الفصل الثاني
يهودي ... يهودي
في أن العامة في كل مكان تصدر أحكامها بلا تحقيق ولا محاكمة. ***
أما إيليا فإنه كان يضحك من زاويته؛ لترك الرجال سؤال السيدة بلا جواب، وكأن السيدات شعرن حينئذ بقرص البرد لانقطاع الحديث، فنهضن مبتسمات مرتجفات من القر، وأسرعن إلى داخل الفندق، وكان صاحبنا إيليا قد مد يده إلى جيبه؛ ليتناول دفتره، ويجاوب فيه عن ذلك السؤال، وإذا بصيحة شديدة علت في الشارع، وصار الناس يصرخون ويجلبون. فهرع الرجال إلى الباب، وفي مقدمتهم صاحب الكتاب، وجمدت السيدات في مكانهن مرعيات السمع؛ لمعرفة سبب ذلك الصياح. فسمعن العامة يصيحون: «غضب الله غضب الله» «يهودي يهودي في المدينة» فلما سمع صاحب الكتاب، وقد عرفنا أن اسمه إيليا، كلمة «يهودي» وثب إلى الشارع، وهو يقول في نفسه: «هذه رواية جديدة لم نمثلها منذ زمان» فوجد الناس في هياج شديد لا مزيد عليه، وهم يروحون ويجيئون باحثين مفتشين عبثا. فهذا يقول: «رأيته مر من هنا وهو بلحية طولها كالذراع، ووجه أصفر كوجه الأموات» وآخر يقول: «لا بل هو بلا لحية، ولكن قامته بطول أربعة أذرع، ورأسه صغير صغير كالرمانة» وذاك يقول: «لا لا لم أره هكذا، وإنما رأيته قصيرا لا يتجاوز الذراع، ولحيته تكنس الأرض من قصره» فضحك إيليا من هذه الأقوال المتناقضة، واستوقف أحد الصارخين، وكان من أكثرهم تحمسا، وقال له: أخبرني أيها الرفيق، ما سبب هذا الاضطراب؟ فأجاب الرجل وهو يلهث من تعبه في الصراخ: ألا تعلم السبب؟ إن يهوديا اجترأ ودخل بيت لحم ليلة العيد، فيجب أن نمسكه ونصلبه. فقال إيليا وقد ارتعدت فرائصه من ذكر الصلب: ومن أين علمتم ذلك إذا كنتم لم تمسكوه بعد؟ فأجاب الرجل: علمنا ذلك بأعجوبة سماوية. فإن المصباح في مغارة المهد انطفأ من تلقاء نفسه، وكلما راموا إشعاله لا يشتعل، وهذه علامة قطعية على وجود يهودي في المدينة يغضب وجوده أهل المقام.
فهز إيليا رأسه وقال في نفسه: الويل للبريء الذي يشتبه به العامة، ويقبضون عليه بدعوى أنه يهودي، فإنه يذوق العذاب والإهانة قبل أن يستطيع أن يثبت أنه ليس بيهودي. ثم قال للرجل: أتريد أن أبرهن لك أنه لا يهودي في بيت لحم الآن. فقال الرجل محملقا: وما برهانك؟ فقال إيليا: اذهب معي إلى مغارة المهد، وهناك أصب أمام عينيك شيئا من الزيت في المصباح الذي انطفأ من تلقاء نفسه، فتعلم حينئذ أنه لم ينطفئ إلا من نفاد زيته.
فرسم الرجل حينئذ علامة الصليب على صدره صائحا «باسم الصليب الكريم» ثم صرخ مشيرا إلى إيليا «هذا هو اليهودي فإنه ينكر العجيبة» (أي المعجزة).
