أوهاما، وباسم هذه الأوهام كان الحكام والزعماء والمربون يسيطرون على العقول، ويصرفون أمور الناس كما يفعل مروضو الدببة، فيرقصونها ويقفزونها على نغم المزمار؛ فإذا تحررت «أنا» فقد تخلصت من القفز والرقص.
إن سترنر لا ينكر الشعائر الإنسانية، ولكنه يجردها من صفة الواجب. اسمعه يقول: «أنا لا أعرف قانونا. أحب الإنسان لأن ذلك يروق لي، أما أن أضحي نفسي له فتلك فكرة لا تخطر في رأسي أبدا. أحبه لأني بالحب أستطيع الوصول إلى ما أريد، والعشق نفسه إذا قبلت بحكمه وتركت لسهام الألحاظ سبيلا إلى قلبي؛ فلأن ذلك ضرب من حب الذات. إني أشفق على كل ذي إحساس فأتألم لألمه وأفرح لسروره؛ فأنا قادر على قتله براحة ضمير، ولكن لا على تعذيبه. أنا لا أتعلق بشيء، وغاية ما أطلب أن أعيش لنفسي وأتمتع بما أريد كما أريد. كل ما يمكنني الاستيلاء عليه هو ملكي، وكل الوسائل حلال في هذه السبيل: الإقناع والرجاء، والإكرام والكذب، والخداع والرياء. القوة وحدها تخلق الحق. ماذا تهمني مصلحة الآخرين؟ فمصلحتي أريد، والحرية لا تكون إلا بمحبة الذات.»
اسمعه يقول أيضا: «إذا رأى الكلب كلبا آخر يتلهى بعظمة ولم يهجم عليه لينتزعها منه؛ فلأنه شاعر بعجزه عن ذلك. أما الإنسان فيحترم حق سواه بعظمة، وهذا ما يقال له: الإنسانية، وإذا اعتدى عليه نسبوه إلى التوحش وحب الذات. دعوني من حديث العدالة والخير العام . إن حب الذات وحده قائدي ودليلي، وهو يقول لي: استول على ما أنت في حاجة إليه.»
هكذا ينكر سترنر الواجبات الاجتماعية ولا يعترف إلا بالمصلحة الذاتية. واليوم ما أكثر الذين ينفرون من هذه التعاليم ويستفظعونها في الظاهر، وإذا خلوا إلى أنفسهم قالوا: إنا معك يا سترنر! وهل كان أكثر المحتكرين والمضاربين الذين يمتصون دماء الفقير إلا من هذه الطبقة؟ لقد أقام سترنر سلطان الأنانية على أنقاض كل سلطة إلهية أو بشرية. وما نيرون عند حرقه روما بتلذذ، وما لويس الرابع عشر عندما صاح: «المملكة أنا» إلا كالبعوض إزاء هذا المعلم في إحدى مدارس برلين، الذي ينادي من كوخه الحقير: الكون أنا.
لا حاجة بي إلى نقد مزاعم هذا الفيلسوف، فإذا كان أساسها حب الذات فلا أحد ينكر أن حب الذات أساس الاجتماع، وما خرج الإنسان من ظلمة الوحشية وارتقى في سلم العمران إلا على ضوء هذه العاطفة. فحب الذات شرعة طبيعية، بل هو الشرعة الأولى: وجودها واجب ونافع، على شرط أن لا تتجاوز حدود الاعتدال والحكمة فتفسد وينقلب نفعها إلى ضرر؛ لأنه - كما يقول برونيتيار - لا حق لأحد أن يدعي السلطة الكاملة على ما يعمله أو يفكر به؛ لأنه لا أحد يختص بنفسه دون المجتمع؛ فهو مدين له في الماضي، ومحتاج إليه في الحاضر. ينسى سترنر أن لحياة البشر شرائع طبيعية، وأن الممالك لم تقم على فكرة راسخة كما يدعي، بل على غريزة البقاء؛ فالإنسان حيوان اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحيدا، بل عليه أن يرضي محبة ذاته، ويرضي محبة ذات الآخرين.
ولو أراد الواحد منا أن يحقق ادعاءات سترنر لعارضته الوقائع، ووقفت الحقائق سدا في وجهه. ولو أراد سترنر نفسه الذي كان رجلا هادئا مسالما أن يجرب بالعمل ما يقول لمنعته شرطة برلين وأعادته إلى الحقيقة والواقع. فتعاليم سترنر ليست شيئا في نظر الفيلسوف، ولكن لها أهميتها في نظر المؤرخ؛ لأنه لم يكن بين الذين حاولوا هدم العرش والهيكل. ومن أتباع هجل من استطاع مثله أن يحتج أبلغ احتجاج على النظام القهري الخانق الذي كانت عليه بروسيا في منتصف القرن الماضي. وما ذكرت هنا آراءه إلا لأنها - كما قلت - تساعدنا على فهم نيتشه وتفسير مذهبه. •••
لم أجد كاتبا حطم بمعول فلسفته أصنام العقائد، وأنزل الآلهة عن عروشها لينتصب مكانها إلها في عقول الناس مثل نيتشه. ولا أدري أكان الجنون الذي انتهى إليه فأوقف حركة عقله قبل أن تقف حركة جسده نتيجة هذا الإجهاد والجهاد، مع ما عرف عنه من إفراطه في استعمال المخدرات، وغرامه الشديد بالموسيقى، أم هي ضربة لازب لما بين العبقرية والجنون من النسب المزعوم؟ على كل حال فإن غرابة أطواره، وميله إلى الوحدة، وغضبه الدائم على معاصريه من حملة الأقلام، وكبرياءه الفائقة أمور تحمل على الشك في أنه كان موفور الصحة خاليا من شائبة المرض.
وفضلا عن ذلك فهناك تناقض تام بين الرجل والمؤلف؛ فإن دعة أخلاقه، ولطف معشره، وتعلق تلاميذه به، وحب النساء له، على الرغم مما كان يكيل لهن من الشتائم في كتاباته، لا يتفق مع ثورة الفكر والقلم التي صفع بها جميع المبادئ القائم عليها نظام الاجتماع. لقد كان نيتشه أعدى عدو لهذا الاجتماع المملوء نفاقا، كما كان جاك روسو من قبله. وكما نادى روسو بالعودة إلى الطبيعة والسليقة نادى بها هو أيضا، مع هذا الفرق بين الاثنين: أن روسو كان من عامة الشعب في عالم أرستقراطي، ونيتشه أرستقراطي الروح إلى أبعد حد في عالم أخذت الديمقراطية التي تنبأ عنها روسو تتحقق فيه.
لقد استولى على عرش كبريائه، ومن ذروة هذا العرش أرسل حكمه على البشر، فقسم الناس إلى فئتين، وجعل بينهما هاوية سحيقة؛ فئة النبلاء، وهم القلة، ولا يعني بالنبلاء تلك الطبقة المعروفة بقدم العهد أو الألقاب أو غير ذلك من الامتيازات، بل أصحاب الإرادة والعمل والأطماع، الذين خلقوا للإمارة والحكم والإبداع، وفئة القطيع البشري الكثير العدد، أسير العبودية، عبودية التقاليد والحقد والحسد والبغضاء لكل سابق أو متفوق. كل ما هو سام وعظيم في العلم لا يصدر في اعتقاده إلا عن هذه الفئة القليلة من الأشراف. وبالعكس، إذا كان السلطان للعبيد فإن أعمالهم لا تأتي بغير السافل والدنيء، كما في الديمقراطيات حيث تغلب الكمية على الكيفية ويتحكم النعاج بالأسود.
فالمذهب الأرستقراطي، مذهب نيتشه، يزعم أن الرقي يقوم على تنازع الطبقات أكثر منه على تنازع البقاء؛ أي بفوز الرجال العظام قادة الشعوب الذين يسكبون في عروق الأمم دما جديدا، وإذن فتكون غاية الإنسانية إنتاج رجال عظام وتضحية الجماهير في سبيلهم. والمذهب الديمقراطي، وهو مذهب تولستوي، أيضا يقول: إن الذي يكتب التاريخ هم الجماعات، وأما تلك القلة التي تدعي الزعامة فضررها أكثر من نفعها؛ وعليه فغاية الإنسانية تضحية الفرد للجماعة لا الجماعة للفرد. ومعنى ذلك سلطة الشعب والتصويت العام فالاشتراكية. وبما أن الرقي عمل اجتماعي؛ فلا يجوز حصر فوائده في الأقلية، بل يجب أن يتمتع بها جميع الناس.
إن نيتشه لا يعترف بشرعة أدبية واحدة للبشر، بل عنده أدبان، أدب للجبابرة وأدب للأقزام، أدب للسادة وأدب للعبيد؛ فالرحمة والإحسان والأمر بالمعروف وحب القريب وسائر الفضائل التي تتغنى بها الجماعات شر في عرفه، ولا صلاح ولا فضيلة إلا في القوة والشدة والتحكم، تلك هي صفات الأشراف أو علية القوم التي لا تعرف من الواجبات إلا إطلاق العنان لغرائزها، فتكون حليتها حب الذات، والتجرد عن كل ما يسميه عامة الناس أدبا.
اسمعه يقول: «محبة الذات لا تختص إلا بمن كان شريف الروح؛ أي ذاك الذي عنده إيمان لا يتزعزع بأنه فوق الناس، وله يجب أن تخضع وتضحي سائر الناس، فهو خارج عن نطاق الخير والشر.»
فالرجل الأسمى أو السوبرمان هو الذي لا دين له ولا وطن ولا أسرة، ولا قيمة للشرائع الأدبية عنده إلا بقدر ما تسمح له أن يكون السيد المطاع.
هذه المبادئ الغريبة التي تمتاز بها تعاليم نيتشه تكاد تكون فطرية فيه، فقد شهد الحرب على العرش والهيكل وهو في الثالثة عشرة من عمره؛ فلم يجد في النصرانية إلا دين رق واستعباد؛ لأنها بتعظيمها الزهد والرحمة والوداعة ونكران الذات قد جزت أشرف غرائز الإنسان ، وبدلت منها فضائل كاذبة، وحولت العالم إلى مستشفى كبير ليس فيه سوى مرضى وممرضين، مع أن الواجب الأول على الإنسان أن يكون صحيح الجسم.
ولم يكن عداؤه للحكم الديمقراطي بأقل من عدائه للكنيسة؛ فهو يرى في الحكومات ويلا على المدنية، إلا إذا استلم مقاليدها رجل ظالم، وبسط دكتاتوريته عليها.
ولا يكفي الانعتاق من نير الدين والحكم ليستحق الرجل الأسمى هذا اللقب، بل عليه التخلص من نير المرأة أيضا. إن دليلة المحتالة تقلق بال نيتشه؛ ولهذا فهو يحتقر الزواج ويفضل أن تعامل المرأة على الطريقة الشرقية - كذا يقول - فلا يطلب من هذا الجنس الخائن الذي يخفي براثنه تحت قفاز مخملي سوى اللذة والنسل الجميل. وأبغض النساء إليه المترجلات اللائي يطمعن بالتصدر في المجالس، ويدعين البطولة كمدام تيل، ومدام رولاند، وجورج ساند.
وهو لا يحترم من المفكرين والكتاب إلا من عرف أن يصور حياة عصره، مثل ميكافيلي وستاندال ودستوبوفسكي. أما الفلاسفة وعلماء النظريات فلا مقام لهم عنده؛ فينسب الخمول لدارون والرياء إلى «كانت» والتسميم إلى «سبينوزا».
ويعجب بعصر الوحشية والقوة، ومن هذا الإعجاب يستقي كرهه للعصر الحاضر، عصر الكسل والرفاهة، وعصر التقهقر الأدبي والفسيولوجي الذي يسمح للضعفاء بالحياة والتوالد، مما يؤدي إلى إضعاف النسل.
أما ناموس القوة الذي بشر به فقد قدمه إلى الناس في كتاب جعله إنجيل أو توراة الجبابرة: هكذا تكلم زرادشت.
فهذا الكتاب الغريب الذي هو شبه توراة للجبابرة استعار فيه الإله زرادشت ليلقننا شرعة الأقوياء، ويقربنا من حقيقة الإنسان المتفوق على الإنسانية. ولا أحاول إلا جولة صغيرة في هذا الكتاب الضخم المتشعب المسالك، الغامض الأبحاث، الكثير الرموز؛ لتلخيص ما يرمي إليه من تحقيق هذه الفكرة الهائلة السامية، التي ترفع الأنانية إلى درجة التقديس، فيبز فيها سترنر ومن كتب قبل سترنر هذا في الموضوع هادما من أجلهم المبادئ الأدبية، محطما ألواح الوصايا التي تدير نظام الاجتماع، جاعلا الخير غير الخير، والشر غير الشر، مبيحا السرقة، مشجعا على القسوة، منكرا صحة كل شيء، معترفا بجواز كل شيء ما خلا الضعف ، مهما يكن في هذا الضعف من بوادر الصلاح أو الفساد.
