146

al-wiʿāʾ al-marmarī

الوعاء المرمري

Genres

ونظر إليه معجبا. ذلك الرجل الذي لم يتردد أن يسير في مثل سنه في جيش عدته ثمانمائة من الديلم، ثم لم يجزع عندما غرقت منه سفينتان في الرحلة عليهما مائتان من رجاله، فلما نزل على الساحل القفر أحرق سفنه بما عليها من الأحمال حتى لا يترك في قلب أحد من جنوده ظلا من الأمل في الارتداد، ثم قال لرجاله: «ليس أمامنا سوى الانتصار أو الهلاك.» لم يسمعه سيف مرة يتأوه حزنا، ولم يقل عندما عرف أن الأحباش قتلوا ولده إلا أنه لقي جزاء من يتعرض للأعداء في مدة الهدنة.

وكان الشيخ منصرفا إلى سهامه يسوي الريش عليها، عندما هم سيف أن يقول له: «ألا نتستر بالظلام ونتسلل بين الأودية حتى يجتمع الناس إلينا؟» ولكنه لم ينطق بكلمة. ووضع الشيخ سهما أمام عينه مبسوطا ليرى صحة اعتداله، ثم قال: إنما هي جذبة واحدة أضع بها هذا السهم حيث أريد.

ثم لمس حاجبه قائلا: ليس يقلقني إلا هذا الحاجب المتهدل يا سيف، فإنه ينطبق على عيني، فلا أستطيع أن أثبت نظري كما أحب. أرني هذه العمامة يا ولدي.

وحل سيف عمامته وذهب إليه باسما، وقال: هذا تاجي.

وتبسم الشيخ قائلا: سأثبته على حاجبي يا سيف لكي يثبت من بعد على جبينك. أراك تحسن لف العمامة، فاعصب بها جبيني وحاجبي.

وكأنه عاد فتيا عندما أخفت العمامة تجاعيد جبينه، وتحسسها بيده قائلا: هكذا أحارب غدا.

ووضع السهم في كبد القوس وجذب الوتر، فطاوعته في بطء حين ملأ يده منها، وسدد سهمه وسوى نظره عليه لحظة، ثم قال: ليته الساعة تحت بصري! سأثأر غدا لولدي.

ثم أعاد القوس إلى استوائها وعضلات ذراعه تتقلص، كمن يضع حملا ثقيلا، ثم أقبل على سهامه يسوي الريش عليها في اهتمام.

وخيل إلى سيف مرة أخرى أنه يسمع وقع حوافر على سفح الهضبة، فذهب يشتاف الفضاء، وكانت السفوح الصخرية ما تزال هادئة تحت ضوء القمر، إلا من جوادين يركضان في عنف في مسيل واد ضيق، فأسرع نحوهما في لهفة. ولما رآه الفارسان وثبا نازلين، فقال أولهما: الأودية تسيل برجالك وراء الهضبة .

فوثب قلب سيف، وأسرع إلى وهرز كأنه يدخل صنعاء منتصرا، ورفع الشيخ بصره قائلا: ها قد فرغت يا سيف، ولم يزل في الليلة بقية.

Unknown page