وسوق البلاغة نافقة (1)، ومنهم من انتقل عند عجزهم من المعارضة باللسان إلى المقارعة بالسنان ومن المكالمة باللهازم(2) إلى الملاكمة باللهاذم(3) .ليت شعري ما كان يخطر ببال أنه يوجد من يذم الفصاحة والبلاغة ، وأحكام اللغة العربية الشريفة وإتقانها ، وقد مضى ذلك العصر الذي وجد فيه هؤلاء ، عصر استخراج الفنون من أصدافها ، وتأسيس الضوابط لصيانتها وكفى مؤنة الرد عليهم إمام البلاغة وفارس الفصاحة(4) في دلائل الإعجاز .
أجمعت كلمة البلغاء على أن القران معجز ، وإعجازه بوجوه عديدة بالنظم ، واشتماله على المغيبات وخفايا الأمور التي لم تدرك إلا بعد ظهورها ، ووجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه من تعديل النظم وسلامته ، وحسنه وبهجته ، وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان ، ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهد ، وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ، ودلالة التأليف مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة ، وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ما يذهل ويبهج ، ويؤنس ويطمع ، ويضحك ويبكي ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجي ويطرب ، ويهز الأعطاف ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحية والعزة ، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجودا ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا ، وله مسالك في النفوس لطيفة ومداخل إلى القلوب دقيقة ، وبحسب ما يترتب في نظمه ويتنزل في موقعه ويجري على سمت مطلعه ومقطعه يكون عجيب تأثيراته وبديع مقتضياته .
(1) رائجة (2) عظمتان ناتئان خلف الأذنين والمراد المكالمة بالفم . (3) الرماح القواطع .
(4) الشيخ عبد القاهر الجرجاني أول من لخص هذا الفن وأظهره برأسه وألف فيه كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ، فكانا ركن علم البلاغة العظيم .
Sayfa 78