على أنه إذا جردنا زرادشت من حلته الشرقية، وأخرجناه من جمال الإطار الذي يخلعه عليه البحر والجبل، وذاك الخيال الشعري البعيد المدى، لم نجد في هذه التعاليم ما يبدو للوهلة الأولى من جدتها وغرابتها، بل ظهرت لنا في حلة مستعارة، وسمعنا من خلالها صدى أصوات فلاسفة آخرين، من أفلاطون الذي كان يريد في جمهوريته طبقة من الأشراف أبطال الحروب، إلى ميكافيلي الذي يرى في الديانة الوثنية تمجيدا للعظمة والهيبة والقوة، إلى دي ميستر الذي ينادي بالدم وضرورة الحروب للإتيان بعظيم الأعمال. وقديما قال الشاعر العربي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وهذه القسوة الفائقة التي يبشر بها نيتشه، وهذه الثورة على العادات والتقاليد والآداب الاجتماعية التي ينادي بها نجدها تحت أقلام الكثيرين من الكتاب والشعراء، كشلر، وبيرون، وبلزاك، وستاندال، ولكن أحق الناس بأن يكون مصدر وحيه هو شوبنهور. غير أن شوبنهور يتفوق عليه عند الاستنتاج؛ إذ يلجأ إلى الزهد ملقيا نفسه في أحضان النرفانا نظير بوذا، وما النرفانا سوى الغيبوبة عن هذا العالم في سبيل الخلاص الأبدي؟
إن ما يمتاز به كتاب نيتشه هو جمعه بين النقائض؛ ليجذب إليه الناس ويبعدهم عنه في آن واحد، يجذبهم إليه بما فيه من كراهة الكذب والنفاق، ومحاربة ضعفاء العزيمة والإرادة، والإلحاح في استعمال الشدة والقسوة نحو ذاتنا ونحو سوانا؛ فهو يتطلب جيلا قويا ونسلا جميلا، ولا يرى للحياة معنى إن لم يتفجر من صخرتها العمل العظيم والإبداع، فيخال لنا في حالة الوهن والاضطراب التي تتخبط فيها الإنسانية اليوم أن نيتشه يحمل في نفسه آلام الحاضر كما يحمل آمال المستقبل. وهذا ما حببه إلى الناشئة الطماحة، وجعله عظيما في عيونها. ويدفعنا عنه بما يحاول من فصل الإنسان عن الإنسان، وتقديسه الكبرياء والشر واحتقار الآخرين وحب الذات في أقصى حدوده.
ولقد شبهوا فلسفة نيتشه بالسم الذي يفيد إذا أخذ جرعات صغيرة؛ فقد يكون فيها علاج لداء العصر المتفشي، من يأس وسوداء وملل من الحياة. أليس هو القائل: «يجب أن نستيقظ كل صباح وفينا من الإرادة فوق ما لنا بالأمس، علينا أن نعرف العالم كي نحاربه، فلنحب الحقيقة وما فيها من شناعة وخبث رائحة ومصاعب وأخطار، ولنخلع عنا اليأس، ولنقصر الشكوى والأنين، ولنقو على إخفاء الألم، ولنهرب من الشفقة كما نهرب من العار، ولنجعل قلوبنا قاسية قساوة الماس؟» غير أن هذا العلاج لم يشف داء العصر المستحكم، بل بدل مركز الثقل فيه وحول ضعف الشبان وبأسهم إلى صلف وغرور، وربما دفع البعض إلى ارتكاب الآثام. على أن نيتشه ينكر هؤلاء التلاميذ في ضلالهم، بل يأبى أن يكون له أتباع؛ لأن الأتباع يدخلون في عداد القطيع، أي العبيد، وعلى كل فرد أن يستقل في نظره وخبرته فيفهم العالم كما يريد.
لقد أراد نيتشه أن ينظم قصيدة الشدة والبطولة فجاءت أبياتها ملأى بالنقائض، ومن خلال آياته وحكمه وأناشيده وصوره كانت طريقه كثيرة الالتواء والمنعرجات؛ فهو ينهى عن الرحمة ويأمر بها، ويمنع الألم ويمتدح مزاياه، لا يكره الكتاب المقدس لما فيه من العطف على الضعفاء، ويعجب به لما فيه من حب الانتقام: «عين بعين وسن بسن.» هذا من آداب السادة. وأما «من يلطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.» فهو من أدب العبيد. وينكر الصداقة على المرأة، ويشبهها بالهر ويتخذها صديقة له، ويوصي بالحب لتحسين النسل، ويطلب جلد المرأة بالسياط. ينهى عن الواجب ويأمر بالطاعة، فيحمل على الحكومات حملة شعواء لأنها تخدم الفضوليين الدخلاء على الحياة، ثم يقول: «أكرم السلطة ولو كانت عرجاء.» إلى آخر ما هنالك من الوصايا المتناقضة الجائرة بين معناها الظاهر ومعناها الخفي.
وجملة القول: إن نيتشه يحملنا على إجهاد الفكر، ويمشي بنا على شفير الهاوية، أو فوق قمم خطرة، فلا يطبق القارئ كتابه إلا وقد أصابه دوار، وصار كمن يتلمس طريقه للهبوط من هذا العلو الشاهق إلى صعيد الحياة.
هذا هو نيتشه رسول القوة. لقد كان في حياته شاعرا مغرما بالموسيقى وبنات الأفكار والأناقة الأرستقراطية، وكان لطيف المعشر محبوبا، رقيق الشعور ، شديد الإحساس، ولكنه كثير الأحلام؛ فجاءت فلسفته نتيجة لأحلامه وخياله أكثر منها نتيجة لأخلاقه، حتى انتهت به إلى الجنون. والغريب أن جنونه كان مبنيا على هذيان الاضطهاد والعظمة؛ فظن نفسه لا زرادشت بل المسيح على الجلجلة. هذا الإله الذي حاربه لأنه إله المستعبدين أصبح غاية مناه وأقصى مشتهاه، وربما كان ذلك يقظة الغيبوبة بالعودة إلى إيمانه القديم؛ لأن والد نيتشه كان قسيسا.
تولستوي
دين الرحمة
عندما شن الألمان هجومهم الأول على روسيا وتغلغلوا في أراضيها شطر موسكو، مروا في طريقهم ببلدة تولستوي، فأمعنوا فيها تخريبا وبددوا ما في خزائنها من كتب هذا الفيلسوف وآثاره، كأنما هم أرادوا فيما نهبوا وأحرقوا أن يصبوا جام انتقامهم على تلك القرية التي أخرجت أكبر عدو لمبادئهم؛ فقد كان تولستوي رسول السلام وهم دعاة الحرب، ينادي بالمساواة وهم ينكرونها، ويعارض الخدمة العسكرية وهم يقدسونها.
وليس حب السلم والدعوة إلى المساواة أصل الشهرة التي أحرزها تولستوي؛ فإن هذه التعاليم السامية قد سبق إليها، وقديما ردد صداها العالم القديم بما نقله لنا التاريخ من أقوال كونفوشيوس، فيلسوف الصين: «انس الإساءة ولا تنس الإحسان.» أو «تصرف مع الآخرين كما تريد أن يتصرفوا معك.» إن شهرة تولستوي ترجع إلى أمرين: الأول معارضته الإنجيل الذي يدين به، فتراه من جانب يعلم مثله حب القريب والعفو والتسامح، والبعد عن الإكراه والشدة، ويتقيد بذلك الأدب الذي سماه نيتشه أدب العبيد؛ أي من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن جانب آخر ينكر الخطيئة الأولى كما ينكر سر الفداء، ولا يؤمن بالخلود بل يرى أن في الاتكال على الحياة الثانية ورجاء القيامة ضعفا وصغارا. ويعتبر أن هذه الحقائق الخالدة من الحب والمسالمة، وعدم اتقاء الشر بمثله يمكن للإنسان الاهتداء إليها لنفسه بدون معونة الإنجيل، وعليه فلا يهم أكان الإنجيل منزلا أم من صنع البشر. فمسيحية تولستوي مشوبة بالتجديف، وهي أشبه بوحدانية بوذا منها بشيء آخر.
والأمر الثاني أن تولستوي كان أول من طبق تعاليمه على نفسه، فدافع عن الفلاح ولبس جبة الفلاح ، وناهض العظماء وتخلى عن مكانه العظيم بينهم، وحارب الأغنياء وحرم نفسه من التمتع بثروته، فلم يكن يحمل في كيسه إلا بضعة دريهمات. وكل الظواهر تدل على أنه لو ترك الأمر إليه نفسه لفرق ماله على الفلاحين، ولكنه كان أبا لأسرة كبيرة كثيرة العدد، فكانت زوجته تتولى إدارة ثروته الأدبية، وبنوه إدارة أملاكه والتصرف بها وفقا لعادات الأسرة وتقاليدها. والحق يقال: إن حياة تولستوي كانت مثلا للغرابة، وعلى الرغم من نبالة محتده، فقد نزل إلى معاشرة سائر طبقات الاجتماع، واحترف غير مهنة، فكان معلم مدرسة، وإسكافا وفلاحا، وتقلب بين الترف والشظف، كما تقلب بين الإيمان والجحود. أما فلسفة تولستوي فتختصر بكلمة أبي العلاء المعري:
وزهدني بالناس معرفتي بهم
وعلمي بأن العالمين هباء
ولكن زهد تولستوي لم يكن بالسكوت والعزلة، بل بتجريد قلمه لمحاربة الاستبداد والظلم والفساد والملكية والاشتراكية، فانتهى إلى النتيجة التي انتهى إليها فيلسوف روسي آخر هو البرنس كوروباتكين؛ أي إلغاء التجنيد ومحو الحدود، والوطنية، وإبطال المحاكم والعقاب بالموت، ولا فرق بين الاثنين سوى أن كوروباتكين يدعو إلى التمرد، وتولستوي يوصي بالرفق واللين. بل هو يذهب إلى أبعد من زميله؛ فلا يكتفي بشجب النظام الحالي وحقوق الملكية، والقمع والقصاص، بل يصب سخطه على المدنية بأسرها، متهما العلم والرقي بأنهما منبع الشر والفساد، متمنيا خراب المدن الكبرى التي هي مسرح البذخ والتهتك والإجرام. وهو كجان جاك روسو يطلب العودة إلى الطبيعة وساحة الحياة البدوية الأولى.
ومذهبه في الحب يملأ ناحية كبرى من فلسفته الاجتماعية، فيصف في «أنا كرانين» شقاء الفسق ونفاقه، ويذهب في كتاب آخر إلى أبعد من ذلك، فيصدر حكمه القاسي على الزواج بالحب. هذا الحب الزوجي الذي اعتاد الكتاب أن يصوروه في رواياتهم تصويرا عاريا، فاضحين أسرار الأسر بلا خجل، من كتاب
Monsieur, madame et bébé
لكوستاف دروز إلى «العاشقة» لبورتوريش، إلى «الزوج الشهواني» لموريس دوناي. لقد أثر في نفس تولستوي هذا اللون من الحب، وبدا له مشبعا بحب الذات والأثرة، فأراد أن يبرهن للناس أن الزواج الذي توحيه عاطفة الشهوة الجسدية لا يمكن أن يجلب السعادة، وأن هذه الدقائق المعدودة التي يرتمي فيها كل من الزوجين بين ذراعي الآخر حلم سرعان ما يزول، فإذا هدأت ثورة الأعصاب وجد كل من الزوجين نفسه بعيدا عن الآخر بعد النجوم.
وفي كتابه «البعث» يدرس وجها آخر للحب - أمير يغوي خادمة - فيجول في وصف البغاء والإثم جولة شاعر ملهم، طارحا على بساط البحث مسألة التبعة الأدبية، محاولا أن يجد في الطبيعة البشرية مهما بلغت من الانحطاط عذرا يبررها، ويدفع عنها العار، قائلا مع هيكو باحترام المرأة الساقطة، وأن يبرهن لنا أن مكارم الأخلاق وروح التضحية لا تنحصر بقوم دون آخرين؛ فقد تكون عند الحقير والفقير ولا تكون عند السيد الكبير.
وعلى الجملة كان تولستوي واقعيا وخياليا معا؛ ولهذا لم يخل من المناقضات، وأعظم تناقض كان في شخصه؛ فإن تعاليمه تقضي بالعزوبة وهو لم يحافظ عليها، وبالفقر ولم يتجرد أبدا من المال. على أن هذا لا يطعن في إخلاصه الذي يتجلى في كل ما كتب، ولا تجد صفحة لا يقطر من سطورها لبان الحنو والرحمة، وكل من كان يدنو منه كان يشعر بسحر أخلاقه الملكية، وما في حركاته من البساطة والبعد عن التكلف.
وهو وحده القائل: إن كل إصلاح اجتماعي يجب أن يبدأ بالآداب، وأن لا يفرض فرضا، بل يجب أن ينبع من أعماق الضمير الفردي. وهكذا يرجع في النتيجة إلى التمرد في كل شيء كسترنر، فيقول: على الإنسان أن يسمع صوت ضميره ولا يخضع إلا له.
كل فرد يحمل في نفسه الشريعة والأنبياء، ولكن طبيعة تولستوي لا تنتهي به إلى حب الذات مثل سترنر، ولا إلى قسوة نيتشه الأرستقراطية، بل إلى الرحمة وإنكار الذات.
غوته
فتح غوته عينيه على النور وهو هزيل البدن ضعيف البنية، كما ولد فولتير من قبله، وكما ولد هيكو من بعد، وقد خيف عليه يومئذ أن لا يكون من أبناء الحياة، كما خيف على فولتير وهيكو كذلك، ولكنه تغلب على ضعفه وهزاله، وكفولتير وهيكو جاوز من العمر الثمانين.
جاء إلى العالم حاملا ثقل وراثتين، فأخذ عن أبيه الحزم والعزم، وعن أمه المرح والروح الشعرية، فتعلم الموسيقى والرسم والتاريخ الطبيعي وسبعا من اللغات.
وحمل القلم وهو في العاشرة، وكان واسع الخيال، بعيد مطارح الفكر ومرامي التصور. وأول كتبه «آلام فرتر» انتهى منه في الخامسة والعشرين، فكان أول بشائر النجاح في الأدب.
