عصر برنارد شو‏

نشأته‏

مؤلفاته‏

شو والعلم‏

شو والفن‏

فلسفته‏

أحاديثه‏

وسائل السوبرمان‏

أقوال الناس فيه وأقواله في الناس‏

شو ومصر‏

صورة مجملة‏

عصر برنارد شو‏

نشأته‏

مؤلفاته‏

شو والعلم‏

شو والفن‏

فلسفته‏

أحاديثه‏

وسائل السوبرمان‏

أقوال الناس فيه وأقواله في الناس‏

شو ومصر‏

صورة مجملة‏

برنارد شو

برنارد شو

تأليف

عباس محمود العقاد

صورة تمثاله.

عصر برنارد شو

في هذه الرسالة تعريف وجيز بالكاتب الأيرلندي، الإنجليزي، العالمي، جورج برنارد شو.

والكاتب قد يسبق عصره في أشياء، وقد يتخلف عنه في أشياء، وقد يخالفه في أشياء، ولكنه لا ينفصل عنه كل الانفصال في جميع الأشياء. فلا بد بين الكاتب والعصر الذي ينشأ فيه من صلة نعرفها لتمام التعريف به والاستدلال على مصادر أدبه وقواعد تفكيره.

وقد نشأ برنارد شو في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهو عهد كثير المعالم كثير الأطوار في ميادين الحياة العامة، ولكنه يتسم في كل ميدان منها بسمة ظاهرة تحيط بما حولها أو تدل عليه، وفي هذه السمات الظاهرة ما يكفي لتصوير «البطانة الثقافية» التي ارتبطت بها نشأة شو، وارتبطت بها - من ثم - مصادر أدبه وقواعد تفكيره.

في ميدان العلم الطبيعي غلبت فكرة التطور بمذاهبها المتعددة، وأهمها مذهب لامارك ومذهب داروين.

وفي ميدان الأخلاق غلبت مباحث الدراسات النفسية، وتطبيقها على المسائل الاجتماعية كالجريمة وروح الاجتماع، وعلى المسائل الجنسية كطبيعة المرأة وتفسير الأخلاق عامة بغرائز الجنس الظاهرة والخفية.

وفي ميدان السياسة والاجتماع غلبت الدعوة إلى الحرية عامة وإلى الحرية الفردية على الخصوص. •••

نشأ برنارد شو والعالم الأوروبي كله يجادل ويساجل في مذاهب التطور والارتقاء، وأهمها كما تقدم مذهب لامارك الذي يقول بدفعة الحياة، ومذهب داروين الذي يقول بالانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.

والفرق بينهما أن الأول أقرب إلى الإيجاب والثاني أقرب إلى السلب، فمذهب لامارك يفسر طول عنق الزرافة بأنها جمعت قواها كلها في عنقها؛ فطال وتمكنت به من بلوغ الأوراق الطرية في ذؤابات الشجر، ولولا ذلك لحل بها الفناء.

ومذهب دارون يفسر طول عنقها بالتفاوت بين الزرافات في طول العنق، فما كان منها طويل العنق أدرك الورق العالي فعاش وبقيت ذريته، وما كان منها قصير العنق فاته الطعام فانقرض ولم تبق له ذرية.

وقد كان لفكرة التطور على اختلاف مذاهبه أثر قوي واضح في دعوات المفكرين والفلاسفة، وأخطأ بعضهم فهمه - كما أخطأ نيتشه - فظن أن القرد ترقى إلى الإنسان، وأن الإنسان سيترقى على هذا النحو إلى السوبرمان، ومعناه الإنسان الأعلى! وأن النسبة بين هذا السوبرمان والإنسان الحاضر ستزيد على النسبة بين الناس والقردة في تركيب الأجسام أو تركيب العقول.

وتطرقت فكرة التطور إلى أشهر المذاهب الفلسفية في فرنسا خلال السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهو مذهب برجسون الذي يتلخص في كلمتين، هما: التطور الخلاق، وخلاصته أن قوة الحياة تتطور في علاقتها بالأجسام المادية حتى يأتي زمن لا يستبعد فيه استقلال «الفكر الحي» عن المادة وأجسادها وأعضائها، فامتزجت نظرية التطور بالفلسفة المثالية الفكرية في مذهب برجسون على هذا المنوال.

ولم يبق في إنجلترا والولايات المتحدة عالم ولا أديب ولا فيلسوف لم تدخل نظرية التطور في تقديره، ولا يزال أثرها كبيرا ظاهرا في فلسفة مورجان، وفلسفة صمويل إسكندر، وفلسفة هوايتهد، وغيرهم من أصحاب مذاهب التطور والانبثاق، عدا ما كان لها من الشأن الشامل في تفسير جميع العلل الكونية على طريقة هربرت سبنسر على الخصوص.

أما الدراسات النفسية «السيكولوجية»، فقد أسرعت في اتخاذ طريقها إلى الأدب وإلى فن الرواية بصفة خاصة، فكاد كل بطل من أبطال الروايات أن يصبح نموذجا لدراسة نفسية، وذاع هذا الأسلوب الروائي من روسيا حيث كان يكتب دستيفسكي، إلى فرنسا حيث كان يكتب بورجيه، إلى النرويج حيث كان أبسن ينظم ملاحمه ومسرحياته.

ولم يبق نوع من الناس - آحادا وجماعات - إلا تناوله البحث من ناحية نفسية، فكتب العلماء والمفكرون والأدباء عن: نفسية المجرم، ونفسية الجماعة، ونفسية العبقري، ونفسية السادة والعبيد، وأعاد النقاد تحليل «الشخصيات الأدبية والفنية» على هذا النمط الحديث، وكانت الغريزة الجنسية أهم ما تناوله البحث، واقترن به تعليل الأخلاق والبواعث، بل تعليل الحركات الفنية والاجتماعية، وخرجت «المرأة» خاصة من هذه المشرحة بتكوين جديد يختلف فيه معنى الغواية، ومعنى الخطيئة، ومعنى الرذيلة عما كان عليه في «تكوينها» الذي عرفه أبناء العصور الوسطى، وأبناء العصور الغابرة على الإجمال.

ويمكن أن يقال إن النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كانا في مجال الدراسات النفسية عصر لمبروزو وأتباعه من جهة، وعصر فرويد وأتباعه من جهة أخرى، فأصبح للدوافع العقلية كالعبقرية، والدوافع الحيوية كالحب، تفسير غير تفسيرها في آراء الأقدمين. •••

وظهرت في هذه الفترة دعوات سياسية، أو دعوات اجتماعية، تنزع كلها إلى التحرير وتحطيم القيود، ولا سيما القيود التي تطلق «الفرد» من ربقة العرف، أو ربقة السادة المستأثرين بحقوق المجتمع ومزاياه.

ونحن في هذا العصر نفرق بين الدعوة إلى الشيوعية والدعوة إلى الحرية الفردية؛ لأنهما يتعارضان في تقدير حق الفرد بجانب حق الحكومة.

إلا أن الشيوعية نفسها كانت تحسب في أواسط القرن التاسع عشر من حركات الدعوة إلى الحرية الفردية وإنقاذ الآحاد من طغيان الجماعات؛ لأن خطوتها الأولى كانت تستلزم إنكار الامتيازات التي يستأثر بها أبناء بعض الطبقات، فهي تسوية بين آحاد وآحاد، واتجاه إلى المساواة العامة في الحقوق السياسية، يتلاحق فيه الفرد الوضيع والفرد الرفيع. •••

ومع اختلاف هذه الميادين - ميادين العلوم، وميادين الأخلاق، وميادين السياسة - كانت النزعات الغالبة عليها جميعا مما يتجه بالذهن الإنساني إلى وجهة واحدة، وهي إعادة النظر في القيم المسلمة على العموم.

ما قيمة الإنسان؟ ما قيمة العرف؟ ما قيمة السلطة؟ ما قيمة النظم القائمة؟ ما قيمة الحقوق المحترمة؟ ما قيمة البطل؟ ما قيمة المرأة؟ ما قيمة المصطلحات والمعارف والآراء؟

فاتسع في الجواب عن هذه الأسئلة مجال السخرية كما اتسع مجال الأمل، وعمت الرغبة في التجديد والابتداع حتى بلغت حد الإغراب والاصطناع.

وسيرى القراء أن برنارد شو لم يكن بعيدا من آثار هذه النزعات في أدبه وتفكيره، وقد تناول بهما مذاهب العلم والفن، كما تناول بهما مذاهب السياسة والأخلاق والاجتماع.

نشأته

تكاد كل علاقة بين شو ومنشئه تأتي مصداقا للحقيقة التي ألمعنا إليها في تصدير هذه الرسالة، وهي الصلة الوثيقة بين البيئة والأديب أو الفنان.

فنشأته في أيرلندا، ونشأته في أسرته، ونشأته من أبويه، ونشأته في جيله السياسي، ونشأته في جيله الثقافي؛ كل أولئك على صلة وثيقة بعنصر من عناصر حياته، أو عنصر من عناصر استعداده وعمله في حياته الفنية والثقافية.

قال عن تلك النشأة: «لا أثر في تكويني من العنصر الإسباني الشمالي الذي استورد كما تستورد السلع، وجرى العرف على اعتباره أصلا عريقا للأيرلنديين. إنني أيرلندي مثالي من عناصر الزحوف الدانية والنورمانية والكرمولية، والأيقوسية على الخصوص، وأنا بحكم التقاليد البيتية فخور بالمذهب البروتستانتي، شديد التشيع إليه، ولكن لا تعتمدن حكومة إنجليزية من أجل ذلك على ولائي، فإن الإنجليزية التي أشتمل عليها تكفي لأن تجعل مني جمهوريا لدودا، ومطالبا عنيدا بالحكومة الذاتية. وصحيح أن جدي الأعلى كان من الأورنجيين، ولكن صحيح كذلك أن أخته كانت رئيسة دير، وأن عمه - وأقولها فخورا - شنق مع الثائرين.»

ولو أراد شو لقال أيضا إن الأيرلندية التي اشتمل عليها كافية لأن تجعل منه مفكرا «عالميا» يثور على السيطرة الأجنبية، فإن الوطنية التي تثور على الاستعمار والاستغلال قريبة من العالمية في المبدأ والاتجاه.

والأيرلنديون - أو الأمة التي امتزجت من بعض السلالات فأصبحت تعرف بهذا العنوان - قوم معروفون بالدأب في طلب الرزق، ونزعة التمرد مع حب الفكاهة. ألجأهم الحكم الأجنبي إلى التمرد، وألجأهم التمرد والفقر إلى الرحلة في طلب الرزق، والكدح وراء المال، وأعانتهم الفكاهة على الضنك والسلطان المكروه، فليس أصلح من هذه البيئة لإخراج برنارد شو المتمرد الساخر الدءوب المؤمن برسالة المال في حياة الآحاد وحياة الجماعات.

وانتماء شو في أصله القديم إلى سلالة «إنجليزية» لا يخرجه من حكم النشأة الأيرلندية، حتى في الثورة على السيطرة الإنجليزية.

والمصريون خاصة خلقاء، أن يذكروا في هذا الصدد أن طلاب الاستقلال في مصر كان الكثيرون منهم ينتمون إلى سلالة الترك الذين كانوا يحكمون البلاد.

ويرجع شو بأصله إلى «ماكدوف» المعروف في رواية «ماكبث» من تأليف شكسبير.

ولكن لا خلاف في انتمائه من جانب أبيه وجانب أمه إلى فرسان العصور الوسطى، وقد تزوجت حفيدة كرومويل بواحد من أسرة شو، وكان أحدهم «السير روبرت شو» صاحب مصرف في دبلن عند أوائل القرن التاسع عشر، ثم تغيرت بهم الحال كما تغيرت بكثير من سلالة الفرسان الذين لم يحسنوا الاحتفاظ بالثروة القديمة، ولم يحسنوا جمع الثروة من مواردها في العصر الحديث.

فلما آل أمر الأسرة إلى أبيه - جورج كار شو - كان من فقراء أبناء النبلاء، وكان في صباه يعمل في مصنع للحديد، ثم وصل بنفوذ آله إلى وظيفة حكومية، ثم باع معاش الوظيفة بعد إلغائها، واشترك مع صاحب له في إدارة متجر لم يلبث أن أفلس، ولم يترك له غير مورد صغير يعول عليه في معاشه ومعاش بيته.

وكان يعاقر الخمر، ويتشاغل عن الجد باللهو، ويهرب من الهموم والأزمات، ويتقي مواطن الحسم ما استطاع.

فلما علم بإفلاسه أوى إلى حجرة معزولة، وظل يضحك ويستغرق في الضحك والقهقهة حتى أفاق من تلك الصدمة القاسية، وخرج من الحجرة كأنه لم يسمع بشيء.

وكان عجبا في رعايته للتقاليد واستخفافه بالتقاليد، فكان يجمع أسرته للصلاة ويقرأ لهم في التوراة، ثم لا يلبث أن يلقي بالكتاب من يده ويقول كأنما يخاطب نفسه: «كلام فارغ ... كلام فارغ» ... ويقطع الصلاة والقراءة ليعود إليهما بعد يوم أو يومين.

وكان يعزو سوء حظه إلى سبب «خرافي» غريب، ولكنه يدل على ضمير يحس الندم والرحمة؛ فقد كان يلهو بالصيد في صباه، فأطلق كلبا من كلابه على قطة عابرة فمزقها، فلم يزل نادما على فعلته إلى آخر أيامه، ولم يزل يعزو ما أصابه من العثرات والخسائر إلى ذلك الحادث الكريه.

كان جورج كار واحدا من اثني عشر أخا وأختا، لم يتمم تعليمه منهم غير أخ واحد، هو العم الذي تعهد برنارد الصغير بالمدرسة والتعليم في صباه.

وأب كهذا لا يظن به أنه يورث ابنه شيئا يظهر أثره في حياته الثقافية، وبخاصة إذا كان هذا الابن كاتبا من أكبر الكتاب في عصره.

لكنه في الواقع «مورث» ظاهر الميراث في ثقافة برنارد شو، وإن لم يورثه شيئا في رزقه.

فقد أورثه الاعتزاز بالوجاهة، وهو صفة يتشبث بها النبيل الخائب أشد من تشبث الناجحين الأعزاء في طبقة النبلاء.

وأورثه الاستخفاف بالتبعات والتقاليد، وربما أورثه أيضا صفة من الصفات الفنية التي تلاحظ في روايات برنارد شو، وهي اجتناب الأزمات ومواقف الحرج القصوى، فإن روايات شو جميعا تنتهي دون هذه المواقف ولا تتمادى إلى الذروة القصوى من الشعور.

بل أورثه خصلة لا يخطر على البال، للوهلة الأولى، أنها تستفاد من هذا الأب السكير، وهي: تحريمه المسكرات على نفسه؛ فإنه قد نشأ وهو يعافها ويلمس زرايتها وهوانها، ومثله في ذلك أناس كثيرون، منهم في عالم الأدب والدعوة الاجتماعية «أبتون سنكلير» الكاتب الأمريكي المشهور.

ولعله قد أورثه قليلا من ميله إلى الموسيقى؛ لأن أسرة شو عرفت بحب المرح والغناء. •••

وقد كانت والدته - ليوسندا أليصابات، أو بيسي كما كانوا يدللونها - تنتمي كأبيه إلى أسرة من أسر النبلاء المفتقرين. ماتت أمها وهي صغيرة فكفلتها قريبة لها حدباء على شيء من الثراء، أنشأتها نشأة بنات النبلاء، ودعت لتعليمها البيان والموسيقى الأستاذ لوجير المشهور، وأخذتها بالصرامة في تربيتها كما هو معهود في النساء الشائهات ومن تصطنع منهن سمت النبالة على الخصوص، وكان أبو الفتاة حيا ولكنها لا تراه إلا في الحين بعد الحين، ثم انقطعت صلتها به بعد أن فكر في البناء بزوجة جديدة، واتهم فتاته بالإيقاع بينه وبين أقاربه وتحريضهم على حبسه؛ لأنه مدين.

وضاقت الفتاة بمعيشة الصرامة والتزمت، فنزعت إلى التمرد، واستجابت لدعوة «جورج كار شو» حين اقترح عليها الزواج، وهو في نحو الأربعين وهي في نحو العشرين.

فخسرت الميراث الموعود، وشعرت بخيبة الرجاء وهي تقضي شهر العسل مع عريسها في لڤربول، فقد عرفت من كثرة القناني الفارغة في المطبخ كثرة ما يشربه هذا العريس من المسكرات، فهامت على رأسها من الدار إلى الميناء تنوي أن تعمل في السفن، ولا تعود أبدا إلى ذلك الزوج السكير، ولكنها شهدت هناك عربدة النواتية في سكرهم وهجرهم، فحمدت نصيبها من سكيرها المهذب الأنيس، وبقيت معه على مضض، وهي لا تعرف لها مهربا بعد انقطاع الصلة بينها وبين أبيها وأكثر أقربائها.

ورزقت منه بنتين وولدا هو برنارد، وفي ذلك يقول برنارد على طريقته المعهودة من السخرية والادعاء: إن ميلاد عبقري يحتاج إلى هذه التجربة التي سبقته بولادة بنتين! ولم يطل العمر بأحد من هذه الذرية غير برنارد.

وثابرت الفتاة على دراستها للموسيقى ودراستها للغناء، وكان لها صوت رخيم وذوق مطبوع. وانتهى شغفها بالموسيقى وضجرها من زوجها إلى علاقة قوية بينها وبين أستاذها «جورج لي» ... فهجرت منزل زوجها، وعاشت مع أستاذها، ثم بدا للأستاذ أن يرحل إلى العاصمة الإنجليزية فلحقت به هناك، وتركت برنارد في مسكنها وعنده «البيان» الموسيقي الذي يحرص عليه.

حدث ذلك بعيد سنة 1870، وكانت أوروبا كلها يومئذ - والعاصمة الإنجليزية على الخصوص - تموج بالمذاهب والدعوات في الفن والأدب والعلم والفلسفة والاجتماع، ومعظمها يجنح إلى التمرد وإنكار التقاليد.

كان فيها الماديون الملحدون، وكان فيها الروحيون الذين يتدينون بالتصوف ويباشرون تحضير الأرواح، ويقتدون بالبراهمة في اجتناب اللحوم والاقتصار على النبات وإحراق جثث الموتى.

وكان على رأس المدرسة الروحية آنا بيزانت المعروفة بدعوتها الصوفية، وإعجابها بالعقائد الهندية.

لكن البدعة النباتية قد جاوزت المتصوفين إلى الشعراء والأدباء، فكان بيرون وشلي يعلنان هذا المذهب، ولا يأكلان اللحوم أمام الناس، وإن شك الكثيرون في التزامهما هذا المذهب وراء الناس!

وكانت الدعوة الاشتراكية في إبانها، ومعها الدعوة إلى استخدام الفن في عرض الآراء الاجتماعية.

فكانت لندن جوا ثقافيا صالحا يتنفس فيه عقل الأديب الناشئ، الذي تهيأت له رسالة في الأدب العالمي من قبيل رسالة برنارد شو.

وقد كانت أمه تعيش في صميم هذه البيئة الفنية الثقافية؛ إذ كانت تحترف الموسيقى، وكانت بنتها الكبرى تحترف الغناء، ثم اشتغلت بالحركة الصوفية الروحية بعد وفاة بنتها الصغرى (1876)، عسى أن تتصل بروحها على نغمات الألحان كما كان يفعل بعض المحضرين للأرواح.

ويعتقد النقاد - كما يعتقد شو نفسه - أنه مدين لوالدته بتوجيه فطرته وتوجيه بيئته.

فمنها ورث ذوقه الموسيقي الذي يكاد يضارع في العمق والأصالة عبقريته الأدبية، ومنها ورث الصلابة التي لا تبالي بمخالفة العرف والتمرد على سلطان التقاليد، ومنها ورث البنية السليمة؛ لأنها على الرغم من طول مراسها لمضانك الفاقة قد نيفت على الثمانين، ومن البيئة التي عاشت فيها تعلم الاهتمام بالدعوة الصوفية النباتية، فأصبح من النباتيين. •••

وصل برنارد شو إلى لندن وهو يناهز العشرين، وكان مولده في دبلن (في السادس والعشرين من شهر يوليو سنة 1856).

وبين هذين الأبوين اللذين لا مشاركة بينهما في غير الثورة على التقاليد والاستخفاف بالتقاليد، درج برنارد الصغير.

درج وهو مفتح الذهن والعينين، وتعلم القراءة وهو في نحو الثالثة، ومن أقواله المأثورة إنه ولد قارئا ... وإنه لا يذكر زمنا كان فيه من الأميين!

وكان له خال طبيب بحري، فكان يستمع إلى أقاصيصه عن بلاد العالم وأممه وراء البحار.

وكان له عم متعلم، فكان يتعهده بالإرشاد إلى كتب المطالعة والحث على التوسع فيها، فكاد أن يأتي - وهو دون العاشرة - على الكتب التي يهواها الصغار، كألف ليلة وليلة، وروبنسون كروزو، ورحلة الحاج، وعشرات الكتب التي لا يقرؤها الأطفال عادة في تلك السن، كتراجم الفنانين وروايات ديكنز وموليير وشكسبير، ولم تفارقه عادة التوسع في المطالعة بعد ذلك إلى شيخوخته المباركة، وقد أدرك الرابعة والتسعين.

كان له معلم وكانت له مربية. أما المعلم فطرده هو ذات يوم وعدا وراءه يهم بضربه، وأما المربية فقد كان يألفها؛ لأنها كانت تأخذه إلى الحانات والأزقة حيث تلقى أصحابها وصويحباتها، وتشبع شوقه إلى المناظر والأعاجيب في هذه البيئة المريبة، والمفروض في البيت أنها تأخذه إلى الحدائق والمنازه والخلوات، وقد أوشك أن يحرم هذه المنازه لولا ولع أبيه بالسباحة واصطحابه إياه إلى البحر من حين إلى حين.

ثم عز على أهله أن يحتفظوا له بمربية أو معلم، فذهب إلى المدرسة، وأعجلته الحاجة فعمل في قسم الحسابات ببعض المتاجر الكبيرة، ولم ينس في وقت من الأوقات أن يرود المكتبات العامة للقراءة والاطلاع واستعارة المصنفات التي لا يقوى على شرائها، واستطاع أن يتعلم قليلا من اللاتينية والإغريقية، وأن يتكلم الفرنسية ويفهمها أكثر مما يتكلمها.

عمل لكسب قوته وهو في نحو الخامسة عشرة، وأرضى رؤساءه بذكائه وأمانته وحسن تصريفه لعمله. فلما تركهم - وهو في نحو العشرين ليلحق بأمه في العاصمة الإنجليزية - راجعوه كثيرا، ثم قبلوا استعفاءه آسفين.

ولم تكن معيشة أمه ميسرة حين لحق بها في العاصمة الإنجليزية، وكانت على هجرها لأبيه تعتمد على معونة ضئيلة منه قبل وفاته لمساعدة بنتيه، وزادهم نزول برنارد بينهم عبئا على أعبائهم، فقد تعسرت عليه سبل الأعمال، ولم يسترح طويلا إلى وظائف الشركات التي كان يختارها له أستاذ أمه الموسيقي «لي»، فقضى زمنا لا طعام له غير البطاطس المسلوق، ولا كساء غير بذلة واحدة يلبسها في جميع الفصول.

وحاول أن يكسب قوته بالكتابة إلى الصحف في نقد الموسيقى والتمثيل، فأبطأت عليه ثمراته، وجرب كتابة القصة، فألف قصصا لم يفد منها شيئا في رزقه، وأفاد منها بعض الشهرة بين طائفة من القراء والأدباء، وقد فتحت له مقالاته في نقد التمثيل أبواب المسرح، فتحول إلى معالجة المسرحيات، وأصاب من خطواته الأولى حظا غير يسير من النجاح، فثابر على الكتابة في هذا الباب وأبدع في موضوعاته وأساليبه، فأصبح طرازا مستقلا في أدب المسرح نحو جيلين كاملين، ولم يدع مسألة من مسائل البحث التي تساور العقول في عصره إلا أحاط بها في رواية من رواياته، فتكلم عن: مشكلات العقيدة، ومشكلات الفكر، ومشكلات الحكم، ومشكلات السياسة الوطنية العالمية، وأبدع الرواية التي تسمى بالملحمة التمثيلية لطولها وتعدد مواقفها، وأعانه على ترويج هذه البدعة ذيوع اسمه، وإقبال الناس على مصنفاته وآثاره، وتقدم العرض السينمائي الذي يستطاع فيه ما تعجز عنه المسارح من الحيل والتوفيقات، وأهم رواياته من هذا القبيل رواية «العودة إلى متوشالح»، الذي جاء في التوراة أنه عاش تسعمائة وتسعا وستين سنة، ورواية «الإنسان والسوبرمان»، ورواية «جان دارك»، ورواية «أندروكليز والأسد»، ومدارها جميعا على شرح فلسفته في أصل الوجود وحقائق الدين ومصير الإنسان وأمله في مستقبل الحياة. وقد بلغ من ثقته بأسلوبه المسرحي أنه نقح رواية لشكسبير هي رواية «سمبلين»، ليبين الفارق بين أسلوبه وأسلوب شكسبير.

وجرى على عادة طريفة في نشر رواياته المسرحية، فمهد لكل رواية منها بمقدمة مسهبة تصلح أن تكون كتابا وافيا في موضوعها، وتغني فيه من لا يرتاد المسرح من القراء.

ولا يكتم برنارد شو ارتياحه إلى نجاح مسرحياته لما جناه من أرباحها، بل لا يكتم هواه للمال وحبه للاستزادة منه ما استطاع، ولكنه - مع هذا - ترك الكتابة للمسرح وهو يدر عليه الألوف من حقوق التمثيل والنشر والترجمة والعرض في دور الصور المتحركة؛ ليكتب مؤلفاته التي يعلم بها النساء، والجمهور عامة، ما لهم وما عليهم من الحقوق الاجتماعية، وما ينبغي لهم من السلوك آحادا وطوائف في المجتمع الحديث.

ومنحته لجنة نوبل جائزتها عن الأدب (سنة 1925)، فرفض الجائزة وكتب إلى أمين السر في اللجنة يقول:

إن المال كالعوامة التي ألقيت إلى السابح بعد وصوله إلى بر النجاة ...

وأوصى بإنفاق المال في توثيق الصلات الأدبية والثقافية بين السويد والجزر البريطانية.

على أن طريقه في الكتابة المسرحية لم يكن بالطريق المفروش بالورود أو الذي خلت وروده من الأشواك، فقد أعنته أصحاب المسارح بطلب التنقيح والتبديل طويلا كما أعنتهم بالرفض والتقريع، وقد أعنته الرقباء وأعنتهم كذاك، فحظروا بعض الروايات، وقال الرقيب عن إحداها - وهي «صناعة مسز وارين»: إن المؤلف لا يشعر بحرج الضمير.

