فمن هذا المزاح يظهر أن العامة كانت بذلك تقصد الهزل على الأكثر؛ إذ لم يكن لديها شيء يلهيها، وهذا ما يحدث في أكثر الفتن والاضطهادات. فإن المضطهد (بكسر الهاء) والمضطهد (بفتحها) كثيرا ما يكونان كالهر والفأر؛ الأول يلعب، والثاني يتعذب.
وكان إيليا قد بلغ حينئذ طرف الشارع دون أن يجد الرجل الذي كان يبحث عنه، وكان ذلك الجانب يكاد يكون خاليا من الناس لبعده عن الكنيسة. فلما وصل إلى منعطفه هم أن يقفل راجعا، وإذا به يسمع هامسا يقول: «أسرعي يا أستير».
فلما سمع إيليا اسم «أستير» حتى أجفل وهرع نحو الصوت. فشاهد شبحي رجل وامرأة يسيران في الشارع الثاني. فوقف مبهوتا ينظر إليهما، وقد اشتبه في أمرهما من اسم «أستير» اليهودي. فقال في نفسه: ترى هل صدق ظن العامة ودخل بعض الإسرائيليين إلى هذه البلدة في ليلة العيد لمشاهدته مع ما هو مشهور من تحريم الدخول عليهم إلى أورشليم ونواحيها، ولما كاد الشبحان يتواريان أسرع إيليا فقطع عليهما الطريق من شارع الكنيسة، ثم عطف على الشارع المقابل لشارعهما فصار أمامهما. فسمع الرجل يقول للمرأة باللغة العبرانية همسا «لا تخافي لا تخافي» فتحقق إيليا حينئذ أن الرجل والمرأة إسرائيليان لا شك فيهما. فاضطرب لذلك اضطرابا شديدا ... ووقف في زاوية ينتظر مرورهما عليه في ذلك الشارع الخالي، وكان سبب اضطراب هذا الشاب يدل على أخلاقه. فإنه لم يضطرب لمنظر الدم الذي سفك دما زكيا عنده. فإن نفسه كانت أرقى من نفوس العامة بكثير؛ بل كان اضطرابه لعلمه أن العامة إذا ظفروا بهذا الرجل ورفيقته فإنهم يقيمون الدنيا ويقعدونها عليهما لمخالفتهما أمر الحكومة بمنع دخول الإسرائيليين إلى بيت المقدس ونواحيه، وربما لقيا من الحكومة أشد عقاب من أجل أمر صغير كهذا الأمر.
وبعد دقيقة وصل الرجل والمرأة إلى محاذاة إيليا فأمعن إيليا من زاويته النظر فيهما فإذا به يرى رجلا في نحو الستين أو السبعين من العمر وفتاة في نحو العشرين، وكانت ملابسهما كملابس رجال وسيدات أورشليم، وكان الخوف باديا على وجهيهما، إلا أن خوف الفتاة كان يطبع على وجهها جمالا سماويا ساحرا، وكانت الزفرات تتصاعد من صدرها وهي سائرة فتخنقها، ولكنها تتمالك نفسها رغما عنها لئلا يسمع صوتها في هدوء ذلك الليل.
فلما لمح إيليا في ذلك الليل هذا الجمال الخائف، وطرقت أذنه تلك الزفرات المتصاعدة عن قلب مضطرب متألم من عدوان البشر شعر الشعور الذي يشعر به كل رجل كريم يعرف واجباته الإنسانية في حال كهذه الحال. فقال في نفسه: إنني سأكون ألزم لهذين الخائفين من ظلهما. فسأتبعهما وأحرسهما من بعيد، وإذا طرأ عليهما سوء وقيتهما منه بنفسي - وعلى ذلك أخذ يسير وراءهما.
أما الشيخ والفتاة فإنهما ما قطعا البلدة حتى وصلا إلى الطريق العمومية الموصلة إلى القدس فهناك تنفسا الصعداء قليلا، وكان في ذلك المكان محطة للخيل والبغال، فاستأجرا بغلين إلى القدس، وركبا قاصدين المدينة. فجاء إيليا بعدهما واستأجر جوادا وسار وراءهما.
الفصل الثالث
على الطريق
في أن الفتاة قد تكون أشد تمسكا بمبدئها من الشيخ لأن نفسها عذراء لم يلوثها الخوف والجبن ورجاء الفائدة. ***
وكان الناس لا يزالون يفدون على بيت لحم من القدس، وهم منتشرون على طول الطريق بين مشاة وركاب، وفيهم المغنون والعازفون بالآلات الموسيقية. فلما رأى الشيخ والفتاة ذلك علما أنهما ما زالا في خطر، وفي الحقيقة أن الناس كانوا ينظرون إليهما حين المرور بهما نظر الاستغراب؛ لعودتهما في تلك الساعة من بيت لحم مع أن جميع الناس كانوا حينئذ ذاهبين إليها.
Unknown page