وقد وجد الحب مرتعا خصبا في فؤاده، فتعددت شموسه المشرقة، حتى إنه أحب شقيقته كالشاعر الإنكليزي بيرون، ولكن بيرون كان أبعد مدى وأكثر تطرفا.
وهذه الشموس المشرقة في سمائه كانت ترسل أشعة الوحي حول قلمه، فجاءت صورة مرغريت في «فوست» للمرة الأولى، كما كانت الفتاة «كروتشن» أولى معشوقاته، ثم تبدلت عندما أحب «فردريك» التي كان يجتمع إليها في الكنيسة؛ ولهذا تتعدد مشاهد الكنيسة في فوست. وكل ما عرفه من أخلاق فردريك ونبلها تجسم في سطور كتابه. ولا ريب أن هذا التقلب في تأثيراته كان يزيد في خبرته، وكلما طلعت الحياة عليه بتعليم جديد أضافه إلى تعاليمه السابقة. وما أكثر هذه التعاليم والتأثيرات بعدما تعرف إلى شارلوت وليلي ومدام شتاين وبيتا برانتو ومينا هرزليب وغيرهن!
وكان غيورا في حبه متكبرا، يحب ويترك فجأة من أحب، كأن فيه شيطانا يأبى عليه أن يستقر على حال.
وكان من إقبال الناس على كتابه «آلام فرتر» أن تعرف إلى دوق فيار، واستحكمت عرى الصداقة بينهما، فنزل إلى ميدان السياسة واستلم دفة الحكم وأنشأ ملعبا للتمثيل.
وقد أصابه في شبابه داء مستعص توصل الدكتور متز إلى شفائه منه بملح عجيب لم يبح بسره، فحبب ذلك إلى غوته درس الكيمياء وما وراء الطبيعة، وأصبح مخدعه بما حوى من الأدوات والأنابيب والأنابيق والدخان المتكاثف في جوه يذكر الداخل إليه بعهد كاليوستر الساحر ومسمر المنوم المغناطيسي.
وكان يتألم من الدوار والضجيج، ويكره منظر اللحوم المعلقة عند الجزارين؛ فسعى إلى معالجة نفسه بنفسه، فحارب الضجيج بمرافقة الجيش في غدواته، والمشي إلى جانب الطبل ليألف صوته، وحارب الدوار بالصعود إلى قمة جرس الكنيسة، يطل منها على الفضاء الواسع، ويجيل نظره في الأفق المترامي ، متغلبا على ما كان يشعر به من الزعج والقلق، وحارب نفوره الفطري من منظر اللحوم بتعلمه التشريح واشتراكه فيه.
وأحس ذات يوم أنه تعب من الناس، ومل حياة المجتمع والسياسة والمسرح، وفي رأسه مخدرات معان آن أن يطلع النهار عليها، فسافر إلى إيطاليا، وكان سفره أشبه بالهرب؛ فلم يعلم به صديقه الدوق ولا عشيقته مدام شتاين. وفي إيطاليا انفتحت أمامه آفاق جديدة للفكر والعمل، حتى إذا عاد منها عاد بهمة جديدة، وانصرف إلى البحث والتنقيب في الفيزياء والنبات والتشريح، ودفع إلى المطبعة كتبا مسرحية. وتعرف في أثناء ذلك إلى خرستين، وهي أصغر من مدام شتاين بعشرين سنة، فتعلق بها تعلقا غريبا أفضى به أخيرا إلى الزواج، وأتاحت له الأيام صديقا جديدا هو الشاعر شلر، مؤلف «اللصوص» و«الخداع والحب»، فكان لهذا التعارف أثر عميق في كتاباته.
وكان يحب نابليون الإمبراطور ويعجب به، ويعشق النبوغ أينما وجد. وهذا الإعجاب الذي كان يملأ نفسه وتعشق كل ما هو جميل وعظيم دفعاه إلى دراسة الصين والفرس، فأحب حافظ الشيرازي، وحاول درس العربية للاطلاع على أحوال فلسطين والأرض المقدسة.
هكذا كانت حياة غوته في شبابه تلم بكل مناحي الحياة والفكر من سياسة وأدب وفلسفة وصبابة، وقد تعددت تآليفه فيها، غير أن غوته الحقيقي لم يظهر إلا في الشيخوخة. والواقع أن الشيخوخة فن، وقليل من اهتدى سبيله. خذ هيكو مثلا؛ فإنه لم يكن في شيخوخته أعظم منه في كهولته. أما غوته فقد كانت الشيخوخة له مجالا جديدا لحياة جديدة. لا أقول إنه في هذه المرحلة من العمر طلق الشهوات، فقد أحب في العشرين السنة الأخيرة ثلاث مرات حبا شديدا، ولكنه كان يعرف أن يجمع بين لهب الحب ورماد التضحية. وآخر من أحب فتاة في الثامنة عشرة كان من قبل قد أحب أمها وجدتها، فكان حبه سلسلة اتصلت حلقاتها بثلاثة أجيال.
وكانت داره في فيمار ملتقى العظماء يفدون عليه من كل صوب، وينحنون أمام عظمته، ويستمعون إلى أحاديثه، وهو في جو فلسفة عالمية واسعة الأطراف يتصل بها كل ما يجري في العالم، فلا يغيب عنه شيء مما يخص الدين والسياسة والعلم والكيمياء والإنسانية. وقد حافظ في هذا الدور من العمر على رباطة جأشه، وسكينة فكره، وإشراق نفسه، على الرغم من الأحزان والهموم، وتداعي الأشخاص والأشياء من حوله.
ومن أحاديثه في هذه الاجتماعات المتعددة المباحث كلام عن الشعر، أحب أن أنقله لشعراء هذا العصر الذين ينكرون شعر المناسبات، قال:
العالم واسع غني، والحياة كثيرة المظاهر؛ فلا تحرم الإنسان من موضوع شعري، ولكن يجب أن يكون الشعر شعر مناسبات؛ أي أن يكون الواقع هو الدافع إليه. كل موضوع خاص يصير عاما، ويرتدي طابعا شعريا متى استلمه شاعر. كل أشعاري هي أشعار مناسبات؛ لأنها وليدة الحياة الواقعية، وإليها تستند. أما الشعر الهوائي فلا أحبه، والشاعر من عرف أن يستخرج من الحوادث العادية شيئا يكون من ورائه لذة وفائدة.
وأشهر كتب غوته هو «فوست»، وقد سلخ في تحبيره ستين عاما، ولم ينشر القسم الثاني منه إلا بعد موته. إن عمل غوته وحيد في نوعه؛ فلم يذكر التاريخ غير غوته رجلا أقدم على درس مأساة البشرية في مجموعها، وعلى تمثيلها في آن واحد على مختلف المسارح، للحياة الإنسانية ولحياة ما وراء الطبيعة. ولم يبلغ مؤلفو اليونان ولا دانتي ولا شكسبير ما بلغه غوته؛ فعند اليونان أبطال يتصارع بعضهم مع بعض، أو مع الآلهة، وعند دانتي تتغلب لاهوتية الشاعر وحقد المتألم، كما تتغلب في شكسبير العاطفة وما تخلقه الغرائز والأميال والأحلام من العلائق بين الأشخاص.
ولكن عند غوته تتكتل كل هذه العناصر في فوست، فصراع الآلهة والشرائع، وتدخل دائم للأهواء والحب، وأصوات من العالم القديم والحديث والقرون الوسطى. ويضع غوته الرجل وجها لوجه أمام هذه الطبائع المختلفة الألوان، والرموز الحية التي تحيط بنا وتسير خطانا، وتؤثر فينا أبعد تأثير، وعلينا أن نقبلها أو ندفعها حسب الأحوال وما نتفهمه من مصيرنا ومن الأقدار.
هذه كلمة مقتضبة عن فوست وصورة مصغرة لمؤلفه الذي ترك في عالم الأدب والفكر الأوروبي أثرا عميقا، وكان له في العلوم الطبيعية والفلسفية شأن بعيد. وقد حارب في شعره في سبيل الجمال والشرف اللذين لا يختصان ببلد أو بأمة؛ فكان كالنسر المحلق يجوب البلدان، ولا يهمه أن يعرف أن الأرنب الذي ينقض عليه هو ألماني أو سكسوني. وكان يقول: أي شيء أعظم من وطنية الشاعر الذي يقضي حياته في محاربة الأوهام والتقاليد الفاسدة، وتنوير الأذهان، وتطهير الذوق، ورفع مستوى الشعب شعورا وتفكيرا ... •••
بلغ غوته من العمر عتيا، ولم يواله الزمان في أيامه الأخيرة، فاتسعت الوحشة من حوله بعد من سلبه إياه الموت من الأحباب والمعارف، ولكنه بقي مع ذلك صبيح الوجه، حاضر النكتة، متوقد الذهن إلى أن دقت ساعته، فأغمض عينيه عن هذا الوجود، بعد أن أطل على عالم الخلود.
رنان
1
قلما اجتمع لكاتب ما اجتمع لرنان؛ فأحاط بشتى الموضوعات، وألم بمختلف العلوم من آثار وتاريخ ولغات وفلسفة. وكان فوق ذلك منشئا بليغا يعد في الطبقة الأولى من كتاب فرنسا. وقد جاء في كل ما كتب بآراء فيها كثير من الغرابة، وأحيانا كثير من التناقض. واليوم بعد مرور نحو من ستين سنة على وفاته سيبقى كما كان في أيامه، داعيا للحيرة عند النقاد؛ لأنه لم يقل في أي كان من المباحث التي طرقها كلمته الأخيرة، بل وقف بين النفي والإثبات، والشك واليقين. وقد كثر شراحه لا لصعوبة تناوله، بل لتعدد ألوانه، وخصب إنتاجه، فكانت أفكاره كالمجرة في السماء يرى الناظر أنوارها «ويغرق في تيارها وهو مصقع».
ولا أحاول اليوم في هذا الفصل إلا الإلمام بناحية واحدة من نواحيه وهي الفلسفة. •••
من الأوهام الراسخة في الأذهان أن التربية الكاثوليكية قيد للفكر تمنعه من التحليق في سماء الإبداع، ولكن وجود رنان نفسه جاء دليلا على فساد هذا الزعم؛ لأن تربيته الدينية تركت أثرا عميقا في حياته الأدبية والعقلية. لقد أعد نفسه لخدمة الكنيسة، غير أن إيمانه كان قصير العمر، فهجر المدرسة التي احتضنته وهو في الثانية والعشرين، ونزل إلى ميدان الجهاد العالمي لا صاحب له ولا معين ولا مال سوى ألف فرنك اقتصدتها له أخته هنرييت من نفقاتها الخاصة.
فلم يأت عليه ثلاث سنوات حتى كان قد انتهى من تأليف كتابه الأول «مستقبل العلم»، وفيه بنى كل آماله على العلم في تجديد التربية والأدب والسياسة والاجتماع، وإقامة بنيان وطيد للعدالة بين الناس باتحاد العلم والديمقراطية، غير أن هذا الكتاب بقي مطويا عملا بإشارة بعض أساتذته، ولما أراد طبعه بعد أربعين سنة أصابه ما أصاب «لتره» عندما أعاد نظره على ما كتب في العلم الوضعي بعد ثلاثين سنة من كتابته، ولكنه لم يحذ حذو «لتره» في إظهار أخطائه، بل اكتفى بالابتسام، فقال في المقدمة: إنه تردد كثيرا في نشره لئلا يصدم أرباب الذوق. وإذا كان للكتاب من مزية فلأنه يظهر في مظهره الطبيعي شابا متهوسا يعيش بفكره، ويؤمن بالحقيقة كل الإيمان.
رأى رنان أن العلم لم يحقق آمال البشر، ولكنه تحاشى أن يقول إنه لم يف بوعده، وما هو هذا الوعد؟ وهل يمكن البحث في إفلاس العلم إفلاسا كاملا أو جزئيا في زمن له فيه كل يوم فتح جديد؟ على كل فقد ضاعت ثقة رنان الأولى ورجع عن اعتقاده بأن العلم يغير الطبيعة البشرية، ويجدد وجه العالم، ورأى من الجنون فكرة هداية مليار من البشر، فمهمة العلم الوحيدة هي معرفة الحقيقة لا تحقيق المثل الأعلى؛ لأن الحقيقة واحدة، وأما المثل الأعلى فيختلف باختلاف كل فرد، وكل إنسان يحوك ثوب عدالته واجتماعه على قدر طاقته وحاجته.
لقد هجر رنان أوهامه الأولى وبقي من أشياع العلم الوضعي، ولكنه كان شاعرا، فظل أفق الأحلام لامعا أمام عينيه؛ فهو ينكر ما وراء الطبيعة، ولا يقبل إلا ما يثبته العلم، غير أنه لا يجهل عجز العلم، وأنه كلما تقدمنا خطوة فيه زدنا احتكاكا بالمجهول واللانهاية. ولو افترضنا أن العلم بلغ درجة الكمال، وأمكن الفلسفة أن تكون أم العلوم، فتميط اللثام عن أسرار الوجود، فإن هذا العلم يصبح حينئذ مقبرة العقل البشري، ويجرده من أحلامه، ويخلع عن العالم حلة جماله وجلاله؛ ذلك لأن العلم يفسر لنا كيف، ولا يفسر لماذا، ولا جواب عنده للأسئلة الكبرى التي تشغل كل مفكر: هل للحياة غاية؟ وهل في الوجود فكرة أدب؟ وهل يتمشى الإنسان إلى نهاية أسمى؟ لم الحياة؟ ولم العذاب؟ ولم الموت؟
هذه أسئلة لا يجيب العلم عنها. نعم، هناك تفاسير كثيرة، ولكنها شخصية متناقضة حسب أمزجة أصحابها وأدمغتهم؛ ولهذا يقول رنان: كل إنسان يولد وله فلسفته كما يولد وله إنشاؤه. ما الفلسفة إلا صوت يصدر عن النفس عند اصطدامها بالحقيقة، وما المذاهب الفلسفية سوى قصص النفس وحكاياتها، وأبطال هذه القصص تسمى الجوهر، الفرد، الفكرة، الإرادة، اللاوعي.