ولما سمع أهل نيويورك أنها ممنوعة في البلاد الإنجليزية تدفق طلاب «المحظورات» وطالباتها على المسرح، واشتجروا على تذاكر الدخول، وأوشكت أن تكون فتنة لا تؤمن «على الأمن والنظام» ... فوثب الشرطة إلى المسرح وقبضوا على فرقة التمثيل بقضها وقضيضها، وذهبوا بها إلى ساحة القضاء، فاستمهلهم القاضي ريثما يقرأ الرواية، ثم حكم بوقف التمثيل، وظل تمثيلها موقوفا إلى أن صدر الحكم من قضاء الاستئناف بإباحته، وكان شو يقول كلما سأله الرقباء الذين يمنعون تمثيل رواياته: إن الرواية تهزأ بالأخلاق، إن كنتم تقصدون بالأخلاق هذا العرف الشائع بين الناس، وإنه ما من رواية تستحق أن تكتب إن لم يكن فيها تصحيح ونقد للعرف المألوف .

في خلال ذلك كله كان شو يتردد على جماعات الاشتراكيين ويؤيدهم بلسانه وقلمه، وهو خطيب مقبول المحضر، أخاذ الصوت، حسن الإيقاع.

وكان يجذبه إلى الاشتراكية أكثر من جاذب واحد في أوائل جهاده على الخصوص، كان يجذبه إليها فقره وتمرده على النظم القائمة ونشأته الأيرلندية التي تعلم منها الثورة على الاستعمار والاستغلال، فانضوى إلى جماعة الفابيين وعمل معهم وخطب في محافلهم وندواتهم، ولكن دعوته الاشتراكية كانت أبعد شيء عن ضيق العصبية ولجاجة البغض والحرد والشنآن، وعلمته سعة الأفق وسعة الاطلاع ألا يتشيع إلى مذهب محدود بين مذاهب الفكر والإصلاح، فلوحظ على رواياته أن نصيب الدعوة الاشتراكية فيها أقل نصيب إلى جانب مسائل الأخلاق والعقائد، ومسائل الحياة الإنسانية الكبرى على التعميم.

ولا حصر لما قرأه شو من آداب عصره وآداب سائر العصور، إلا أن المؤثرين فيه من مفكري العصر الحديث محصورون معروفون، وهم على الأغلب: لامارك، وبرجسون، ونيتشه، وهنري جورج، وأبسن، وصمويل بتلر الفيلسوف الموسيقي المصور الذي أدركه شو وهو في أوج الشهرة والنفوذ.

فمن لامارك وبرجسون أخذ نظريته في التطور الخلاق.

ومن نيتشه أخذ نظريته في السوبرمان ومستقبل الإنسان.

ومن هنري جورج أخذ آراءه الاشتراكية.

ومن أبسن أخذ طريقته المسرحية ورأيه في البيت وحقوق المرأة العصرية.

ومن صمويل بتلر أخذ مقاييسه في نقده للفن، ونقده لمذهب النشوء والارتقاء، وأسلوبه اللاذع في كلماته الموجزة، وقد تدل كلمة أو كلمتان من مفكرات بتلر على أثره الواضح في كلمات شو، فمن ذاك أنه يقول: «خير للإنسان أن يخطئ مع الروح القدس من أن يخطئ مع المال، فقد يبالي الروح القدس بآحاد الناس أو لا يبالي بهم، ولكنه يحسب حساب المال ولا جدال؛ فمن كان له مال أغناه وكفاه.»

ومن ذاك قوله: «إن أبانا الذي في السماوات يعطينا خبزنا، ولكنه لا يجري على طريقة المخابز في أوقات التوزيع.»

وكلمات شو في مفكرات الثائر أو في حوار مسرحياته تطبيقات مختلفة لهذا الأسلوب، وإن كان توقير التلميذ للعقيدة الإلهية أظهر وأكرم من توقير الأستاذ. •••

هذه عجالة موجزة غاية الإيجاز، قد تغني - في مثل هذه الرسالة الصغيرة - في الإلمام بالخطوط البارزة من هذه السيرة الحافلة، ولكنها لا تغني عن سؤال يتردد لا محالة على لسان من يسمع ببرنارد شو أو يقرأ عنه، وهو: كيف يعيش هذا الرجل في حياته الخاصة؟ كيف تكون المعيشة البيتية للرجل الذي يجهر بازدراء التقاليد، ويتنقل بين عشرات من النساء في جو الفن أو جو الثورة على النظم الاجتماعية، وكلهن أو أكثرهن يتحدثن عن الحب الحر و«حقوق المرأة الشخصية»، ويباهين بالانطلاق من أسر العرف وفرائض الدين؟

إن أعاجيب برنارد شو كثيرة، وأعجبها فيما نظن هذا التناقض التام بين الصورة التي يستوحيها قارئه عن حياته الخاصة من كتبه وآرائه، وبين الصورة الحقيقية التي يعرفها كل من عاشروه واختبروه.

فالقارئ يستوحي من كتبه وآرائه صورة رجل غارق في الإباحة والشذوذ عن العرف، والمتعة بما تمهده له وسائل الشهرة والثروة.

ولكنها أكذب صورة للرجل كما عرفه صحابته ومعاشروه، ولعلها تصدق على كل إنسان في البلاد الإنجليزية، وفي العالم كله، قبل أن تصدق عليه.

إنه ليس بالإباحي ولا بالشهوان الغارق في المتع والملذات، بل هو على نقيض ذلك أقرب إلى النسك والتقشف، يقصر طعامه على النبات ولا يقرب الخمر ولا يحتفل بالمائدة في طعامها ولا زينتها، ولا يقتني من الأثاث غير السهل البسيط الذي يلزم كل اللزوم في الاستعمال؛ كأنه يقيم في معسكر على أهبة الرحيل.

عاش مع أمه إلى أن توفيت (سنة 1913) وهو يعلم أنها لا تقرأ كلمة من مؤلفاته، ولا تحفل بعمل من أعماله، ولم يقع بينه وبينها خلاف أو جفاء حتى ودعها الوداع الأخير، فاحتفل بإحراق جثتها على حسب وصيتها، وظل وفيا لذكراها إلى هذه الأيام.

في شبابه.

والعجيب في أمره، أنه أقام الصلوات عليها بعد وفاتها، وكذلك فعل في تشييع جميع أعزائه، ومنهم أخته التي نهت في وصيتها عن إقامة الشعائر الدينية على جثتها، وما كان ذلك عن إيمان منه بالشعائر التي تقام على جثث الموتى، بل لأنه يرى أن الأمر أهون من أن يساوي مصادمة شعور من حوله، ولا سيما شعور المعزين الذين يواسونه في مصابه.

أما علاقاته بالمرأة عامة، فخلاصتها أنها مهمة في كتبه ومذهبه، غير مهمة في حياته وعواطفه، وهو لا يؤمن بالحب إلا أن يكون علاقة مراسلة لا مغامسة، ولا يرى في الشهوات الجسدية ما يستحق أن يتهالك عليه، بل يعاف هذه الشهوات ويعجب كيف يتلاقى في وضح النهار رجل وامرأة قضيا الليل في مغامستها. ويقول: لولا هوان هذه الشهوة لما اختيرت لها أعضاء النفايات!

كانت له علاقات مع كثيرات، أشهرهن في عالم الفن الممثلة البارعة إللن تيري، وأشهرهن في عالم الدعوات الفكرية آنا بيزانت، وأشهرهن في عالم الدعوات الاجتماعية إلينور أصغر بنات كارل ماركس.

وهو يقول عن إللن تيري إنها تعبت من خمسة أزواج ولم تتعب منه إلى يوم مماتها؛ لأنه أبى أن يشوب الصلة بينهما بشائبة المتعة الجسدية، وقد تبين فعلا أنها بقيت على حبه إلى سويعاتها الأخيرة، فكان آخر ما كتبته كلمة تحية له وثناء عليه.

أما آنا بيزانت فقد كانت مثلا في غرابة الأطوار وتقلب المزاج؛ خطيبة مفوهة وكاتبة فصيحة، تجمع خطبها ورسائلها بين الدفاع عن الإلحاد والدفاع عن الصوفية والإشادة بالبرهمية، وقد هامت به وهي متزوجة لا سبيل إلى ربط حياتها بحياته كما كانت تريد، إلا أنها لجأت إلى وسيلة تعوضها عن رابطة الزواج وتوافق ما اشتهرت به من غرابة الأطوار ... جاءته يوما وفي يدها ميثاق مكتوب تطلب منه أن يوقعه ويتعهد بتنفيذه، وإذا بالميثاق جملة من الشروط المطولة تلزمه وتلزمها بتنظيم علاقة الحب بينهما ... فضحك ولما يفرغ من قراءتها، وقال لها: «إن الميثاق أصعب من جميع العهود التي تفرضها جميع الكنائس في رابطة الزواج.» فغضبت وجاءته مرة أخرى برسائله تردها إليه، وتؤذنه بانقطاع المودة بينهما، فصاح بها مظهرا للدهشة والامتعاض: ماذا؟ ألا تحرصين حتى على هذا الأثر مني؟ ... حسن. وقذف بالأوراق في النار.

أما بنت كارل ماركس، فقد أراحه منها زميل في الدعوة الاشتراكية من العلماء يسمى إدوارد أفلنج، خدعها وهي تحسب أنه أعزب، وعاشت معه حتى ماتت زوجته، فلما عرضت عليه أن يتزوج بها أعرض عنها، فبخعت نفسها كما فعلت أخت لها من قبل، إيثارا للموت على الشيخوخة في أوانها.

ولا يدعي شو أنه كان ملكا نورانيا في جميع مغامراته مع النساء، فقد غلبته مآزق الفتنة غير مرة، ولكنه لم يكن صاحب الإغراء في كل مرة، بل كان في أكثرها هو المغرى الذي تحيط به الشبكة قبل أن يتمكن من الإفلات.

ثم تزوج شو كما تزوج أبوه بعد أن جاوز الأربعين، فعقد زواجه (أول يونيو سنة 1898) على الآنسة باين تونزند، وهي فتاة أيرلندية من الوارثات اللائي أضجرهن فراغ الغنى وتفاهة الحياة بغير وجهة، فشغلت نفسها بالدعوة الاشتراكية، وأحبت شو لطلاوة أحاديثه وطيبة قلبه وشهرته واشتغاله بالإصلاح والمسائل الإنسانية، وأشفقت عليه في عزلته وسوء معيشته في مسكنه، وأشفق هو على سمعتها من طول ملازمتها إياه، فاتفقا على الزواج، ولبثت على إعجابها به وإكبارها له بعد الألفة الزوجية، فكانت لا تذكره باسمه إذا تحدثت عنه، وإنما تسميه «العبقري» فتقول: هكذا أراد العبقري، وهنا يحب العبقري أن يجلس، فيعلم السامعون من تعنيه، وهي التي كانت تغريه بالسياحة والطواف حول «الكرة الأرضية» وتعنى به عناية الأمهات بالأبناء.

ثم فقدها وانقطع لعزلة الشيخوخة وهو أحوج ما يكون إليها.

من يره اليوم في الرابعة والتسعين يذكر تلك الصورة الوصفية الرائعة التي صوره بها أديب التشك الأكبر - كارل كابك - حيث قال: «لكأنه شخصية مما وراء الطبيعة. مفرط الطول مفرط النحافة، يبدو كأنه نصف إله ونصف ساتير، طال تساميه مع الزمن آلاف السنين حتى أنبتت كل صلة تلصقه بالطبيعة. له شعر مشتعل ولحية بيضاء وبشرة موردة، وعينان صافيتان لا تشبهان عين إنسان، وعليه سمة من سمات دون كيشوت، فهو من جانب يلوح في هيئة الرسل، ومن جانب يلوح كالعابث الذي يهزأ بكل ما في الدنيا وهو منها. وما رأيت في حياتي قط كائنا مختلفا كهذا الكائن. لقد خفت منه، وخطر لي أنه روح من الأرواح يزعم أنه الشهير برنارد شو ، وهو يفيض بالحياة، ولديه آكام من الأحاديث الشائقة عن نفسه أو عن سترندبرج أو عن رودان، وغيرهم من الناس المشهورين والأشياء المشهورة، وإصغاؤك إليه مسرة مقرونة بالروعة والهول.»

على الطعام.

وأحسن ما يزكيه، أنه يخلف ظن زائره بالمناقضة بين صورته في الذهن وصورته في الواقع، كما قالت صحفية فرنسية رأته في بيته، فغالبت نفسها لحظة ثم صاحت: ماذا أرى؟ كنت أحسبني أرى أجرأ المفكرين المتمردين في البلاد الإنجليزية، فإذا بي أنظر إلى حضري من أوساط المقلدين. •••

واليوم، وقد بلغ الغاية من تحقيق الظنون واختلاف الظنون، يتم غرائبه وهو يتحدث عن المصير الذي لا معدى عنه لحي من الأحياء، فيوصي جادا أو هازلا، ألا يتبعوا نعشه بالسيارات في شارات الحزن والحداد، بل بقطعان من البقر والضأن والخنازير، وأسراب من الحمام والإوز والدجاج، وحوض يعوم فيه السمك الحي، موشحات كلها بالبياض، مشتركات كلها في كرامة الرجل الذي كان يؤثر أن يهلك على أن يشبع بلحوم زملائه من المخلوقات الحية!

ولو تحققت هذه الوصية يوما لصارت جنازة شو أليق الجنازات بشو، وفاقا للغرابة التي يتوخاها في كل شيء، فهي كما قال أغرب موكب شوهد من نوعه، بعد موكب الذاهبين إلى سفينة نوح!

مؤلفاته

وفيما يلي طائفة من أسماء مؤلفاته على حسب أبوابها، تشير إلى أهمها ولا تستقصيها:

الروايات القصصية

المراهقة (1930)، عقدة غير معقولة (1885-1887)، الحب بين الفنانين (1887-1888)، صناعة كاشيل بيرون (1885-1886)، اجتماعي لا يجتمع (1887).

المسرحيات من 1892 إلى 1949

منازل الأيامى، زير النساء، صناعة مسز وارين، السلاح والإنسان، كانديدا، رجل القدر، قلما تدرس، تلميذ الشياطين، قيصر وكليوباترا، ارتداد الكابتن براسبوند، الإنسان والسوبرمان، جزيرة جون بول الأخرى، كيف كذب لزوجها، ماجور بربارا، حيرة الطب، يتزوج، مطلع بلانكوبوسنيث، سوء التوفيق، سيدة الأغاني السمراء، رواية فاني الأولى، أندروكليز والأسد، مغلب، بجماليون، بيت القلب الكسير، كاترين الكبرى، عودة إلى متوشالح، سان جوان، عربة التفاح، أصدق من أن يجود، على الصخور، المليونيرة، جنيڤة، في أيام الملك شارل الصالح الذهبية، سمبلين منقحة.

فصول ومقالات

لباب الأبسنية، الڤاجنري الكامل، صحة الفن، مغامرات الزنجية في البحث عن الله.

كتب سياسية

دليل المرأة الذكية في الاشتراكية ورأس المال (1928)، دليل السياسة للجميع (1944).

وله غير ما تقدم مسرحيات صغيرة ومقالات في الدعوة الاشتراكية، وتعليقات على الفنون، وردود على ناقديه، وتراجم له في بعض أدوار حياته.

شو والعلم

قال شو في مقدمة روايته «عقدة غير معقولة»:

لما كنت مشغوفا بالعلوم الطبيعية، وكنت أقرأ تندال

Tyndall

وهلمهولتز

Helmholtz ، عدا ما تعلمته من صديق لي من بني عمومة جراهام بل

Bell

وذوي العلم بالكيمياء والطبيعة؛ فقد كنت - على ما أعتقد - الرجل الوحيد في المؤسسة كلها الذي يعرف شرح الأجهزة التليفونية، واتفق أنني عقدت عرى الصداقة بيني وبين محاضر «رسمي» من كولشستر له ميل قوي إلى درس الزراعة الفطرية، فاستطعت أن أنوب عنه في أداء عمله، وأفلحت في ذلك فلاحا يخيل إلي أنه أقام الأساس لشهرة مستر أديسون في لندن.

وهو يعني هنا شركة التليفونات التي كانت تحمل اسم أديسون في العاصمة الإنجليزية.

والذي قاله شو عن نفسه تؤيده ترجمة حياته وشواهد مؤلفاته، فهو لم ينقطع قط عن متابعة الحركة العلمية في عصره، واستهوته فكرة السوبرمان فأقبل على مطالعة المباحث العلمية التي تتصل بموضوع التطور، ومنها التاريخ الطبيعي وعلم الحياة، وكاد أن يستوعب كل ما كتب في هذه الموضوعات، ولا سيما كتب صمويل بتلر ولامارك ودارون وهربرت سبنسر.

وكان هواه مع مذهب لامارك وصمويل بتلر، وهو المذهب الذي يفرض للحياة قوة «موجبة» تسعى إلى التقدم، وتملك وسائل الاستزادة من أسبابه ودواعيه، فلم تعجبه فكرة دارون الذي وكل الأمر كله إلى «الانتخاب الطبيعي»، وجعل هذا الانتخاب حكما فاصلا في استبقاء الأحياء التي امتازت - بالمصادفة - على غيرها.

ومذهب دارون أقرب إلى العلم، لالتزامه حدود التفسير المعلوم، ومذهب بتلر ولامارك أقرب إلى الفروض الفلسفية، لتقديرهما قوة للحياة لا تخضع للتجارب والمشاهدات.

وقد جنح شو إلى المذهب القائل بقوة الحياة أو بدفعة الحياة؛ إذ هو أقرب المذهبين إلى تسويغ الأمل في ظهور «الإنسان الأعلى» أو السوبرمان.

وفيما عدا هذه الفكرة العلمية الفلسفية، لا نعرف لشو مساهمة في الآراء العلمية يأخذ بها المختصون بهذه الموضوعات.

فمعظم آرائه بهذا الصدد من قبيل التعليق على سلوك بعض العلماء، وبخاصة علماء الطب والعلاج.

فهو ينكر دعوى الأطباء في «إعجاز هذه الصناعة» أو سلامتها من النقص والخطأ، ويقول إن البشر مطبوعون على مهابة من يتصرفون بالحياة والموت، ومن هنا إكبارهم لصناعة الطب في العصر الحديث، بعد شيوع الجراحات التي قد تحيي وقد تميت.

وفي مقدمة رواية «حيرة الأطباء» يقول: «إنه لا جدوى من إفهامك الطبيب أن مريضه الطفل محتاج إلى راحة أكثر وملابس أفضل ومآكل أنفع، وبيت أنقى في هوائه وجداره، وليست حاجته إلى العقاقير.»

وقد ألقى على لسان سير باتريك من أبطال تلك الرواية كلمة يقول فيها: «إنه كان في أيام أبي صديق يسمى جورج بدينجتون اهتدى إلى العلاج بالهواء الطلق في سنة 1840، فخرب وأفلس واضطر إلى هجر صناعته لغير شيء إلا أنه كان يفتح النوافذ، واليوم نعود نحن فلا نكاد نبقي على رأس المريض بالسل سقفا يغطيه.»

ومن حملاته على الطب ما تسوغه كل سجية إنسانية كريمة، كإنكاره الشديد لتشريح الحيوان وهو بقيد الحياة.

إلا أنه في حملات أخرى يتهجم بغير سند، كحملته على اللقاح والتطعيم وادعائه أن الجراثيم لا تخلق الداء، بل لعلها عرض من أعراض الداء.

ولإنكار اللقاح الجبري ناحية تسوغها آراء شو في الحرية الفردية، وإن كانت وقاية المجتمع كله تسمح بالإجبار لاتقاء أخطار الوباء وما شابهها من الأخطار.

على أن الناحية التي توصف بالتهجم حقا هي إنكار حقائق الجراثيم، وهي لا تقبل الإنكار بهذه السهولة.

ولا يسلم شو من النقد في هذا التهجم.

ولكنه لا يخلو من عذر في أول عهده بالهجوم على علم الجراثيم وأساليب العلاج بالحقن واللقاح، فلا ننس أن العلماء أنفسهم أنكروا دعوى كوخ وباستور في تعليل الأوبئة والأمراض المعدية بهذه المخلوقات التي تخفى على أدق الأبصار، وأن تصوير هذه الخلائق الدقيقة لم يبلغ من الإتقان مبلغ الحقيقة الملموسة قبل بضع سنوات.

ويجوز أن نعتذر لشو بمعاذير طبعه إن كانت هذه المعاذير مقبولة في مآخذ الرأي والثقافة ؛ فمن طبعه النزوع إلى المخالفة والنزوع إلى تحدي الدعوى والكبرياء، وقد كان ادعاء «العلميين» في أيام نشأته مما يغري - والحق يقال - بالتحدي والهجوم.

وقد يكون شو على حق في استخفافه بالكشوف العلمية، وميله إلى اعتبارها عملا من أعمال الدأب والمثابرة يقدر عليه كل من يصبر وينتظر، ولكن المسألة في جوهرها ليست مسألة البحث في كفاءة هذا المكتشف أو مكافأة ذاك، وإنما هي مسألة الانتفاع بما يكتشفون، وقد تكون منفعة العقار عظيمة غاية في العظم مع قلة الكفاءة العقلية التي أعانت على كشفه، كما انتفع الناس بكثير من العقاقير التي اهتدى إليها الباحثون على غير قصد وعلى غير انتظار.

وأيا كان رأي شو في العلم، فهو رأي يسمع ويحل عند سامعيه محل الاعتبار؛ لدلالته - على الأقل - على موقع هذا العلم في عقول النوابغ من الأذكياء.

أما أن «شو» يساهم في المباحث العلمية، فتلك مساهمة في غير بابه، فقد خلقه الله بذهن الفنان المفكر، ولم يخلقه بذهن العالم كائنا ما كان منحاه من العلوم التجريبية أو العلوم الرياضية، وقد كادت تلتقي في الزمن الأخير.

فالعقل العلمي يأخذ بتجربة الحقائق الخارجية، والعقل الرياضي يأخذ بأقيسة الفروض الذهنية، والعقل الفني يأخذ بالذوق والتحليل والفطنة، ولا يقف عند التجارب الملموسة والفروض المشهورة.

وقد قال شو عن قدرته الرياضية في مقدمة روايته «حيرة الأطباء»: «إنه لم يستخدم قط لوغارتما، ولا يضمن أن يستخرج مربع أربعة بغير خطأ.»

ومبالغته في الإنكار على نفسه كمبالغته في الادعاء لها، وكلتاهما تدل على ذهن غير ذهن الرياضي المقدر وغير ذهن العالم المجرب، إنما هو ذهن فنان يسمع قوله في العلوم والفروض، ولا ينسى سامعوه أنه فنان.

شو والفن

والمقصود بالفن في سياق الكلام على شو هو فن المسرح قبل كل شيء، ثم فن الموسيقى، ثم سائر الفنون.

وشو صاحب مدرسة مستقلة في المسرحيات.

نعم، إنه يقتدي بالشاعر النرويجي هنريك أبسن، ولكنه أوسع نطاقا من أبسن في جانب، وأضيق منه نطاقا في جانب آخر.

فقد تناول شو في مسرحياته كل ما يتناوله الفكر من مسائل الفلسفة، ونظم الحكم، ومشكلات المجتمع والسياسة، وفصل القول في أمور لم يبحثها أبسن ولم يكن في طاقته أن يبحثها، وأطلق التمثيل من قيود الفصول القصار بما أبدعه من الملاحم المسرحية التي تستغرق الصفحات الطوال، وكانت منزلته الأدبية خير شفيع لتلك الملاحم عند الفرق التمثيلية التي تشتغل بالمسرح أو بالصور المتحركة. فلولا تلك المنزلة لما ظهرت روايات بهذه الضخامة على المسرح أو اللوحة البيضاء.

ومزية شو في مسرحياته تكاد تنحصر في حسن الحوار وعرض الأفكار، فهي فقيرة في المواقف، فقيرة في تكوين «الشخصيات» وتلوينها، وعبثا تحاول أن تلقى في رواياته شخصية كشخصيات شكسبير وموليير وسفوكليز، أو موقفا كالمواقف المحكمة التي يعرضها لنا أولئك الشعراء في مهارة خفية، يخيل إلينا أنها أحكمت تلك المواقف بغير عناء. فما في روايات شو من محزنات أو مضحكات فهو من كلمة تقال أو حوار مرتب بين السائل والمجيب، ولنا أن نقول إنه أقام لنا مسرحا أو فتح لنا ناديا بمعنى واحد، فالمسرح ونادي السمر والحديث في روايات شو توءمان.

يقول شرشل في مقاله البديع عن روايات شو: «إن من تجديداته الأخرى - والكبرى - أنه لا يعتمد في مسرحياته على التجاوب بين الشخصية والشخصية، أو على التجاوب بين الشخصية والبيئة، ولكنه يعتمد فيها على التجاوب بين الحوار والحوار، وبين الخواطر والخواطر، فتصبح خواطره شخوصا تتصارع فيما بينها، تارة بقوة مسرحية شديدة وتارة بغير ذلك، وتصبح شخوصه الإنسانية - مع استثناء قليل - عائشة بما تقوله، وليست عائشة بما تعمله، ولكنها مع ذلك تعيش.»

والفيلسوف «جود» تلميذ شو يتقبل هذا النقد ويضيف إليه قول القائلين: إن شخوص شو لا تعدو أن تكون أبواقا ينفخ فيها آراءه ودعواته. ثم يقول: إن هذا النقد تحصيل حاصل؛ لأنه يصدق على جميع المؤلفين وجميع الشخوص. «إلا أن بطلان التهمة إذا أريد بها أن الشخوص ليست أفرادا حية، بل مجرد تسجيلات صوتية كقوالب الحاكي، يكفي في إظهاره سرد أسماء كأسماء: ديك، ودجيون، ولادي سيسلي، ونفليث، ولويس، ديوبدات، وكانديدا، والقديسة جون، وكابتن شوتوفر ، وهم شخوص يعيشون بحقهم في الحياة لا بحق التأليف، ونحن نذكرهم أفرادا أحياء كما نذكر شخوص شكسبير وديكنز ...»

والذي ينساه جود أن تمييز الشخوص قد يرجع إلى فارق في صفة من الصفات غير صفة الحياة الطبيعية، كالفارق بين رسوم الصور المتحركة التي نفرق بينها لطول ما نعهدها في صورها، وإن خلت تلك الصور من الملامح النفسية التي يحدث بها التمييز بين إنسان وإنسان.

وشو في هذه الخصلة يكاد لا يختلف عن أستاذه هنريك أبسن، فهو أيضا يرسم لنا أفكارا في شخوص، ويعطيها من الحياة بمقدار ما لها من عبارات الحوار، وإنما الاختلاف بينهما في سعة النطاق من جانب، وضيق النطاق من جانب آخر، فشو أكبر منه تارة وأصغر منه تارة أخرى، وموضع امتياز شو هو ما أشرنا إليه من سعة موضوعاته وتعدد آفاقه، وموضع امتياز أبسن في عبارة الأداء لا في لباب الموضوع؛ إذ هو شاعر ينظم الملاحم في قصائد من الشعر السلس المطبوع، وشو لم يكن له من الشعر نصيب كثير ولا قليل.

صورة فحمية من عمل جارته كلير ونستن.

