وقد نجحت تلك الثورة واضطر الإنجليز إلى الاعتراف بحقوق العراق، وإقامة الحكومة المؤقتة، ثم تلتها الحكومة الوطنية في عهد الملك فيصل، وظل رجال العراق يطالبون باستقلال بلادهم رافضين الانتداب إلى أن تم استقلال البلاد سنة 1932، وظلت مصر تناضل في سبيل استقلالها ثم اعترف لها في معاهدة سنة 1936 باستقلالها.
وتعاقبت في سورية الثورات، وكانت الثورة الكبرى سنة 1925، حتى اعترف باستقلالها سنة 1942، أما الثورات العديدة التي نشبت في فلسطين واستمرت مدة طويلة فأمرها معلوم.
ولقد كبدت هذه الثورات العرب خسائر في الأنفس، ويقدر عدد ضحاياهم فيها بالألوف، ودلت هذه الثورات على ما كان كامنا في نفوس العرب من حيوية زاخرة؛ لم يسبق في تاريخ الأمم أن ناضلت أمة عزلاء دولا قوية الشكيمة في سبيل الحصول على استقلالها وثارت مرات عديدة في مدة لا تتجاوز ربع القرن، وقد كذبت هذه الثورات زعم القائلين إن العرب قد قبلوا ما اختارته لهم الحكومات الأجنبية راضين طائعين، ودلت على أنهم لم يرضوا قط بما فرض عليهم فرضا وأنهم ظلوا يناضلون عن حقوقهم حتى نالوا استقلالهم.
وعندنا أن هذين الأمرين وحدهما كفيلان بأن يحققا للعرب وحدتهم، وهنالك عوامل أخرى تساعد العرب على إقامة وحدتهم؛ فالبلاد بوضعها الجغرافي؛ أي بسهولها وأنهارها ووديانها تؤلف وحدة جغرافية، وإذا كانت البادية تفرق بين بعض أقطارها فإن السيارة والطيارة قد قربتا هذه الأقطار أكثر مما كانت تقرب المركبة أو السكة الحديدية بين الأقطار الإيطالية في القرن الماضي، وتلفت أنظار أهلها جميعا إلى ماض مجيد، وتتطلع نحو مستقبل زاهر، وتجمعهم وحدة اللغة والدين، وتوثق عراهم عادات مشتركة وتقاليد موروثة وذكريات سارة وأخرى محزنة.
وقد وثق الاتصال بين أقطارها وأخذ بعضها يستقدم موظفين من البعض الآخر، وأصبح العراقي يدرس في معاهد مصر الثقافية، والأردني واليماني بتدرب في معاهد العراق العسكرية والسوري يمتهن الطبابة والهندسة والتدريس في الأقطار العربية، وكذلك شأن الفلسطيني واللبناني، أما المصري فيدرس في كل الأقطار.
لقد ابتدعت معاهدات السلم التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى بخلقها الدويلات الصغيرة بدعة سيئة؛ إذ دلت الوقائع على أن هذه الدويلات كانت عاملا من عوامل الضعف والارتباك في السياسة الدولية العامة، وقد ولدت تنافرا وتشاحنا، فضلا عن كونها شجعت الدول الكبيرة الاستعمارية على الاستئثار بها والاستيلاء عليها.
وقد أظهرت الحرب العالمية الأخيرة بطلان سياسة خلق دول صغيرة حتى رأينا رجال الحكومات في هذه الدول يدعون إلى تأسيس اتحادات أو وحدات فيما بينهم؛ لتستطيع أن تعيش بسلام، وأن تكون دعامة من دعائم السلم، والغريب أن بعض أولئك بين أمم لا تتكلم لغة واحدة ولا تدين بدين واحد فضلا عن أن تقاليد بعضها يخالف تقاليد البعض الآخر، وليس من شك في أن نظام العالم المقبل سوف يرتكز على اتحادات تجمع بين الأمم الصغيرة أو وحدات تمتع كل دولة فيها باستقلالها الداخلي.
وأية أمة أجدر من العرب بتأسيس هذه الوحدة أو الاتحاد بين دولها، وعلى العرب أن يعلموا أنه لا يتسنى لهم أن يحتفظوا بكيانهم إلا إذا هم أقاموا وحدتهم وأنقذوا أنفسهم من قيد الحكومات الإقليمية الضعيفة ودخلوا نطاق دولة عربية، ومعنى ذلك وحدة عزهم ومنعتهم.
حقا لا سبيل لأن يعيشوا أقوياء أعزاء سعداء إلا في نطاق الوحدة الشاملة، ولا يمكن أن تكون بلادهم عاملا من عوامل الاستقرار في السياسة الدولية العامة إلا بتأسيس الدولة العربية الكبرى، فعليهم أن يوقنوا بأن في التجزئة ذلهم وشقاءهم، وأن في الوحدة عزهم وبقاءهم.
وأريد الآن أن أذكر السبب الذي ساقني إلى ترجمة هذا الكتاب، لا شك في أن الأمة العربية قد ضحت بكثير من مالها وأرواحها في سبيل الحصول على استقلالها، وقد يظن بعض قادة أمورها أن الاستقلال والوحدة لا يحتاجان إلى كل هذه الثورات والتضحيات، وإنما الهدوء والاستقرار والمداورات السياسية؛ هي وحدها كفيلة بإيصال الأمة إلى استقلالها ووحدتها. وقد يتأثر كثير من ضعاف النفوس بهذا الظن فيحولون دون اندفاع الأمة في جهادها ويخففون من غلوائها في مساعيها، وبذلك يعرقلون سير القضية - خاطئين أو متعمدين.
Unknown page