توكيداته التي لا جرأة فيها هي أننا نحن المساكين، أو أن أحدا من خلق الله أجمعين، يجهل أن أبا العلاء قد تكلم عن شيء معروف حين تكلم عن الجنة والنار، وأن لوسيان لم يكن أول من سمع بالعالم السفلي بين قدماء اليونان.
فنحن بعد الاستئذان في قليل من الجرأة التي يدهش لها صاحبنا نجترئ مرة أخرى، فنقول له: إننا لم نجهل معرفة الناس بالجنة والنار، وهبوط الملائكة وصعود الشياطين قبل أبي العلاء، وإن أحدا من القارئين لم يجهل هذا، ولا يحسن بأحد أن يرمي أحدا بجهله، فهذا تحصيل حاصل مفروغ منه، وليس أدعى إلى الدهشة من مجازف يجترئ على توكيده ... ولكننا إذا تكلمنا عن الآثار الأدبية التي تتخذ من الرحلة بين الجنة والنار موضوعا لها، فهذا كلام آخر يجمل به أن يصغي إليه؛ وإذا جمعنا بين المعري ولوسيان في هذا الصدد، فذلك مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه. أما أن يتربع متربع على كرسي الفتاوى ليحدث قراءه بوجود السماء والأرض والملائكة والشياطين قبل الكتابة عنهم والرحلة إليهم، أو بوجود لندن وبرلين قبل كتب السياحة والرحالين، فلا يستغرب أن يجترئ بعض القراء، ويا له من اجتراء، فيزحزح له كرسيه قليلا إلى الوراء!
بل لا نظن أن القارئ يكتفي بزحزحة الكرسي قليلا إلى الوراء إذا كان ممن يعلمون أن «العقاد» قد سبق إلى كتابة هذا، فقال قبل عشرين سنة عن رحلة أبي العلاء: «أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل هذا معروفا موصوفا؟ وأي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهودا للناس مألوفا؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان ...»
ثم قال: «فهي رحلة قديمة كما قلنا، ولكنه أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه، وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة ...»
ومن يدري؟ فقد يكون من اجتراء العقاد أنه اختلس هذه الحقيقة قبل عشرين سنة، ولم ينتظر الإذن قبل اجترائه على الاختلاس والادعاء! •••
ولا شك أن «المندورين» في هذا البلد كثيرون مع اختلاف في الأسماء والعناوين ... فمنهم ذلك الذي تسمى في إحدى المجلات باسم «مصطفى»؛ ليستر ما في مقاله من سوء النية وهو يتكلم عن النبي العربي، ويتميز غيظا لأننا عرضنا لتعدد زوجات النبي في كتابنا «عبقرية محمد»، فرددنا أسبابه إلى مصلحة الدعوة الإسلامية، ولم نتخذ منه ذريعة لتلويث السمعة كما فعل المتعصبون من المبشرين والمستشرقين، وليس هذا بالعلم ولا بالمنطق في رأي أذناب الاشتراكية الرعناء ... إنما العلم والمنطق أن تلوث كل عظيم في تاريخ بني الإنسان؛ لأن مقاصد الاشتراكية الرعناء لا تستقيم لأصحابها وفي الدنيا عظمة شريفة تستحق التبجيل والولاء، وكفى بحقارة مذهب لا يستقيم إلا بتلويث كل عظيم!
قال ذلك «المصطفى» المزعوم إننا دافعنا عن محمد فقلنا: «لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط؛ فلا ينبغي أن تصف محمدا بأنه مفرط الجنسية لأنه تزوج بتسع نساء.»
ثم قال ذلك المصطفى المزعوم معقبا على كلامنا: «ولكن ما رأي العقاد لو قال الناقد: إني أرى المسيح قاصر الجنسية وما أنفي عنه هذه الصفة.»
ورأي العقاد أن الناقد لن يقول ذلك؛ لأنه كان من أساطين المبشرين، فإن أعدته الاشتراكية الرعناء بسوء أدبها فجوابه إذن أن نرده إلى تاريخ النبي، كما فعلنا فنريه بما يفقأ عينه أن الرجل الشهوان يجمع بين تسع زوجات من الأبكار الحسان، وهو قادر على ذلك كل القدرة، ولا يختار زوجاته كما صنع النبي من المسنات المتأيمات اللائي لم يشتهرن بالجمال، ثم البكر الوحيدة منهن بنت أبي بكر الصديق، التي يرجع التزوج بها إلى أسباب المصلحة الإسلامية قبل كل اعتبار.
فهل «تنبسط» الاشتراكية بهذا الجواب، أو يملؤها سم البغضاء وصديده؛ لأن في العالم الإنساني رجلا باقيا بغير تلويث؟!
Unknown page