وقد حاول شو أن ينظم الشعر، فلم يعلن منه غير مقطوعات غزلية فكاهية، تحسب مع الشعر الذي ينظم لمحفوظات الأطفال، وسئل عن محاولته الشعر وعدوله عنه، فقال إنه تركه لأنه رآه يملي عليه ما تحكم به القافية ولا يقول فيه ما يعنيه، وهو عذر لو منع شاعرا لامتنع الشعر كله، ولكنه عذر من ليس بشاعر؛ لأنه لا يستطيع أن يعبر بالشعر عما يريد. •••

ومنزلة شو في التعليقات الموسيقية تلي منزلته في المسرحيات، وإن لم يصح فيها أن يقال إنه صاحب مدرسة في هذه التعليقات.

ويظهر أن سليقة الموسيقى ملكة موروثة من أمه، وأن فائدته من الملحنات التي وضعها نوابغ الموسيقيين - ولا سيما ڤاجنر - أكبر من كل فائدة استفادها من المسرحيات التي وضعها كبار الشعراء والكتاب؛ إذ يغلب على مسرحياته أنها ملحنات لفظية تنوب فيها النكات والكلمات عن الأغاني والألحان، وأنها سمط ينتظم النكتة هنا والجواب المسكت هناك، كما جعلت الملحنات سمطا لانتظام الألحان الموقعة في شتى المناسبات.

واعتقاد شو في الموسيقى أنها تنقل إليك الشعور نفسه من حيث يعجز القصاص عن نقله فيكتفى بوصفه. وإننا إذا أصغينا إلى الرواية الموسيقية غمرتنا حالة كالحالة التي جاشت بنفس البطل، واستولت عليه في تلك اللحظة، وهو يقول: «إنني نفذت إلى فكتور هوجو وشيلر من طريق الموسيقي دونيزتي والموسيقي فردي والموسيقي بيتهوفن، ونفذت إلى التوراة من طريق هاندل، وإلى جيتي من طريق شومان ...»

والذين يعقبون على هذا الرأي، منكرين لا يبخسون الموسيقى حقها، بل يعطونها فوق هذا الحق ويجعلونها غرضا مقصودا لذاته، ولا يحصرون مهمتها في التعبير عن الأغراض الأخرى، وهي عندهم «حياة مستقلة» وليست بكلام أو أداة للكلام.

وفي اعتقادنا أن الموسيقى قد تكون معبرا، كما قد تكون هي نفسها «شيئا معبرا عنه».

وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت صورة للنفس في حالات انتظامها، وتناسق الشعور فيها، وتطابق النغمات بينها وبين نظام الكون الذي نعيش فيه، وهي بهذه المثابة أكثر من تعبير؛ لأنه ليس هناك ما تعبر عنه غير هذه المطابقة بين عالم السريرة وعالم الوجود كله، وما أندرها من مطابقة! وما أندر الموسيقى التي تحكيها وتغنينا بها عن كل حكاية سواها!

وقد اشتغل شو بالنقد الموسيقي زمنا، واشتغل معه بنقد الآثار الفنية على الإجمال، ومأثرته العظمى في هذا الباب أنه أنقذ النقد الفني من «المشرحة الطبية» التي حاول بعض النقاد العلماء أن يردوه إليها ويقصروه عليها، وفي طليعتهم «ماكس نورداو» الطبيب الكاتب المفكر المعروف صاحب كتاب «الانحلال والاضمحلال»، الذي أنحى فيه على عشرات من الأدباء والفنانين بسلاح المشرطة ولغة الوصفات والتحليلات.

وكان هم نورداو أن يثبت على الفنان أعراض المرض كما «يشخصها» من كتاباته وترجمة حياته، ثم يحكم على فنه بالشذوذ والانحلال.

ومن الواضح أن هذه الطريقة كثيرة المزالق، كثيرة الأخطاء؛ لأن إثبات الشذوذ على النوابغ لا يزيد على القول بأن شذوذ المزايا يقترن بشذوذ التركيب، وتعليل الإحساس بعلة مرضية - أو فزيولوجية - لا ينفيه، فقد يكون ورم الجلد علة لفرط الإحساس ، ولا يعني هذا أن الإحساس باطل وأن المحسوس به غير موجود، وقد يقول قائل إن الألماس من الفحم، ولا ينفي بذلك أن الألماس جوهر نفيس، وقديما فهم الناس «أن صاحب العاهة جبار»، وفهموا أن المختلين والمعتلين سر من الأسرار، فلم يكن هذا الأسلوب الجديد من «النقد الطبي» للفن والأدب جديدا في مجموعه، بل الجديد فيه هو تسليطه على الأدباء والفنانين لإنكار آثارهم من طريق المشرحة ووصفات الدواء.

وقد تصدى برنارد شو لهذه المدرسة النقدية فعصف بها عصفا، ومثل بها تمثيلا، قضى عليها في البلاد الإنجليزية والأمريكية على الخصوص، فجاءته المقترحات من كل فج للكتابة في نقد الفنون، ومنها نقد الشعر ونقد الصور والتماثيل ونقد المباني والآثار.

إلا أن تفصيلات النقد في هذه الأبواب لم تسجل له فضلا أكبر من فضله في تصحيح المقاييس وتمحيص الطريقة، ورد النقد العلمي أو النقد الطبي إلى مكانه الأمين.

وقد تقرر مكانه هو في عالم الفن وعالم النقد باتفاق بين النقاد قلما يمتري فيه ناقدان.

فهو في المسرح صاحب عمل، وهو في الموسيقى صاحب رأي، وهو في سائر الفنون صاحب ذوق يسلكه بين «المستنفدين» الذين يحسنون الاختيار، ولا يرتقي به إلى طبقة المنتجين الخلاقين، وعمله في المسرح ورأيه في الموسيقى، وذوقه في سائر الفنون، حظ من أوفر الحظوظ التي يطمح إليها الفنان الناقد، وقليلا ما يجتمعان.

فلسفته

يدين «شو» بأن العقل هو وسيلتنا الوحيدة إلى فهم الحقائق والتفاهم عليها، ولكنه لا يدين بأن العقل وحده كاف لفهم جميع الحقائق؛ لأنه في رأيه قاصر عن فهم الحقائق الأبدية التي تتعلق بأصول الأشياء.

وفي رسائله التي جعل عنوانها «ست عشرة صورة ذاتية» يقول: «إن العقل يستطيع أن يبين لك خير طريق - طريق الحافلة أو الترام أو السرداب أو سيارة الأجرة - للوصول من پيكادللي إلى پوتني، ولكنه لا يستطيع أن يبين لك لماذا ينبغي أن تطلب الذهاب إلى پوتني بدلا من البقاء في پيكادللي.»

فالعقل يبين لك الطريق ولكنه لا يبين لك البواعث التي تحركك إلى ذلك الطريق ، أو بعبارة أخرى يبين لك الوسائل ولا يبين لك المبادئ والغايات.

ولم يشتهر شو بالفلسفة، في باب من أبوابها، بل اشتهر بكتابة المسرحيات والفصول الانتقادية اللاذعة، وبعض الأجوبة المستغربة التي يفضي بها حينا بعد حين إلى الذين يسألونه عن أمر من الأمور العامة، وقلما تخلو أجوبته هذه من السخرية والتقريع والولع بالمخالفة.

ولكنه في الواقع قد تناول مسائل الفلسفة بأجمعها، ومنها فلسفة «ما وراء الطبيعة» وفلسفة الاجتماع والأخلاق، وفلسفة السياسة وما يتصل بها من أنواع الحكومات والحكام.

تناول هذه المسائل في الحوار الذي يدور بين شخوص رواياته، كما تناولها في المقدمات المطولة التي يصدر بها تلك الروايات.

ولهذا يصعب استخراج مذهبه الفلسفي على التحقيق، أو يصعب تمييز ما يعتقده هو وما يلقيه على لسان شخص من شخوص الرواية، ويرد عليه بلسان شخص آخر.

فأسلوب الكلام وحده هو الذي يميز لنا اعتقاده بما يتخلله من التوكيد أو التسخيف، فإذا وافق هذا الكلام آراءه التي يشرحها في مقدماته تبين اعتقاده واعتقاد غيره، وأمكن الفصل بين أفكاره وسائر الأفكار التي يلقيها على ألسنة الشخوص الروائية في معرض المناقشة وتبادل الأفكار.

ومن هذه المقابلة بين مقدماته وفصوله ومساجلاته نستخلص مذاهبه في الفلسفة بأنواعها، وأولها فلسفته في المسائل الأبدية: مسائل الخلق والتكوين والفكرة الإلهية وما إليها من المباحث التي اصطلحنا على تسميتها بفلسفة «ما وراء الطبيعة». (1) فلسفة ما وراء الطبيعة

يتردد اسم الله كثيرا في كتابات شو على اختلاف موضوعاتها، ولكنه لا يؤمن بإله مطلق الإرادة، خالق لجميع الأشياء.

كذلك لا يؤمن بالمادية المطلقة، ولا يقول بأن الوجود كله مادة مسيطرة على الفكر والحياة.

بل يؤمن بقوة غير مادية يسميها «القوة الحيوية»، ويقول إنها تتطور بإرادتها، وإن المادة عدو لها في تطورها، وإن ارتقاء هذه القوة الحيوية في معارج الفكر إنما يأتي من طريق واحد، هو طريق الخطأ والتصحيح والتكرار والمثابرة، ولا نهاية للارتقاء الذي تبلغه الحياة من هذا الطريق، فإنها تسلكه وتتطلع في كل مرحلة من مراحله إلى القدرة المطلقة والعلم المطلق، وقد تبلغهما في زمن من الأزمان بعد الملايين التي لا تحصى من السنين.

قال على لسان برانكلن في روايته الكبرى «العود إلى متوشالح»: «إن التقدم إلى القدرة المطلقة والعلم المطلق، إلى قدرة أكبر وعلم أكبر، هو المسعى الذي ندأب عليه ولو جازفنا في سبيله بالحياة وكل ما فيها من متاع. والتطور هو المسعى كله ولا شيء غيره، إنه هو السبيل إلى الإلهية، وما يترقى الإنسان عن الجرثومة الضئيلة إلا بمقدار تقدمه في هذا السبيل.»

وأول خطوة من خطوات التطور عنده أن القوة الحيوية تلبست بالأجساد المادية؛ لتعمل وتستفيد من معاركة المادة وإملاء إرادتها عليها، فأصبحت القوة الحيوية أفرادا متفرقة بعد أن كانت جملة مجتمعة لا تفرق بين أجزائها.

وظهر «الفكر» وتقدم من علاج الإرادة الحية للمادة التي تقاومها وتعاديها.

فكل معالجة تتقرر فيها تجربة ثابتة، وكل تجربة ثابتة تجري مجرى العادة، وكل عادة تتجمع مع العادات الأخرى فتهتدي بها الحياة وتتعود التفكير.

ولكن المادة من طبعها أن تعوق الفكر وتصده عن الانطلاق بغير قيد ولا حائل، وينتهي هذا التعويق بتنبيه إرادة الحياة إلى طلب الخلاص من هذه العوائق واعتماد الحياة على «الفكر» المجرد مستقلا عن الأجسام، فلا تزال تطلب وتكرر الطلب، وتخطئ وتصحح الخطأ، وتثابر على الطلب والتصحيح حتى تبلغ ما تريد.

ويومئذ لا يبقى من هذه الأجساد الحية غير الفكر الحي المجرد المطلق من جميع القيود.

قال في رواية «العود إلى متوشالح» أيضا على لسان «القدامى» والمولود الجديد:

القديم :

إننا ما دمنا مرتبطين بهذا الجسد المستبد، فنحن خاضعون معه لسلطان الموت، ولا تتحقق غايتنا من أجل هذا.

المولود الجديد :

وما هي غايتك؟

القديم :

أن أصبح خالدا.

القديمة :

سوف يأتي اليوم الذي لا يبقى فيه «أناس» ولا يبقى شيء غير «الفكر المجرد».

القديم :

وهذه هي الحياة الأبدية.

وفي الكتاب الأول من الرواية بعينها يقول على لسان الحية وحواء:

الحية :

التخيل بدء الإيجاد والتكوين. تتخيل أنك تشتهي، وتريد ما تتخيل، ولا تزال حتى تخلق ما تريد.

حواء :

وكيف أخلق شيئا من لا شيء !

الحية :

كل شيء لا بد أن يخلق من لا شيء. انظري إلى هذه العضلة من اللحم الصلب على ذراعك. إنها لم تكن من قبل هناك. إنك لم تكوني قادرة على تسلق شجرة يوم رأيتك للمرة الأولى، ولكنك أردت وحاولت ثم أردت وحاولت، وإرادتك خلقت من لا شيء هذه العضلة في ذراعك لبلوغ ما اشتهيت.

وليس في مذهب شو مطلب بعيد على الإرادة، فسوف تتحقق الحياة بالفكر المجرد، كما تحقق الفكر نفسه، وكما تحقق الحس والنظر والسمع وسائر الحواس بالمحاولة بعد المحاولة، والتصحيح بعد التصحيح.

وفي مقدمة تلك الرواية يقول: «إن لم تكن لك عينان وأردت أن تنظر، وأصررت على محاولة النظر وجدت لك عينان، وإن كانت لك عينان وأردت كما أراد الخلد أو السمكة التي تعيش تحت الأرض ألا تنظر فقدت عينيك.

وإذا كنت تحب طعم الأوراق الطرية على رءوس الشجرة، ويبلغ من حبك أن تجمع إرادتك كلها في عنقك لتمدها وتطيلها، فسوف تكون لك في النهاية عنق طويلة كعنق الزرافة. ويبدو هذا سخيفا أول الأمر لمن لا ينتبهون لما حولهم، ولكنها حقيقة في متناولنا جميعا. ونشاهد تحقيق هذه المحاولة بعينها كلما شاهدنا الطفل المتعثر قد أصبح ولدا يمشي على قدميه منتصب القامة، وكلما شاهدنا رجلا مسلوخ الذقن أو مصدوما في مؤخرة رأسه على الثلج قد أصبح من راكبي الدراجات أو البارعين في الانزلاق. وليست هذه الحركة مستمرة متصلة إذا كان التدريب وحده هو الذي يعمل عمله فيها؛ فإنك إن تقدمت في ركوب الدراجة درسا بعد درس لا تعود في الدرس الثاني إلى حيث انتهيت، بل تعود ظاهرا إلى حيث ابتدأت أول مرة، وإذا بك أخيرا قد نجحت كأنما قد نجحت فجأة بلا نكسة ولا رجعة. وأشبه من ذلك بالمعجزة أنك تباشر هذه القدرة الجديدة غير شاعر بها ولا ملتفت إليها ...

لقد خلقت فيك قدرة جديدة، وخلق فيك بغير شك نسيج جسدي كعضو تتلبس به تلك القدرة، وقد أتممت ذلك كله بمحض الإرادة، فليس هنا محل لانتخاب البيئة أو بقاء الأصلح؛ لأن الرجل الذي يتعلم ركوب الدراجة لا فضل له على غيره في معركة البقاء، بل على عكس ذلك، وإنما اكتسب عادة جديدة لغير سبب إلا أنه أرادها، وما زال يحاولها حتى أضيفت إلى تكوينه.»

صورة شمسية من «صورة زيتية». •••

وواضح من هذه المتفرقات أن «شو» يستمد فلسفته من مصدرين: أحدهما علمي وهو نظرية النشوء والارتقاء، والآخر فلسفي وهو مذهب «برجسون» القائل بنظرية «التطور الخالق» أو ما يسميه في بعض الأحيان بدفعة الحياة.

والاعتراضات على فلسفة «شو» كثيرة كالاعتراضات على كل مذهب من مذاهب الفلاسفة فيما يدور حول مسألة الخلق وأصول الأشياء خاصة.

ومن المعترضين من يعترف لشو بالأستاذية، ولكنه يخالفه في الفلسفة الإلهية على التخصيص، كالأستاذ «جود» الفيلسوف الإنجليزي المشهور.

وقد بنى اعتراضه على أسباب علمية، ولم يبنه على أسباب فلسفية كما ينتظر من فيلسوف يتكلم في مسألة فلسفية، فاستند في نقض فلسفة شو على القانون الثاني من قوانين الحرارة والحركة

Thermodynamics ، وفحواه أن الحرارة في الكون تتسرب من الجسم الحار إلى ما دونه في الحرارة حتى تتساوى الأجزاء كلها في درجة الحرارة، فتبطل الحركة ويصاب الكون بالشلل، فلا يبقى فيه محل لمؤثرات الحياة أو غيرها من المؤثرات.

فإذا كانت القوة الحيوية جزءا من الكون فلا نجاة لها من هذا المصير، وليس للحياة ولا للفكر شأن في النهاية غير شأن المادة والأجسام المادية. فكيف يترقى الفكر إلى الغاية التي تعلو على المادة وعلى الأجساد؟!

والاعتراض فيما نرى غير حاسم؛ لأنه لا مانع «أولا» من استقلال الفكر المجرد ببقاء غير بقاء الأجساد المادية.

ولا موجب «ثانيا» للجزم بفناء الحركة في الكون بناء على المعروف الآن من قوانين الحرارة؛ فإننا لا نعلم حتى الآن كيف بدأت الحركة والطاقة، وكل ما نعلمه عن الحرارة أنها حركة في وسط لا اختلاف بين أجزائه يسمونه بالأثير، وقد يسمونه أحيانا بالفضاء؛ لأنهم لم يعرفوا فرقا قط بين الأثير والفضاء، في الخواص والصفات.

فإذا جاز نشوء الحركة مع الأثير الساكن المستقر المتساوي الجوانب والأجزاء، فما هو الموجب للجزم بفناء الحركة عند تساوي الحرارة في أنحاء الكون؟

أليس الأثير متساويا، وقد وجد فيه الضوء ووجدت فيه الحرارة والحركة؟

أليس من الجائز أن هذا الأثير المتساوي هو مصدر الحرارة الأول، وهو مصدرها الذي يعيدها كرة أخرى؟

أليس من الجائز أن التساوي في أنحاء الكون يناسب الفكر المجرد المطلق من جواذب الحركة المادية؟

كل أولئك جائز.

وما لم يكن شيء منه مستحيلا، فلا موجب للجزم ببطلان مذهب شو في تطور الحياة.

إنما الاعتراض القوي على مذهب شو يعتمد في اعتقادنا على سبب غير هذا السبب العلمي الذي اعتمد عليه الأستاذ جود.

وأحرى بنقض الفلسفة على أسباب فلسفية، وهي التي نعتقد أنها تزعزع مذهب شو وتتركه بغير سند متين.

فالمفهوم من كلام شو أن قوة الحياة التي يقول بها قوة ناقصة متطورة لا تشمل جميع الموجودات.

وما دامت كذلك فهي ليست واجبة الوجود بذاتها، وليست أزلية قائمة في الكون من قديم الأزل. فما الذي أوجدها، ومن أي مادة كان إيجادها؟

يجوز أن يقول شو إنها وجدت من هذه المادة الكونية على سبيل الخطأ، وإنها مدينة بوجودها للمصادفة التي لم تقصدها المادة ولم تقصدها الحياة.

ولكن أصعب شيء على العقل أن يتصوره أن الخطأ هو مصدر كل خلق وكل حياة وكل فكر في هذا الوجود، وأنه هو الأصل الذي ترتد إليه جميع الأصول.

فليس من الصواب أن نبني كل شيء على الخطأ، وأن يكون التصحيح نفسه خطأ من أخطاء المصادفات! (2) الدين

وعلى أية حال يزعم شو أن التطور الخلاق صالح لأن يصبح ديانة جديدة لأبناء القرن العشرين.

وكما قيل عن المعري إنه سئل عن قرآنه فقال: اتركوه حتى تصقله الألسنة في المحاريب. كذلك يقول شو عن ديانته هذه: إنها لا تشيع بين جمهرة الناس حتى تنشأ حولها أساطيرها وأماثيلها ومعجزاتها، ولكنها مع هذا خير من الديانات العتيقة، وخير من الشكوكية، وخير من المادية العمياء، ومن مذهب داروين القديم والحديث.

على أن «شو» يحترم الديانات التي يسميها بالديانات العتيقة ، ويتكلم عن أنبياء الأمم بلهجة الإعجاب والتوقير، ويقول في مقدمة «مسرحياته السارة»: «هناك ديانة واحدة وإن تعددت منها مائة نسخة.»

وفي وصاياه التي سماها «دليل المرأة الذكية» ينصح الأمم أن تلقن طفلها سببا ما، يقنعه بالاستقامة في سلوكه حين لا يشعر بأحد يراقبه ويحصي عليه غلطاته، ولا ضرر من إيمان الطفل بهذا السبب ولو أنكره عقله بعد ذلك. قال يخاطب الأمم: «إنك إذا قلت للصغير إنك مسئول أمام نفسك عن الكلام بالصدق لم يشعر قط بهذا الالتزام، وإذا قلت له إن الكذب يجعل الناس ينبذون كلامك ولا يصدقونك فهذه أكذوبة صارخة تزعمينها؛ إذ تعلمين جيدا أن كثيرا من الأكاذيب تروج وتنجح، وأن المجتمع الإنساني لن يخلو من أكاذيب شتى يتداولها بنية حسنة.»

ثم مضى يعلم الأم الذكية أن تخويف الطفل من الله وتأميله في حسن رضاه أجدى من هذه الحيل جميعا في تربيته على الصدق والاستقامة.

وقال في مقدمة روايته «أندروكليز والأسد»: «إن الحكومة بغير دين مستحيلة ... وإن الرجل الذي يريد أن يعقل كل شيء يموت ولا أثر له ولا صيت بعده.»

وفي كتابه «مرجع السياسة للجميع» يقول: «إنني - بما أعلمه من الدنيا - أرى أن السياسي ينبغي أن يتدين، ولكنه ينبغي كذلك أن ينبذ من ديانته كل تخصيص لا يصلح للتعميم.»

ثم يشفع ذلك بشرح التخصيص الذي يعنيه، وهو التخصيص الذي يستثني أناسا دون آخرين، ويزيد الشرح فيتضح من جملة كلامه أن الديانة التي يؤثرها للساسة هي ديانة التطور الخلاق، أو هي ديانته التي سماها بديانة القرن العشرين. «فإذا جاز للسياسي أن يشخص العامل الخلاق في البيولوجي باسم الرب، فليس له أن يصبغه بالصبغة القومية كأنه هو يهوا أو الله أو بوذا أو برهما.

وينبغي فوق كل شيء ألا يتطلع إلى الرب ليقوم عنه بأداء عمله، وإنما عليه أن يعتبر نفسه خادما غير معصوم لرب غير معصوم، عاملا بالنيابة عن الرب، ومفكرا بالنيابة عن الرب؛ لأن الرب - وهو لا ينجز مقاصده بغير أيدي أو رءوس - قد هيأ لنا أن نرقي أيدينا ورءوسنا لنعمل باسمه ونفكر باسمه، ونوجز فنقول: إننا لسنا في أيدي الرب بل الرب في أيدينا. فليس للوالي أن ينادي نداء العجز: فلتكن مشيئتك. بل عليه أن يرسم هذه المشيئة وأن يبحث عن وسيلة إنجازها وأن ينجزها فعلا وحقا. ولا يكونن إلهه كمالا موجودا مطلق القدرة مطلق المعرفة، بل مثلا أعلى يسعى إليه التطور الخلاق، ويكون النوع الإنساني بالنسبة إليه أحسن محاولة من محاولاته حتى اليوم، ولكنها على هذا محاولة معيبة جدا معرضة في كل لحظة للاستبدال إذا بدا للتطور الخلاق أنها محاولة ميئوس منها. وعليه، على السياسي أن يواجه الشر في الدنيا - وهو الذي يغض من الخير الإلهي ويجعله ظافرا في حكم السخف والإحالة - كأنه بقية متخلفة من أخطاء حدثت بنية حسنة في أصلها، وأن ينظر إلى الحياة كأنها خالدة دائمة، ولكنه ينظر إلى معاصريه كأنهم خلائق زائلة لا حياة لها وراء القبر تعوضها عن أي ظلم لحق بها في دنياها.» •••

وهكذا نخرج من كلام برنارد شو عن الدين في مواضعه المختلفة بنتيجتين عن ديانته هو وعن الديانات القائمة بين الجماعات البشرية.

فديانته هي إيمان التطور الذي يخطئ ويصيب من طريق المحاولة بعد المحاولة، وهو علامة على ارتقاء الإنسان في معارج التطور، يدين به طواعية بغير مثوبة ولا عقاب، ولكنها طواعية مستمدة من ضروريات «التطور الخلاق» والأمل في زيادة الارتقاء.

والديانات التي تؤمن بها الجماعات البشرية عامة لازمة محترمة في نظره وتقديره، ويغلب أن يكون لزومها عنده لزوم المصلحة الاجتماعية والنفسانية التي لا غنى عنها للجماعات أو الآحاد.

ولا يصلح الإنسان على كل حال بغير إيمان. (3) الفلسفة الاجتماعية

أما الفلسفة الاجتماعية التي يبشر بها شو فخلاصتها في كلمتين: إنها «الاشتراكية الفابية» أي الاشتراكية في صورتها المميزة عن الشيوعية الماركسية.

وتنسب الفابية إلى القائد الروماني القديم فابيوس

Fabius

المتوفى سنة 203 قبل الميلاد.

وقد فوض إليه الرومان الحكم بأمره في سنة 217 قبل الميلاد بلقب «دكتاتور»، مكافأة له على بلائه في خدمة الدولة، وتزويدا له بالسيطرة اللازمة لمحاربة هانيبال بأسلوبه المعروف.

وكان أسلوبه هذا قائما على الحرب المتقطعة والمناوشات المفاجئة، التي تنهك العدو وتحيره وتجره إلى المواقع التي لا ينتفع فيها بمزاياه العسكرية قبل الاشتباك معه في موقعة فاصلة.

وقد نسبت إليه الجماعة الفابية في إنجلترا؛ لأنها أرادت أن تجري على هذه الخطة في الدعوة إلى مبادئها ومحاربة العناصر التي تعاديها، فهي لا تعول على «الضربة القاضية» كما يعول عليها الماركسيون الشيوعيون، ولا تيأس من إصلاح المجتمع بالمناوشات والمساجلات في غير عنف ولا اضطرار إلى سفك الدماء.

والفابيون لا يؤمنون بالعداء بين الطبقات، ولا يرون ضرورة لإعلان الحرب بينها، وإثارة البغضاء في نفوس أبنائها، ومن تحقيقاتهم التي يسجلونها ويذيعونها أن أحوال العمال والأجراء تتحسن بالوسائل التشريعية والإصلاحية، ولا تسوء على الدوام كما يرى الماركسيون الشيوعيون.

تأسست الجماعة في سنة 1884 وفيها نحو أربعين من نخبة الباحثين والمفكرين، ولم يزد عدد أعضائها قط على ألفين في وقت من الأوقات، وخير أعمالها الاجتماعية قائم على الدعوة وتمكين المجالس البلدية والنقابات من تحسين أحوال الأجراء والعمال.

