وكان له عم متعلم، فكان يتعهده بالإرشاد إلى كتب المطالعة والحث على التوسع فيها، فكاد أن يأتي - وهو دون العاشرة - على الكتب التي يهواها الصغار، كألف ليلة وليلة، وروبنسون كروزو، ورحلة الحاج، وعشرات الكتب التي لا يقرؤها الأطفال عادة في تلك السن، كتراجم الفنانين وروايات ديكنز وموليير وشكسبير، ولم تفارقه عادة التوسع في المطالعة بعد ذلك إلى شيخوخته المباركة، وقد أدرك الرابعة والتسعين.
كان له معلم وكانت له مربية. أما المعلم فطرده هو ذات يوم وعدا وراءه يهم بضربه، وأما المربية فقد كان يألفها؛ لأنها كانت تأخذه إلى الحانات والأزقة حيث تلقى أصحابها وصويحباتها، وتشبع شوقه إلى المناظر والأعاجيب في هذه البيئة المريبة، والمفروض في البيت أنها تأخذه إلى الحدائق والمنازه والخلوات، وقد أوشك أن يحرم هذه المنازه لولا ولع أبيه بالسباحة واصطحابه إياه إلى البحر من حين إلى حين.
ثم عز على أهله أن يحتفظوا له بمربية أو معلم، فذهب إلى المدرسة، وأعجلته الحاجة فعمل في قسم الحسابات ببعض المتاجر الكبيرة، ولم ينس في وقت من الأوقات أن يرود المكتبات العامة للقراءة والاطلاع واستعارة المصنفات التي لا يقوى على شرائها، واستطاع أن يتعلم قليلا من اللاتينية والإغريقية، وأن يتكلم الفرنسية ويفهمها أكثر مما يتكلمها.
عمل لكسب قوته وهو في نحو الخامسة عشرة، وأرضى رؤساءه بذكائه وأمانته وحسن تصريفه لعمله. فلما تركهم - وهو في نحو العشرين ليلحق بأمه في العاصمة الإنجليزية - راجعوه كثيرا، ثم قبلوا استعفاءه آسفين.
ولم تكن معيشة أمه ميسرة حين لحق بها في العاصمة الإنجليزية، وكانت على هجرها لأبيه تعتمد على معونة ضئيلة منه قبل وفاته لمساعدة بنتيه، وزادهم نزول برنارد بينهم عبئا على أعبائهم، فقد تعسرت عليه سبل الأعمال، ولم يسترح طويلا إلى وظائف الشركات التي كان يختارها له أستاذ أمه الموسيقي «لي»، فقضى زمنا لا طعام له غير البطاطس المسلوق، ولا كساء غير بذلة واحدة يلبسها في جميع الفصول.
وحاول أن يكسب قوته بالكتابة إلى الصحف في نقد الموسيقى والتمثيل، فأبطأت عليه ثمراته، وجرب كتابة القصة، فألف قصصا لم يفد منها شيئا في رزقه، وأفاد منها بعض الشهرة بين طائفة من القراء والأدباء، وقد فتحت له مقالاته في نقد التمثيل أبواب المسرح، فتحول إلى معالجة المسرحيات، وأصاب من خطواته الأولى حظا غير يسير من النجاح، فثابر على الكتابة في هذا الباب وأبدع في موضوعاته وأساليبه، فأصبح طرازا مستقلا في أدب المسرح نحو جيلين كاملين، ولم يدع مسألة من مسائل البحث التي تساور العقول في عصره إلا أحاط بها في رواية من رواياته، فتكلم عن: مشكلات العقيدة، ومشكلات الفكر، ومشكلات الحكم، ومشكلات السياسة الوطنية العالمية، وأبدع الرواية التي تسمى بالملحمة التمثيلية لطولها وتعدد مواقفها، وأعانه على ترويج هذه البدعة ذيوع اسمه، وإقبال الناس على مصنفاته وآثاره، وتقدم العرض السينمائي الذي يستطاع فيه ما تعجز عنه المسارح من الحيل والتوفيقات، وأهم رواياته من هذا القبيل رواية «العودة إلى متوشالح»، الذي جاء في التوراة أنه عاش تسعمائة وتسعا وستين سنة، ورواية «الإنسان والسوبرمان»، ورواية «جان دارك»، ورواية «أندروكليز والأسد»، ومدارها جميعا على شرح فلسفته في أصل الوجود وحقائق الدين ومصير الإنسان وأمله في مستقبل الحياة. وقد بلغ من ثقته بأسلوبه المسرحي أنه نقح رواية لشكسبير هي رواية «سمبلين»، ليبين الفارق بين أسلوبه وأسلوب شكسبير.
وجرى على عادة طريفة في نشر رواياته المسرحية، فمهد لكل رواية منها بمقدمة مسهبة تصلح أن تكون كتابا وافيا في موضوعها، وتغني فيه من لا يرتاد المسرح من القراء.
ولا يكتم برنارد شو ارتياحه إلى نجاح مسرحياته لما جناه من أرباحها، بل لا يكتم هواه للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع، ولكنه - مع هذا - ترك الكتابة للمسرح وهو يدر عليه الألوف من حقوق التمثيل والنشر والترجمة والعرض في دور الصور المتحركة؛ ليكتب مؤلفاته التي يعلم بها النساء، والجمهور عامة، ما لهم وما عليهم من الحقوق الاجتماعية، وما ينبغي لهم من السلوك آحادا وطوائف في المجتمع الحديث.
ومنحته لجنة نوبل جائزتها عن الأدب (سنة 1925)، فرفض الجائزة وكتب إلى أمين السر في اللجنة يقول:
إن المال كالعوامة التي ألقيت إلى السابح بعد وصوله إلى بر النجاة ...
Bilinmeyen sayfa