al-wiʿāʾ al-marmarī
الوعاء المرمري
Genres
وكان الشط الممتد على الساحل لا يزيد على شريط ضيق نزلت الكتيبة الصغيرة على لسان منه يحيط به البحر من جوانبه، وتطل عليه الهضبة الفسيحة منحدرة نحوه في سفح صخري تشقه أودية صغيرة. وكانت جوانب الأودية تبدو أمام صفحة السماء ضروسا مسنمة، مثل أمواج تتلاطم عند شاطئ وعر.
وكان وهرز القائد الفارسي في خيمته على ربوة في الطرف الأقصى من المعسكر على الشط، ينتظر الغد في هدوء، ولا يبدي شيئا من القلق الذي كان يثقل قلوب جنوده. كان وجهه المجعد لا ينم عن حركة من جزع أو رجاء، كأنه لم يفجع منذ يومين في أعز أبنائه عليه (نوزاذ). وكان جسمه الضخم، ومنكباه العريضان، وذراعاه اللتان يغطيهما الشعر الكثيف، وصوته الجهوري العميق تجعل حوله هالة أسطورية، كأنما هو أحد أبطال قصص رستم وأسفنديار التي كان الناس يستمعون إلى إنشادها في مواسم عدن وصنعاء وفرسان. وكان جبينه العريض تشقه خطوط من أخاديد وندوب جراح عميقة، وشعره الأبيض يكلل ويصبغ شاربه الغزير وحاجبيه البارزين اللذين يتدليان على عينيه.
وكان سيف يقبع وحده في خيمته، والهواجس على عادتها تتزاحم عليه كما لم يزدحم حوله جمع صاخب. وكلما هم بالذهاب إلى الشيخ ليحدثه عن معركة الغد تردد ولم يجد في نفسه جرأة، فماذا يقول له والمعركة تبدأ إذا طلع الصبح، وليس معهما إلا ستمائة جندي من الديلم، هم بقية الجيش الصغير الذي بعث به كسرى لينصر أهل اليمن على الأحباش؟ وكان يحسب أن قومه يسارعون إليه إذا ما سمعوا بمقدمه، ولكن رسله الذين بعثهم إلى أودية حمير لم يعودوا إليه، وقد مضت الهدنة وستبدأ المعركة في الصباح. فكان في خيمته الصغيرة يجادل نفسه في حنق وضيق يكادان يقذفان به إلى اليأس. أمن أجل هؤلاء الذين كانوا يدعونه ويستفزونه في حماستهم الجوفاء خرج يضرب في الآفاق كل تلك السنين؟ وهل من أجلهم قاسى ما قاسى من مخاطر البر والبحر؟ فلما عاد يدعوهم كان جنود الحبشة أسرع منهم إليه؟ وكان كلما رفع بصره إلى الهضبة الواسعة أحس قلبه يغوص في جوفه؛ إذ كانت عيناه لا تكادان تبلغان طرفي المعسكر الحبشي العظيم. وكانت حسرته تشتد كلما تذكر أن ذلك الجيش الذي جاء يحاربه، كان يضم جموعا من فرسان القبائل التي جاء يخلصها من الأحباش، وكلما تمثل معركة الصباح امتلأ قلبه غيظا؛ لأنه سيقف مع حفنة من جنود الديلم في وجه هؤلاء الفرسان الذين كان يدعوهم قومه، وقد جاءوا ليضربوا وجهه وليرجعوه بالخيبة، فلم يبق له إلا أن يقتحم صفوفهم حتى يشيط في رماحهم، ويختم حياة ضل بها الخيال.
وتذكر حديث كهف ينور وصاحبه الشيخ، وعزيف الريح العاصفة التي كانت تدوي بين الجدران، كأنها تعيد عليه نبوءة الساحرة، وخيل إليه أن الهضبة التي تمتد من فوقه تثور بزوبعة ذات برق ورعد وسيل، وأن من تحتها حشدا عظيما من العقارب والأفاعي. أهذا كل ما تحقق له من النبوءة؟ أهكذا غررت به الأوهام حتى عاد إلى أرض اليمن بعد تلك السنين المضطربة؛ ليستمع إلى سخرية الحقائق؟ وكان الحنق على نفسه يتزايد كلما أوغل في الفكر، بل لقد أحس لأول مرة بشيء يشبه الحقد على صديقه الحكيم أبي عاصم، وخيل إليه أنه شارك في تضليله بتلك الأحاديث التي كان يحشوها بأوهام الشمس المشرقة، وحكمة المقادير وكرامة الحياة. وتمثلت له اللعنة التي حادثته أمه عنها يوما، فها هو ذا مرة أخرى يهيم في الخيال، ثم تجرفه الحقائق إلى حيث لا يدري. وطن في نفسه شيء يشبه وقع حوافر خيل على الأرض الصلبة، أتكون هذه رسله عادت إليه بالبشرى؟ أم تكون طلائع قومه جاءوا يعتذرون عن تأخر أصحابهم؟ وقام خارجا يتطلع إلى السفوح المضرسة التي كانت تبدو أمامه بعيدة راكدة موحشة، ولكنه لم يجد عليها شيئا سوى الصخور الوعرة الناعسة.
وذهب وهو متردد إلى خيمة الشيخ (وهرز)، يريد أن يهرب من الخلوة المزدحمة التي يضيق بها، وكانت قبضة صدره تتزايد مع كل خطوة، ويحس كأنه ارتكب جرما مع الشيخ الباسل. ألم يقل له في ثقة رعناء إنه سيبعث إلى قومه، ولا يشك في أنهم يأتون إليه سراعا؟ وكان وهرز وحده يضفر بيده أوتارا من معى الوعول، وقوسه إلى جنبه تعترض الخيمة من مداخلها إلى أقصاها، وكانت من عود غليظ لم تقع عينه من قبل على مثلها.
ونظر إليه الشيخ من تحت حاجبيه المتهدلين، وقال بصوته العميق: لم أرم بهذه القوس منذ سنوات.
وكان في صوته هزة من يترقب نشوة مطربة.
وكاد سيف يقول له: «أحقا نحارب غدا؟» لولا أن الشيخ وضع الوتر وقال في شبه مرح: غدا أنتقم لولدي.
وتناول القوس وأخذ يفحصها بيديه الضخمتين ليستوثق من سلامتها، ثم شد عليها الوتر وجعل يجذبه ويرسله، فيصدر عنه هزيم عال متجاوب.
وقال سيف في نفسه: أهكذا تحزن الآلهة على وحيدها؟
Unknown page