وغني عن القول أن الاشتراكية الفابية - كغيرها من المذاهب الاشتراكية - هي حركة إصلاح في المجتمع والحكومة، وليست مجموعة من الآداب والوصايا تحض على الرحمة والعطف والبر بالفقراء والمحرومين، فهي كما قال في «الدليل أو المرجع السياسي للجميع»: «ليست صدقة ولا عاطفة من عواطف الرأفة والمحبة أو الشفقة على الفقير، وليست نزعة من نزعات الخير والاحسان في الأمة تنزع إلى إعطاء بعض الشيء لغير شيء بين الصدقة والتسول، ولكنها هي كراهية الاقتصادي للتلف والخلل، وكراهية صاحب الذوق للدمامة والقذارة، وكراهية القانوني للظلم والإجحاف، وكراهية الطبيب للعلل والآفات، وكراهية القديس للخطايا السبع الكبار.»

وأغراض هذه الاشتراكية كثيرة متشعبة، ولكننا إذا لخصناها على حسب دعوة «شو» أمكن أن تنحصر في غرض واحد تتبعه جميع الأغراض، وهو توفير المال في أيدي الجميع.

فالمال عند «شو» شيء مقدس مطلوب عميم النفع والوقاية، والاهتمام الشائع به هو علامة الأمل الوحيدة في حضارتنا والموضع السليم الوحيد في الضمير الاجتماعي، وهو - كما جاء في مقدمة روايته «ماجور بربارا » - أهم شيء في العالم ، «يمثل الصحة والقوة والشرف والكرم والجمال تمثيلا فيه من الكفاية ما في عدمه من تمثيل المرض والضعف والعار والخسة والدمامة، وليس أقل فضائله أنه يوبق الأردياء كما يحوط النبلاء بالمناعة والكرامة».

ولا تناقض بين نشدان المال ونشدان المتعة الروحية في عقيدة شو، ففي كتابه «بيت القلب الكسير» يجري هذا الحوار بين شخصين من شخوصها على هذا السياق:

إيلي :

إن بعض الناس من الطراز العتيق يظنون أنك تستطيع أن تحتفظ بروح من غير مال، ويخيل إليهم أنه كلما قل النصيب من المال زاد النصيب من الروح، إلا أن «الشباب» في هذه الأيام أعرف منهم وأخبر، فإن الروح قنية عظيمة التكاليف، قنية أعظم كلفة من السيارة.

كابتن شوتوڤر :

أهي كذلك؟ كم تأكل روحك إذن؟

إيلي :

أوه! كثيرا جدا. تأكل الموسيقى والصور والكتب، والجبال والبحيرات، وأشياء جميلة للكساء، وأناسا لطافا للمصاحبة والمعاشرة، ولا يسعك في هذه البلاد أن تنالها بغير مال، ومن أجل هذا أصيب أرواحنا بهذه المجاعة النكراء.

كابتن شوتوڤر :

إن روح «مانجان» تعيش على طعام الخنازير.

إيلي :

نعم، لأن المال يهال عليه، وأحسب أن روحه كانت جائعة وهو صغير، بيد أن المال لا يهال علي أنا، وإنما أتزوج من أجل المال؛ لأنني أريد أن أنقذ حياتي الروحية، وكل امرأة سلمت من الحماقة تصنع هذا الصنيع ...

ومن ثم كان تدبير المال للناس كافة أنجح وسائل الخلاص من الآفات الروحية والجسدية، فليست الاشتراكية برا بالفقراء؛ لأنهم قديسون أو ملائكة. كلا، إنه لمن خطأ العواطف الإنسانية في تقدير «شو» أنها إذا عطفت على مظلوم تخيلته من الملائكة أو القديسين، وقد يكون على نقيض ذلك من الشياطين والأشرار، بل قد يكون الفقير سيئا رديئا لأنه فقير، ومن هنا تجب العناية به وإنقاذه من السوء والرداءة، ولن يتأتى ذلك وهو فقير محروم.

ولم تكن الاشتراكية الفابية بدعا بين المذاهب الاشتراكية على تعدد مناحيها في الحملة على نظام رأس المال، فإن هذا النظام الذي يميز طائفة من الأمة على سائر الطوائف بغير مميز ، آفة لا هوادة معها في رأي جميع الاشتراكيين، ومنهم الفابيون.

وحملتهم جميعا على الاستعمار كحملتهم جميعا على رأس المال؛ إذ كان رأس المال هو القوة المسخرة الكامنة وراء كل استعمار.

ولم يعرف عن «شو» أنه شذ عن هذه القاعدة في غير موقفين اثنين أوشكا أن يحدثا في الجماعة الفابية صدعا لا يرأب، وهما ترشيحه للشاعر «كبلنج» في الانتخابات البرلمانية باسم «شاعر الإمبراطورية»، وتأييده للدولة البريطانية في غاراتها على البوير.

والعجيب أن الموقف الأول - موقفه في ترشيح كبلنج - كان أحرج له بين الجماعة الفابية من موقفه في حرب البوير؛ إذ كان المؤيدون للدولة البريطانية في حرب البوير كثيرين بين أعضاء الجماعة الفابية، وحجتهم في هذا التأييد المستغرب من الاشتراكيين أن الاشتراكية ترمي إلى الوحدة في تدبير الثروة العالمية، وأن الدولة البريطانية هي أقرب نظام إلى هذه الوحدة في انتظار توحيد العالم، وتدبير ثروته على أساس الاتفاق والتفاهم بين جميع الشعوب والأقوام.

في موقف وداع.

أما ترشيح نائب لأنه من دعاة الاستعمار والصولة الإمبراطورية، فهو الأمر الذي لا يسوغه الاشتراكيون، وعندهم من هو أولى بالترشيح والمساعدة من طلاب النيابة الإنجليز.

على أن المعتذرين لشو من هذا الموقف لم يفتهم أن يلتمسوا له المعاذير من اضطراره إلى التذرع بذرائع النجاح في الدعوة الانتخابية، وأنه كان في دعوته هذه براء من المآرب الشخصية والشبهات النفعية، وأنه هو نفسه لم يتقدم لترشيح نفسه قط في انتخابات البرلمان، ولم يقبل الترشيح حين عرضوه عليه للانتفاع باسمه في معترك الأحزاب.

وأيا كان منزعه في الدعوة، فالواقع أن المجال كله مجال «نظريات وآمال» فيما تناولته الجماعة الفابية من المساعي والجهود، فإن آثارها في مجال العمل السياسي جد قليلة، ومعظم آثارها إنما كان تعليما مقبولا بين الناشئين والمثقفين ممن لا يملكون في مساعيهم وجهودهم قوة فعالة أكبر من قوة الإقناع في هذا المجال المحدود.

وكان هذا من باب أولى نصيب «شو» في مساعيه وجهوده، فلا جرم يقل نصيبه من المشاركة العملية في الإصلاح السياسي، وهو يعلق الإصلاح كله على الأمل البعيد، أو الأمل في تطور «السوبرمان».

فما من إصلاح خليق أن يتم ويكتمل في عالمنا هذا قبل ظهور السوبرمان، واستلامه لزمام الحكم والإرشاد.

فلا غنى للمصلح العظيم عن العمر الطويل والتربية الكافية، ومتى تيسر للإنسانية أن تنجب جيلا من الساسة يعيش أحدهم ثلاثمائة سنة على الأقل، فقد حان موعد الإصلاح المفيد والسياسة الرشيدة. أما قبل ذلك فالمصلح يكاد أن يموت قبل أن يهتدي هو نفسه إلى مواطن الإصلاح وإلى الوسائل الفعالة التي تحقق له ما اهتدى إليه. وما كان مصلح راسخ القدم في عمله ليكتفي بأقل من مائة سنة للنمو، ومائة سنة للتجربة والمحاولة، ومائة سنة للعمل الثابت الآمن من عثرات التردد والمحاولات. (4) الفلسفة السياسية

وأول ما يخطر على البال عن فلسفة شو السياسية أنه يدين بالنظام الديموقراطي ولا يعدل به نظاما من نظم الحكم الأخرى.

إلا أنه الخاطر الأول كما قلنا، وليس هو بالخاطر الصحيح.

والواقع أن شو لا يؤمن بالديموقراطية ولا يكتم إعجابه «بالدكتاتوريين»، أو الحاكمين بأمرهم سواء كانوا من معسكر الفاشية كموسيليني وهتلر، أو معسكر الشيوعية كلينين وستالين.

ولا داعي لاستغراب عقيدته هذه في السياسة، فإنها هي العقيدة الموافقة لجملة آرائه وميوله بعد مراجعتها والمقابلة بينها.

فمن جهة ينتمي شو إلى الجماعة الفابية، وهي مسماة باسم «دكتاتور» أو «حاكم بأمره قديم»، فلا تناقض بين الدكتاتورية وما يدعو إليه الفابيون، وبخاصة إذا ذكرنا أن معظم الاشتراكيين يسعون إلى ترميم المرافق العامة وإشراف الحاكم على إدارتها.

ومن جهة أخرى، يبشر «شو» بالسوبرمان، وينتظر اليوم الذي يطل فيه على العالم فيقبض على زمامه بيديه عنوة، أو من طريق الحيلة القوية والتأثير الذي يجتاح ما يعترضه من العقبات.

والدكتاتور - أو الرجل القوي - هو البديل الموقوت من السوبرمان، ريثما يحين الأوان لظهوره واستسلام الشعوب إليه.

وليس «شو» ممن ينكرون حرية الرأي وحرية النقد وحرية الاجتماع، ولا هو ممن يجهلون جناية الحاكمين بأمرهم على هذه الحريات كلها حيث يحكمون ويتحكمون. فقد كتب وقال غير مرة: «إن الحضارة لن تتقدم بغير النقد، ولا مناص لها - إذا هي أرادت أن تتجنب العفن والركود - من إعلان حرية المناقشة.»

وقد كتب وقال غير مرة: «إن التقدم يتوقف على إبائنا أن نلجأ إلى وسائل العنف حتى حين تجدي وتفيد.»

ولكنه يرى مع هذا «أنه ليس في مقدور مجرم واحد أن يملك من أسباب الشر والتمادي فيها ما تملكه أمة منتظمة ... فإنها تكسب جرائمها حقوق الشريعة المطاعة، وتزيف لها وثائق الصلاح والفضيلة، ولا تبالي أن تعذب كل من يجسر على كشف حقيقتها وإظهار زيوفها».

فليس الكفر بالديموقراطية الحاضرة على الأقل مستغربا من رجل يبشر بالسوبرمان، ويرى أن الحاكم بأمره سلف يعقبه ذلك الخلف المنظور مع الزمان.

ومن جهة غير هذه وتلك، يعرف القارئ من أقوال «شو» وكتاباته - كما لمحنا مما تقدم - أنه يسيء الظن بالدهماء وقادة الدهماء، ولا يصدق أن جمهرة الناخبين من هؤلاء الدهماء يختارون من يريدون، أو أنهم يحسنون الاختيار إذا اتفق لهم أن يختاروا من أرادوه.

وفي زعمه أن الناخبين لا يمنحون أصواتهم أفضل المرشحين المستحقين للترشيح والنيابة، وإنما تتاح لهم الفرصة مرة بعد مرة لرفض أسوأ المرشحين، وتجربة غيرهم من جديد، ثم إعادة هذه التجربة في انتخاب بعد انتخاب على وتيرة واحدة.

أما الفرصة التي تتاح لهم، فهي من تدبير لجان الأحزاب وليست من تدبير دهماء الناخبين، ولا من يكون بينهم من ذوي النظر الثاقب والخلق الشريف.

ولجان الأحزاب ترشح الرجل المأمون في الدائرة المأمونة، والرجل المأمون عندها هو «النعجة» المنقادة التي لا تثور على رعاتها، ولا تقدر على الثورة إذا جنحت إليها، والدائرة المأمونة هي التي تضعف فيها المنافسة، ويقل فيها أمل المنافس من الحزب الآخر في النجاح.

فإذا كان في الحزب أناس أقوياء قذف بهم الحزب في المعركة الحامية يكسبونها له أو ينخذلون فيها، فيستخدمهم في غير الأعمال البرلمانية إذا راضتهم الهزيمة واستكانوا للقادة والرؤساء.

ومن هم القادة ومن هم الدهماء؟

إنهم كما قال في كتابه «الفاجنري الكامل»: «كلهم طائفة من الناس؛ بعضهم دجالون كبار، وبعضهم ساسة كبار، وبعضهم مزيج من هؤلاء وهؤلاء، وأكثرهم قادرون على قضاء مآربهم الشخصية غير قادرين على الإحاطة بالنظم الاجتماعية، أو تناول المشكلات التي تخلقها لهم معيشتهم في جماعات عظيمة. فإن كان معنى «الإنسان» هذه الكثرة، فالإنسان لم يتقدم، بل هو نقيض ذلك قد عمل على تعطيل التقدم، وهو في هذه الحالة لا يريد أن ينهض بتكليف شيء حتى تكاليف النظم القائمة، وإنما تؤخذ منه هذه التكاليف خلسة من طريق الضرائب غير المباشرة ...

إن هؤلاء الناس لا غنى لهم عن قوانين تحكمهم كتلك القوانين التي تحكم جبابرة ڤاجنر، ولا يتأتى إخضاعهم لتلك القوانين إلا بالتواطؤ على شحن نفوسهم بالتقاليد والأوهام وملء خيالاتهم بمظاهر الهيبة والتوقير. ومن البديهي أن الحكومة إنما يتولاها القلائل الذين يقدرون على حكم غيرهم، ولكنها متى انتظمت أدواتها وآلاتها فالغالب أن تجري شئون الحكم بغير روية على أيدي أناس من غير القادرين على تأسيسها، ويتصدى لها القادرون حينا بعد حين لترميمها وإصلاحها كلما تخلفت طويلا وراء خطوات الحضارة في تقدمها أو اضمحلالها ...

يطل من منزل جيرانه.

ولا تزال الحيرة جاثمة حتى يفتح الزمن على عقول الساسة بوحي البطولة، الذي يلهمهم أن عملهم لا ينحصر في تلفيق القوانين والنظم لكبح الدهماء وضمان البقاء لغير الأصلح، وإنما الواجب عليهم تنشئة جيل يعتمد على إرادته وذكائه، لتحقيق رخاء المجتمع وصلاح أحواله طواعية في غير كلفة ولا مشقة.»

ولا يفهم من كل ما قاله «شو» في سخريته بالديمقراطية والنظم البرلمانية أنه يدعو إلى إلغاء «البرلمانات» والاستغناء عن الحكومة النيابية، فقد يكون وجودها أسلم من عدمها في تقديره، ولعلها وقاية للشعوب مما هو أخطر منها وأدهى، وحسبها عنده أنها منفس للتفريج عن الصدور بالمناقشة واختلاف الآراء وإقناع المختلفين بأنهم أحرار فيما يقولون ويعملون.

وقد استشاره «جود» الفيلسوف في ترشيح نفسه للنيابة، فكتب إليه يقول ما فحواه: إن الفلاسفة الذين دخلوا البرلمان غير قليلين - ومنهم ميل وبرادلو ووب الذي كان عضوا في الوزارة - فهل صنعوا شيئا هناك؟

وقال له إن تشرشل لم يكن عضوا في البرلمان حتى الحرب العالمية، ثم ساقوه إلى دائرة انتخابية أخلوها له لأنهم في حاجة إليه، وأنه هو نفسه قد رفض النيابة يوم عرضوها عليه وكرروا العرض مرات، ثم لم يندم قط على الرفض والإصرار.

وقال له أخيرا: إن ورق اللعب لا يزال أمامك على المائدة، فإن شئت فجرب حظك والعب ورقك ... فلما مضى جود في عزمه، ولم تثنه عنه نصيحة أستاذه الأولى أرسل إليه تذكرة بريدية يقول فيها: «حسنا، إنك سوف تتعلم على الأقل شيئا واحدا، وهو أن تعرف كيف لا يتم العمل» ... ثم شفعها بتذكرة ثانية قال فيها: «امض في عزمك بكل وسيلة، فقد تحصل على تجربة مباشرة لا تخلو من فائدة للفلاسفة السياسيين.» •••

لقد كان «شو» منطقيا في سماحه للمجالس النيابية بالبقاء، وسماحه لتلميذه «جود» بترشيح نفسه، فلو أنه أشار على الأمم بإلغاء المجالس النيابية، وسألوه عوضا منها لما وجدوا عنده عوضا غير «الدكتاتورية»، وهي شيء يحصل بالقوة، ولا يحصل على حسب الطلب بالانتخاب أو الاقتراح.

كان منطقيا في هذا وكان مجافيا للمنطق في كل ما عداه؛ فقد نظر إلى الدكتاتورية كأنها تجربة مفتوحة، ونظر إلى الديمقراطية كأنها تجربة منتهية، فعكس الحقيقة في الحالتين، وأغلق حيث ينبغي أن يفتح وفتح حيث ينبغي أن يغلق.

فما كان حكم العصور الماضية على أغلبه وأعمه إلا حكما دكتاتوريا على وجه من الوجوه، فاستنفذ كلمته واستحق حكم التاريخ عليه، وما جرب حكم الحاكمين بأمرهم تجربة حديثة إلا جر البلاء عليهم وعلى بلادهم وعلى العالم بأسره. في حين أن الديموقراطية تبتدئ تجاربها في نطاقها الواسع، فتصلح تارة أو تسوء، فلا تهبط في السوء مهبطا دون حكم الحاكمين بأمرهم إذا ساء. (5) الفلسفة الأخلاقية

والمفهوم بين نقاد «برنارد شو» أن فلسفته الأخلاقية أثبت وأوضح من فلسفته في أمور ما بعد الطبيعة، وفيما يدور على قواعد المجتمع وأنظمة السياسة.

وتقوم هذه الفلسفة على أسس ثلاثة، وهي: (1) أن الغريزة الإنسانية تضل وتخطئ، و(2) أن إصلاح خطئها وضلالها من الممكنات ومن الواجبات، (3) أن هذا الإصلاح يتم بالمعرفة والإيثار.

ففي كتابه «دليل السياسة للجميع » يقول: «إن العقل قد يخطئ أفحش الخطأ ، ولكن هكذا تخطئ البصيرة مع الغباء، ولن يصل كلاهما إلى النتائج السليمة بغير الاعتماد على الوقائع الصحيحة. فإن الدلائل والتخمينات على السواء غير سليمة، على أن الوقائع لا تقودنا دائما إلى دلائل معقولة؛ إذ ربما هاجت فينا نقمة البغضاء أو ميول العاطفة، كما تهيج فينا الآمال والمخاوف والأوهام والمطامع، داعية إلى انفجار الخوالج النفسية التي تعصف بالسداد في العقول التي لم تتدرب على دقة الحكم ونزاهة الضمير، ولا بد للقائمين بأمر المدن من أن يكونوا مولودين لعملهم ومتعلمين إياه.»

وقال في مقدمة «على الصخور»: «إنه لا شيء هو أعظم قبولا للتغيير كل التغيير من الطبيعة البشرية إذا بادر الموكلون بها مبكرين في تعهدها وتهذيبها.»

ومن أقواله التي يجريها كعادته بين الجد والفكاهة، كلمة يقول فيها من مقدمته «لحيرة الأطباء»: «إنني لم أكبر آدم دائما. إنه انتظر حتى تغويه امرأة وحتى تغوي المرأة حية قبل أن يقطف التفاحة من شجرة المعرفة، ولو كنت في موضعه لأتيت على كل تفاحة في الشجرة أول ما أدار صاحب الحديقة ظهره إلي.»

ومهما يكن من شأن المعرفة أو الحكمة أو الخلق، فهي كلها تفاهة في عرف «شو» ما لم تكن حية جياشة تضطرب بالشعور والحركة، أو كما قال على لسان لوقا في رواية «السلاح والإنسان»: «إنك تنتزع الشجاعة كلها من نفسي بحكمتك الباردة.»

ومثل ذلك قوله في مقدمة روايته «سوء التوفيق»: «إن الرجل الذي لا يملك حرية المجازفة بعنقه طيارا، أو بروحه مجتهدا مخالفا، ليس له نصيب من الحرية على الإطلاق، وحق الحرية لا يبتدئ في السنة الحادية والعشرين بل في الثانية والعشرين.»

يريد أنها حرية مولودة مع الإنسان تنمو معه بالنشأة والتجربة والتدريب، وغايتها القصوى هي البطولة التي تعلو على طبقات الناس المألوفة، وهي طبقة الإنسان المتوفز المستسلم لشهواته ومطامعه، وطبقة الإنسان البليد المطيع الذي يعبد الأقوياء وأصحاب المال، وطبقة الإنسان الذكي الموهوب صاحب الأخلاق الذي يدبر الأمور ويحكم أبناء جنسه ... «الفاجنري الكامل».

والمشكلة هي أن طالب الكمال مطالب بتحسين غيره، كما هو مطالب بتحسين نفسه، فلا غنى له - كما قال في قضية المساواة - عن أن يرفع مستوى الحياة حوله إذا أراد أن يبلغ كماله، وكل تحسين يأتي بعد ذلك طواعية متى تم هذا التحسين.

ولا يؤخذ من هذا أن «شو» يوجب الإيثار وخدمة الآخرين على البطل دون غيره، فإن الأنانية وخدمة النفس في مذهبه الأخلاقي مسخ يضير كل حي يعنيه، سواء الخلق واجتناب العلل والآفات.

ويذكر القارئ أن «شو» يؤمن بالتطور الخلاق، ويعتقد أن سنة الوجود كله هي التقدم إلى غاية فوق حياة الفرد، وفوق ما يشغله من أهوائه ومنافعه «الفردية».

فإذا وجد إنسان ينحرف عن هذه السنة فهو ممسوخ مشوه، يحسن به أن يداوي نفسه من علة المسخ والتشويه، وجزاؤه الوحيد على الإيثار واجتناب الأثرة أنه يصحح تكوينه وينقذ جسده وروحه من شرور الزيغ والانحراف.

إلا أن خدمة الآخرين لا تنحصر في الرحمة والرفق على الدوام، فربما سمعنا من «شو» نغمات في تمجيد القوة والأقوياء والإنحاء على الضعف والضعفاء، تذكرنا بنيتشه في أعنف أقواله وأقسى وصاياه.

قال في كلامه عن تكاليف المعيشة في الجماعات: إذا كان الناس صالحين للحياة فدعوهم يعيشون العيشة اللائقة بالأحياء، وإذا كانوا غير صالحين لها فدعوهم يموتون الميتة التي تليق!

وقال أيضا: «في اللحظة التي نواجه فيها الحقيقة، ننتهي حتما إلى الإيمان بحق الجماعة في أن تفرض ثمنا لحق الحياة.»

وقال في مقدمة «على الصخور»: «إذا أردنا طرازا معلوما من الحضارة والثقافة، فعلينا أن نستأصل أولئك الذين لا يوائمون ذلك الطراز.»

تلك شريعة الجماعة عنده، أما شريعته لنفسه فهي كما قال: «أقول لكم إنني طالما أدركت أمامي شيئا خيرا مني، لن أهدأ حتى أبلغه أو أمهد إليه الطريق، وذلك عندي هو قانون الحياة» ...

على أن القارئ ينبغي أن يشك في كل تلخيص لمذاهب «شو» لا يقع فيه بعض التناقض والارتداد على ما يؤكده من القوانين والاراء.

مثال ذلك في سياقنا هذا أنه - كما أسلفنا - يقدس المال ويفرض حبه على كل عامل ، ويحسبه سبيل الخلاص من جرائر الحرمان في المجتمعات البشرية، كما يفعل الكثيرون من الاشتراكيين.

لكن «شو» هذا بعينه هو الذي يقول في وصاياه للمرأة الاشتراكية: «إن أولي الأفكار جميعا يؤكدون لك أن السعادة والشقاء مسألة بنية ومزاج لا شأن لها بالمال؛ إذ المال قد ينقذ من الجوع ولكنه لا ينقذ من الشقاء، والطعام قد يشبع شهوته ولكنه لا يشبع شهوة الروح.»

ويقول كذلك: «إن فينا شيئا خفيا يسمى الروح تقتله الرداءة المتعمدة، ولن تجدي مغانم المادة بغيره فتيلا في احتمال الحياة ... والسلوك الحسن لا يمليه العقل، بل تمليه بداهة إلهية فوق ذرع العقول.»

إلا أن الإنصاف يقتضي القارئ أن يعرف أعذار «شو» من التناقض ودواعيه التي توقعه فيه، وتوقع كل كاتب غيره في مثل هذا التناقض إذا كتب كما كتب وتوخى النهج الذي يتوخاه.

فمن اللازم أن نذكر أولا أن «شو» يلقي وجهة نظره أحيانا على لسان بطل أو بطلة في الرواية فيجعلها وجهة نظر من ناحية واحدة، ويبالغ فيها ليفسح مجال الرد عليها من الوجهة الأخرى، ومن أجل هذا تتعرض آراؤه للمناقضات كما تتعرض جميع المبالغات.

ومن اللازم أن نذكر ثانيا أن الرجل قضى سبعين سنة يكتب في موضوعات شتى متعددة الجوانب متفرقة الشعاب، وأنه أعاد الكتابة فيها مرة بعد مرة على أضواء الحوادث الحاضرة أمامه في كل مرة، ولا أمان من تعدد الجوانب والوجهات في هذه الأحوال.

ولا يمنعنا ذلك كله أن نلقي التبعة على أطواره التي تسوقه إلى المناقضة عامة أو غير عامة، فهو مولع بالمخالفة، قادر على التماس حججها والبراعة في التماسها ... ومن برع في استعمال سلاح فقلما يسلم من الشطط في الإصابة به حيث أمكنه أن يصيب.

وهو صاحب «نظريات» لا يتحرى تطبيقها عملا في فترة محدودة من الزمن أو في مدى حياة واحدة، ولو أنه سيم أن يطبق نظرياته لاضطرته الوقائع إلى القصد في المبالغات، وهي على الدوام معثرة المبالغين، وسائقتهم إلى التناقض والاضطراب.

وجملة ما يقال في هذا الصدد إنصافا له وللحقيقة: إنه على كثرة مبالغاته ونقائضه يعطيك شيئا مقررا ، ولا يتركك بعد الاطلاع على مذاهبه جميعا صفر اليدين.

فإذا قال مرة بقداسة الروح، وقال مرة أخرى بقداسة المال، فهو يقول في المرتين وفي كل مرة: إن الإيثار سنة الحياة، وإن السمو إلى المثل الأعلى قانون الخلق القويم. ومن قال هذا فقد أعطانا على تناقضه قسطاسا نزن به ما يطلبه من قداسة الروح وقداسة المال، ومن أحب المال على سنة الإيثار فقد أحب الروح ... ويطرد هذا القياس في معظم نقائضه، على هذا النحو من الاطراد. (6) التربية والثقافة

والمنتظر بطبيعة الحال من رجل كبرنارد شو أن يعالج الثقافة والتربية معالجة عملية؛ لأنه اعتمد على نفسه في تثقيفها وتربيتها، ولم يكد يعول على شيء في تحصيل ما حصله غير جهوده ورغباته.