المذاهب الفلسفية صحيحة في رءوس أصحابها، ولكن لا تشرك غيرهم فيها؛ لأنه لا يمكن تأييدها بالاختبار والمنطق، ولهذا نجد رنان الذي يحب التفلسف يتحاشى كل منطق، ويقيم مكانه ما يسميه «الفرق الطفيف»؛ فهو لا يؤيد كالمؤمن ولا يجحد كالكافر، بل يبقى في شعوره بين بين.
ولقد فكر رنان بادئ ذي بدء بتعليم الفلسفة ونال رتبة أستاذ فيها، ثم انقلب عنها إلى فروع أخرى، ولكنه أشار إلى ما كان يعتمده من أسلوب في التدريس لو مضى في فكرته الأولى، فهو يعشق التساهل، ويحترم عقائد مستمعيه؛ فلا يسعى ليبرهن، بل يقف عند حد إعطائهم الفكرة ليبني كل هيكله كما يشاء.
وقد يعرض له أن يتكلم عن المسائل الأدبية فيقول: إن الأدب هو الأصل، وإن الإيمان يأتي عن غريزة الواجب والتضحية. وليس الإنسان في حاجة إلى المذاهب الفلسفية ليحب الخير ويكره الشر، ولا سيما لأن من هذه المذاهب ما لا أدب فيه كالنفعيين مثلا، على أنه من الخطأ أن نعتقد أن أعمالنا الصالحة تفيدنا في هذا العالم؛ لأنه كثيرا ما يخدع الواجب فيذهب الإنسان ضحية لطيبة قلبه.
هذه هي بعض آراء رنان الفلسفية وما فيها من تناقض، وهو يخلع عليها لباسا من اللطف والأناقة، ويتحاشى فيها كل جدل، فلا يطعن ولا يدافع ولا يجزم. وكثيرا ما يلمح من خلالها أثر لتعاليم كانت وهجل وشوبنهور. يدرس كل الوجوه وكل المسائل، ولا يرضيه واحد منها؛ فهو على نقيض بانكلوس ، معلم كانديد في رواية فولتير. فقد قال بانكلوس مرة: إن كل شيء في العالم على أحسن ما يرام، فظن نفسه مقيدا بهذا القول وعليه أن يؤيده حتى في أشقى حالاته. أما رنان فهو أحرى بأن تكون له كلمة بنجمان كونستان: الحقيقة لا تكون كاملة إلا إذا أدخلت ضدها فيها.
لقد أضاع رنان آماله بمقدرة العلم، ورأى أن الحقيقة لا تنير وتهدي إلا من كان له من نفسه هاد، إما بالفطرة وإما بما ورثه من عادات الفضيلة عن آبائه المؤمنين. ولهذا كان يقول: إن الفضيلة في عصور الشك هي بقية باقية من عصور الإيمان، وإن حياته هو نفسه كانت مسيرة أبدا بإيمان قديم لم يبق منه في صدره إلا مثل ما يبقى من العطر في الإناء.
2
لم تكن الفلسفة عند رنان سوى ضرب من اللهو والتسلية، بخلاف التاريخ؛ فقد استغرق وقته وفكره واهتمامه، فكان من الحق أن يسمى مؤرخا قبل أن يسمى شيئا آخر.
أراد رنان بعد أن عرف كيف تنتهي العقائد، باختباره ذلك في نفسه، أن يعرف كيف تبتدئ. ولكن أفكاره كانت متجهة في الوقت عينه إلى تاريخ الحاضر، فانصرف أيام الملكية إلى بعثاته ودروسه، بينما كانت الحياة العمومية في هدوء كأنه شبه اختناق، إلى أن نشبت الحرب السبعينية؛ فاضطر إلى الخروج من سكونه، وأحس بالاضطراب والقلق والجزع على مستقبل بلاده.
جاءت هذه الحرب ضربة قاضية على أحلامه وأوهامه. فقد كان يظن أن في الإمكان اتحاد ألمانيا وفرنسا عقلا وأدبا وسياسة اتحادا يجذب إليه إنكلترا؛ فتمشي هذه الأمم الثلاث في طليعة الحضارة والرقي، ولكنه وقع في الخطأ الذي وقعت فيه مدام ستايل، التي لم تكن تعرف من الألمان سوى شعرائهم ومفكريهم، فآمن بأساتذته هجل وهرور وستروس حتى جاء بسمارك بخيله ورجله فكشف القناع عن الحقيقة وفسر له تعاليمهم أبلغ تفسير.
لقد طعن الفتح الألماني رنان في الصميم، فكان يرى في الطريق شاردا يائسا، دامع العينين يلعن الحرب ومسببيها. وقد أسرع بقطع صلاته مع ألمانيا كما قطعها من قبل مع الكنيسة برسالة بليغة بعث بها إلى الدكتور ستروس، وأصبح بعد أن كان لا ينظر إلى العالم إلا نظرة المتفرج دون أن يخطر على باله إصلاحه، أصبح ولا هم له سوى البحث عن وسائل هذا الإصلاح؛ فألف كتابه «الإصلاح الفكري والأدبي».
كان رنان في كتابه الأول «مستقبل العلم» ديمقراطيا يتعشق رجال الثورة وأسطورتهم التي بعثها من القبر سنة 1847 مثله ولون بلان ولامارتين ليسقطوا حكومة تموز، ولكنه عاد عن رأيه بعد أن شاهد فظائعها وأصبح يؤثر أحقر حكومة ملكية على أعظم حكومة انتخابية، منددا بالديمقراطية، مظهرا أخطار الثورة، طالبا الرجوع إلى ملكية عسكرية كما كانت بروسيا قبل يانا. وترك التصويت العام الذي وضعه غوغاء 1848، والتوفيق بين الكنيسة والتعليم الابتدائي؛ «لأن الدين يقوم عند عامة الشعب مقام العلم والفن»، وإعتاق التعليم الثانوي من بلاغة جوفاء تتخذ الألفاظ كأنها معان، والمعاني كأنها وقائع، وترقية التعليم العالي إلى أبعد ما يمكن. وكان يقول: إن قوة ألمانيا لم تقم إلا على ركنين: ثقافة الرؤساء ونظام الجنود.
ولم يطل عليه الوقت ليتبين أن إرجاع الملكية في فرنسا أمر مستحيل، فوجد نفسه مضطرا إلى تعليق آماله على جمهورية أسسها فلاحون، وتمنى أن تكون معتدلة عاقلة شريفة، وراح يتتبع خطواتها بعواطف متقلبة غلبت السخرية فيها، فألف «المحاورات»، و«المآسي الفلسفية»؛ ليفهم رجال السياسة الذين تسلموا مقاليد الحكم، والذين يحاولون بناء ثروتهم على مصائب الوطن مدى احتقاره القلبي لهم.
هذا الاحتقار يشغل حيزا كبيرا من فلسفة رنان، فتراه يغدق الثناء على الأرستقراطية وأخلاقها وتساهلها، ويعيب «لامنه» لأنه لم يتماد في احتقاره كما تمادى في غضبه. ما أعظم الفرق في هذا بينه وبين ليبنتز الذي كان يقول: «أنا لا أحتقر شيئا!» وما قولكم بعالم في الطبيعة يحتقر سرطان البحر أو عقرب الماء، ويخص باحترامه الطائر الهندي المسمى عصفور الجنة؟ إن أشكال الحياة البشرية كلها لازمة لأنها موجودة، غير أن منها ما يضر فيجب منع ضرره؛ والاحتقار وحده لا يفي بهذه الغاية، بل هو تعزية العاجزين.
ولكن لرنان عذرا في أنه كتب هذه المحاورات أيام الثورة وإحراق مكتبة اللوفر؛ فرأى في هذا العمل الوحشي نتيجة لفكرة المساواة التي كانت ترمي إلى محو كل تفوق حتى في آثار السلف، وحصر السلطة في دكتاتورية العمال المصبوغة بالدماء، واستنتج منه أن الحضارة لا تقوم إلا على أيدي سلالة جديدة يحق لها الحكم والسيطرة لا بالعلم فحسب، بل بتفوق الدم والدماغ والعضلات.
ما أبعد حلم رنان هذا عن اشتراكيته الأولى التي ترسم لكل فرد عمله، والتي كان مستعدا فيها أن يصطنع بطيبة خاطر حرفة يدوية للارتزاق مع بقاء الفكر حرا، متشبها بالعامل سبينوزا الذي كان يصقل زجاج النظارات، والرواقي كليانس الذي كان سقاء، والفيلسوف الإسكندري سكاس الذي كان حمالا! لقد خابت آماله في فردوس الاشتراكيين، فعاد وهو لا يرى من فضل أو نعمة في غير الأرستقراطية المفكرة.
وقد لقي كتاب «المحاورات» من الإقبال ما دفعه إلى كتابة «المآسي الفلسفية». وهذا اللون يلائم روح رنان الذي لا يعرف أن يبدي فكرة دون أن يقيم نقيضها في رأسه، فكانت أبطاله صورا لأفكاره المتناقضة يطلق لها عنان الكلام كيف شاء. ولا يتسع المجال لشرح هذه المآسي من «كاليبان» الذي استعاره رنان من رواية الزوبعة لشكسبير، إلى «نبع جوفانس» إلى «كاهن غي» وغيرها. كل هذه الكتب عراك بين الديمقراطية والأرستقراطية، أو بالأحرى انتقاد لاذع للأولى وتمجيد للثانية. على أن هذا كله لم يمنع رنان من استجداء صوت الشعب في انتخاب مجلس الشيوخ سنة 1876، وحجته في ترشيح نفسه أن عضوية الشيوخ تعرضه للأخطار والقتل، وهو يفضل ذلك على موت طبيعي أو انحلال بطيء على فراش المرض، ولكن الأقدار أبت إلا أن يموت حتف أنفه، فلم يشعر بلذة السقوط تحت مدية المعتدي أو رصاص القاتل.
لم يكن مثل رنان في البعد عن المخاوف البورجوازية، فيقول في «مستقبل العلم»: إن أشد الأزمنة هولا هي أخصبها إنتاجا، ولا بد من الدم المراق لإرواء العبقرية، وإن الأعمال الخالدة التي صدرت عن أمثال فيدياس وأفلاطون وأرستوفان كانت في عصر يشبه عصر الإرهاب في فرنسا، وإن مونتاني لم يكن يجهل وهو مكب على تآليفه أن القتل ينتظره من ساعة إلى أخرى في منعطف كل طريق، فمن الواجب التشبه بهؤلاء الكرام لنعيش بهدوء وسط المعمعة.
وبعد أن وضع رنان آماله في الدين لتجديد فرنسا، ثم في العلم والديمقراطية، ثم في الإصلاح على منهاج أرستقراطي، وجد من العبث الإلحاح في الباطل، فدخل إلى نفسه وعاش في جو من العزلة الروحانية، سابحا في عالم التأملات، مترفعا عن الناس، هازئا بهم.
وهكذا أدى رسالته للفن والعلم والنقد، بعد أن وفاها قسطها من التحليل والشك والمراقبة. أما كلمته الأخيرة فقد عرفناها من شاهد عيان حضره عند الوفاة؛ فقد تناول قلم الرصاص وهو يحتضر وخط هاتين الكلمتين: «تأييد، معارضة.» فكانت حياته كدفتر حساب توازنت فيه الأرقام بين من وإلى.
هربرت سبنسر
من أعظم مفكري الإنكليز في القرن الماضي، وقد بقي اسمه حتى صدر هذه المائة على لسان كل أديب وعالم، ولكن الشهرة كالأزياء لها عهد وينقضي؛ فقلما تجد اليوم من يستشهد به مع أنه لم يطرق موضوعا إلا ترك فيه أثرا عميقا من تفكيره، ولا سيما في الحرب التي شهرها على الاشتراكية والنظام البرلماني.
كان سبنسر أعدى عدو للاشتراكية، ومع ذلك فالاشتراكيون يستندون إليه في دعم مذهبهم، ويتخذونه على الرغم منه حليفا لهم؛ لأنه أظهر منذ الساعة الأولى ميله إلى جعل الأرض ملكا للأمة. ولكن الذين يستشهدون به ينسون أنه طالب بتعويض عادل للملاك؛ فهو يعترف بحق الأمة في ملكية العقار، ولكنه لا يعترف لها بحق الاستيلاء على كل ما أضافه الإنسان إلى الأرض من عمله الخاص، أو ماله المكتسب بعرق جبينه، وجل ما يحق لها السيطرة عليه هي الأرض الصخرية والمستنقعات والغابات.
يقول سبنسر: إن ملكية الأرض بادئ ذي بدء كانت عملا استبداديا، لا يخلو من السرقة والتزوير، فكان فيه اللص يتلو اللص. ويقدم مثلا على ذلك النورمانديين؛ فقد اغتصبوا الأرض اغتصابا من الدانماركيين والسكسون، كما اغتصبها السكسون من السلت، والسلت من أبناء بريطانيا العظمى الأصليين. فإذا أراد المجتمع اليوم أن يستولي على عمل ألفي سنة فقد أتى أمرا إدا، وارتكب من اللصوصية أعظم مما ارتكب أولئك. ثم إن دخول العقار في حوزة الأمة لا يأتي بالفائدة المطلوبة؛ لأن إدارة المجتمع لا تضاهي إدارة الفرد في تصريف الأمور وتسييرها سيرا موفقا.
