جاء ذلك من وهمين شائعين: أحدهما هو الخلط بين قوة الدولة وقوة وزرائها، وتوهم الناس أن الوزير الإنجليزي أو الأمريكي أعظم مثلا من الوزير التركي أو اليوناني؛ لأن إنجلترا وأمريكا أعظم من تركيا واليونان.
وهو وهم ظاهر البطلان من المشاهدة، فضلا عن المنطق والقياس؛ لأن وزير تركيا قد يكون أعظم من وزير إنجلترا في الحنكة، وجودة الرأي، وطول الخبرة بالشئون الدولية، وإن كانت إنجلترا أعظم من تركيا بالثروة والعلم والسلاح.
وسويسرة أصغر حجما وشأنا من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن من الجائز جدا أن يختار السويسريون رئيسا لهم يفوق رئيس الولايات المتحدة في العلم والدراية، والمناقب الشخصية، وليس من اللازم أن تكون النسبة بين الرئيسين كالنسبة بين سويسرة والولايات المتحدة في الغنى والصناعة وعدد السكان واتساع الأقطار.
وعلى هذا القياس نفسه لا يلزم أبدا أن يكون الساسة المصريون أقل من الساسة الأوروبيين؛ لأن الدولة المصرية أقل في الجاه والمال من الدولة الإنجليزية، أو الدولة الفرنسية، أو الدولة الروسية، أو ما شئت من الدول الكبار.
والوهم الآخر الذي سوغ الاعتقاد الجازم بتفوق الساسة الأوروبيين ضرورة على الساسة المصريين هو كثرة المهاترات والمنابذات بين هؤلاء وقلتها بين الساسة في الدول الديمقراطية الكبيرة.
ومن الواجب أن نذكر هنا أن المنازعات قد تبلغ في أمم الغرب الأوروبية والأمريكية مبلغا لا نحلم به في هذه البلاد، وليست المهاترات والمنابذات في أمريكا الجنوبية أو أوروبة الشرقية بأهون منها في البلاد المصرية، وما دام السياسي قادرا على سحق خصمه بالقول أو بالعمل، فهو يسحقه في كل مكان سواء كانت الخصومة بين الشرقيين أو بين الغربيين.
وإنما يمنع السياسي أن يفعل ذلك سلطان الرأي العام، حيث يكون له سلطان نافذ سريع النفاذ.
فالرأي العام الذي يعرف الباطل ويسقط قائله ضمان قوي لمنع المهاترات والمنابذات.
والرأي العام الذي يستمع لكل قول ويصغي إلى كل تهريج، ويسمح للساسة أن يستغفلوه وأن ينقضوا أمامه اليوم ما قد أبرموه بالأمس هو المسئول عن رواج المهاترات والمنابذات قبل الساسة وقبل الخصوم السياسيين.
ولم يكن مستر تشرشل أقل رغبة في الغلبة على مستر أتلي من وزرائنا، حين يهجم بعضهم على بعض وينحي حزب منهم على الحزب الذي يقاومه في الخطط أو في الميول، ولكنهم أخذوا عليه هناك كلمة نابية في نضاله الحزبي، فخسر من الأنصار أضعاف من هزم من الخصوم.
Unknown page