وهو عدو الحشو الذي يملأ الدماغ بالمعلومات، ولا ينفذ منه إلى الذوق والفطنة والمعرفة بحقائق الحياة، فمهما يحشو المرء في دماغه من المعلومات فهي ذرة ضئيلة إلى جانب المعلومات التي يجهلها ولا يتأتى له أن يحيط بلبابها ولا بقشورها.

قال على لسان نيوتن في رواية «أيام الملك شارل الذهبية» من حوار بينه وبين فوكس:

فوكس :

إنني أتألم من فرط الخجل لما أنا عليه من الغباء.

نيوتن :

إن الخجل لا يجديك شيئا أيها القس. إنني قضيت عمري أتأمل محيط جهالتي الذي ليس له نهاية، وقد ازدهاني الغرور مرة فقلت إنني التقطت حصاة على شاطئ ذلك المحيط، وكان الأجدر بي أن أقول إنها ذرة من رماله.

وقال في مقدمة «سوء التوفيق» عن تعليم الجامعات:

إنهم يتكلمون على الثقافة ويفكرون في الثقافة وينتقدون فوق ذلك هذه الثقافة، فإذا كان هؤلاء القوم يتكلمون ويفكرون وينتقدون على أي جدوى، فمن اللازم أن يعرفوا الدنيا خارج الجامعة كما يعرفها على الأقل صاحب دكان في عرض الطريق، ولكن الواقع أن هذا هو الذي لا يفقهونه في الوقت الحاضر. ولك أن تقول عنهم مغزى كلمة كبلنج حين سأل: ماذا يعرف عن أفلاطون من لا يعرف غير أفلاطون؟ ... فلو أن جامعاتنا أبعدت عنها كل طالب أو طالبة لم يدبر معيشته بجهوده سنتين على الأقل، لكانت آثارها أعظم جدا من آثارها الآن.

وهو لا ينكر «أن قليلا من المعرفة خطر» ... ولكنه يرى أنه الخطر الذي لا مناص منه ولا مفر من الإقدام عليه؛ لأن هذا القليل - كما قال في مقدمة الرواية جنيڤ - هو غاية ما تحمله أكبر الرءوس.

وحسب المرء من قليل معرفته ما يعنيه على الرياضة النفسية، والرياضة الذوقية، والرياضة الجسدية.

فالعلوم غير مجدية إن لم تهيئ لصاحبها هذه الرياضات، وهو يسخر بالعلم الحديث

Science

ومن يجعلونه مفخرة للعصور الحديثة، فغاية شأنه أنه منافع ومرافق. وما من أحمق يعجز عن كشف من تلك الكشوف العلمية، أو كما قال السيد الشيخ في رواية «العودة إلى متوشالح»: «إنني يا سيدتي أجل الكشوف الفخمة التي نحن مدينون بها للعلوم، ولكنه ما من أحمق يعجز عن كشف منها. فكل طفل في سنواته الأولى له كشوف تفوق في عددها كل ما كشفه في معمله روجر باكون.»

وجرى الحديث في بيت «شو» بينه وبين بعض جلسائه فقال: إن الألمان لو انتصروا لجردوني من كل ما أملك، ولكنني - لحسن الحظ - لا أحتاج إلى كثير.

قال جليسه ما فحواه: لست أنسى ماكس نورداو، وقد جاء يزورنا بعد الحرب العالمية الأولى، فطفق يشكو الحكومة الفرنسية التي جردته مما عنده حتى أوشكت أن تهبط به إلى التسول والاستجداء.

فقاطعه «شو» قائلا: كلا، إنه من عملي أنا. إنني ضربته الضربة القاضية، وكنت الوحيد في هذه الديار الذي استطاع أن يخرجه من أعماقه ويتركه حيث يغرق ...

فعقب محدثه قائلا: إن تولستوي قد صنع بأستاذ نورداو مثل ما صنعت أنت بنورداو، فقد زاره لمبروزو في أوج عظمته، فراح يتحدث إليه في زهو وعظمة عن عصر العقل وتقدم العلوم، فأخذه تولستوي إلى بحيرة بجوار المزرعة وسأله: أتحسن السباحة؟ وبدا لصاحبنا لمبروزو أنه ما من معرفة تخفى عليه، فغطس تولستوي وتبعه هو في أثره، وما هي إلا هنيهة حتى صاح في طلب النجدة، فأسرع إليه تولستوي وأخرجه من الماء ، فخرج منه مبتلا ولكن متعظا ... ووقع الدرس في موقعه، فعلم صاحبنا أن الرجل قد يتعرض لشرح جميع الأمور، ثم يفتقر بعد ذلك إلى العون والإنقاذ.

فأغرب «شو» ضحكا، وقال في شيء من الشيطنة: لو كنت تولستوي لتركته يغرق؛ فإنني على يقين أن العظة قد ضاعت لديه.

ثم عطف قائلا: أنت تعلم أن تولستوي - مثلي - لم تخدعه هذه الخرافات التي يسمونها بعلوم العلماء وطب الأطباء.

وقد أجمل شو غرضه من هذا الاستخفاف بالعلم في الحوار الذي أشرنا إليه آنفا بين نيوتن وفوكس. فبعد أن شرح العالم المتصوف بعض الحقائق الفلكية للقس الحكيم قال هذا: الآن أنا من الحكمة بحيث كنت قبل أن أعلم ما شرحت ... يريد أن معرفة الحقيقة العلمية لا تزيد الإنسان حظا من الحكمة أو الفطنة أو «الحقيقة الحية»، وهي أحق الحقائق بالتحصيل.

ولا يمنعك «شو» أن تقرأ ما تستطيع وتطلع على كل ما في وسعك أن تطلع عليه، ولكنه يحسبه كله عبثا مضيعا إن لم تستفد منه رياضة النفس ورياضة الذوق ورياضة الجسد، وقد يكون قليل من البصر بالفنون والخبرة الرياضية أجدر بصبغة الثقافة من معارف العلوم كلها بمعزل عن الذوق والرياضة.

أما مذهب «شو» في التربية، فمتفق مع مذهبه في الثقافة على النحو الذي أجملناه.

فهو ينهى عن الضغط والقسر، ولكنه يحث على النظام والترويض، ومما قاله خلال كلامه عن المراهقة: «إنني على يقين أن كل نشاط غير طبيعي للدماغ ضار ككل نشاط غير طبيعي للجسد، وأن إكراه الناس على تعلم ما لا يحتاجون إلى تعلمه كإكراههم على أكل النشارة.

وإن الحضارات ليتطرق إليها التهدم على الدوام من جراء تعليم الطبقات الحاكمة ما يسمونه بالدراسة الثانوية، وهي الدراسة التي تثمر الغباء المطبق كما تثمر العته العقلي والخلقي بإساءة المعلمين توجيه القوى المدركة، وما من طفل يتعلم أن يمشي على قدميه أو يلبس نفسه لو حبست يداه وقدماه بحيث لا يتحرك، إلا إذا أراده على الحركة مربوه.»

وقال في «دليل السياسة للجميع»: «لا أتخيل فيما عدا قانون الجنايات عملا أقسى ولا أضر من إكراه طفل رزق ملكات العالم الطبيعي، أو الشاعر، أو الرسام، أو الموسيقي، أو الرياضي على استعباد نفسه لكرة القدم أو الكريكيت، حيث يحسن أن يتجول أو يشتغل بالتخطيط في الخلاء أو بالمطالعة أو العزف على آلة من الآلات، أو الإصغاء إلى المذياع والفرق الموسيقية.»

إلا أنه يوجب الاعتماد على نظام ما في التعليم، ويقول في الكتاب نفسه: «إن أي نظام للتعليم والتهذيب خير من عدم النظام على الإطلاق، وخطتنا الحاضرة في التعليم ينبغي أن تتبع حتى نستبدل بها ما هو أصلح منها.»

وعلى رأس كل نظام في رأي «شو» أن نعنى بتطبيع الأطفال على العقائد النبيلة والمثل العليا والطموح إلى الترقي بالنظم القائمة إلى ما هو أشرف وأعلى.

وللأطفال حقهم في أسرارهم وخصوصياتهم، فإن أراد الآباء أن يرشدوهم فلا يكن ذلك بإقامتهم أنفسهم قدوة للسير على منهجها، بل بإقامتهم أنفسهم نذيرا بسوء العاقبة.

ويحتاج الطفل كما قال في «دليل السياسة للجميع» إلى «وطن طفلي»، ولا تقتصر حاجته إلى المدرسة والمنزل. فيعيش في «وطنه الطفلي» مواطنا صغيرا يتبع قوانينه وحقوقه وواجباته ورياضاته التي تناسب كفاءة الطفولة كما تناسب قلة كفاءتها.

ومما يجعل «شو» خليقا بفهم الأطفال أنه محب للأطفال خبير بكسب صداقتهم على اختلاف أعمارهم، وعنده كما قال في مقدمة «سوء التوفيق»: أن الطفل مولع بالصحة وينبغي أن يولع بها، «وإنني على يقين أن الناس لو خيروا بين بيت لا تنقطع فيه ضجة الأطفال، وبيت لا تسمع فيه هذه الضجة على الإطلاق، لفضل كل إنسان سليم طيب النحيزة دوام الضجة على دوام السكون.»

وتتلخص التربية إذن في الحرية المنظمة التي تتجه بالطفل إلى المثل العليا، ولا يحول عرفانها بنقائص الطبيعة البشرية دون الإيمان بقدراتها على الصلاح والارتقاء. •••

هذه خلاصة فلسفة «شو» في جميع ما تتناوله الفلسفة من مباحث ما وراء الطبيعة والدين أو مباحث الاجتماع والسياسة والثقافة.

يجلس للمثال تروبتزكي.

وإذا قسمنا الفلسفة إلى أصلين كبيرين: أصل الفلسفة الروحية، وأصل الفلسفة المادية، فليس في وسعك أن تضع «شو» مع الروحيين ولا مع الماديين؛ إذ هو وسط بين الخالصين للعقيدة الروحية والخالصين للعقيدة المادية، وإنما نضعه في موضعه إذا حسبناه دائما من التقدميين المثاليين، وقسناه بمقاييس المستقبل الذي يبشر به وينتظره ويوصي العالم أن ينتظره ويطيل انتظاره، فليس من الإنصاف له أن نأخذه بحاضر أعماله، ولا من الإنصاف أن نأخذ أحدا من أصحاب النظريات بهذه الأعمال، وهم فيما يدعون بشراء الغد القريب أو البعيد.

أحاديثه

اشتهر برنارد شو كما تقدم في أكثر من باب واحد.

اشتهر بالقصة والرواية المسرحية، واشتهر بالنقد الفني والإصلاح الاجتماعي، واشتهر بالخطابة والمناظرة، واشتهر بالنكتة البارعة والكلمة السائرة في أحاديثه التي تتلاقى فيها الحقائق والأوابد على نسق واحد.

غير أننا إذا قلنا إنه محدث بارع وسكتنا على ذلك، لم نظلمه ملكة من ملكاته؛ لأن كتاباته كلها من قبيل الأحاديث التي تصدر عن صاحبها عفو الخاطر، واهتمامه بوقع النكتة في مفاجأتها أشد من اهتمامه بتحليل الحقيقة بعد درسها، ومعظم آرائه مسوق في رواياته على صيغة الحديث المرتجل الذي يرد عليه بحديث مثله. فهو محدث غير مدافع، سواء كتب أو تكلم، ومحاسبته بغير حساب الأحاديث كمحاسبة «النكتة» بالنقد والمراجعة.

فهي «نكتة» قبل كل شيء.

ولك بعد ذلك أن تفهم منها ما تشاء، مع إعطاء النكتة حقها من المبالغة أو المفارقة أو الجناس في لفظة ومعناه.

ومن الصعب أن يقال عن رجل أربى على التسعين، وقضى نحو سبعين سنة منها يكتب ويفكر، أنه يرتجل آراءه ولا يرجع فيها إلى روية سابقة، ولكننا نعني بالارتجال هنا أنه تعود أن يفوه بما يحضره لساعته عفو الخاطر، سواء ذكر ما قاله فيه من قبل أو لم يذكر شيئا عنه قبل ذلك، فطابع الارتجال هو الطابع الظاهر على كل ما يكتب ويقول، ومفاجأة السامع أهم عنده من مخاطبته بما يألف أو بما ينتظر، وقد يكون الإغراب عنده كالجرس الذي ينبه السامع إلى حامله، ثم تتلوه «الفرجة» على المألوف أو غير المألوف.

وليس من اليسير جمع أحاديثه الكثيرة في حيز واحد ، فقد تحدث إلى مئات، وسأله السائلون وأجابهم خلال عشرات السنين، فحسبنا من أحاديثه الكثيرة نماذج شتى في موضوعات متشعبة جرى الحديث فيها بينه وبين جاره وصديقه مستر «ونستين» وبعض صحابته، ثم جمعها هذا في كتاب سماه «أيام مع برنارد شو» ... وكل منها مثال صالح لجملة أحاديثه، وفيما يلي دلالة عليها لم نتعمد فيها الانتقاء والتمييز؛ إذ كان الاختيار «الجزاف» أليق «اختيار» للدلالة على الحديث المرتجل في جميع الأوقات. •••

جرى الحديث عن غاندي فقال شو عن نفسه إنه هو مهاتما الغرب - وكلاهما كما هو معلوم لا يأكل اللحوم.

ثم قال: «لما لقيته في إنجلترا قضيت معه لحظة في حديث غاية في الطرافة، وكان شديد التلطف بي، فسألني عند انصرافي كيف أنوي أن أعود إلى منزلي؟ فقلت له: سأركب سيارة من سيارات الأجرة! فلم يقبل هذا وأصر على أن يدبر لي طريق العودة بنفسه، ودعا بسيارة فخمة يسوقها شاب أنيق جميل الهندام، فحرت ماذا أعطيه حين وقف بي على باب داري! وأحسست أنه جدير بهبة غير «نصف الشلن التقليدي» الذي ننفح به سائقي السيارات، فاعتزمت أن أنفحه بخمسة شلنات، وأدهشني أنه يرفضها، وخيل إلي أنه يستقلها، ولكنني لم أشأ أن أفسده بالسرف. وإذا به يعود في اليوم الثاني ليسأل عني، فسبق إلى خاطري أنه جاء في طلب الهبة المرفوضة، ولكنه أفهمني ونحن ندخل المنزل أنه جاء ليسألني عن راحتي في نقلة الأمس، وأنه أمير صاحب ملايين، وقضينا فترة من الوقت نتحدث عن السيارات، وكل حديث عن المكنات يطيب لي على الدوام.» •••

وتحدث الجلساء مرة عن الدعوة الانتخابية في المذياع، فتبين أن شو كان يصغي إليها ويزجي الفراغ بإعطاء أصحابها درجات في فن الإلقاء، وأنه رضي عن صوت مستر «أتلي»؛ لأنه لا ينم على احتراف السياسة.

وتكلم عن مجتمع رأس المال فقال: إن التنازع أول صفات الانسانية في مجتمعات رأس المال؛ ولهذا تصبح الحياة موحشة عسيرة من ألف وجهة لا تستلزمها الضرورة، ومن ثم يندر وجود الإنسان الذي يبلغ من ذكائه وكياسته وضبط نفسه أن يسلك طريقه في الدنيا بغير إساءة يلقيها أو يتلقاها، ويمتلئ الجو كله بالدعاوى الكاذبة حتى لا يتهم بالدجل والفساد أحد غير الذي ينشد الحقيقة. إنني أنفر من البغضاء، ولكنني لا أوصي بالقناعة. فإذا سمعت الشيوخ يدعون إلى القناعة، فاعلم أنهم عطل من الفكر أو أنهم منافقون. •••

ولما دار الحديث على القذيفة الذرية قال: «إن لم نتفق على الحكومة العالمية، فسوف تأتي الحكومة العالمية بغير اتفاق على نحو أخطر وأعنف، ستأتي بطغيان دولة واحدة على العالم بأسره، ولن تكون إنجلترا هي تلك الدولة.» •••

وتكلم محدثه مرة عن الفن وعلاقته بجهل أسرار الزوجية، كلاما أكثر فيه من الشروح والتعليلات، فقال شو: «ها أنت ذا تعود إلى الشروح كأن هذه الشروح تنفع أحدا من الناس. إن الوقائع وحدها قد تكفينا حيث تخطئ الشروح في معظم الأحوال؛ لأنها تجري في نطاق تفكيرنا المحدود. وأذكر مثلا تلك الشروح التي تعود أسلافنا أن يقنعوا بها ويعتمدوا عليها ...! لقد كانت إلين تيري - الممثلة المشهورة - تعتقد أنها ستلد طفلا بعد أن قبلها واطس، ولم تكن على هذا بالمرأة الحمقاء. وكثير من المتعلمين في أكسفورد وكامبردج لا يفقهون شيئا عن المسائل الجنسية أو يفقهونها فوق ما ينبغي، وكلاهما سواء في الضرر والوخامة.» •••

وذكروا أمامه أن القوة أو السلطة مفسدة لأصحابها، فقال: ماذا نتوقع إذا كنا من الحماقة بحيث نضع السلطة بين أيدي الحمقى؟ إن السلطة على كل حال لا تفسد الناس، ولكن الحمقى من الناس إذا ملكوا السلطة أفسدوها. وهذا ما حدث مع هتلر والبلاد الألمانية، وهذه هي صناعة اللعب بامتطاء السلطة ... ولقد عرفت جيدا تلك القسوة التي يصبها أولئك الآلهة من القصدير على الوادعين والحالمين، ولكنني عرفت كذلك جيدا تلك الأرواح العظيمة التي تزداد على القوة عذوبة وبساطة، وتتلقى الشبهات والمفتريات وتظل بعد ذلك على عصمتها من الفساد. •••

وقال عن أهل الصين إنه يحسبهم مستطيعين أن يحاربوا أبدا ولا يفقدوا ما جبلوا عليه من روح الفكاهة. ثم قال إن عبادات الصين تحف بها السكينة؛ لأن المعيشة هناك محورها السن لا الشباب، ولست أخالف القائلين إن اليونان هم المسئولون عن هذه العبادة للشبيبة. وقد حاولها هتلر ... وها أنت ذا ترى مصير قومه، ونحن في الغرب نخجل من التقدم في العمر، أما الشرقي فإنه يقول لك إذا أراد أن يسترضيك إنك تبدو أكبر من عمرك. وحذار - بعد - أن تهرف بهذا في محضر سيدة من سيداتنا؛ فقد ترى قبل أن تشعر أن سقف الدار منطبق على أذنيك.

وأخرج يوما لجليسين معه وثيقة طويلة مرقومة رقما حسنا بالآلة الكاتبة، وطلب إليهما أن يوقعاها، وقال لهما: إنها وصيته المعدلة.

فسألاه: ألم نوقعها من قبل؟

فقال لهما: ولا يبعد أن تعودا بعد توقيع هذه إلى توقيعها مرة أخرى. فإنها لتسلية ظريفة أن تحتجن قسطا وافرا من المال وتلهو بإلقائه عنك هكذا بين حين وحين، وقد جاءني بعضهم ذات يوم واقترح علي أن أهبها كلها للفنانين، إلا أن المرء إذا لم يكن قد تعود حيازة المال خليق أن يضيعه. وقد كان شلي يحسن التصرف؛ لأنه تعود حيازة المال، أما والتر سكوت ودستيفسكي فقد بددا ما كسبا وآل بهما الأمر ألا يكتبا إلا وعلى الباب غريم يلحف في المقاضاة. وسأوصي بمالي لهيئات منتظمة لا لآحاد متفرقين. إن أمي قد تنغصت حياتها؛ لأنها كانت تترقب أن يترك لها الميراث، فلما لم يترك لها شقينا بذلك أجمعين. •••

ومن كلامه عن الأحاديث الصحفية: إن أناسا عديدين يتحدثون إلي خمس دقائق ويقصون سائر أيامهم بعدها، وهم يثلبونني وينعون علي. قال: «ولا شيء يثيرني كما يثيرني كما يثيرني الثناء علي لصفات أزدريها، وإن كنت لا أبالي أن يزدريني من شاء لتلك الصفات التي أنفقت السنين بعد السنين في تكوينها واكتسابها. وقد عولت في المستقبل على أن أطلب من كل صحفي أن يطلعني على نص الحديث معي قبل أن آذن له بالمحادثة!»

وكان قد قال قبل ذلك: إن صحفيا جاءني ذات يوم فبلغ من ضعفي أن آذن له بمحادثتي، فإذا هو قد أتم شغلة الحديث وحده ولم يترك لي لحظة أقول فيها كلمة واحدة، فلما انصرف سمحت له بنشر الحديث على شرط، وهو أن يكتفي بما قلت ويحذف كل ما قال! •••

ولقيه أسير ألماني فأعرب له عن إعجابه وتمنيه أن يلقاه من قبل أن ينظر إليه بعيني رأسه، وقال له: إنه ساعة لمحه من بعيد قال لرفاقه: إن جيتي شاعرنا قد قال عن نفسه إنه طفل العالم، ولكن برنارد شو خليق أن يسمى «شيخ العالم».

قال شو: إن إنجليزيتك جيدة؛ لأنك - كسائر أبناء القارة - قد اطلعت على الجميل من آدابنا، والإنجليزي إذا تكلم عن الأدب الألماني أحضر في خاطره جيتي وهيني، ولكنه إذا تكلم عن الأدب الإنجليزي فالذي يعنيه هو تلك الشرطيات والمقاتل التي يتسلى بها حين يذهب إلى فراشه. •••

وزار يوما جيرانه فقدموا له كوبا من عصير التفاح، فاعتذر قائلا إنه لا يأكل ولا يشرب شيئا بين وجبة الغداء (الساعة الأولى والدقيقة الخامسة عشرة) ووجبة العشاء (منتصف الثامنة). ثم أضاف قائلا: وعدا هذا أرى أن الأكل يقتضب حفاوة اللقاء؛ فإن الإنسان لا يتكلم وهو يأكل!

ثم استعاد ذكرى رحلته الإيطالية واندفع يغني، ورأسه إلى الوراء ويده تضبط النغمة، وعند الساعة السادسة إلا عشر دقائق تماما امتدت يده إلى ساعته الذهبية الكبيرة، فأخرجها ونظر فيها، وهم واقفا وهو يقول: لا مؤاخذة، لا بد أن أعود الساعة إلى امرأتي، فمن عادتنا أن نسمع معا أخبار الساعة السادسة. •••

وتحدث قس القرية التي يعيش فيها إلى بعض جيرانه فقال له الجار: إنك لم تنجح قط في إقناعه بزيارة الكنيسة على ما أرى.

قال القس: إنه حضر مدرسة الأحد ذات مرة، ولست أنسى أسلوبه في خطابه لأطفال القرية المساكين، مستغرقا في «الاقتصاديات» والحيويات وما يسميه بقوة الحياة! وكان الأطفال يصغون إصغاءهم الذي لا يحسنه غيرهم.

قال الجار: أحسبهم كانوا مبتهجين لعلمهم بمن يخاطبهم.

قال القس: إنهم لم يعرفوا عنه شيئا قط، وكل ما عرفوه أنه رجل غني صاحب سيارة، واعتبروها حسنة منه - وهو القادر على الخطابة في «ألبرت هول» - أن يتنزل إلى الكلام مع بضعة أطفال مثلهم ليقول لهم إن الدنيا أكبر من قريتهم الصغيرة، وإنهم إذا أحبوا أن يزدادوا علما بها فعليهم أن يقرءوا كتبا شتى من قبيل رحلة الحاج

، ثم قرأ لهم صفحة وداعبهم فأضحكهم؛ لأنه كما تعلم ممثل مطبوع ولد للتمثيل!

ومضى القس يقول: وإنني لأستعيد ذلك اليوم فأذكر أنه لم يسألني قط عن نفسي، كأنه يشعر بأن أخوتي له أمر مفروغ منه، ولما عاد بعد ذلك كانت معه نخبة من النبات النادر، فقال إن زوجته كانت تحضرها بنفسها لو أنها عائشة، وقد كان من عادته أن يزور قبرها كل يوم، فيضع عليه نثارة من الزهر البسيط، وينثني راضيا.

ووصل إليه خطاب من ناظر مدرسة يستأذنه في اختصار روايته «جان دارك» لقراءة التلاميذ، فأخبر أصحابه أنه كتب إليه يقول: إنه لا يذكر في الرواية كلمة زائدة، وإن الأطفال إذا كانت قراءة كتبي بعد نضجهم ميسورة لهم، فالخير أن تبقى هذه الكتب بعيدا من المدرسة.

إن شكسبير - كما قلت للناظر - قد مسخوه بتحويله إلى موضوع من الموضوعات المدرسية، والدنيا لا ترضى أن تحطم عبقرياتها، فإن العبقرية لا تخلق كل يوم. وما قضت ثلاثمائة سنة في تكوينه - يعني المدة بين شكسبير وبينه - يستطيع ناظر المدرسة أن يفسده في يوم واحد.

فعارضه جاره وقال إنه على نقيض رأيه يعتقد أن شكسبير قد عاش لاحتضانه في المدارس.

فابتدره «شو» مؤكدا أنه بقي في هذه الأيام؛ لأنه هو قد أنحى عليه.

فعاد صاحبه يقول: حسن، ولكنهم يجعلون اليوم رواياتك موضوعا للأسئلة في الامتحانات.

عائد في موعد الغداء.

قال: لا أبالي أن يفعلوا ما دام نظار المدارس لا يطبعونها مذيلة بالتعليقات والشروح، وأنا نفسي لم أنجح قط في امتحان ... وأحسبني أرسب إذا كانت الأسئلة من رواياتي!

ثم عقب مستفسرا: وبعد، فما هو نموذج الأسئلة التي يسألونها عن مؤلفاتي؟

قال صاحبه: قد يسألون مثلا هل كان «وب» أو «ولز» هو الذي ألف المسرحيات «الشوئية» ...؟

فضحك «شو» وأجاب: لعل وب كتبها؛ لأنه صاحب ذوق حسن في التسلية والفكاهة، ولعل ولز هو كاتب المقدمات ... وإلا فكيف يتسنى لرجل لم يتعلم قط مثل شو أن يكتب حرفا.

وعرض الحديث لشكسبير في سياق الكلام عن التمثيل، وكان محدثه يزعم له أنه ممثل بارع، وأنه لو اشتغل بفن التمثيل لغطى على هنري أرفنج بلا مراء، فقال شو: إن الرجل صاحب القريحة يأتي منه ممثل ردئ، وإنني - لسوء الحظ - قد رزقت دماغا من أدمغة القرائح، وإلا لصلحت كما صلح شكسبير للعمل في فرقة جوالة. وفي جانبي مزية أخرى هي أنني على استعداد للعمل المشترك مع غيري، وقد كنت على الدوام قاصر الحيلة في الاقتحام والمعارك، إلا أنني - لو أبيح لي - قادر على تنقيح متن الرواية التي قد أمثلها، كما صنعت برواية سمبلين.

قال محدثه: إنني ليدهشني أن تبيح لنفسك تنقيح شكسبير وأنت لا تبيح لمخرج أفلامك أن يبدل كلمة واحدة من كلماتك.