وفي برنامج الاشتراكيين مادة أخرى لم يقف سبنسر فيها عند رأيه الأول: تلك حرية المرأة. فقد رأى بالاختبار أنه من الخطر إشراك المرأة في السياسة، وأبى عليها ما للرجال من الحقوق السياسية؛ لأنها لا تقوم بما يقومون به من الواجبات، ولا تساهم في الخدمة العسكرية كثيرا أو قليلا.
ولا بد هنا من القول: إن رجوع سبنسر عن رأيه الأول في هاتين المسألتين: ملكية الأمة للأرض وحرية المرأة، كان نتيجة العلم والاختبار، وإذا أخذنا على رجال السياسة تقلبهم في أقوالهم وأعمالهم فلا يسعنا الطعن في المفكرين أمثال سبنسر، عندما يعيدون النظر في آرائهم القديمة ويمحصونها على ضوء الحقيقة والواقع.
على أن هناك أمرا ثبت فيه منذ البداية ولم يحد عنه قيد شعرة، وهو اهتمامه بالطبقة العاملة؛ فقد دافع عنها دفاعا مستطيلا، وظل حتى النهاية يردد ويعدد ما يكتنف مستقبل الأكثرية من ظلام وشقاء، فالبطالة والازدحام في المساكن الضيقة المظلمة الفاسدة الهواء، والمهن المضنية، والشيخوخة المحزنة، والانقسام البليغ بين الطبقات، وتفاوت الأرباح الهائل، وحصة الأسد المعدة منها للمخدوم على حساب الخادم ... كل هذه الأدواء يشكو سبنسر ويتألم منها، إلا أنه لا يظنها غير قابلة للشفاء.
كان سبنسر من المتفائلين المؤمنين بالرقي، على شرط أن لا يبقى الإنسان مكتوف اليدين، بل يتدخل تدخلا فعليا في مقدرات نفسه، ولكنه لا يعتقد بدواء سحري يشفي من الأمراض كافة؛ فهو يبني فلسفته على ناموس النشوء والارتقاء، ويشبه جسم المجتمع بجسم الفرد؛ أي أنه قابل مثله للتأثر بعوامل خارجية كالتربة والمناخ، وداخلية كالمزاج والأهواء. وكما يبدأ نماء الجسم بالجرثومة يبدأ نماء المجتمع بالأسرة، ثم القبيلة، إلى أن تتألف الأمم والشعوب، فتنقسم حينئذ إلى فئتين أو جيلين أو مثالين: مثال ينتحل الجندية، ومثال ينتحل الصناعة.
والفرق بين المثالين أن المرء يفقد حريته في الأول على أن تكفل له حاجاته من مطعم ومسكن وكساء، بينما يظل في الثاني حرا يعتمد على نفسه في هذه الحاجات. على أن المثال الخالص عسكريا كان أو صناعيا غير موجود. ويمكن القول: إن دول أوروبا مزيج من الاثنين؛ فهي نصف عسكرية ونصف صناعية. ويرى سبنسر أن المثال العسكري غالب في ألمانيا، والصناعي في إنكلترا وأميركا، وفيهما دليل ناصع على ما يمكن للشعب أن يصل إليه من البسطة والغنى بدون الحرب.
ويقول سبنسر: من العجيب أن الطبقات العاملة تشعر بضرورة السلم وتكره الفكرة العسكرية، ومع ذلك نراها تحاول من حيث لا تدري تطبيق نظامها الاستبدادي على الصناعة، بإخضاع الفرد للدولة، فيصير الصناع جنودا يتحكم بهم النظار والمفتشون، بدلا من الضباط والقواد.
ويرد زعماء الاشتراكية على هذا بقولهم: إن الفرق عظيم بين الحالين؛ لأن النظار والمفتشين هم مندوبون خاضعون لرقابة الشعب، معرضون للانتقاد والعزل، فلا يمكن للعامل أن يكون مقيد الحرية كالجندي.
وعلى الجملة فالاشتراكية في نظر سبنسر رجوع إلى الوراء لا يتفق مع سير الحضارة.
أما عداؤه للنظام البرلماني فراجع إلى فكرته الأساسية التي تجعل من المجتمع جسما حيا، ينمو ويكبر حسب شرائع طبيعية لا قبل للإنسان أن يبدل فيها كما يشاء. والحياة الاجتماعية لا تنتظم اتباعا لخطة يرسمها العقل والمنطق، بل اتباعا للحاجات الماسة، ولن تجد مجتمعا راقيا قام طبقا لبرنامج أو خطة موضوعة من قبل بالمناقشة الرسمية، ففي أي حال كان لا سبيل للإنسان أن يغير الأشياء الطبيعية إلا بخضوعه للشرائع الطبيعية.
وهذا ناموس عام ينطبق على الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم الاجتماع. وبما أن نمو المجتمع تابع لأسباب عمومية، لا سلطة للإرادة البشرية عليها، فسيادة الشعب مربوطة بالجهل، لا يمكنها أن تهتدي الطريق أو تعرف الوسائل التي ينمو بها المجتمع، وجل ما تستطيع هو أن تقر وتثبت هذه الوسائل، وعليه فليسن المندوبون عن الشعب ما شاءوا من الأحكام والشرائع والقوانين؛ فالعبرة في جعلها ذات فعل نافذ. وقد عمل سبنسر إحصاء للقوانين التي صدرت في إنكلترا ولم تنفذ، فإذا بها فوق ما يتصوره العقل.
من أين إذن هذه الثقة العمياء بما يمكن للبرلمان أن يجريه من إصلاح؟ وعلام هذا الإيمان بالحكومة الذي يشبه ايمان المتوحش بالصنم؟ يعزو سبنسر ذلك إلى انتشار التعليم. ومن العقائد الراسخة في الأذهان أن التعليم يهذب الشعب وينيره، وهذا وهم؛ لأنه لا يوجد صلة بين قضية هندسية وأدب النفس. ولا يكفي تعليم الأولاد ما هو الخير ولماذا يسمى خيرا ليصنعوا الخير عندما يكبرون؛ فانتشار التعليم غير كاف ليجعل الشعب قابلا للحكم الحر، ولا بد من الأخلاق، بل قد يساعد التعليم الناقص على نشر أخطاء كثيرة.
وإذا كان المثقفون لا يقبلون بمطالعة ما يخالف طريقة تفكيرهم وشعورهم، فما قولك بالشعب إذا كان لا يتذوق إلا ما يوافق هوى في نفسه! وأبلغ دليل على نتائج هذا التعليم هو هذه النشرات التي تغذي الأوهام؛ لأن الجريدة تسعى قبل كل شيء إلى إرضاء مشتركيها، فتقوي فيهم بهذه الطريقة أميالا شتى يصعب تحقيقها، وتجعلهم يظنون أن الحكومة قادرة على معالجة كل الشئون، ومن واجبها التدخل في كل كبيرة وصغيرة، وتردد على مسامعهم في كل سانحة إمكان تبديل النظام الحالي. وبما أنهم هم الذين سينتخبون، فمن مصلحتها تقوية هذه العقيدة في رءوسهم، وهكذا يصبح الشعب الذي هو صاحب السيادة ألعوبة في يد رجال السياسة.
ثم يحمل سبنسر على النواب حملة شعواء، متهما إياهم بالجهل والوعود الكاذبة والأثرة وتضحية مصالح البلاد في سبيل مصلحتهم الخاصة.
لقد كان لما كتبه «سبنسر»، وخصوصا في كتابه «الفرد ضد الدولة»، صدى بعيد حتى قيل عنه: إنه فوضوي. وما لا ريب فيه أن هذا الكتاب الصغير قد ساعد كثيرا في بث الدعوة إلى الفوضوية، ولا سيما في الولايات المتحدة، بتشويههم كلامه وتفسيره تفسيرا يوافق مصلحتهم. وسبنسر نفسه يقول: بين ويلين هما: استبداد الاشتراكية وحرية الفوضى أفضل الفوضى مع كل ما فيها من شقاء. ولكنه ليس فوضويا بكل معنى الكلمة؛ لأن الفوضويين يطالبون بإبطال كل وظائف الدولة، بينما هو يريد إبطال البعض ودعم البعض الآخر ؛ فيطلب من الحكومة عدم التدخل في شئون الدين والتربية والأعمال الخيرية؛ لتكتفي بالمحافظة على النظام.
هناك في نظره مبدأ عام يسيطر على علم السياسة، وهو التعارض بين أدب الأسرة وأدب الدولة. أدب الأسرة يقضي بالعناية الفائقة للولد الضعيف الهزيل، المحروم من نعم الحياة، والاشتراكية تريد إدخال هذا الأدب في الحكومة؛ لتساعد أصحاب العاهات والعيوب وضروب النقص. وهذا ما جعلهم يتهمون سبنسر بقساوة القلب، مع أنه يطلب أن تقوم جمعيات خاصة بعمل الخير، لا أن تتلهى به الحكومات فتصل إلى تقهقر النسل بدلا من تحسينه. هو يريد أن يتحمل كل إنسان مسئوليته، فلا يتكل على غيره في ضعفه وكسله وجهله، فلا يبقى في ميدان الجهاد وتنازع البقاء إلا الأنسب، وليس الأنسب هو القوي، بل الأكثر أهلية واستعدادا.
الأرض المجهولة
اسمح لي، أيها القارئ الكريم، أن أسير بك الآن نحو بقعة من الأرض لا تجدها على المصور الجغرافي، وفيها من المفاجآت والعجائب والأسرار ما لا تقع عليه العين في أية ناحية من البسيطة.
هذه البقعة ليست ملكا لأحد دون سواه، ولا سبيل لدولة من الدول أن تستأثر بها فتركز علمها عليها. والثلوج الخالدة والشمس المحرقة أبعد من أن تمنع الزائر من الوصول إليها.
قد عرفت ولا ريب ماذا أريد بهذا القول؛ فهذه الأرض المجهولة هي الطبيعة البشرية، هي أنت وأنا، هي كل ما أقلته الأرض وأظلته السماء ممن ينتسب إلى الأسرة الإنسانية. ولا تحمل كلامي على المزاح أو تظن فيه مبالغة ما؛ فهي الحقيقة تبدو لك، إذا ما تمعنت، في أجلى مظاهرها.
وجد الإنسان على الأرض عاري العقل والبدن، لا خبرة له بما مضى ولا فكرة لما سيأتي، وكيفما أجال الطرف كانت تقع عيناه على أشياء مجهولة وحوادث جديدة ومظاهر غريبة؛ فكان لا يألو جهدا بدافع الغريزة والضرورة من المراقبة والتفكير والاكتساب، وكان كل واحد من البشر يعيد سيرة من تقدمه ويحذو حذو أسلافه. كل شيء جديد في عين المولود الجديد.
ولكن الإنسان في هذا الميدان الواسع الذي حاول فيه معرفة الطبيعة واستثمارها والسيطرة عليها بقي شديد الظمأ إلى شيء لم يستطع الوصول إليه، إلى شيء يقف عنده مضطربا واهي العزيمة، ضعيف الأمل، حائر الفكر. ذلك معرفة نفسه، وإدراك كنه طبيعته، والوقوف على سر مصيره. لقد تعلم استخدام البخار وتقييد الصاعقة، وجاب السماء، ودخل أحشاء الأرض، وفكك عرى الذرة، ولا يزال الإنسان لغزا للإنسان. أفبعد هذا مبالغة إذا قلنا: إن أغمض ما في الأرض على ساكن الأرض هو نصف الساكن نفسه؟
ومن الحماقة أن أدعوك، أيها القارئ العزيز، للتغلب على صعوبات قصر عنها أكبر المفكرين والحكماء والأنبياء، ولا تزال قائمة في هذا العصر الحديث كما كانت في العصور القديمة، ولكن في وسعنا أن نستنتج منها أن طبيعتنا البشرية ذات كنوز، وفيها من العناصر الثمينة المتعددة ما يتعذر سبر غوره وعده وقياسه على جيل واحد من الناس، بل يجب أن تتعاقب على درسه أجيال وأجيال. إن من السهل عليك إن كنت تملك قطعة أرض - مثلا - أن تجوبها بسرعة، ولكن أين السهولة والسرعة إذا كانت مساحة هذه الأرض واسعة شاسعة وفيها أنهر وغابات وجبال؟ كان لعاهل إسبانيا فيما مضى من سعة الملك ما جعل الناس يقولون: إن الشمس لا تغرب عن أراضيه ... والإنسان أعظم من شارلكان على ضخامة ملكه؛ بما يملك من هذه الطبيعة البشرية.
إن بطرس وأحمد، وآدم وسعاد، والغني والفقير، والأمير والصعلوك، والذكي والخامل سواء في هذا الملك، وعندهم في البدن وأعضائه والجسم وحركاته، وما يختلج فيهم من العواطف والأفكار، وتشتمل عليه ضمائرهم من الآمال والأحلام منجم عميق يمكن استخراج الكنوز منه. وإلى جانب هذه الكنوز جراثيم عيوب لا عدد لها إذا لم ينتبه الإنسان إليها كانت وبالا عليه. ولا أحاول ههنا البحث فيها؛ فحسبي أن أذكر الحسنات التي فينا فهي تهدينا سواء السبيل، وعلى ضوئها نستطيع عبور مآزق الحياة بأقل ما يمكن من الألم أو الندم.