فلم يكن كلمح البصر حتى تألب حول إيليا جمهور من العامة، وأخذوا بثيابه ويديه وعنقه، وكان أحدهم يلطمه في كتفه، وآخر يدفعه في صدره، وثالث يصفعه على قفاه، وهم يصيحون بأعلى أصواتهم «مسكناه مسكناه، يهودي يهودي» وكان إيليا في أثناء ذلك يتملص منهم، ولكن على غير فائدة، وما زالوا يجرونه ويدفعونه والجماهير تزداد التفافا حوله حتى وصلوا به إلى باب الكنيسة أمام البيت الأحمر، وكان الضيوف في البيت الأحمر قد خرجوا إلى الشارع حين سماعهم تلك الجلبة، والسيدات وقفن في الباب ينظرن إلى هذا الاضطراب. فلما وقعت أنظارهن على إيليا بين تلك الجماهير في تلك الحالة شهقن شهقة واحدة من الاستغراب والدهشة، وصاحت تلك التي قالت في ما تقدم إنها كانت تنظره يخرج من باب يافا: وحياة العذراء مريم إن هؤلاء الناس معتدون على هذا الرجل. فإنني متحققة أنه ليس بيهودي؛ لأنني نظرته مرارا ينحني أمام الصلبان والرهبان حين دخولهم في بعض الاحتفالات من باب يافا، وأنا أنظره في المدينة منذ سنوات. فازدادت النساء حنانا وشفقة على الرجل، وقد قالت تلك السيدة هذا القول دون أن تخشى لائمة فيه مع معرفتها أنه يحتمل التأويل عليها، ولكن قلبها كان في تلك الساعة كبيرا؛ لرغبتها في إنقاذ رجل بريء فافتكرت بغيرها لا بنفسها.
وبينما كانت هؤلاء السيدات مشتغلات بالأسف والكلام كانت واحدة منهن، وهي تيوفانا التي تقدم ذكرها، قد ركضت إلى داخل الفندق أول ما وقع نظرها على إيليا بين الجموع، وبعد بضع دقائق عادت ووراءها رجل غريب المنظر، وهو يفرك عينيه من النعاس، كأنه كان نائما وأيقظته، وكان هذا الرجل كبير الهامة عريض الأكتاف طويل القامة شعره منتشر على كتفيه كشعر الرهبان، وفي عينيه لوائح الغلظة والحدة والذكاء. فلما رأته السيدات صرخن: «أهلا وسهلا بالنبي أرميا» وقالت له تيوفانا مشيرة إلى إيليا بين الجموع «انظر إلى هذا المسكين فاذهب وخلصه».
ولكن ما وقع نظر النبي أرميا على إيليا حتى أسرع إليه متفرسا فيه من بعيد. ثم صاح بأعلى صوته «النبي إيليا» فالتفت حينئذ إيليا وإذ أبصر الرجل القادم صاح به: «إلي يا صديق» فهجم النبي أرميا على الجموع صائحا: إليكم عنه إليكم عنه. فانزاحت الجموع من طريق الرجل القادم، وهم يصيحون مسرورين «أهلا بالنبي أرميا. سلموه اليهودي ليصلبه» فسلمه العامة إيليا وهم يحومون حوله، وإيليا يلهث من التعب والألم لا من الخوف. فأخذه إيليا من يده، ودنا منه فقبله أمام الحاضرين، ثم قال على مسمع منهم: «إذا كنت أنا يهوديا فهذا الرجل يهودي» فدهش الحاضرون حينئذ، وأخذوا يتفرقون عن إيليا، وهم نادمون لإساءتهم إليه. أما إيليا فأخذ يصلح ملابسه، ثم إنه شكر للنبي أرميا مساعدته، وأوصاه أن يبلغ السيدات شكره، وبعد ذلك استأذن أرميا بمفارقته للتفتيش على الرجل الذي كان السبب في الإساءة إليه، وعاهده على أن يلاقيه في المكان الذي اعتاد ملاقاته فيه.
وبينما كان إيليا يفتش في ذلك الشارع عن الرجل الذي حرض الناس عليه، وهو لا يزال في أشد هياج، كان العامة قد عادوا إلى الاضطراب والحركة، وأخذوا يتصايحون قائلين: «فتشوا على اليهودي، وإلا لم يقم عيد ولا احتفال؛ لأن المصابيح «تأبى» الاشتعال، هل وجدتم اليهودي؟ هل بحثتم في ذلك الشارع؟ هل قلبتم الحجارة في الطريق لعله مختبئ تحت أحدها».
Unknown page