فأجاب «شو»: هات لي امرأ أعظم من شو وأنا أبيح له أن يبدل كلامي حتى لا أميزه إذا قرأته! •••

واستدعى الطبيب - وهو في المدينة - لشعوره بتعب يلزمه الفراش، فصعد الطبيب الدرج على قدميه لعطل أصاب المصعد قبل دعوته، وجلس وهو يلهث ويوشك أن يتداعى في مجلسه، فوثب شو من فراشه وناول الطبيب قرصا من الدواء يزيل التعب، وقال له: إنه يريحك على الأثر، بيد أن الآفة كلها معك هي فرط التغذية، فجرب أن تمسك عن لحم الجزار واكتف بالخضر والفاكهة، وأنت ترى أن عمري ضعف عمرك ولا أزال أنشط منك مائة مرة ... ألم تلحظ كيف وثبت من الفراش في سهولة وخفة؟ فوافقه الطبيب وأثنى على خفته ونشاطه.

فسأله شو: أترقص؟ قال الطبيب: لا. فأدار شو قرصا موسيقيا وطفق يرقص على نغماته، وعاد ينصح الطبيب أن يرقص كل يوم ربع ساعة على الأقل، فإذا هو مثله في النحافة والخفة. وأضاف قائلا: إنكم معشر الأطباء تنصحون المرضى بما لا يوافقهم؛ تقولون لساعي البريد «امش»، وهو يستنفد قواه سعيا على قدميه، وتقولون لي «لا تكتب» وأنا بالكتابة أحفظ قواي، ولو انقطعت عن الكتابة كل صباح لتساقطت كسفا ... والآن وقد أعطيتك مشورة خبير فهات الشلنات الخمسة المقررة للعيادة.

فابتسم الطبيب وطالبه بجنيهين. قال شو: ويحك! ولم؟ قال الطبيب: لأنني نجحت بالحيلة في علاجك؛ فإنني حين ادعيت التعب والإعياء أنسيتك تعبك وإعياءك وجعلتك تثب وترقص وتريني أنك ناشط وأنك خفيف.

فضحك شو، واعترف بغلبة الطبيب الباقعة له في ميدانه. •••

وحدثوه عن رسم العرايا فأنكره وقال: لعمري ماذا يتعلمون من هذه التجربة؟ إن الحياة لا تفشي أسرارها بدريهمات في الساعة يدفعونها لهذه المخلوقات التي ليس لها حياة.

وقال ذلك لأنهم يطلقون على حجرة الرسم العاري عنوان «حجرة الحياة».

وحدثوه عن حرق الموتى فاستصوبه؛ لأن مصير القبور جميعا مع الزمن إلى الإهمال والاندثار. •••

وقد تتناول أحاديثه أعماق الفلسفة فلا يحجم عن الإجابة لتوه في معضلة من معضلاتها، قال عن الحقيقة في رأي الفلاسفة: «إنني ألقي من يدي بكل كتاب يفتتحه مؤلفه بالسؤال عن الحقيقة، موقنا أنه لا يعرفها وأنني لن أعرفها ولو أتيت على كتب الفلاسفة بأجمعها. إن الفيلسوف ورجل الواقع المحسوس قد يتفقان على بضعة أمور حقيقية، ويفسرها كل منهما تفسيرا يناقض تفسير صاحبه. ومن عادة الفيلسوف أن يجعل الحقيقة والظاهر ضدين؛ حيث يعتقد رجل الواقع أن الظاهر هو الحقيقة، وأن الأمور التي لا ظاهر لها نصيبها من الصحة والثبوت أقل من نصيب هذه المحسوسات.»

وأبدى له جليسه رأيا في المصاعب وأثرها في الارتفاع بمن يذللونها ويتغلبون عليها، وأنه هو قد تسنم الذروة في عالم الأدب والشهرة لما تمرس به من المصاعب أيام الشباب.

فقال شو: «لغو وهذر. إن أصعب المصاعب التي عانيتها هي الفاقة، فلما «اقترنت» بالغنى تيسر لي أن أستقر وأن أكتب المسرحيات التي لا تصلح للتمثيل كالعودة إلى متوشالح. وإن غاية الفنان لهي بلوغ ما لا يدرك، ولن يتاح لك أن تبلغ ما لا يدرك إلا إذا لم تكن مضطرا إلى شق الطريق بكفيك.»

ثم استطرد فقال: «هناك أناس على الدوام يرتضون أن يتحملوا الأذى في سبيلك، هؤلاء لا ينجحون أبدا ولا يزال «الضحية» منهم عبئا وتبعة وملامة لا تجد من يقبلها، وينتهي الأمر بالضحية أن يتعزى بفشله، بينما يمضي خادم نفسه قدما إلى النجاح.» •••

ومن أواخر أحاديثه أيام الحرب أنه أشار إلى الألمان، فقال: إنهم فقدوا فطنتهم التي امتازوا بها، وظنوا أنهم يخرجوننا بالرعب عن صوابنا، فإذا بهم قد ردونا بالرعب إلى الصواب. •••

هذه الخواطر السريعة مثال لتفكيره كله في كتبه ورواياته وخطبه، وليست مقصورة على أحاديثه في المجالس دون غيرها.

فهو فيما يخط بالقلم أو ينطق باللسان لا يتلعثم ولا يتردد، بل يجيب عن سؤال السائل بما يعن له، أيا كان السؤال وأيا كان الجواب.

وأنفع ما تكون هذه الخصلة له حين يريد التخلص في مآزق من الخطابة أو المساجلة، ومثلها كما رأينا مآزق الكتابة.

كان يخطب في ناد حافل فقاطعه مخالف محنق، واختطف الكلام من فمه ومضى يتكلم كأنه هو خطيب النادي.

فقال له شو كأنه يعتذر: إذا سمح لي السيد بمقاطعته ...

وقبل أن يتم جملته كان السامعون قد أغرقوا الفضولي المقاطع بالضحك، فأسكتوه. واستأنف شو كلامه غير مقاطع ولا معترض عليه.

واقترحت عليه فنانة أن يتزوج بها عسى أن يرزقا طفلا له رأس أبيه ووجه أمه، فكان جوابه أنه يرحب بالمقترح الجميل لولا خوفه من مكائد الوراثة؛ فقد يأتي الطفل وله رأس أمه ووجه أبيه.

وهذه النكتة الحاضرة يقولها ويجيب بها على الرسائل، ويكتبها في المؤلفات، فهو متحدث بالقلم وكاتب باللسان، وأسلوبه فيهما أسلوب «النكتة» التي يفهم منها السامع معنى مرادا، ويعفيها من الإلحاف في النقد والتحليل.

وسائل السوبرمان

إلى هنا نتبين أن مناهج الفلسفة الشوئية تدور كلها على محور واحد، وهو عقيدته في التطور الخلاق، وترمي كلها إلى غاية واحدة وهي خلق السوبرمان.

ولما كان سوبرمان شو مزيجا من المثل الأعلى والبنية البيولوجية، فوسائله قائمة بيننا في عناصر الحياة الإنسانية، وهي موزعة بين المرأة والبطل العبقري، ولا سيما العبقري الفنان.

فالمرأة في فلسفة شو هي الأداة الكبرى للتطور الخلاق، وهي القوة الأصيلة في مهمة حفظ النوع وبلوغ غاياته، وهي قوة دءوب ملحاح تعمل عمل المسخر الذي لا ينصرف عن وجهته، ولا تني ولا تكل ولا تحجم عن مشقة في سبيل هذه الوجهة التي تنقاد إليها عمياء كأنها لا ترى شيئا دونها، بصيرة كأنها تراها دون غيرها.

أما الرجل فهو وسيلة عرضية في مهمة «الخلق»، وهو أشبه بالطريدة التي تصطاد منه بالصائد الذي ينصب الفخاخ، وقد أراحته مهمة الخلق من عنائها فانطلق في طلب البأس والمعرفة والثروة والسلطان، وتنوعت همومه وأطماعه ومزاياه، فأتاحت للمرأة أن تختار منها ما يعينها على مهمتها، وهي كما تقدم مهمة التطور الخلاق.

ويولد البطل ما بين هذا التطور وهذا السباق.

ويولد العبقري الفنان كذلك، ولكنه كالفلتة التي تنبت على غير قصد في فرع من فروع شجرة الحياة، ثم تصبح الفلتة مثلا يحتذى وقالبا يصب فيه الأنداء والنظراء.

والبطل والعبقري يتشابهان في التفدية بكل شيء في سبيل الغاية التي يقصدان إليها، أو ينساقان إليها على غير قصد منهما، والناس ينساقون معهما ولو أهلكتهم مطامع البطولة ومطالب العبقرية.

وفي رواية «العودة إلى متوشالح» يجري الحوار بين نابليون وكاهنة الوحي على هذا المنوال:

نابليون :

إن العلو يفرض نفسه يا سيدتي. بيد أنني حين أقول إنني أملك هذه المزية لا أصيب العبارة كل الصواب، فالحق أن طبائعي ومواهبي تملكها؛ إنها العبقرية، إنها هي التي تدفعني إلى تجربتها وإنجازها، ولا مناص لي من التجربة والإنجاز، وإنني لعظيم حين أجربها وأدأب على إنجازها، أما في غير ذلك المسعى فلست بشيء.

كاهنة الوحي :

حسن، فجربها وأنجزها إذن. أتحتاج إلي وحي لتجربتها وإنجازها؟

نابليون :

مهلا! فهذه المزية تستلزم سفك الدم البشري.

كاهنة الوحي :

أأنت إذن جراح؟ أأنت إذن طبيب أسنان؟

نابليون :

مه يا سيدتي! إنك لا تقدرينني. إنني أعني سفك بحار من الدماء، وموت ملايين من بني الإنسان.

كاهنة الوحي :

إنهم لا يسمحون لك بهذا على ما أحسب.

نابليون :

كلا، بل هم يعبدونني.

والعبقري كالبطل النابغ «يقدم على الصلب ويتضور جوعا إذا اقتضى الأمر فوق سطوح المنازل، ويدرس النساء ويعيش على كدهن ... وينهك أعصابه حتى ترث كالخرقة البالية بغير جزاء. إيثاري نبيل في نسيان نفسه، أناني شنيع في قلة مبالاته بغيره، وهنا تلقى المرأة مأربا مثل مأربها في العنف والتجرد عن اللبانة الشخصية، وإنه لصدام فاجع في كثير من الأحيان».

وكلا البطل والعبقري معذور في عنفه وإصراره وانطلاقه إلى الغاية التي لا محيد عنها؛ لأنهما يطلبان ما ينفع الحياة والأحياء، ولا ينفعهما إلا بمقدار ما يحققان من تلك المنفعة الباقية.

غير أن البطل والعبقري قد يتفاوتان في هذه الخصلة، فإن البطل قد ينحرف عن الجادة الكبرى مرضاة لكبريائه وسلطانه، ولا يكترث العبقري لجاه أو سلطان إذا حادا به عن غايته، وهي خلق الأمثلة الجديدة والقيم البديعة في أحلام الناس ثم في واقع الحياة.

يصلح شاربه في المرآة.

وهذه القدرة على خلق الأمثلة الجديدة هي ذريعة التقدم إلى السوبرمان، فإن شو يعتقد أن «خلائق الفن» هي القدوة التي تقتدي بها الطبيعة في محاولاتها، ولولا نماذج الجمال ونماذج العظمة التي تتمخض عنها العبقرية، لما ظهرت في الطبيعة هذه الأنماط التي تحكيها وتنمو على غرارها.

ثم يأتي السوبرمان.

وهو إنسان حي ذو بنية جسدية صحيحة وطاقة عقلية خارقة، إنسان أعلى يترقى إليه هذا الإنسان الأدنى، بعد جهد طويل تشترك فيه الأنوثة والبطولة والعبقرية الفنية.

وهو كما أسلفنا بنية بيولوجية، يطول عمره حتى ينيف على ثلاثمائة سنة، ويستطيع أن ينتفع بما استجمعه من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة، فلا تكون الفاجعة في حياته أنه يموت ساعة نضجه كما يموت العباقرة والأبطال في طور الحياة الذي نحن فيه، فلا ينتفع بتجاربه ولا ينفع بها الناس.

ويحسب «شو» أن الإنسان كان عسيا أن ينجب السوبرمان وشيكا، لولا أنه يقيم العراقيل في طريقه بيديه، كلما غلبته صغائره فألهته عن غايات الكون العظيم.

ويلوح لنا أن سوبرمان شو ليس بالمستحيل، وأن دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة، وهي أن النوع الإنساني يعظم كلما وسع الإنسان آفاق وجوده، ويصغر ويضمحل كلما انحصر في وجوده المحدود.

أقوال الناس فيه وأقواله في الناس

إننا نعرف الرجل من أقوال الناس فيه.

ولكننا نعرفه أكثر من ذلك من أقواله هو في الناس.

لأن الناس قد يغبنونه بعض حقه، وقد يعطونه فوق حقه، وقد يختلفون - بل لا بد أن يختلفوا - في النظر إليه.

أما أقواله في الناس فلن تظلمه شيئا في الإبانة عن مبلغ فهمه، وطوية نفسه، وطبيعة خلقه، ومقياسه الذي يقيس به الرجال والأعمال من وحي تفكيره وشعوره وخلجات ضميره.

وفيما يلي طائفة من أقوال المشهورين في برنارد شو ومن أقواله هو في المشهورين، أوردناها لإتمام التعريف به من حكم الناس عليه وحكمه هو على الناس، وتوخينا فيها أن نعدد وجهات النظر بتعديد الناقدين والمنقودين في جوانب العلم والعمل ومناهج التفكير. •••

فالعالم أينشتاين يقول له مهنئا في عامه التسعين: «إنك قد أدركت حب الناس وإعجابهم المرح بك من طريق قادت الآخرين إلى الاستشهاد، ولم تعظ الناس بمواعظ الأخلاق وكفى، بل اجترأت على السخرية من أشياء يحسبها غيرك فوق أن تنال. وما من أحد يقدر على عمل كعملك غير الفنان المولود لفنه، وقد فتحت صندوق لعبك فأخرجت منه دمى لا عداد لها، تماثل الناس ولكنها مع هذه المماثلة ليست من لحم ودم، بل من روح وجمال، وهي في ناحية من النواحي الأخرى أصدق منا تمثيلا للرجال والنساء، حتى لتجعلنا ننسى أنها لم تكن من خلقة الطبيعة، بل من خلقة برنارد شو.»

وقال شرشل السياسي المشهور: «أخذت أولادي يوما لنشهد تمثيل ماجور بربارا، ومضت عشرون سنة منذ شهدناها، وهي أفظع عشرين سنة شهدتها الدنيا.

تغير فيها على وجه التقريب كل نظام إنساني على أحسم ما يكون التغير، وزالت معالم القرون، وبدل العلم أحوال حياتنا ومظاهر المدينة والقرية، وجرت في ركب هذه الفترة المرهوبة أمور جسام من التطور الاجتماعي الصامت، والانقلاب السياسي العنيف، والاتساع في أسس المجتمع، والإنطلاق الذي لا حد له من الضوابط والتقاليد، والتشكيل الجديد للآراء القومية والآراء الفردية، إلا أن الرواية لم تكن فيها شخصية واحدة تحتاج إلى تصويرها من جديد، وليس فيها كلمة واحدة أو إشارة واحدة يقال عنها إنها قد فات أوانها، وقد دهش أولادي حين علموا أنها قد كتبت قبل ميلادهم بأكثر من خمس سنوات.»

وقال الروائي بريستلي: «إنه في الواقع رجل من أندر ذوي الحس والفطنة في زماننا هذا وفي كل زمان، وهو كذلك مخلوق نبيل، واسع الأفق، كريم النحيزة، موفور الشرف والكرامة. وكل ما عرف به من قوة النقد الهادم وسخرية اللذع والتبكيت لم ينخ به قط على آحاد من الناس؛ لأنه لا يكن لآحاد الناس غير اللطف والمودة، بل هو قد أنحى به على الأنظمة والعادات والنماذج ومذاهب الرأي والشعور، وما كانت شدته إلا مظهرا من مظاهر العلنية العامة.

أما في الحياة الخاصة فهو على حصافته لطيف ودود، وهو بالإيجاز رجل جدير بالحب إلى الحد الأقصى. وإذا كنا نراه على شبه بالأنبياء الأقدمين وكان مثلهم يعيش على الجراد (الخضر) والعسل البري، فقد رأينا المظاهر مرة غير خادعة ولا مرائية؛ إذ هو نبي من الطراز القديم.»

وقال بريستلي أيضا: «كان شو ناقدا فنيا، ومن خيرة الناقدين الذين عرفوا على الإطلاق، خلال عهد لم تكن فيه المسرحيات غير مهزلة صغيرة، أو بقية سخيفة من بقايا المجازات و(الأحلاميات). فرأى من النظرة الأولى أنه قادر على ما هو أفضل جدا من هذا الهراء، ومضى يعمله، فأفلح في عمله، كما نعلم لفرط سرورنا وارتياحنا، ولم يغير قالب الدرام كما صنع شيخوف، بل غير لبابه ومحتواه.

فكانت النتيجة حيرة للنقاد المعاصرين ونظارة التمثيل، وهي الحيرة التي تفسر لنا انتظاره الطويل للفوز في ميدان المسرح، إلا أنه حين أقبل وقت التقدير والاعتراف سحر الملايين بهذه المسرحيات ذات الحوار والمناظرة، وإنه لسحر سيظل باقيا بعد عصرنا هذا بزمن طويل.»

وقال عنه روائي آخر هو كمبتون ماكنزي: «أدع لغيري أن يؤدوا فروض التحية للكاتب صاحب الأسلوب الذي لم نعرف نظيره في السلاسة بعد أسلوب (سويفت) وللناقد الموسيقي والفيلسوف الاجتماعي، وحسبي أن أؤدي التحية للبداهة السليمة التي لم تخفق قط - منذ عرفت البداهة السليمة - في تقرير وجودها والإعراب عن نفسها ...

وما من مؤلف هو أحق بالغبطة من المؤلف الذي يطول به العمر حتى يرى ما كان محسوبا من الشطط المغرب في شبابه، أو محسوبا من النقائص في رجولته، قد أصبح محسوبا من البداهة السليمة، بل من الحقائق المفروغ منها في الجيل الذي تلاه، وإن برنارد شو لجدير بالغبطة، فما اتفق قط أن مؤلفا ظفر بمثل ما ظفر به بين الشباب من طول التوقير والإعجاب.»

وقال العالم الأديب جلبرت موري: «يذكرني شو أحيانا بالمثل الأعلى - في عرف أبيقور - للرجل الحكيم، وهو الرجل الذي يستطيع أن يشعر بالسعادة وهو على آلة العذاب؛ لأن روحه تنعم بحياة الفكر والتأمل، وقلما يزعجها الجسد بما يلقاه من برحاء الألم والتعذيب. اتفق له في (هندهيد) حادث أليم تركه وهو أمشاج من الرضوض وفيه رسغ مكسور، ولا شك أنه كان في ألم واصب لا يطاق.

وذهبت أعوده، فقيل لي إنه قد وضع على أرجوحة الحديقة، فبينا أنا أبحث عنه إذ سمعت قهقهة من وراء أجمة، وإذا بشو هناك ملفوفا في الضمادات، إلا أنه مستغرق في الكتابة ويضحك مما يكتب. ولم يكن رسغه الأيمن لحسن الحظ هو المصاب، فكأن فرط الحياة في نشاطه الذهني قد جعله يحيا أبدا على قدم السرعة الفائقة، طلقا غير حافل بالمنغصات والمنافسات والمعارك التي تضني كثيرا من الكتاب. ولقد خاض معارك شتى في سبيل القضايا التي لا علاقة لها في الأعم الأغلب بالشئون الشخصية، فخاضها مرحا غير واهن ولا وان، ولم يكن في جميعها متحرجا من الإجحاف، كما يقول: من أنا حتى أستحق أن أكون عادلا؟ ... على أنه - مع ما وهبه من القدرة على السخر والهجاء - لم أسمع منه قط كلمة تشف عن الحقد، أو تنم على كراهية ينطوي عليها بعد المعركة لمن حاربوه. وقد قيل إنه لم يصادق أحدا إلا أن يكون قادرا على الضحك منه، وقد أصابوه، ولكنه ضحك لا ضغن فيه.»

وقال ناقد صحيفة الإذاعة “The Radio Times” : «إنه - عدا نجاحه في مختلف الميادين - صاحب صوت من أحسن أصوات المذياع وقعا في الأسماع.»

وقال ييتس “Yeats”

الشاعر الأيرلندي : «إنه أحد أبناء النور الذين نشئوا بين أبناء الدنيا. إنه ينطق بلغتهم ويفكر مثلهم، ولكنه مأخوذ بطبيعة أرفع وأسمى.»

وقال عنه السياسي لورد بلدوين: «إنه ساحر غاية السحر مع جليس واحد، قلق مع جليسين، ويقف على رأسه مع أربعة جلساء!»

وقال ماسفيلد الشاعر يحييه في عامه التسعين من قصيدة شعرية: «أيتها الرءوس النيرة على هذا الكوكب كرميه وهو بقيد الحياة، وليأت ولاة الفن الجميل بعد قرون فليأمروا له بالنصب والتماثيل، وحسبنا من الوفاء أن نسمي مجده - وهو بيننا - باسم العظيم.»

وروى مترجمه بيرسون عن سيدة من مضيفاته قالت: إنك تدعوه إلى بيتك، وتحسب أنه سيمتع ضيوفك ببراعة حديثه، وقبل أن تشعر بنفسك ترى أنه قد اختار مدرسة لولدك، وأملي عليك وصيتك، ونظم لك وجبات طعامك، واتخذ لنفسه وظائف وكيل أشغالك، وصاحب دكانك، وقسيسك، وطبيبك، وخائط ملابسك، وحلاقك، وناظر ضيعتك. فإذا فرغ من هذا التفت إلى الصغار فحرضهم على الثورة والتمرد، ثم ينصرف حين لا يجد أمامه ما يعمله أو يقوله، وينساك كل النسيان.

ومن طريف المناوشات بينه وبين أناطول فرانس أنه قال له بالفرنسية عند أول لقاء: أنا أيضا عبقري مثلك ... فقال له فرانس: حسن، حسن. إنه لمن حق المرأة اللعوب أن تقول عن نفسها إنها تاجرة سرور!

فلم يغضب شو. وعاد فرانس فقال لصحبه: «إنه لظرف من الفتى ومهارة، فإنه لم يعلن لي عبقريته بهذه الكلمات وكفى، بل هو قد منحني الثقة بعبقريتي كذاك.» •••

أما أقواله هو في الناس فالغالب عليها أنها ميزان دقيق لأقدار الناس وملكاتهم، ولكن على شريطة واحدة، وهي أن نحسب حسابا لصنجتين موضوعتين في الميزان على الدوام، وهما صنجة المبالغة التي يحق لنا أن نسميها صنجة القافية - إذا كانت القافية لا تعذر.

يعزف لزوجته قبل أن تنام.

والأخرى صنجة الشطط في ادعاءاته لنفسه، فهو تارة قد أنقذ شكسبير من الخمول بالحملة عليه، وهو تارة قد دفن ماكس نورداو بعد أن قضى عليه بضربة واحدة، وهو في كل على حال على وزن أفعل التفضيل أو أفعل التفضيل مع الألف واللام.

ولا بد أن نلاحظ في هذا الشطط أمرين: أحدهما أنه في الواقع ثورة على عرف الرياء في زمنه، أو ثورة على التواضع الكاذب الذي تواضع عليه المقلدون الاجتماعيون في جميع الأزمان، وإيمان بأن رأي المرء في نفسه غير مستثنى من الصراحة الواجبة في جميع الآراء، وبخاصة حين يعم الإنكار المغرض لأقدار ذوي الأقدار.

والأمر الآخر الذي يلاحظ على شططه في ادعاءاته لنفسه أن الناس يتقبلون تلك الادعاءات وعلى شفاهم ابتسامة وفي نفوسهم مسامحة وهوادة، كأنهم يستمعون إلى شيطنة طفل محبوب، أو إلى غرور شيخ طيب لا ضرر من مجاراته وتقبل غرائبه وبدواته، فهي عندهم أقرب إلى المزاح المحتمل منها إلى الجد المستنكر، ولا بأس من النظر إلى الميزان بعد إسقاط هذه «الصنجة» من الحساب، فإن وزنه بعد ذلك صحيح مفيد. •••

قال عن غاندي في مناسبات عدة: إنه من العظماء الذين لا يجود التاريخ بأمثالهم إلا مرة في كل ألف سنة.

وقال عن ستالين: «إنهم يصورون ستالين دائما في صورة طاغية عبوس بليد، وأؤكد لك أننا وشيكون أن نعرفه على حقيقته، وحقيقته أنه سياسي على خبرة فذة، وأهم من ذلك أنني وجدت عنده حاسة فكاهية، وقد تعلم أن هتلر لم تكن عنده هذه الحاسة، وقد فاجأني من ستالين أنني لمحت له ابتسامة عجيبة، على شبه من ابتسامتي ...!»

وذكر ستالين مرة أخرى في صدد الكلام على لورنس المشهور في القضية العربية، فقال: «إن لورنس بلاد العرب وقد عرفته معرفة جيدة؛ كان يؤثر عن عمد أن يظل منزويا في أقل المراتب العسكرية، ويأبى أن تصدر عنه الأوامر ويسجل نفسه في قيد الأميين، وما كان يفعل ذلك لتواضع أو حياء أو تضحية، بل لاعتقاده أنه أقوى حيث هو من مكانه في وظيفتة الضابط أو القائد، وهي مفتوحة له على السواء. وقد سبقه ستالين في هذا المضمار؛ إذ ارتفع من حضيض المجتمع إلى قمة السيطرة السياسية في روسيا دون أن يلحق باسمه لقبا من ألقاب السيطرة، ولو لقب وزير. ولم يعدل عن هذه الخطة إلا في آخر الأمر يوم اضطرته الحال إلى توقيع المعاهدات وتدبير الحركات الحربية مع حلفائه الغربيين، فاتخذ لنفسه لقب رئيس وزراة ولقب قائد القواد.»

وقال عن كارل ماركس وداروين: لقد كانت في ماركس تلك الصفات التي لم تكن في داروين، وهي اللدد ولطف الملكة الأدبية المعهودة في أبناء جلدته اليهودية، وقوى هائلة من قوى المقت والكراهية والهجر والسخرية، وسائر خلائق المرارة التي خلفتها المقاومة والاضطهاد في طباع عبقرية مدللة (كان ماركس طفلا مدللا في أسرة ميسرة)، لفرط التنافر بين هذه العبقرية والبيئة التي نشأت فيها، ثم أعقبت تلك المرارة في سنواته الأخيرة مرارة النفي والفاقة.