إن رحلتنا حول هذه المملكة المجهولة ترينا أول ما ترينا أعجوبة الأعاجيب؛ عنيت بذلك الجسم الإنساني البارز في أحسن مثال وأبدع تقويم، والجامع في تركيب أعضائه بين المناعة والسهولة والخفة؛ فالأرجل أثبت من عمد الحجارة والطين، وهي مع الأيدي أصدق نموذج لمخترعي أدوات الحركة والنقل وجر الأثقال، والمعدة والرئتان والدورة الدموية والقلب الخفاق مختبرات تمور فيها أسرار الكيمياء والفيزياء، والعينان منارتان أخذ عنهما الإنسان في اختراع المنظار والمجهر وسائر الآلات المعدة لالتقاط النور وتوزيعه، والأذن آلة حساسة تلتقط ما لا يرى ولا يلمس من الأصوات والموسيقى، والوجه كتاب مصور تتبدل سطوره كل آن؛ فتقرأ فيه تواريخ وأحاسيس وذكريات، والدماغ والجهاز العصبي مقر الأمر والنهي الذي يربط أجزاء هذه المملكة الواسعة بعضها ببعض.
وكل هذا إن هو إلا إطار بديع لبدائع باطنية، هو عتبة الهيكل الذي تتنفس فيه، وتحيا عذراء النفس الجامعة بين البطولة والألم واللذة، والرفعة والضعة التي قال فيها ابن سينا: «هبطت إليك من المحل الأرفع.» والتي لا يستطيع فكر أو قول أو غناء، أو تعليل فلسفي، أو وصف شعري أن يستنفد ما فيها من المعاني.
يقول فيلسوف المعرة:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
ولكن الإنسان مع ذلك غير الحيوان وغير الجماد؛ غير الجماد لأن مادته حية، وغير الحيوان لأن في طبيعته ما لا يملك الحيوان.
قد يشابه الحيوان الإنسان ويشاركه في أمور كثيرة؛ فالببغاء تتكلم، ولكن عن تقليد لا إدراك، والنمل والنحل يعملان بحكمة وترتيب يثيران الدهش والإعجاب. ومنذ القدم أيام كان الإنسان يأوي إلى الكهوف، وينام في ظلال الأغصان الملتفة كان النحل فعلا يبني بيته بهندسة عجيبة؛ إلا أن الإنسان تقدم وارتقى، والنحل بقي مكانه.
والنسر يرى أبعد من الإنسان، ولكن الإنسان اخترع ما يفوق به النسر، فيرى بالتلسكوب أبعد الأجرام، وبالمكرسكوب أصغر الأجسام، والأسد أقوى من الإنسان، والإنسان يغلب الأسد بطلقة نار، والسنونو أسرع من الإنسان غير أن الإنسان استطاع أن يقرب الأبعاد ويقصر المسافات بما يسبق به السنونو، فيخاطب رفيقه من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ ذلك لأن ذكاء الحيوان محدود وذكاء الإنسان لا قيد له ولا حد. تلك هي مزايا الطبيعة البشرية، بئر من الأسرار، عليها ألف ستار وستار. •••
إذا كان من منافع الأسفار العبرة والاختبار فما أحرى الواحد منا أن يطوف حينا بعد حين حول هذه الأرض القريبة البعيدة؛ فإن من أعظم فوائدها أنها تعلمنا أن يفهم بعضنا بعضا. أتدري ما الذي يسبب شقاء الناس ويدفعهم إلى الجور عن قصد السبيل ليسيئوا التصرف في معاملاتهم الاجتماعية؟ هو قبل كل شيء استهزاء الإنسان بأخيه الإنسان؛ فالناس بالإجماع لا تحترم الناس، ولا تقدر قدر هذا الكنز الثمين الذي يحمله كل منا؛ ولهذا نرمي بأنفسنا في مهاوي العار والخسة، لا نعرف سوى التباغض والتنافر والخصام الدائم، عابثين بحق الجسم علينا وحق العقل. لقد آثرنا العيش في الظلمات والمستنقعات والخوف، بدلا من الهواء الطلق والنور والطمأنينة والواقع الحقيقي، فصدق فينا قول شاعر الفرنسيس:
الإنسان ملاك ساقط لم يحفظ من السماء سوى التذكار
فلنتعلم منذ الصغر أن نفهم أنفسنا حق الفهم؛ فلا نحتقر رخيصا، ولا نحسد رفيعا، ولا نؤذي ضعيفا، ولا نستبد فيما نملك. ولنذكر أبدا أن في الطبيعة البشرية كنوزا عديدة لو استخدمنا جزءا منها لبدلنا وجه البسيطة، وغطينا ما عليها من الشقاء والفساد بالصحة والسعادة، والاحترام المتبادل، والحياة الطيبة.
جزيرة الأبالسة
ليست الأبالسة سوى فئة من الآلهة التي اعتنقتها الأديان البشرية من قديم الأزمان؛ فكان للخير آلهة هي منبع اللذات، وللشر آلهة هي الشياطين التي تجلب الآلام للعالم. ولهذه الشياطين وظائف مختلفة؛ ففي الهند شيطان للعقم، وشيطان للقحط، وشيطان لليبس، وعلى رأسهم «مارا» الذي يوحي الأفكار الباطلة والأقوال الخبيثة والأعمال الشريرة، ويجرب على الدوام بوذا وتلاميذه. وفي الفرس شياطين معروفة بالكذب والخداع تسكن القبور والجبال والأرض المقفرة، وتحاول إغراء البشر، ولا تطرد بغير الصلاة ودعاء الكهنة والمجوس. وفي بابل وآشور شياطين للطاعون والحمى والشلل والدم والنار، وهي تعالج أيضا بالصلاة والاستهواء؛ فكان الكهنة يراقبون العليل ويصغون إلى ما يقول في حالة الهذيان، فيكتشفون الداء وأحيانا اسم العدو الذي تجب محاربته. وفي مصر رئيس الشياطين هو «سيت» إله الظلمات، وما المرض سوى صراع بين الشيطان والإنسان، وعلاجه أيضا بالتعاون والرقى .
وكانت البغضاء القائمة على التعصب للدين والوطن تدفع الناس إلى احتقار آلهة أعدائهم واعتبارها من الشياطين؛ ولهذا قد تجد الاسم الواحد يطلق عند فريق على الإله، وعند فريق على الشيطان. وقد فعل اليهود كغيرهم فكانت آلهة أعدائهم الفينيقيين مثل: مولوك، وبعلزوب شياطين عندهم. ولنشأة بعلزوب هذا حديث طريف لا بأس من ذكره هنا.
لا يخفى اليوم على أحد خطر الذباب وتأثيره في نشر الأمراض كالحمى والكوليرا والملاريا ومرض النوم. ويروي كلوديوس أوليانوس الكاتب اللاتيني في مقتطفاته أن سكان شواطئ الاستبراس، وهو نهر في الحبشة، كانوا يضطرون كل عام إلى الهجرة هربا من أسراب الذباب الذي ينتشر كالضباب، فيحجب عنهم وجه السماء، هذا الذباب هو «تسي تسي» ناقل مرض النوم يعيش على شواطئ الأنهر في ظل الميموزا والموز، فتقفر من أجله شواطئ النيل الأعلى والاستبراس طوال ستة أشهر، إلى أن يأتي الخريف باعتدال أيامه ولياليه؛ ولهذا كان المصريون يؤلهون شمس الخريف لأنها تقهر الذباب، وانتقلت هذه العبادة إلى القيروان؛ حيث كان يسمى هذا الإله الخاص «أخورس»، ثم إلى فينيقيا فسمي بعل زبوب؛ أي «الإله الذباب»، ولكن اليهود حرفوا الكلمة إلى بل زبوب، وجعلوا الإله شيطانا والذباب كذلك.
وكان لوثر لا يزال يعتقد أن الذباب مشيطنة؛ فكان إذا وقع الذباب على وجهه أو على كتابه يغضب ويصيح: «إليك عني يا قرد إبليس وأتباعه، كلما فتحت توراتي تأتني أيها الذباب الخبيث بأقذارك كأنك تقول: هذا الكتاب لي وفي إمكاني أن ألوثه بدهني.»
وبعض الشياطين في بلاد يهوذا مأخوذ عن أصنام الوثنيين أو عن الملائكة؛ فإن بين الملائكة أشرارا، وأحد هؤلاء وقف في طريق بلعام عندما نهض لتلبية بالاق بن صفور، ملك مؤاب الذي استنجده على إسرائيل «سفر العدد إصحاح 22»، ومثله الذي كان يعتري شاوول فيضرب داود بيده الكنانة ليصرف الروح الشرير عنه «سفر الملوك إصحاح 16»، وكذلك الذي أثار داود أن يحصي إسرائيل فبعث الرب وباء في إسرائيل، فسقط من إسرائيل 70 ألف رجل، وبعث الله ملاكا إلى أورشليم ليدمرها، وإذ كان يدمر نظر الرب فندم على الشر وقال للملاك: كفى. «سفر الأيام الأول إصحاح 21».
هذه الملائكة الساقطة أو الشياطين كانت تعيش في عزلة، وهي في ظمأ دائم وتعب مستمر، فدبت إلى جسم الإنسان واتخذته لها مقرا تتغذى من مادته، وتسبب له الهستريا والصرع والجنون؛ ولهذا كان الأقدمون يسمون المصابين بهذه الأمراض مشيطنين.
وكما كانوا يعزون الأمراض العصبية إلى الشياطين كانوا يعزون إليها ظواهر الأرض الجيولوجية، فتقول أسطورة يابانية: إن جزيرة كيوشو احتلتها الشياطين. وقد أتتها من أقاصي العالم حاملة معها تلك الأبخرة ذات الروائح الغريبة، ففجرت فيها بحيرات من الماء الحار ولججا من الأوحال المصهورة الغالية، وقدحت في أعالي الجبال شرار النار، فكانت تسمع طقطقة القشرة الأرضية كما كانت تتدحرج الصخور فوق الجزيرة والبحر، وجرت أنهار من الحمم، واشتعلت غابات الصنوبر، وابتلعت الأرض الأكواخ مع سكانها.
وظل سلطان الأبالسة على الجزيرة عصورا وهي تجدد فيها الأذى والشر إلى أن جاءها يوما ستة من الرهبان، ونزلوا في تلك الأرض غير المضيافة، هؤلاء الرهبان كانوا مشبعين بالحكمة وأرواحهم متنزهة عن شوائب الأرض، فاختفت الأبالسة لدى ظهورهم تاركة بخارها الكريه الرائحة وماءها الفاتر الغالي، وشرع الرهبان بإقامة المعابد الجميلة، مرصعة بكل ما تقدمه الصناعة الصينية من غريب الألوان والتزاويق، ورنت على الشاطئ أجراس الهيكل تدعو المؤمنين من أقصى الأرض إلى هذه الجزيرة المطهرة.
وفي وسط هذه الجزيرة التي فجرت الشياطين براكينها أسست مدينة بيبو
Beppu
وحماماتها، وبقيت الماء والأوحال في غليانها يؤمها الناس للاستشفاء، فتستقبلهم أنفاس الكبريت الصاعدة من أعماقها، وتملأ أسماعهم أصوات الماء المنبجس من أقنيته، وقد اصطبغت في غباره أشعة الشمس بألوان قوس قزح، فيبدو للعين مشهد سحري قامت في وسطه تماثيل أبالسة الجحيم.
وأبلغ هذه التماثيل أثرا صورة إله الحرب؛ فإن لها رأسا أسود مخيفا، يزينه قرنان قصيران، وجسما مركبا من الحمم أو الشبه «البرونز»، مرتكزا على صخر وفخذاه غارقتان في الماء، وكأنه وهو يضع يدا على وركه ويقبض بالأخرى على الصولجان يهدد البشر من علو سلطانه.
وقد حفرت في الأرض مراجل مختلفة الحجم يصلها الوحل الأصفر والأحمر وهو في حالة الغليان، كأنه عصيدة سميكة تفور حتى أطراف القدر الذي تطبخ فيه ثم تغور.
ومن هذه التماثيل واحد أخضر كالبحر، وآخر يلقبونه «غدير دم الأبالسة» قرمزي جميل يصبغ الأقمشة التي تلقى فيه بلون أحمر. أما مياه «جحيم الكاهن» فإن حرارتها تبلغ درجة عالية، حتى إن أحد الزوار سقط يوما فيها، فذهب لحمه حالا، ولم يستطع ذووه أن ينتشلوه إلا هيكلا من عظام.
وقد أصبحت بيبو
Beppu
ملتقى كل من في اليابان، من سحرة ومشعوذين يستغلون المارة والحجاج والمرضى، فيستولون على عقولهم وعلى دراهمهم. وإلى جانب هؤلاء مفسرو الأحلام والناظرون في طوالع النجوم والعارفون بالبخت.
وقد زاد أقوالهم تأثيرا ونبوءاتهم مهابة بخار البراكين المتصاعد من حولهم، كأنه أرواح التماثيل المنتصبة أمام أبصارهم، وهذا ما جعل جزيرة الأبالسة أرض الحديث الموحى، والشفاء العجيب.
الحماقة البشرية
لا أذكر أين قرأت أن أحد القواد العظام - وأظنه فيليبكوس إمبراطور القسطنطينية - كان كلما أشرف على معركة وأزفت ساعة القتال يذرف الدمع سخيا؛ حزنا على من سيقتل فيها من الرجال. وسواء أكانت دموع تمساح أم رحمة أم إفراط في التعبد، فهي شاهد على حماقة الإنسان الذي لا يحجم عن قتل أخيه الإنسان.