وقال عن أثر رجال الأفكار في رجال الأعمال: إن فولتير وديدرو وروسو جعلوا روبسبير ونابليون ممكنين، ولاسال وماركس وإنجلز وريشارد فاجنر وستالين وأتاتورك بعدهم في حيز الإمكان، وأن ولز وشو وألدوس هكسلي وجود يفتحون باب من الإمكان في إنجلترا لمن لا يدريه إلا الشيطان، ولعله مخلوق لا يقبله أحد من هؤلاء الحكماء ... فلا غنى للديموقراطية من مستمعين غير الساخطين في عالم الأدب، أو أن تعد نفسها لمواجهة القلق منهم جهد ما تستطيع.

وتكلم عن علاقة العبقرية بالخبرة العملية أو خبرة الشغل - مستشهدا بشكسبير - فقال:

إليك مثلا حالة شكسبير، لقد هجر المدرسة مبكرا ليساعد أباه، وكان متاجرا لا بأس به من المتاجرين في ستراتفورد، ويبدو من سيرة شكسبير التالية أنه كان خليقا بهذه الخبرة التجارية أن يربح في قريته ويعيش في رخاء، غير أنه انطلق مع رسالته الأدبية ومهمته التاريخية، فبرح قريته وذهب إلى لندن - كما ذهبت - حيث تمكن من توطيد مقامه على باب المسرح بتنظيم مواقف الجياد التي يمتطيها رواد المسرح من الفرسان، وقد كان مارلو صاحب القلم القدير ملك الكتاب المسرحيين يومذاك، فلما قضى نحبه أثبت شكسبير أنه لا يقدر على كتابة الروايات بالكيلة على نحو يضارع قدرة مارلو في صناعة القلم وحسب، بل هو قادر على إيداعها نفحة المتعة والفطنة فوق ذلك ، فطفق يعيد تأليف الروايات القديمة و«يمسرح» الحكايات المهجورة، وبلغ من إتقانه لصوغها أنه لم يحاول في عمره القصير (52 سنة) غير مرة واحدة أن يضع رواية من مبتكراته. على أنه مع اعتباره التأليف حرفته الأولى لم ينس عادات (الشغل)، ولم يزل يقرنها بعمله حتى استطاع في الأربعين أن يعود إلى ستراتفورد وهو الجنتلمان وليام شكسبير صاحب الأرض المملوكة والدرع الضافية، بعد أن فارقها وهو الهارب شاكزبر

Shaxper ، وأقام هنالك في أجمل بيت على مشرع الطريق، وقد كان زملاؤه في كتابة المسرحيات فئة من أساتذة الجامعات لم تجبرهم الضرورة على إتقان عاداته العملية، وأتقنوا بدلا منها تلك العادات التي لا جدوى لها في (الشغل) كتسطير التوجيهات المسرحية بلسان اللاتين؛ فابتلوا بالفاقة وعاشوا وماتوا - كما حدث لشاپمان أكبر منافسيه - عيشة ضنك ومتربة بالقياس إليه، ولو أن جون شاكسبير تسنى له أن يعلم ولده في الجامعة لشقي وليام بذلك التعليم.

وقال عما استفاده من موليير وديكنز: «ألفيت أن الوسيلة المثلى لبلوغ التأثير الذي يصطبغ بصبغة التجديد والابتكار أن أستحبي الأثر العتيق للخطب الطنانة المسهبة، وأن أتشبث بأسلوب موليير، وأنتزع الشخصيات كما هي من صفحات شارلز ديكنز.»

وقال عن سياسة أبسن: «لما كانوا يلحون على هنريك أبسن أن يتصل بهذا الحزب أو ذاك من الأحزاب السياسية، كان يقول إنني لا أنتمي إلى حزب من الأحزاب، فإنني أجمع في نفسي بين اليمين واليسار، ويرضيني أن أشعر بآرائي المستحدثة وهي تمتزج بآراء الأحرار والاشتراكيين والمحافظين ولا سيما العمال والنساء. إلا أنني لا أعنون نفسي بعنوان الحر أو المحافظ أو الاشتراكي أو المطالب بحق الانتخاب للنساء، فالقواعد الحزبية ليست بالقواعد الذهبية، وليست هنالك قاعدة ذهبية على الإطلاق.»

ثم قال: أراني في مثل الموقف الذي كان فيه أبسن من حيث العلاقة بالأحزاب.

وقال عن فاجنر الموسيقي العظيم: «إن العالم تحكمه الأعمال ولا تحكمه النيات، وإن خاطئا واحدا فعالا ليساوي عشرة من القديسين والشهداء الفاشلين. ولقد كان لفاجنر - كسائر العباقرة - صفات الإخلاص الممتاز والتقدير الفائق للوقائع والطلاقة الممتازة من غواية الشهرة بين الحركات الشعبية، وكانت له فطنة ممتازة إلى حقائق السلطة السياسية بمعزل عن الدعاوى والوثنيات التي يكمن وراءها السادة الحقيقيون الذين يجذبون السلك ويحشون المدفع.»

وقال عن بيرون: «إن استغراقه في وساوس الفشل - فشل غيره وفشل نفسه - في المطابقة بين حياتهم وأمثلتهم العليا، وانغماسه من جراء ذلك في سوء الظن بالإنسانية، وثقته الصبيانية المطلقة بصدق تصوراته وخبث هذه الدنيا التي لا توليها حقها من التصديق ... كل أولئك أكسبه تلك السمة التي نصفها فاجع ونصفها مضحك، وغاص به في الوحشة الخفية التي توحي إليه صورة تاريخ غريب مفزع لم يعقب غير الحسرة والندامة.»

وقال عن نيوتن في سياق الكلام على العبقرية والمناصب الحكومية: «إن نيوتن كان وشيكا أن يصل إلى حيث وصل أينشتاين، لو لم يشغلوه بمنصب ناظر المسكوكات.» •••

ولبرنارد شو أقوال كثيرة في عظماء زمانه وعظماء سائر الأزمنة موزعة في رواياته وأحاديثه، ولا فرق في جوهرها وطبيعتها بينها على الجملة وبين الأمثلة التي أوردناها.

ولعله قد أعطانا فيها ميزانا لنفسه لا يختلف كثيرا عن الميزان الذي وزنه به ناقدوه، وهي - إذا رفعنا عن كفة الميزان بعض الصنجات كما تقدم - تعرضه لنا في صورة جمعت بين الطيبة والحصافة والإقدام، ولم تخل من شيطنة الحيوية أو الصبيانية، وما نحسب «الحيوية» قد خلت قط من شيطنة تلائمها، سواء منها حيوية الذهن وحيوية الغريزة وحيوية الطفولة ... وما مصدر الشيطنة كلها في الطفل الصغير؟ إنها الحيوية النامية لا مراء!

ومن ثم ذلك الشبه الدائم بين العباقرة والأطفال.

شو ومصر

هناك كلمة واجبة في كل ترجمة لبرنارد شو تكتب في مصر باللغة العربية، وهي الكلمة التي ينبغي أن يشار بها إلى موقفه الكريم من الأمة المصرية بعد حادث دنشواي المشهور.

وقد يحتاج القارئ العصري إلى تلخيص وجيز لهذا الحادث؛ لأنه حدث في سنة 1906 قبل أن يولد أبناء الأربعين في الجيل الحاضر، فهم لا يعرفونه إلا من طريق السماع أو الاطلاع.

وخلاصة الحادث بغاية الإيجاز أن ثلة من جيش الاحتلال خرجت للصيد على مقربة من قرية دنشواي منتصف الصيف سنة 1906 (13 يونيو) فاحترق بعض الأجران ، وقتلت زوجة أحد الفلاحين من طلقة نارية، واشتبك الفلاحون بالضباط فتفاهم هؤلاء على اللياذ بأقرب موقع لطلب النجدة، ومات أحدهم بضربة الشمس بعد أن عدا مسافة طويلة في ذلك القيظ الشديد، كما ثبت من تقرير الطبيب.

وما وصل الخبر إلى القاهرة حتى صدر الأمر العاجل بعقد المحكمة المخصوصة، ونقل المشنقة إلى القرية، ثم صدر الحكم بالشنق على أربعة وبالسجن المؤبد على اثنين، وبالسجن خمس عشرة سنة على واحد، وبالسجن سبع سنوات على سبعة، وبالسجن سنة وخمسين جلدة على ثلاثة، وبخمسين جلدة على خمسة. وتم تنفيذ الحكم في ساحة تطل عليها مساكن المشنوقين والمجلودين.

هذه خلاصة الحادث الذي جرد له برنارد شو حملة من أقوى حملاته، وكتب عنه في مقدمة روايته «جزيرة جون بول الأخرى» فصلا مسهبا في ست عشرة صفحة، لم يكتب أحد عن قضية دنشواي ما يضارعها في صدق الدفاع ومضاء الحجة وشدة الغيرة على المظلومين في الحادث المشئوم.

وقد كاد اسم شو أن يقرن باسم دنشواي في تلك الآونة، بل تهكم بعض الكتاب المستعمرين، فاشتق من اسم شو واسم دنشواي نسبة واحدة باللغة الإنجليزية، وهي شافيان

Shavian ... إذ كانت هي النسبة إلى شو وهي النسبة أيضا إلى دنشواي بعد اختصارها على عادة الإنجليز من

Denshavian

إلى

Shavian

مقطعها الأخير.

ومما قاله في تلك المقدمة: إن الفلاحين المصريين لم يتصرفوا في الحادث غير التصرف الذي كان منتظرا من جمهرة الفلاحين الإنجليز لو أنهم أصيبوا بمثل مصابهم في المال والحرمات، وإن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث، بل كانوا لاعبين عابثين أساءوا اللعب وأساءوا المعاملة، وإن الفلاح الإنجليزي ربما احتمل عبثا كهذا؛ لأنه على ثقة من التعويض، ولكن القرويين في دنشواي لم تكن لهم هذه الثقة بالتعويض ولا بالإنصاف. وأن أحد المشنوقين - حسن محفوظ - كان شيخا في الستين يبدو من الضعف كابن السبعين، فلو لم يشنق لجاز أن يموت في السجن قبل انقضاء خمس سنوات.

وأجمل شو تاريخ المحكمة المخصوصة التي أنشئت لمحاكمة من يعتدون على جنود الاحتلال، وأجمل وقائع المحاكمة وأقوال الشهود، وما جوزي به بعضهم على الصراحة في أداء الشهادة، وأشبع لورد كرومر ووكيله مستر فندلي تقريعا وسخرية على ما كتباه عن القضية إلى وزارة الخارجية. ومنه قول مستر فندلي في تسويغ عقوبة الجلد بمصر: «إن المصريين قدريون لا يهمهم الموت كما تهمهم العقوبة البدنية» ... فكان تعقيب شو على هذا التعليل العجيب أن العجب إذن في أمر الأربعة المشنوقين ... أليسوا من المصريين القدريين.

وقد شملت حملته الوزارة البريطانية والبرلمان الإنجليزي؛ لأنهم لم يمنعوا تنفيذ الحكم بعد تبليغه، وقال إن الإفراج عن السجناء من أهل القرية أقل تكفير منتظر عن هذه الكارثة البربرية.

ولم يزل شو يتابع القضية بعد إقالة لورد كرومر، وأعلن اغتباطه بعد سنة حين أثمرت حملته ثمرتها المشكورة، وأبلغوه أن العفو عن السجناء قريب.

وقد يرد على الخاطر أن شو وقف من قضية دنشواي موقف الأيرلندي المحنق من الدولة البريطانية، فمن خطر له ذلك ليغض من غيرته الإنسانية في موقفه هذا فتصحيح خطئه يزيد الرجل فضلا على فضله، وبيانا لغيرته الإنسانية الخالصة في دفاعه؛ إذ كان بين الضباط البريطانيين المشتركين في الحادث اثنان أيرلنديان من أبناء قومه، فشملهما باللوم الذي شمل به الآخرين.

مناقشة.

والتعريف بهذه الناحية الإنسانية لازم فيما يكتب عن برنارد شو حيثما كان كاتبوه، غير أنه ألزم ما يكون في كتاب ينشر في مصر لقراء اللغة العربية. •••

على أن مصر شغلت «شو» لمناسبة أخرى غير هذه المناسبة المحزنة، ولعلها أقرب إلى الفكاهة التي يجد فيها صاحبنا متاعا لقلمه ولسانه.

فقد تقرر في سنة من السنين الدراسية (1927-1928) تدريس روايته «جان دارك» في الجامعة المصرية، فأثار القرار اعتراضا شديدا ممن سمعوا الرواية ولم يطلعوا عليها؛ لأن النبي عليه السلام يذكر فيها باسم راعي الإبل.

وصلت الحملة على الرواية إلى مجلس النواب، وتصدى أربعة من النواب لاستجواب الحكومة في هذه المسألة، وكان كاتب هذه السطور عضوا فيه فاشتركت في المناقشة لبيان الحقيقة، وذكرت المجلس بموقف الرجل في قضية دنشواي ، وقلت إن العبارة المشار إليها قد وردت على لسان شخص من شخوص الرواية لا على لسان المؤلف، وإن المؤلف وضع على لسان شخص آخر رده المفحم عليها، فقال إن أتباع محمد عليه السلام أوفر أدبا من هذا في كلامهم عن السيد المسيح، وإنهم يوقرون الحواريين، ولا يقولون عن واحد منهم إنه «صياد أسماك».

ونمى الخبر في أثناء ذلك إلى برنارد شو، فقال لمندوب صحيفة «نيوز كرونيكل» الذي قصد إليه لمحادثته في شأنه: «إن ما جاء في الرواية لم يكن رأيي أنا، بل هو رأي الكنيسة في القرون الوسطى.»

وكان ناقلو الخبر قد أساءوا نقله، وأفهموا الكاتب أن الاعتراض على الرواية قد جاء من قبل الأساتذة والطلبة، فقال: «إن الطلبة المصريين فاتهم على ما يظهر أن العبارة التي لم ترقهم لم تصدر مني، وإنما صدرت من كوشون الذي عاش في القرن الخامس عشر، وإنني أفهم أن تسيء هذه العبارة وأمثالها إلى جماعة من الأميين، بيد أنني لا أدري كيف يأتي سوء الفهم من هيئة علمية كالجامعة المصرية. ألم يستطع أولئك الجامعيون أن يروا ما في المقارنة من المدح والثناء على النبي؟ ... ولماذا لم يقرءوا ما قال إيرل وأرديك من الإشادة بالإسلام على حساب المسيحية؟»

ثم ختم الحديث بشطحة من شطحاته فقال: «إن آخر كلمة أقولها في هذه القصة: إن الأساتذة يستحقون العزل العاجل جزاء لهم، أما الطلبة فقد يستحقون الصفح والإغضاء.»

وعزاء الأساتذة الذين عناهم شو أن العقوبة التي اختارها لهم أخف عقوباته لمن يتهمهم بالجمود والتضييق على الحرية الفكرية ... فهي رحمة وغفران منه حيث لا يقبل الرحمة والغفران.

صورة مجملة

تخلص لنا مما تقدم صورة مجملة لبرنارد شو واضحة الملامح، كثيرة الإشراق، قليلة التظليل، يقبلها الصديق ولا يرفضها العدو؛ لأن أصدقاء برنارد شو يحسبون حساب المبالغة المألوفة منه فلا يبلغون به مبلغ دعواه، أما أعداؤه فلا يحقدون عليه.

ومجمل الصورة التي تخلص لنا من أوصاف برنارد شو «الإنسان» أنه رجل طيب القلب محمود الطوية، مطبوع على البساطة والسلامة، يكاد يعيش في حياته الخاصة معيشة النساك المتألهين، فلا يأكل اللحوم ولا يشرب الخمر، ولا يحتفل بالمائدة في طعام ولا شراب ولا حلية، وأيسر ما يقال عن بساطة مائدته المفضلة أنها خشب بغير مفرش؛ لأن المفرش فضول، وجمال الفن مطلوب في مواضعه، وليس من مواضعه مائدة الطعام.

يعيش في حياته الخاصة معيشة البساطة، بل التقشف الذي لا يميزه من عامة الفقراء، وهو على هذا معدود من كبار الأغنياء، بل هو فعلا من أكبر الأغنياء بين زمرة الأدباء العالميين، وكثير من غير زمرة الأدباء.

وليست معيشته هذه عن شح ولا كزازة، ولكنها نفور من البذخ والبهرجة، وإيثار للسهولة و«ذوق» الرياضة ... وإنه ليحب المال ويعلن حبه ولا يرى معابة في جمعه وتوفيره، ولكنه حب لا يملك عليه رشده، ولا ينسيه ما هو خير من المال وأولى بتقديمه وإيثاره، فترك التأليف المسرحي زمنا وهو يدر عليه الألوف من أرباح المسرح، والصور المتحركة، وحقوق الطبع والترجمة في البلاد المختلفة، وشغل نفسه بتأليف كتاب رخيص الثمن يعلم به النساء ما ينبغي أن يتعلمنه من حقوق السياسة وآدابها وأسرارها، ولا تقل خسارته في هذا البدل المغبون عن عشرات الألوف من الجنيهات.

وهو على حقيقة طبعه في حياته الخاصة، لا صفة له أصدق وأعمق من البساطة والسلامة، وكل ما يعزى إليه من البذخ والتهجم فهو في ميدان الحياة العامة، على سن القلم وصفحات القرطاس.

ولك أن تسمي التنفج المألوف منه بذخا، والغلو الذي يلازمه في نقده وسخريته تهجما، إلا أنه بذخ القافية وتهجم النكتة، فليس بينه وبين النية المدخولة والطبيعة السيئة وشيجة من وشائج الطبع الذميم.

ونحن نستطرد هنا من صورة الرجل في حياته الخاصة إلى صورته في حياته الفكرية، أو حياته العامة على الإجمال.

فقياس النكتة هو قياسه الوحيد في هذه الصورة.

وهو لا يرتضي هذا القياس، ولا يزال يقول كلما فرق بينه وبين شكسبير إنه هو صاحب رسالة لجيله وللأجيال المقبلة، وإن شكسبير لم تكن له رسالة يؤديها لجيل من الأجيال.

والواقع أن هذه التفرقة نفسها هي إحدى نكاته التي تخضع لذلك القياس، وليس هو في حكمه على شكسبير ولا في حكمه لنفسه بمصيب.

إن شكسبير قد أحيا التاريخ بقريحته الخالقة، فعرف أبناء قومه بأنفسهم وعرف الناس بالتاريخ وعرفهم بالحياة، وليس بعد إيجاد الوجدان القومي ولا بعد تعريف الناس بالتاريخ والحياة من رسالة يطمع فيها شاعر عظيم.

أما شو فلو أراد الناس أن يتبعوه في وجهة من وجهاته المتعددة لحاروا في مفترقها، ولم يجدوا بين تلك الوجهات المتعارضة غير جامعة واحدة، وهي جامعة النكتة البارعة أو «الوثبة الرياضية» التي ترضيه بحركتها وهو يقفز إلى اليمين كما ترضيه بالحركة نفسها وهو يقفز إلى اليسار! ومن حوله النظارة يعجبون ويصفقون، ولا يعنيهم أن يقيسوا مسافة الاتجاه كما تعنيهم الوثبة «الفنية» على أي اتجاه!

فهو من الفرديين مع أبسن، ومن الاشتراكيين تارة مع كارل ماركس، وتارة مع جماعة الفابيين.

وهو هو من أنصار الحرية المتطرفين، ومن المشيدين بالسلطة الموحدة، والدولة التي يحكمها بأمره زعيم.

وهو من أنصار الجماعات البشرية، ومن المؤمنين بالبطل أو السوبرمان.

وهو يوصي بحب المال ويعظم شأنه، ثم يرى أنه قاصر عن إسعاد صاحبه، وأن سعادة الضمير تكسب بثروة الروح لا بثروة المال.

ينظر إلى صورة زوجته من صنع المصور «سرتوربوس».

ونقائضه في المسائل الصغيرة أكثر من نقائضه في تلك المسائل الكبيرة، وقد يقول الكلمة ويرد عليها بغيرة واحدة في القول وفي الجواب، والقراء أو المستمعون يعجبون بضربته هنا وضربته هناك، كما يعجبون بضربة اللاعب وقرنه في حلقة الملاكمة والصراع.

فالشعور الرياضي، أو الشعور بالنكتة البارعة، هو الشعور الغالب على فارس هذا الميدان والناظرين إليه.

ولهذا تسمع الإعجاب به من المحافظ والمجدد، ومن الروحي والمادي، ومن أنصار الديمقراطية وأنصار الفاشية، وكلهم يقبلون «النكتة» ولا يمعنون بعد قبولها في التحليل والتعليل.

قال شرشل في الفصل القيم الذي كتبه عنه: «يخيل إلي أن الندماء المهرجين الذين قاموا بذلك الدور النفيس في القرون الوسطى إنما أنقذوا جلودهم من السلخ، ورقابهم من اللي بتلك الحيدة أو تلك المساواة التي كانوا يتوخونها في توزيع نكاتهم وسخرياتهم على كل جانب وكل إنسان بغير تمييز ولا استئثار، فقبل أن يجرد هذا النبيل سيفه ليجزي النديم على ما أصابه من لسانه اللاذع، إذا به يغرب ضاحكا مما أصاب منافسه أو زميله، وإذا بهم جميعا في شاغل بأنفسهم عن مد أرجلهم بالرفس لمن يرفسهم، وهكذا نجا النديم المهرج ووجد سبيله إلى أخطر المواطن، ونعم بألاعيبه في الحرية تحت نظرات الهمجية والطغيان الزائغة من العجب والدهشة.»

وقد أصاب السياسي الكبير في تصويره للأديب الكبير، فهذا الذي جعل شو كما قال أينشتاين: «يدرك حب الناس وإعجابهم المرح به من طريق قادت الآخرين إلى الاستشهاد».

فلا محل للاستشهاد حيث لا يضرب الضارب في معسكر واحد، وقلما يتعصب الناس على أحد لم يتعصب لشيء يؤثره بحماسته وتوقيره، ويغضب من أجل هذا من كانت لهم حماسة في جانب سواه.

على أنه لا محل للاستشهاد عامة في معركة شو بين الأرباب والأوثان، فقد أصبحت الأرباب التي يضربها وليس لها عابدون ولا مقدسون، وتحطمت الأوثان من حوله وهو يقذف النظارة بأعشارها، فيحسبونها لعبة رماية واتقاء، ولا يخطر على بالهم أنها معركة هياج وسفك دماء. •••

ومن إغراء السانحة الأولى تلك المقارنة التي تنعقد أحيانا بين شو وڤولتير على اعتبار أنهما الساخران الثائران في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

والحقيقة أن الشبه بينهما لا يتقارب في موضع حتى يتباعد في مواضع، وأهم ما بينهما من مواضع الخلاف أن ڤولتير قد اتخذ «النكتة» اللاذعة سلاحا في حرب حامية. أما شو فقد عكس الآية وجعل «الحرب الحامية» نكتة أو ملعب رياضة. وكان ڤولتير يعمل في ميدان قائم الأصنام والأوثان، ولم يكن في ميدان شو غير أصنام دالت دولتها وأوثان مالت قوائهما، ولعله لم يطلق غاراته على وثن قائم غير وثن «العلم الحديث» دون غيره، فذاك هو الوثن الذي حاربه شو وهو قائم الأركان في أوج القوة والسلطان.

ولم يحاربه شو لأنه يعادي العلم كما عاداه أبناء القرون الوسطى، وإنما عاداه لأنه عدا طوره وجاوز حده، وطلع على الناس أول مطلعه في نهاية القرن الثامن عشر كأنه صانع المعجزات وخليفة الدين والفلسفة والمعرفة الإنسانية في جميع شعابها غير مدافع إلى آخر زمان. فطامن شو من هذه الدعوى العريضة، وأعطى ما للعلم للعلم وأخذ منه ما ليس له أن يدعيه فضلا عن أن يدعي التفرد فيه، وكان توفيقه الأكبر في تفنيد مزاعم العلماء الذين زحفوا على محاريب الفنون الجميلة، فحاولوا أن يأخذوها بالمبضع والمشرحة كما يصنعون في المعامل والمستشفيات، فكانت صولة شو عليهم زاجرا نافعا جاء في إبانه، واستنقذ النقد الفني على الخصوص من المبضع والمشرحة ليرد إلى الفنون ما للفنون، ويعلم العلماء أين يسكتون وأين يتكلمون!

إلا أن حرب الأوثان لا تتشابه في جميع الأحوال، ولا سيما وثن العلم الحديث في أواخر القرن العشرين.

فليس لوثن العلم الحديث سدنة يقدرون على تسخير العامة والجهلاء في خلق الشهداء والضحايا، وربما كان الراضون بنقد العلم أكثر عددا وأشد بأسا من الساخطين على ناقديه.

ولا ننس أن العلم الحديث كان قد مضى على نشأته قرن كامل في عصر شو «الذهبي» وهو أوائل القرن العشرين، وكان في هذه الفترة قد استنفد قوة الدفعة الأولى، وترك أنصاره ومنكريه سواء على استعداد للشك في معجزاته أو الشك في خلافة «البحث التجريبي» لسائر البحوث الإنسانية، ومنها بحوث العقل والعقيدة. فلم يكن في المعركة محل للشهداء، بل كانت على دأب شو في جولاته وصولاته معركة رياضية، يتصافح بعدها الغالبون والمغلوبون.

ويبقى بعد هذا جميعه أن البراعة الفنية هي غاية ما ينشده برنارد شو من نكاته ولذعاته، وأنه قد ينسى الواقع والصواب، بل ينسى التبعة الأدبية في سبيل البراعة و«اللعبة» البهلوانية المتقنة.

ويبدو لنا أن تعليل هذه الخصلة في الرجل والكاتب على السواء غير عسير، فإنه ورث من أبيه وأمه معا قلة الاكتراث بالأوضاع القائمة، وقلة الشعور بالتبعة و«المسئولية»، وكثيرا من الاستخفاف بما يهم الناس ويلعجهم ويضطرهم إلى الجهد والتدبر الطويل.

فكان أبوه يدمن السكر ولا يحفل بشيء، وكان إذا أصيب بخسارة أو تعرض لبلية أرسل القهقهة وراء القهقهة، حتى يخيل إلى ناظره أنه مسلوب الرشاد، وقد اجترأت أمه على أن تترك زوجها وتعيش مع معلمها الموسيقي، دون أن تحفل بالبيت والبنين، وبما تلوكه الأفواه من التهم أو المعاذير.

أما تعليل تلك الخصلة من الناحية الفنية فقد نلتمسه في شيئين اثنين؛ أحدهما: نشأته الموسيقية وانصرافه إلى العزف والإيقاع منذ صباه الباكر، فأصبح «الوقع» عنده مقدما على الجوهر واللباب، ولا سيما الوقع الذي يتوخاه من لم يبلغ من الفن الموسيقي مبلغ الرجل الذي يؤدي فيه معاني الجوهر واللباب.

وثانيهما: أنه بلغ سن الكتابة والاشتغال بالمسائل العامة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي الفترة التي كثرت فيها الدعوة إلى نبذ كل قديم والتعلق بكل جديد، فأصبح الإغراب والإبداع مقدمين على التحقيق والتمحيص، وأصبحت الحاجة إلى التنبيه والإعلان لازمة من لوازم الصحافة والمسرح وما يتصل بهما من أبواب الكتابة.

قال في جزيرة جون بل الأخرى: «إن طريقتي في المزاح أن أقول الحق الصراح ... إنه أعجب مزحة في هذه الدنيا.» وقال في أجوبته على الأسئلة التسعة: «إن أسلوبي هو أن أتعب غاية التعب في استنباط ما ينبغي أن يقال، ثم أن أقوله بعد ذلك بأدنى العبارات إلى الاستخفاف.»

وقد يكون سر صناعته في هاتين الكلمتين بغير مواربة ولا تدجيل؛ لأنه على أسوأ ما يكون يعربد ولا يدجل.

ولن يستخلص من كلامنا في هذه الصورة المجملة أن شو لم يعمل شيئا، ولم تكن له رسالة خاصة في تاريخ الإنسانية، فغاية ما في الأمر أن الرسالة التي أداها فعلا غير الرسالة التي أرادها أو أراد أن يتسم بها في حكمه وتقديره.

وإنما يقال عن الكاتب إنه لم يعمل شيئا ولم تكن له رسالة إذا استوى ظهوره وخفاؤه، وكان الميدان بعده كما كان يوم وصوله إليه.

وكل شيء يمكن أن يقال عن شو غير هذا المقال.

فإن الفرق لعظيم بين ما كانت عليه الثقافة الفنية في منتصف القرن التاسع عشر، وما صارت إليه في منتصف القرن العشرين، وفضل شو في هذه النقلة البعيدة لا يعلو عليه فضل كاتب ولا أديب في تاريخ الثقافة الحديث.

لقد خلت الساحة التي عمل عليها من ركام الأنقاض والطلول التي كانت مبعثرة فيها، وقامت على موضعها أسس تنتظر البناء وحجارة تصلح للتعمير.

وقد عود الناس السماحة معه فتعودوها مع غيره، ووسع الآفاق الإنسانية بمحاسنه وعيوبه على السواء، فقد عيب عليه أنه يقول بالرأي ونقيضه، ويهجم على المعقل الذي ذب عنه وحماه، فلما رأى الناس كتابا واحدا يحيط بالفكرة الواحدة من جانبي نقدها وتأييدها، آمنوا بحق الخلاف بين الخصمين، وألفوا تعدد النظر حيثما انحصر النظر في جانب واحد يتشبث به ولا يمتد إلى سواه، ولم يعرف العصر الحديث في الأدب الإنجليزي - أو الأدب العالمي - كاتبا ينسب إليه فضل مأثور في ذلك التحول إلا اقترن به فضل مثله لشو، لا ينقص عنه وقد يزيد عليه.

وقد تم لشو ما لم يتم لأقرانه من حسن الأداة في صناعتيه: صناعة الكاتب وصناعة الخطيب، فهو صاحب أسلوب لا يضارعه أسلوب معاصر في السلاسة والصفاء، وهو صاحب صوت أخاذ، يستهوي الآذان ويستحب السامعون أن يصغوا إليه وإن لم يعتقدوا ما يقول.

وقد أنصفه أبناء عصره بما أحاطوه به من الشهرة والإعجاب، فإذا كان نصيبه من الشهرة أوفى نصيب فهو حق لا محاباة فيه ولا مغالاة.

سطور وشذور

نختتم هذا الكتيب بمقتبسات من مؤلفات شو توخينا فيها الإيجاز لتمثيل أسلوبه الخاص في صوغ الكلمات الجامعة، والأوابد البارعة والمفارقات «المعقولة»، وهي المجال الذي يفوق فيه غيره، حتى ليصح أن مطولاته جميعا لم تكن إلا مناسبة يسوق فيها هذه «الفلتات» المقصودة.

ولم نر ضرورة لترتيبها على حسب الموضوعات؛ اكتفاء بما أجملناه في الصفحات السابقة من آرائه في هذه الموضوعات.

وهي على هذا النسق أدنى إلى طبيعة التفرق التي صدرت بها أو صدرت عنها، في مختلف الأوقات والمناسبات.

التقاليد

لا تغضي من شأن الحكمة الهاجعة التي يتخذها التقليديون، فليس في مقدور أحد أن يعيش في مجتمع بغير تقاليد، والذي يجعل معشر الحصفاء تقليديين جهد استطاعتهم أن التقاليد تغنيهم عن كثير من الوقت والفكر والتعب والاحتكاك في مواطن شتى، فتبقى لهم من وقت الفراغ للحرية ما لا يجدونه إذا خرجوا على التقاليد. وصدقيني إذا قلت لك: إنك إذا لم تكوني قد وطنت النفس على قضاء العمر مبشرة بالخروج على التقاليد كأنها صناعة محترفة، فأنت كلما التزمت التقاليد من غير إسفاف إلى البلاهة أو العبودية أو الابتئاس والنكد، كانت الحياة أسلس لك وأيسر، وعليك حتى إذا اتخذت الإصلاح صناعة أن تقنعي بضرب واحد من مخالفة التقاليد تبشرين به وتقتصرين عليه، فإذا عولت مثلا على محاربة الكعب العالي في الأحذية، فاحرصي على أن تفعلي ذلك وعلى رأسك قبعة من الطراز الأنيق.

الدليل السياسي للمرأة الذكية

فاجعتان

في الحياة فاجعتان: إحداهما أن تفقد أمنية قلبك، والأخرى أن تظفر بها.

الإنسان والسوبرمان

نوع من الانتحار

أكبر التضحيات في الزواج هي التضحية بمسلك الإقدام والاقتحام قبل الحياة، وهي ما يسمونه بالاستقرار. إن الذين ولدوا متعبين يشوقهم أن يستقروا، ولكن الاستقرار عند من ولدوا بنفوس نضرة قوية نوع من الانتحار.

مقدمة أندروكليز والأسد

متى تموت الأكذوبة

إذا شاعت الأكذوبة كما تشيع أحاديث الخرافات والمعجزات فاللحاق بها في سرعتها مستحيل، ومهما يجتهد المفندون في إثبات بطلانها، فالأغبياء لا يزالون يرددونها والصحفيون يتناقلونها، حتى يسأموا الرغبة في تصديقها، ويومئذ تموت ميتتها الطبيعية، ولكنها لن تموت قبل ذلك.

وإنها لميتة بطيئة قد تظل قرنا أو قرنا ونصفا إذا جاز أن أعتمد على إحصاء الأكاذيب التي كشفت في طفولتي ولا تزال حية في مختتم حياتي.

الدليل السياسي للجميع

إن الناس مسئولون أن يقترفوا كثيرا من الخسة ليحتفظوا بالكرامة.

على لسان دورا في رواية فاني

القانون

سير هوارد سيسلي :

إذا أردت أن تفعلي شيئا يخالف القانون، فارجعي دائما إلى مشورة رجل قدير من رجال القانون.

ليدي سيسلي :

نعم، هكذا أفعل ...

ارتداد كابتن براسبوند

أشفقوا على الأغنياء

إن الأغنياء يخافون الفقر أشد من خوف الفقراء إياه؛ لأن الفقراء قد تعودوه وألفوه.

دليل السياسة للجميع

يستقبل جبرييل پاسكال وڤيڤيانلي.

الجاذبية الجنسية

إن أقوى الجاذبيات الجنسية قد توجد بين اثنين يختلفان في الذوق والكفاءة اختلافا لا يطيقان معه العشرة مدى أسبوع فضلا عن مدى الحياة؛ ولهذا لا ينبغي أن يقترن أحدهما بالآخر، وإن بدا أن ذريتهما - وهي مقصد الطبيعة - خليقة أن تأتي على أصلح ما يكون من الوجهة الحيوية.

دليل السياسة للجميع

الحب مبالغة

إنك كجميع الفتيان تبالغ في تقدير الفرق بين فتاة وفتاة.

ماجور بربارا

السعادة

السعادة. السعادة. إنها لشيء ليس في الحياة ما هو أدعى منه إلى الملل والسآمة. أتحسبني أبلغ ما بلغت لو باليت بالسعادة!

نابليون في رجل القدر

السعادة والعظمة

ليس المهم ما أحب وما أكره، وإنما المهم أن أفعل ما يلزم، ولا متسع من الوقت عندي للاشتغال بنفسي. هذه ليست بسعادة، ولكنها هي العظمة.

كليوبترا في قيصر وكليوبترا

نصائح الأطباء

منذ خمسين سنة، أكد لي جمع موقر من الأطباء أنني سأهلك من سوء التغذية إن لم آكل اللحم، ولا يزال الأطباء على هذه النصيحة كأنما قد مات جميع النباتيين - ومنهم أنا - في الموعد المقدور.

دليل السياسة للجميع

الفضائل والرذائل

الناس لا يحفظون فضائلهم ورزائلهم منسقة منضدة كل منها على حدة. إنها مخلوطة!

بيت القلب الكسير

الأمانة

لو أنني أصبحت رجلا أمينا لأصبحت كذلك رجلا فقيرا، ويومئذ لا يوقرني أحد، ولا يعجب بي أحد ولا يشكرني أحد. أما إذا كنت على نقيض ذلك جسورا طماعا غير متحرج، ثم نجحت واستغنيت، فهم جميعا يوقرونني ويعجبون بي ويزدلفون إلي وينحنون أمامي. يومئذ ولا شك أستطيع أن أحتمل ترف الأمانة!

من الجودة لا يصدق

الحرية الكاملة

الحرية الكاملة يحلم بها العبيد؛ لأنهم لم يجربوا أهوالها.

من الجودة لا يصدق

الأوهام والأحلام

إننا وشيكون أن نموت من العته الذي يصيبنا لقلة «تشغيل» عقولنا، إن لم نملأ رءوسنا بالأحلام الفارغة التي نستمدها من الصحف المصورة والأقاصيص والمسرحيات والأفلام.

إن هذا الحشو يحيينا وإن كان يزيف لنا كل شيء، حتى يحيلنا أخيرا إلى طائفة من المجانين الخطرين في هذه الدنيا .

دليل المرأة الذكية

الحرب

لو كنت ربا نافذ القضاء لوقفت الحرب في أسبوع واحد ببضعة ملايين من الجراد والأرضة، أطلقها على كل فدان في كل إقليم من أقاليم المقاتلين، فلا يلبثون يوما حتى يجدوا أنفسهم مقاتلين، ولكن لا ليقاتل بعضهم بعضا بل ليقاتلوا تلك الجيوش الدقاق، التي تستبسل في الهجوم عليهم وعلى جثث موتاهم، وبيادر أطعمتهم في عدد لا يحصى ونظام لا يقهر ... في ذلك اليوم لا يعرفون ساميين وأعداء للساميين، ولا بريطانا وجرمانا، ولا أمريكيين ويابانيين، ولا صعاليك وأصحاب أموال، ولا ديمقراطيين ومستبدين، ولا مسلمين وبرهميين، ولا سودا وبيضا، ولا صفرا وحمرا، ولا أيرلنديين أيضا ... بل رجالا ونساء يستنقذون الحياة الإنسانية في لهفة وفزع من تلك الغارة التي لم يعرفوها من قبل إلا نماذج في حيز الاحتمال.

دليل السياسة للجميع

العظماء

إن فلتات الطبيعة التي نسميها بالعظماء لا تسجل ما أدركته الإنسانية، بل ما هو مستطاع ومأمول.

مقدمة جنيف

الإنجليزي

خذ مع الإنجليزي في حديث من أحاديث الجد ينصت إليك لحظة كما ينصت إلى عازف يسمعه دورا من أدوار الموسيقى السلفية، ثم يرتد إلى ملعبه أو نادي سياراته أو طياراته، أو إلى امرأته كما ترتد قطعة من المطاط جذبتها لحظة ثم أرخيتها.

عودة إلى متوشالح

المخالفون

إنني بلغت من السن ما يتيح لي أن أعلم وأن أخاف تلك الكراهية العنيفة التي تلقى بها الحيوانات الإنسانية - كغيرها من الحيونات - كل مخلوق تعس ساء حظه، فلم يشبههم في كل شيء وأصبح خرقا في الطبيعة كما يقولون.

عودة إلى متوشالح

المرح

لا ينقطع المرح من الدنيا؛ لأن الناس يموتون، ولا ينقطع الجد من الدنيا؛ لأنهم يضحكون.

مشكلة الطبيب

جاذبية الجنس

إن جاذبية الجنس على نفعها في تعمير العالم، لا شأن لها بالجمال، ولعلها تعمينا عن القبح بدلا من أن تفتح أعيننا للجمال، وهي التي تهيئ لنا أن نطيق هذا العالم المفعم بكل قبيح من المناظر والأصوات والآدميين، وفي وسعك أن تستغني عن زهرة ميلو؛ لأن الفتاة التي على مقصف المرطبات تنسيك إياها .

فرانكلين برنابا

البكم

هيباشيا: آه لو تسنى لي أن أقضي إجازة في ملجأ الصم والبكم. ما أشد حسدي للعجماوات. إنها لا تعرف الكلام.

سوء التوفيق

في التسعين.

الشغل

شغل كل إنسان ليس بشغل لإنسان.

سوء التوفيق

الحق

الحق هو الشيء الذي لا يريد أحد أن يصدقه.

رجل القدر

سر ملك

شارل :

دعني أطلعك على سر، سر ملك يا عزيزي جيمس. إن بطرس الصياد لم يكن يعرف كل شيء، ومثله مارتن لوثر.

جيمس :

ولا أنت أيضا.

شارل :

نعم، ولكنني مطالب بأن أعمل غاية ما أستطيع كما أعرف أنا، لا كما يعرف بطرس أو مارتن ...

أيام الملك شارل الذهبية

السيد والعبد

ستتعلم أيضا أن السيد إذا بلغ به الاتكال على عبده أن يصنع كل شيء بيديه، فقد أصبح العبد سيده؛ لأنه لا يستطيع أن يعيش بغيره.

عودة إلى متوشالح

الوثنية

إن تقديسنا المقرر للمبادئ السياسية إنما هو نقاب نستر به وثنيتنا في عبادة ذوي المكانة من المشهورين.

التأييد

إن الحكومة التي تسرق بطرس لتعطي پولس، تستطيع أن تعول دائما على تأييد پولس.

الحرية

لن يكون المدخنون وغير المدخنين على درجة واحدة من الحرية في مركبة السكة الحديدية.

العقل والمعرفة

لا قبل لي بتغيير عقولهم، ولكنني قادر على زيادة نصيبهم من المعرفة.

مقدمة جنيڤ

الطبيعة تقلد الفن

لاحظت عند شيوع نمط من أنماط الملامح، في الصور التي نعجب بجمالها، أنه لا يلبث طويلا حتى يشيع في الطبيعة، فإذا بالفاتنات اللائي يتلقين قصائد الشعراء الصغار باسم «السيدات» في جيل من الأجيال، قد ظهرن في الجيل الذي يليه وصيفات وخادمات.

تجربة أخرى

على النوع الإنساني أن ينقذ نفسه، فليس ثمة من سبب يدعو إلى الإيمان بضرورة نجاته، وإنها حقيقة واقعة لا مناص منها، ليس هو بالمخلوق المثالي على أي وجه من الوجوه، وكثير من أساليبه في حالته الراهنة تبلغ من السماجة ألا يجسر هو نفسه على التصريح بها في المجالس المهذبة، وتبلغ من الإيلام أن تضطره أحيانا إلى وصف الألم بالخير.

إن الطبيعة لا تدين للنوع الإنساني بالعصمة أو البراءة.

فهو تجربة تفلح أو تخيب بنتائجها دون غيرها ، فإن لم تسفر التجربة عن جدوى، فغيرها بالمحاولة أولى.

عودة إلى متوشالح

الطبيعة الطاغية

أقول لك للمرة الأخيرة: إننا لم نولد أحرارا، ولن نصبح أحرارا في وقت من الأوقات، فإذا قتل جميع الطغاة من البشر أو خلعوا، بقي هنالك الطاغية الذي لا يقتل ولا يخلع، وليس هذا الطاغية غير الطبيعة نفسها، وقد تكون الطبيعة سهلة رخية في جزر البحار الجنوبية، تغمرك بالشمس ولا تكلفك من الجهد في طلب الطعام إلا أن تلقطيه بيديك، ولكنك - حتى في تلك الجزر - مضطرة إلى بناء كوخ، ومضطرة - وأنت أنثى - أن تحملي البنين، وتسهري على تربيتهم بالجهد والمشقة. والرجال - بعد - ذوو ملاحة ولجاجة وخصام وغيرة، ولا عمل لهم غير الحب والغريزة الجنسية، فهم يخلطون الرياضة بالدربة ليتقاتلوا ويتناحروا، وعليك أنت أن تدفعي عن نفسك بيديك.

دليل المرأة الذكية

الحكمة

لا نستفيد الحكمة بذكريات الماضي، بل بما نتوقعه من تبعات المستقبل.

عودة إلى متوشالح

الرأسمالية

إن الرأسمالية ليست مهرجانا للخسة البشرية. إنها طوبى من الطوبيات المثالية التي أزاغت ببريقها أناسا محبوبين أذكياء من عهد ترجو وآدم سميث إلى كوبدن وبرايت. والذين يسندون نظام رأس المال قوم حالمون من عشاق الرؤيا الذين يعملون أسوأ الأعمال بالنية الحسنة، خلافا لإبليس الذي يعمل أحسن الأعمال بالنية السيئة. وبهذه الخامات في أيدينا يتسنى لنا بضع دنياوات جديدة متى جمعنا الوقائع واستوعبنا الدروس التي نتعلمها منها؛ إذ إن الرجل الطيب صاحب النيات الطيبة مسئول قبل أن يقوى على إنجاز نياته ألا يقنع بالوقائع وحسب، بل يجتهد في وعيها وتمحيصها.

دليل السياسة للجميع

الثوريون

طالما قلت إن الحركات الثورية تجتذب إليها القاصرين عن البقاء في الأنظمة القائمة، كما تجتذب إليها القادرين على ما هو خير منها.

أندروكليز والأسد

ما ليس عندي

لا ذوق عندي لما يسمى بالفنون الشعبية، ولا احترام عندي لما يسمى بالأخلاق الشعبية، ولا إيمان عندي بما يسمى بالديانة الشعبية، ولا إعجاب عندي بمن يسمونهم أبطالا شعبيين .

عن نفسي

الشجاعة

كل شجاعة متدينة، وبغير الدين نحن جميعا جبناء.

دليل المرأة الذكية

الحرب الحديثة

وقفت في ميدان حديث من ميادين الحرب أرقب طائفة من الجند يشنون غاراتهم، فأشفقت عليهم؛ لفرط الملل الذي يعروهم. كان لديهم مدفع مستور يغذونه بالقذائف، وكان لكل قذيفة فتيل يثبتونه فيها قبل تسليمها إلى الموكلين بحشو المدفع، ثم يشد الجندي خيطا فتندفع القذيفة في الهواء، وينطلق معها صوت مرعب. أين ذهبت؟ وماذا صنعت حيث ذهبت؟ هل انفجرت؟ هل لم تنفجر؟ كل أولئك لا علم به لأحد من هؤلاء السائمين الذين يحملون القذائف، ويثبتون الفتائل، ويشدون الخيوط، ويعيدون ما يفعلون مرة بعد مرة، دون أن يحسوا شيئا من الضجة التي تنجم عن هذا العمل المكرر المتشابه، ولم أستطع أن أفتعل في حسي أقل اهتمام بهذه الحركة، حتى بعد اجتهادي في تخيل جنود الألمان من الجانب الآخر دائبين على إرسال القذائف بمثل هذه السآمة، ولعل واحدة منها تسقط على التل الذي وقفنا عليه. واستعدت في تلك اللحظة ذكر المعارك التي وصفها هوميروس وقرأناها في صبانا، فهاجت خيالنا وأشاعت فيه النشوة والاهتمام، وتساءلت ساخرا: ترى ماذا كان هوميروس عسيا أن يقول في وصف هذه المعركة التي أقف تحت نيرانها، والتي يحاول المراسلون الحربيون منا أن يجعلوها على الورق شائقة مثيرة، كما كانت تجري على بطاح طروادة تلك المعارك التي اشترك فيها الأرباب والربات؟

لست أعرف شاغلا أثقل على النفس، وأدعى إلى الضجر من هذا الشاغل، ولكنه أعاد إلى خاطري ذلك الانقطاع التام بين الجندي وعمله المملول، فلا حس له ولا بصر بما يصنع، وكل ما هنالك أيد تحمل القذائف أو تشد الخيوط.

وعلى مسافة ستة أميال بيتهوڤن يصرع أو طفل يموت، وصاحبنا قد تعلق شعوره كله بالتطلع إلى نهاية خدمته وانتظار جرايته. ولم يخامرني قط ما خامر جيتي على ميدان ڤالمي أو فاجنر على ميدان درسدن، أو خامر سائق سيارتي في كنجكروس خلال إحدى الغارات الجوية. وإن القول بأن هؤلاء الجند المثقلين بالضجر يؤدون عملا من أعمال البطولة، أو عملا من أعمال القسوة، أو عملا كائنا ما كان له حظ من السحر والخيال، إنما هو من أقاويل الهزل السخيف ...

دليل السياسة للجميع

الحماقة

ليست الحماقة لغوا فارغا ... إنها أحمق ما تكون، أقرب ما تكون إلى المنطق، وأشبه ما تكون باللباقة، وأفصح ما تكون، وألمع ما تكون.

القاضي في رواية جنيف

الفاجعة الحديثة

كانوا يفيضون الصبغة الإلهية على الحياة، فيحسبون من أجل ذلك أنها لا تكون فاجعة إلا إذا حدث حادث خطير أو قضي على إنسان. أما الفاجعة في الحياة الحديثة فهي أنه لا شيء يحدث، وأن الملل الذي ينجم عن هذا لا يميت.

خرافة مذهب زولا

عبقرية

إيلي :

أحس الآن كأنه لا شيء في هذه الدنيا أحجم عن عمله؛ لأنني أزهد في كل شيء ولا رغبة لي في شيء.

كابتن شوتوڤر :

هذه هي القوة الحقيقية. هذه هي العبقرية!

بيت القلب الكسير

الأبدية

لا بد من نهاية. لا بد من أية نهاية. فالأبدية عبء لا طاقة لي باحتماله.

آدم في العودة إلى متوشالح

كلمة الخلاق

لا موجب لأن نعتقد في أنفسنا أننا نحن كلمة الخلاق الأخيرة.

دليل السياسة للجميع

نموذج من مسوداته.

مزية السوبرمان

إن السمو في طوايا النفس (غير الواعية) سوف يكون هو المزية الحقة للسوبرمان.

الإنسان والسوبرمان

وهذه السطور التالية مقتبسة كلها من كتاب «مفكرات الثائر» الذي ألحقه برواية الإنسان والسوبرمان:

لا تعمل لغيرك ما يعمله لك غيرك؛ فقد تختلف الأذواق.

القاعدة الذهبية هي أنه لا قاعدة ذهبية.

البيروقراطية تقوم على موظفين، والأرستقراطية تقوم على أوثان، والديموقراطية تقوم على عباد أوثان.

إذا كان في وسع العقل الصغير أن يقيس العقل الكبير كما يقاس الهرم بالمسطرة؛ فالانتخاب العام حل يحسن السكوت عليه، أما والأمر على ما هو عليه فالعقدة باقية بغير حلول.

الديموقراطية تستبدل الاختيار من قبل الكثيرين العاجزين بالتعيين من قبل القليلين الفاسدين.

إن القول بأن الضابط ينبغي أن يكون إنسانا أفضل من الجندي، كالقول بأن حجر العقد ينبغي أن يكون أفضل من حجر الأساس.

عقل الأحمق يهضم الفلسفة فإذا هي سخافة، ويهضم العلم فإذا هو خرافة، ويهضم الفن فإذا هو حذلقة . ومن ثم تعليم الجامعات.

أحسن الأطفال نشأة من عرفوا آباءهم على حقائقهم، فليس النفاق إذن أول واجب الآباء.

من يقدر يعمل، ومن لا يقدر يعلم.

الرجل العلامة كسلان يزجي الوقت بالمذاكرة. حذار من علمه فإنه لأخطر من الغباء.

أقوى اختراع ثوري في القرن التاسع عشر هو اختراع التعقيم.

تعدد الزوجات - حسب تطبيقه في العصر الحديث على طريقة المورمون - نظام تحطمه الثورة من جانب رجال منحطين لا يجدون زوجة واحدة في ظله؛ إذ إن غريزة المرأة توحي إليها أن تفضل نصيب العشر من رجل في الطبقة الأولى على النصيب الكامل من رجل في الطبقة الثالثة.

المجرمون لا يموتون بيد القانون. إنهم يموتون بأيدي أناس آخرين.

حاذر من الإنسان الذي وضع إلهه في السماء!

ليست الفضيلة إحجاما عن الرذيلة، بل عزوف عنها.

إذا استطاع رجل عظيم أن يعرفنا بقدره، وجب علينا شنقه.

أشد الآلام إطالة ألذ المسرات.

أخطر التحفظ في الرجل الكيس (جنتلمان) أنه يفدي شرفه بكل شيء إلا الكياسة!

من أصغى إلى الحكمة ضاع، فالحكمة تستعبد كل عقل لا يستطيع أن يحكمها.

اللياقة هي تواطؤ الخزي على السكوت.

لا يعقل الناس بمقدار ما يجربونه، بل بمقدار استعدادهم لأن يجربوا.

جهنم مرصوفة بحسن المقاصد لا بسوئها.

حق الحياة سخف إن لم يكن ثمة ما يتحداه.

قيل لنا: إن «يهواه» حين خلق الدنيا نظر إليها وقال: هذا حسن! ماذا تراه يقول الآن؟

كل إنسان فوق الأربعين محتال.

التضحية بالنفس تزين لنا التضحية بالآخرين.

حذار من الرجل الذي لا يرد صفعتك. إنه لا يغتفر لك ولا يدع لك أن تغتفر لنفسك.

في أوقات التقدم ينجح الشرفاء؛ لأن الدنيا تجري في مجراها، وفي أوقات النكسة ينجح الأوغاد للسبب بعينه، ومن ثم لا تخلو الدنيا من الإعجاب بالنجاح الحاضر.

المصلح الذي لا تصلح له الدنيا ينتهي به الأمر أن يعيش كتفا لكتف مع من لا يصلحون لها.

لا تخلط بين كراهتك للهزيمة وكراهتك للقتال، ولا بين كراهتك لاسترقاقك وكراهتك للرق، ولا بين كراهتك لزيادة جارك في الغنى وكراهتك للفاقة. إن الجبان والمتمرد والحسود شركاء لك في هذه الكراهية.

كلما ازدادت ثروة الإنسان على حاجته زادت همومه.

العبقرية في الأمة الغبية كالإله؛ كلهم يعبدونه ولا يعمل أحد بأمره.

حب اللعب المنصف فضيلة المتفرج لا فضيلة اللاعب الأصيل.

الرجل المعقول يوفق بين نفسه وبين العالم، والرجل غير المعقول يحاول أن يوفق بين العالم ونفسه، ومن ثم كان التقدم كله في العالم مرهونا بغير المعقولين.

Bilinmeyen sayfa