من يدري عدد الضحايا التي تفترسها الحرب من كل جيل منذ وجد الإنسان على هذه الأرض إلى يومنا هذا؟ يقول فلاماريون: إن الحرب السبعينية وحدها أطاحت بنصف مليون رجل، وحرب الانقسام في أميركا بمليون، وحروب الإمبراطورية بخمسة ملايين. وإذا أضفنا إلى ذلك من قتل في حروب إيطاليا والنمسا وغيرها بلغ مجموع القتلى 19 مليونا.
وهكذا منذ بداية التاريخ لا ينقضي جيل دون أن تبيد الحرب منه مثل هذا العدد. وقد يبلغ عدد القتلى في المعركة الواحدة مائتي ألف رجل، كما في غارات أتيلا أو المواقع التي هزم فيها ماريوس الروماني قبائل التتون والسمبر، أو حروب جنكيز خان وتيمور لنك اللذين كانا يقيمان في كل محطة من طريق الفتوحات أهراما من رءوس القتلى، فيكون مجموع من يموت في كل عصر من العصور بالحروب الدينية والسياسية والأهلية على تقدير فلاماريون أربعين مليونا.
منذ طروادة وداود وسميراميس وسزوستريس وكسرى وقمبيز والإسكندر أربعون مليونا من الرجال تراق دماؤهم كل مائة سنة، وكثيرا ما يرافق هذه الدماء ألحان المرتلين والتسابيح للآلهة. أربعون مليونا كل مائة سنة لو جمعت معا لبلغ عددها مليارا وربع المليار؛ أي ما يقرب من عدد سكان الأرض اليوم.
يا له من رقم هائل! أربعون مليونا كل مائة سنة؛ أي 400 ألف كل سنة؛ أي 30 ألفا كل شهر؛ أي 1100 كل يوم؛ أي واحد في الدقيقة. فكأن البشرية قائمة للذبح أبد الدهر، لا تسقط السكين من يدها دقيقة واحدة. لقد ورث الإنسان الحرب عن الحالة الحيوانية، ولا يريد أن يتخلص منها. مائة ألف من السنين على حساب البعض، ومائتا ألف على حساب البعض الآخر أتت على هذا الموجود منذ أتيح له الوجود وهو يناضل ويقاتل. وهذا ما يسمونه تنازع البقاء.
تبدلت الوسائل ولم تتبدل الطباع، وتحولت أسلحته من النبابيت والسهام الحجرية إلى المدافع والمتفجرات، وشهوة الدم باقية كما هي.
يقدر فلاماريون ما أريق من الدماء في هذا المدى الطويل من التاريخ بنحو من عشرين مليونا من الأمتار المكعبة؛ أي ما يجعل منها نهرا كنهر السين، يجري وأنت تنظر إليه من مكانك يومين متواصلين قبل أن ينتهي، وتسير مراكب البحار على أمواجه الحمراء كما تسير اليوم في السين، يتصاعد منها نحو المباني والقصور من الروائح ما يتصاعد من الحفر في جحيم دانتي، ولو بعث هذا المليار وربع المليار من القتلى، ونصبت رممهم الواحدة فوق الأخرى لكان منها سلم بشري يصل إلى القمر ويدور من حوله ويوالي صعوده في اللانهاية، إلى أبعد من مليون من الأميال. ولو أخذت الرءوس وحدها وصف الواحد إلى جنب الآخر لانتظمت عقدا يحيط بالكرة الأرضية ست مرات.
أضف إلى هذه الخسائر في الأجسام والأرواح ما يلحقها من الخسائر الأدبية بإتلاف منتوجات الفكر البشري، كما فعل هولاكو عندما خرب بغداد؛ فقد أقام جسرا من الكتب في دجلة لتمر عليه جنوده.
وإذا نظرنا إلى أسباب الحروب وجدناها تافهة على حد قول الشاعر: يثير «صغيرات الأمور كبيرها»؛ فمن حروب طروادة التي كان سببها اختطاف امرأة إلى ما عقبها من الحروب، إلى الحرب العالمية الأخيرة التي لم يعرف لها مثيل، لم يكن السبب يوما على قدر المسبب، ولكن الطمع لا ينفك يلعب بالرءوس فتختار البشرية أفضل أولادها وأقواهم، ترضعهم وتغذيهم وتنميهم حتى إذا بلغوا زهرة الشباب أرسلتهم إلى الموت. طمع جنوني يجيش في رأس الواحد، فيجر القطيع البشري إلى الذبح.
ويضطر الباقون إلى الدفاع عن أنفسهم؛ فيجارونه مكرهين. أين هذا من الحياة الهادئة العاملة المفكرة السعيدة يريدها الإنسان ويمنعه عنها الإنسان؟!
وقد يظن، وبعض الظن إثم، أن الحروب ضرورية لمنع الازدحام وتكاثر البشر تكاثرا هائلا يضيق عنه وجه البسيطة على حد قول الشاعر:
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئة وذهوب
مع أنه في إمكان الأرض أن تغذي عشرة أضعاف من عليها، كما أن التقتيل لا يؤثر في تخفيف العدد؛ لأن الإنسانية في تكاثر مستمر على نسبة مولود واحد في الثانية.
فالحرب في كل حال آفة على البشرية، ولو قدر الإنسان أن يتخلص منها واستغنى عن ضرورة الاستعداد لها، وعما يسمونه السلم المسلح لاستطاع أن يلبي دعوة أمه الأرض بالإكثار من الأيدي العاملة؛ فتدر عليه خيرات لا تحصى. ناهيك بالأموال التي تنفق على ميزانية الحرب في كل دولة، فقد قدروا ما أنفق منها في المائة الماضية بسبعمائة مليار، ولا نتكلم عما أنفق في الحرب العالمية الأخيرة. هذه الأموال لو أنفق معشارها فيما ينفع، كتعميم التعليم المجاني في كل صقع، وتحسين وسائل المواصلات بين البلدان بأسرع وأوفى مما هي عليه الآن، وإزالة الحدود الجمركية بين الممالك، وإنشاء المستشفيات الكثيرة، وإمداد الباحثين والمخترعين بما يحتاجونه، لوفرت للإنسان أسباب هنائه واستطاع أن يتغلب على الأمراض المستعصية، وأن يطيل حياته إلى أقصى ما يمكن، إن لم يتمكن من التغلب على الموت.
حلم جميل لا أدري، ولا أحد في الناس يدري إذا كان في الإمكان استحالته حقيقة. وبينما العقلاء من الناس يفكرون في تحقيقه كله أو بعضه فالأرض لا تزال تدور، وتشهد حماقة البشر، وتحتمل التفظيع والتخريب، وتلبس الحداد، وتغص بدم أبنائها المهراق على صدرها.
العنصرية الروحية
العنصرية كلمة مشتقة من العنصر، ومعناه في اللغة الأصل والحسب، وقد اتخذها هتلر سلاحا يهول به على العالم للإشادة بتفوق الشعب الألماني على سائر شعوب الأرض، مدعيا أن في عروقه دما آريا نقيا يجعل كل مخلوق دونه. ولكن هذه الدعوى لا صحة لها على الإطلاق، وهي منقوضة بالأدلة العلمية، وما القول بالدم الآري النقي إلا أسطورة من الأساطير وخرافة من الخرافات يرمى بها إلى الدعاية وتضليل العقول. وكل يوم لنا من الشواهد ما يدل على فساد هذا الزعم، ويظهر بأجلى بيان أن الشعوب لا تتفاضل بالأصل والأحساب، وأن كل أمة قادرة على التفوق عندما تدق ساعتها؛ ففيها عباقرة كما أن فيها خاملين.
ولكن هناك عنصرية أخرى يمكننا من نتائجها أن نسميها عنصرية الروح؛ لأنها تخلع المزية على بعض الناس وتؤهلهم لإحراز التفوق العقلي والأدبي والمادي. ما هي هذه العنصرية؟ ومن أين أتت؟ أتكون ما يسميه علماء اللاهوت النعمة؛ أي منحة إلهية تهدي من ينعم بها الصراط المستقيم، وبدونها لا يفهم معنى للإيمان والرجاء والمحبة؟ أجد نفسي هنا مضطرا للوقوف قليلا عند هذه الكلمة، وإلقاء نظرة قصيرة على التاريخ لدرس نشأتها وتحليلها.
إن أول من تكلم عن النعمة بولس الرسول، فيقول في رسالته إلى أهل أفسس: «فإنكم بالنعمة مخلصون، وذلك ليس منكم إنما هو عطية الله.» وقد يشتم من هذا القول إنكار الإرادة الحرة في الإنسان، وهذا ما حمل المسيحيين من الذين تشربوا الفلسفة اليونانية وتعاليم أفلاطون على المعارضة. وقام راهب إنكليزي يدافع عن هذه الحرية فقال: إن آدم مسئول وحده عن خطيئته، ولا شأن لذريته بها. ولكن هذا القول يهدم عقيدة الخطيئة الأولى من أساسها، ولا يبقي لضرورة الخلاص معنى؛ فلم يكن بد من قيام أئمة الدين عليه، وفي طليعتهم القديس أوغسطينوس الذي حاول التوفيق بين النعمة والإرادة الحرة، فجعل الإنسان مسئولا عن أعماله؛ لأنه حر التصرف قادر على مقاومة النعمة، وعدم الانقياد إليها، إلا أنه لم يفلح بدليل أن أشياع «الجبرية»؛ أي الذين يدعون أن الإنسان مسير غير مخير، يعمل ما أراده له الله منذ الأزل، ما برحوا لزمن طويل من بعده يستشهدون بأقواله.
وجاء بعده توما الإكويني فلم يكن أكثر توفيقا في حل هذا المشكل، وظل النقاش محتدما أزمانا، ولكنه لم يتعد جدران المدارس حتى عهد الإصلاح، فقام لوثر وكلفن يقولان: إن الله يصنع في الإنسان كل شيء، خيرا كان أو شرا؛ فهو محكوم عليه مقدما بالنعيم أو الشقاء، فكان هذا القول أيضا حكما بالإعدام على حرية الإنسان واختياره. وعقد البابا كليمان الثامن مؤتمرا من الكرادلة والدكاترة للبحث في موضوع الإرادة الحرة، فبقي يعمل تسع سنوات وسط معامع الجدل دون جدوى.
وأخيرا جاء جانسنيوس مطران أيبر، فألف بعد الدرس طوال عشرين سنة كتابا منع من نشره في حياته، وفيه يقول: إن الإنسان أضاع حريته منذ طرد من الفردوس؛ فهو الآن مسير بالنعمة. فعادت النار إلى الاستعار وانفرجت مسافة الخلف بين الكاثوليك، وكان للكتاب ذيول ونتائج لا محل لذكرها هنا، حتى إن لويس الرابع عشر تدخل في الأمر، وكانت هي السبب الذي أوحى إلى باسكال «رسائله الإقليمية».
هذه لمحة تاريخية موجزة عن النعمة، ولا ريب أن السلف الصالح أراد بها فيما أراد التعليل عن التفاضل الذي يحصل في الأخلاق والأعمال، ولكنه حصرها في الناحية الدينية. وعندي أنه يمكن اليوم تفسير هذا التفاضل عن طريق العلم؛ لأنه أمر فسيولوجي مرتبط بتركيب الإنسان. وهذه هي العنصرية الروحية التي أريد التحدث عنها، ويحق لي أن أسميها نعمة دون أن أتهم بالتجديف؛ لأنه سواء أكانت النعمة هابطة من فوق أم مستقرة في الهيولى، فهي من فضل الباري تعالى. هذه النعمة تختلف حسب الأشخاص وحسب الأوقات؛ فيشعر المرء أحيانا كأنه قادر على نقل الجبال من مواضعها، وأحيانا يرى نفسه أضعف من دودة الأرض؛ ذلك لأنها تتبع حالة الجسم والغدد العاملة فيه، هذه الغدد وخصوصا الصماء التي اهتدى العلم إليها منذ عهد قريب، يقول الدكتور كارل في كتابه «الإنسان هذا المجهول»: إن القديسين العظام كانوا أقوياء الغدد، وإن الإنسان لا يصلي بقلبه فحسب، بل بسائر عضلاته أو أعضائه.
هذه الغدد هي ميراث الإنسان الذي يتسلمه منذ يتصور في الرحم، وعليها يقوم استعداده الفطري؛ فترى هذا قوي البنية وذاك ضعيفها، هذا شديد المراس يحتمل المشاق، ويقوى على مقاومة الأمراض، وذاك سريع التعب يدب الضعف فيه لأدنى سبب. الواحد يأكل ويحرق في أعماق أنسجته ما يأكل، والثاني بطيء التغذية الخلوية من تمثيل وتحليل، فلا يسلم من داء النقرس أو الحصاة أو السمن المفرط وما شاكل.
هذه الغدد هي التي تجعل من الإنسان ذئبا ضاريا أو حملا وديعا، وتحوله إلى شيطان رجيم أو ملك كريم؛ فالمعدة والكبد وغشاء الكليتين والغدة الدرقية وسواها تسبب بمفرزاتها، التي لا نزال نجهل الكثير من أسرارها، شتى حالات النفس من خمول وهمة، وضعف وقوة، وحزن وسرور، وغضب ورضى، والذي يتمتع منها بالجيد القوي المنظم فهو المعد للتفوق على سواه. ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما.
هذه هي عنصرية الروح، وكان الأولى أن أسميها عنصرية الفرد لو لم تكن النتيجة واحدة، وهي تلقي نورا جديدا على نظرية القديس أوغسطينوس، من أن الإنسان قادر على مقاومة النعمة؛ لأن الذي يدير هذه الغدد هو العصب العاطف
Nerf Sympatique ، والإرادة تسيطر على هذا العصب، وتستطيع بواسطته تحويل مجرى الدم والهضم والتغذية، وبالتالي تبديل الأخلاق، والتغلب على المزاج؛ فهي إذن لا تزال حرة، وهي إذن قادرة على المقاومة. روى ليون دوده أن طبيبا كان مصابا بالسل المعوي والإسهال، وكان مضطرا إلى العمل، فظل طوال ثلاث عشرة سنة يحارب داءه بقوة إرادته، فيمضي نهاره في زيارة المرضى وصعود السلالم متغلبا على إسهاله، حتى إذا أقبل المساء وانتهى من واجبات المهنة ألقى سلاحه وترك المقاومة وعادت علته إليه.
هذه العنصرية هي التي تخلق التفاضل في الأعمال والأدب وشرف النفس وبعد الهمم والصبر والتضحية والشجاعة، وتجعل من الناس أبطالا، وشهداء وأنصاف آلهة، وهي التي أنطقت شعراء العرب بالحكمة والفخر، فقال عامر بن الطفيل:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وقال غيره:
إنا وإن كرمت أوائلنا
لسنا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثلما فعلوا
وقال آخر:
مالي عقلي وهمتي حسبي
ما أنا مولى ولا أنا عربي
إن انتمى منتم إلى أحد
فإنني منتم إلى أدبي
يوليوس قيصر وشكسبير
أعظم ملك يكتب عنه أعظم شاعر، ولكن لا لتمجيده والتغني بانتصاراته؛ فهو يتبع التاريخ دون أن يتقيد بالتاريخ. يوليوس قيصر الذي فاق هنيبعل والإسكندر فكان أول من استولى على الرين والأوقيانوس، وفرض الجزية على جرمانيا وبريطانيا، وبسط سلطانه فوق آسيا وإفريقيا، وافتتح إسبانيا وبلاد الغال، وانتصر على «فرسنجتوريكس» في ألزيا
Alésia ، وعلى فرناس في
Zela ، وبطليموس في الإسكندرية، وبومباي في «فرسال»، ومشى من نصر إلى نصر حتى دفع كاتون إلى الانتحار، وأوقع العالم في العبودية، ينظم فيه شكسبير رواية تمثيلية لا ليظهر بطولته ويشيد بمزاياه، ويعدد أعماله وفتوحاته؛ فهي في نظره لا شيء أمام الغيرة الوطنية والعدل والنزاهة التي كان يتحلى بها قاتله بروتوس.
فالرواية تحمل اسم القيصر غير أن الدور الأول فيها لبروتوس، والأهمية ليست لذاك القائد العظيم الذي افتتح ثمانمائة بلد، ودوخ ثلاثين أمة، وعبأ للحرب ملايين من الجند، بل لهذا المواطن المحبوب من الشعب الذي قال عنه المؤرخ بلوتارك: إنه كان أكرم الناس خلقا، وأصفاهم شيمة، وأعفهم لسانا، وأقواهم جنانا.
إن الذي حمل شكسبير على قلب التاريخ في علاقة الأشياء والحوادث بعضها ببعض، إذا جاز لنا هذا التعبير، يرجع إلى سببين؛ الأول: أن شكسبير كان شاعرا إنسانيا؛ فهو لا يفصل بين وظيفة الشاعر وواجبات الإنسان، ولا يلتمس الفن لأجل الفن وحده، بل يرى في الشعر رسالة إصلاح وتهذيب بمناصرة الحق ومحاربة الباطل. وما المسرح في نظره سوى مرآة تعكس للمجتمع فضائله وعيوبه، والغاية منه لا تقف عند تسلية الجماهير، بل تتعداها إلى تنوير الأذهان وإرشاد النفوس، بعرض حياة أبطاله عرضا يقصد منه إلى الحكم لهم أو عليهم، واستخلاص العبرة النافعة والموعظة الكبرى.
ولهذا تجد الفلسفة في أقواله تنبع من كل جانب، وهي مستوحاة من حالة الاجتماع، والبيئة التي عاش فيها. ومن الصعب أن تمر برواية له لا تشير إلى بعض مواطن النقص والفساد، وتهور الأخلاق التي عاش فيها ذلك الجيل، ولا تكثر فيها مغامزه ليخلص منها إلى مغزى أدبي أو درس اجتماعي.
في رواية «هملت» مثلا يريك خطر التردد في الرأي عندما يرتفع صوت الواجب، وفي «الملك لير» يظهر التباين بين سلطة الملك الزائلة، وسلطة الأب الطبيعية والأخطاء التي تتعرض لها الثانية إذا تحكمت بها الأولى، وفي «عطيل» يكشف لك عن أعماق الهاوية التي تحفرها يد الغيرة العمياء، وفي «كما يروق لك» ينحي باللائمة على حقوق البكورية التي ما برحت طوال القرون الوسطى عاملة في إنكلترا على تضحية الإخوة في سبيل مصلحة البكر، وفي «كل شيء حسن إذا حسنت نهايته» يطعن في امتياز الطبقات، ويجبر الأرستقراطية على الاتحاد مع الشعب.
وفي «تاجر البندقية» يحارب التعصب الديني بتزويجه مسيحيا من ابنة يهودي، وفي «يوليوس قيصر» يناهض الاستبداد. وهنا نصل إلى السبب الثاني فيما رمى إليه شكسبير بإنزال هذا العاهل العظيم عن عرش التاريخ؛ فإن الشاعر لم يكن في هذه الرواية إلا معبرا عن الشعور العام السائد في عصره، وهذا الشعور يختلف كل الاختلاف عن شعور العصور الوسطى؛ لأن الأفكار كانت قد تطورت تطورا كبيرا في الخمسمائة سنة الأخيرة، فتبدلت آراء الناس في السلطات والعقائد، ودبت في نفوسهم روح جديدة فيها شيء من التمرد والخروج على التقاليد القديمة. وهذا ما نتبينه في أجلى مظاهره إذا قابلنا بين ما كتبه شكسبير وما كتبه دانتي لثلاثمائة سنة قبل شكسبير في كتابه «الكوميديا الإلهية».
يهبط دانتي الجحيم بصحبة الشاعر فرجيل، وبعد أن يجتازا معا الحلقات الثمان الأولى من جهنم يصلان إلى الهوة التي يقيم فيها قايين قاتل هابيل، ثم نراهما يتقدمان على بحيرة من الجليد يرتعش بين أمواجها المتجمدة القتلة والسفاحون الذين عرفهم في حياته، فهنا الأخوان ألبرتي وقد جمد البرد دموعهما فأصبحت كالكفن لهما، وإلى جانبهما ينتفض فوكاسيا قاتل عمه، وموردك الذي قتله أبوه؛ لأنه حاول هو أن يفتك به، ومسكروني الذي ذبح ابن أخيه ليسلبه ماله، وهناك شيخ ممدود على ظهره فوق الأمواج المتبلورة هو الراهب منفرودي الذي قتل كل أنسبائه في وليمة أعدها لمصالحتهم.
وبعد أن يمر الشاعران بهذه الأشباح القاتمة يتابعان السير، وفرائصهما ترتعد من البرد والخوف، إلى أن يقع بصرهما على لوسيفروس، رأس الأبالسة، وقد بسط ظله الجبار على ذلك الأوقيانوس الجليدي الذي قذف به إليه الغضب الإلهي. لقد تحول جمال هذا الملاك الساقط إلى قبح فظيع، وصار إمبراطور مملكة الآلام كما يسميه دانتي أشبه بالخفاش، وله ثلاثة وجوه تنبسط عليها ستة أجنحة، وفي كل وجه فم يدق على الدوام، ويطحن تحت أسنانه واحدا من أشقى المحكوم عليهم باللعنة الأبدية؛ ففي الفم الأول بوداس الإسخريوطي، وفي الثاني بروتوس، وفي الثالث كاسيوس رفيق بروتوس. وبعد هذا المشهد يأخذ الليل بالهبوط فيصعد الشاعران وقد رأيا ما أرادا رؤيته.
نرى أن الشاعر الإيطالي في ذلك المنفى الجهنمي الذي اخترعه خياله قد اختار لقاتل القيصر عقابا لا يختلف في الشدة عن عقاب الذي أسلم المسيح إلى أعدائه؛ فقاتل الملك عنده كقاتل المسيح، ولا فرق في الذنب بين من خان السيد المسيح ومن خان ملكا أو إمبراطورا. ولا عجب؛ فإن دانتي عبر عن فكرة زمانه وجيله، فإن القرون الوسطى في إيمانها الكاثوليكي والإمبراطوري لم تكن تميز بين من يعتدي على مؤسس المملكة، ومن يعتدي على مؤسس الكنيسة، والدم المراق على قدمي تمثال بومباي لا يقل قيمة عن الدم المسفوك على الجلجلة؛ لأن سلطة القيصر على الأرض تمثل عندهم سلطة المسيح في السماء. وكيف لا يخضع العالم المسيحي لذلك العهد لعظمة القيصر وقد اعترف بها المسيح نفسه فقال: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟ ألم يكن هذا القول تأييدا لسلطان القيصر ، ومصداقا لاغتصاب الفاتح، واستحسانا لعبوره نهر الروبيكون الذي حرمته الآلهة، وغفرانا لانتهاكه حرمة الجمهورية، وحرما قاطعا على أعدائه من أنصارها؟
هكذا كانوا يفسرون الإنجيل في القرون الوسطى، فكانت النتيجة تقديس اسم القيصر بقدر ما كان اسم أعدائه ممقوتا. وما برحوا طوال ألف عام وأكثر يجافون ذكر بروتوس، كما يجافون ذكر بوداس.
ثم جاء عصر الانبعاث فقامت الثورة على سلطة الملك كما قامت على سلطة الكنيسة، وأفضى الجدل في الدين إلى الخصام في السياسة، وقدر لشاعر بروتستانتي أن يعلن الثورة في الميدان الاجتماعي، كما أعلنها قس بروتستانتي في الميدان الديني؛ هذا باستناده إلى النصوص المقدسة، وذاك إلى التاريخ؛ فقد قارع لوثر البابا والتوراة على لسانه، وحكم شكسبير على القيصر وبلوتارك في طيلسانه.
ولم يكف المفكر الحر أن يحكم على القيصر، بل أراد الإنصاف لبروتوس، هذا القاتل الذي بهظته لعنة القرون الوسطى، لقد نهض به شكسبير، وانتشله من ذلك الحكم الجائر المشين، واستحضر بسحر قلمه تلك الصورة المنسية التي زجها دانتي في أعماق جحيمه، ورفعها إلى مصاف الأبطال بين هتاف الأجيال الجديدة. فإذا أنت قرأت رواية يوليوس قيصر لشكسبير تشعر بالإعجاب الشديد، لا لانتصارات القوة الوحشية، ولا للبلدان المخربة بالحديد والنار، ولا للأنهر المغطاة بجثث القتلى، بل لذلك الفتح المبين الذي تنتصر به الروح السامية على نفسها فتضحي العاطفة في سبيل المبدأ.
يزعم بلوتارك في كتابه «حياة بروتوس» أن بروتوس ابن القيصر، وهذا سبب عطف القيصر عليه بوجه خاص، غير أن شكسبير لا يذكر ذلك تصريحا أو تلميحا لئلا تضعف حجته؛ فإن السامع إذا عرف ذلك لا يسعه إلا أن يرمي بروتوس بالعقوق، فتضيع الغاية الأدبية من عمل بروتوس، ويساور إعجاب الناس شيء من الأسف والندم.
لقد كتب فولتير في الموضوع وتبسط فيه، فوضع بروتوس بين حبه لأبيه وحبه للحرية، مما يترك أثرا سيئا في نفوس السامعين؛ فلا يدري الناس أكان بروتوس على صواب أم خطأ عندما أنكر صوت الطبيعة ليصغي إلى صوت الاجتماع. ولا تجد شيئا من هذا في شكسبير؛ فهو يحول كل إعجابك نحو بروتوس. وهذا ما تشعر به حالا عند رفع الستار.
ويقول بلوتارك في كتابه «حياة بروتوس»: إن كاسيوس ألهب بروتوس ودفعه إلى التآمر والقتل. وفي كتابه «حياة القيصر» يذكر أن أنطونيوس عرض التاج على القائد في عيد آذار، فجمع شكسبير بين هذين المشهدين على وجه تبدو فيه الأهمية لتلك المأساة، وذلك الحديث السري بين وطنيين يبث كل منهما الآخر أخفى ما في نفسه، تاركا من وراء المسرح تلك المهزلة الفخمة التي يتظاهر فيها الدكتاتور وهو مستو على عرشه الذهبي برفض التاج، فيسمع الحضور عن بعد أنغام الموسيقى، وهتاف الجماهير، بينما هو يشهد عن كثب حركة المؤامرة، ويسمع همس المتآمرين.
وفي هذا الحديث ينتزع كاسيوس من بروتوس هذا الاعتراف: أحب القيصر، ولكن لا أريد أن يختاره الشعب ملكا له. ولا يفتأ كاسيوس يعدد عيوب الطاغية، ويتبسط في ذكر استبداده، ومحاربته حرية الفكر، إلى أن يقتنع بروتوس فيضحي حبه للقيصر في سبيل الخير العام.
وهكذا يتمشى القارئ أو السامع مع المؤلف بالعطف على بروتوس دون القيصر، منذ حديث المشهد الأول إلى المؤامرة، إلى الاغتيال، إلى ختام الرواية.
Bilinmeyen sayfa