والجنينة في الحقيبة لا كانت جنينة الخواجة، ولا جنينة حسن بك «الكبش» سابقا حين لهفها لهفا، الجنينة جنينة حجاج. جاءها وبها أربع شجرات «كازورينة» عجاف، جاءها وهي بور، حتى الحشائش لا تقوى على النمو فيها. وبيده - بيده وحده - أحياها، بحذائه ينغرز في الوحل، بالليالي يسهرها حتى الفجر، لا يزيد الري جرعة ماء أو ينقص، ولا يزيد السماء ملليجرام أو يتغير، بالبهائم رباها عاما وراء عام، تحيل بقاياها وعلفها إلى طبقة أرض نيتروجينية جديدة، تختلط بالقديمة، وبالطمي، آلاف الأطنان من الطمي والرمل، من شيء كان كالرأس الأصلع الخالي تماما حتى من الزغب، شعرة شعرة راح يزرع، وحوضا حوضا راح يزحف بالخضرة والخصب، حتى - بعد عشر سنوات - أصبحت تلك المعجزة التي تتحدث بأخبارها ألسنة المارين ركوبا في أوتوبيس، أو سيرا على أقدام بجوار الحمير المثقلة.
أصبحت جنة يستضيف الخواجة «شيميز» أصدقاءه ومعارفه، وكل من يكاد يعرفه أو يلقاه؛ ليريه «إيزابيللا فارم»، كمن اكتشف المعجزة، كمن حقق أكثر المستحيلات استحالة، في شرحه وحماسه، ووجناته المحمرة يندمج، وتنطلق دفعات الكلام من فمه صادقة أو كالصدق، كأنه هو الذي قام بالعمل وحده، هو الذي غرس، هو الذي قام على «المشاية» وسهر، هو حتى ذلك الذي أقام هذه «الفراندة» الأصيلة، التي لا مثيل لها ولا لروعتها. في وسط «إيزابيللا فارم» تماما تقوم شجرة كازورينا هائلة الضخامة، هي مع الكازورينات الثلاث، كل ما وجده في الأرض حين اشتراها، يندمج تماما حتى ينسى اسما أو تاريخا أو حادثة، فيتلفت لحجاج أفندي السائر متواضعا خلف الجميع، الصامت تماما دونا عن الجميع، الذي اعتاد على اغتصاب الخواجة لمجهوده ودوره، حتى لم يعد يزعجه الأمر، فليتكلم ما يحلو له الكلام، وليصمت حجاج تماما؛ فثمة ألف شيء يتحدث نيابة عنه؛ كل شجرة، كل عرق من شجرة، كل ثمرة مانجو، كل عنقود عنب، كل زهرة ياسمين، كل نخلة، كل «قرص» عسل نحل، كلها دوما يراها ويسمعها بغير عين الجميع، وأذن غير أذن الجميع؛ إذ بأذنه وعينيه وحدها يسمعها، تبثه الشكر والحمد، تغرقه في اعترافها بالجميل إلى درجة أن لو أشار لها بالكف عن النمو لكفت! أن تكف عن إنتاج الثمار لكفت. الخواجة له الأرض وله النقود، وله الشاليه المذهل، وله ذهول الضيوف، وآهات انبهارهم ودهشتهم. ولكنه هو الذي يملك ما هو أعظم من ذلك كله؛ يملك أجمل وأروع حديقة حياة، أرغمه هذا الفحل الأصلع على أن ينشئها، فأنشأها.
وكمن يشير إلى برج إيفل؛ يشير الخواجة إلى شجرة الكازورينة، لتكون المفاجأة؛ اندفع يسرع راكضا ناحيتها، والركب والركض يتبعه، هناك، وكأنما يكتشف في التو معهم، يتطلع ويتطلعون، وفي أعلى مكان في شجرة الكازورينة العالية، حيث أقيمت، من نفس الأفرع غير المهذبة «فراندة» مستديرة مريحة، ذات سور تحيط بالشجرة كلها، ومن نفس الأفرع، وعلى نفس حالتها صنع للفراندة مقاعد ومناضد، وكالطفل الذي فقد اتزانه؛ يبدأ الخواجة شيميز يتسلق السلم المصنوع أيضا من الكازورينة، وليبدو وكأنه مجرد فرع شذبت نهاياته قليلا، للسلم والدرابزين، وخرطوم المياه الرقيق، وأسلاك النور التي طليت بنفس لون الشجرة، والمصعد ذو البكرات الذي يتحرك حاملا الطعام أو العجزة الذين لا يستطيعون الصعود، أو أجهزة الموسيقى أو ما شاءوا من صناديق الشراب. ولأن الأسئلة حينذاك تنهال بكثرة وبالفرنسية في الغالب، ولأن حجاج أفندي له إلمام بها و«شيميز» يعلم هذا، ويعلم أيضا أنه قد ظل أنانيا إلى درجة لم تعد تحتمل؛ يتحرك الضمير، معترفا أولا بأن برج «الكازورينة»، هو فكرة أراد حجاج أن يفاجئه بها، حين استضاف وزير الزراعة يوما، ثم تتوالى اعترافاته، وحتى ما لم يعترف به بينه وبين نفسه، يبدأ من تلقاء نفسه يشير إلى صاحب فكرته وخالقها. وتبدأ السيدات تضع النظارات، تفحص هذا الصامت العبقري، وتتأمل أنه هو الرجل المقصود، يصبح ارتباكه أعظم من أن يحتمل، ولا بد أن يعذر، إن لم يبد وجيها أو مقبولا، فالأمر لا يهم! يختفي حجاج، وتختفي الخواجات والطبقة. وفي أسبوع واحد يبدأ «شيميز» الفرنسي يفكر في البيع، ثم البيع، ثم تهريب الثمن، والأسبوع التالي يجيء عليه وهو في مرسيليا، وقد عاد إلى «الوطن الأم»، بينما كان في الحقيقة - وفي نفس هذا الوقت - يبكي وقد أحس لأول مرة أنه فقد الوطن الأم حقا، وقد ينجح «شيميز»، وتكون له حديقة وضيعة ومزرعة، ولكنه أبدا لن يجد في ذلك الوطن الجديد برج الكازورين، ولا حجاجا. •••
كما كان يعامل «شيميز» ظل يعامل حسن بك، لم يكن هناك ما يدعو لاستمساك حسن الكبش بالسيد حجاج هذا؛ إنه من عائلة قوامها ألف رجل، كلهم فقراء، وأولى من حجاج بالعمل والماهية، ولكن أن يقلد الخواجة شيميز، الذي اشترى منه المزرعة، بإبقاء حجاج «مديرا» للحديقة والمزرعة، بنفس راتبه، ومسكنه في الركن الجنوبي للحديقة، أبدا ليس هو السبب الذي دفعه للاستمساك به؛ فالبند الذي ورد في العقد خاصا بهذا الموضوع كان في ذاته نكتة، بند لا يعني شيئا ولا يشترط للفكاك منه جزاء، كل ما في الأمر أنه يدفع للعجب؛ أن يتمسك المالك السابق بموظف عنده بهذه الطريقة، مسألة لا بد فيها سر؛ سر حاول شيميز أن يشرحه له أكثر من مرة، بقوله: إن حدائق كهذه ليست مجرد عقار أو سلعة؛ إنها حيوان ومجتمعات كالبشر، ورعايتها تستلزم - كرعاية أي أسرة - الحب والرعاية والتفاني والحنان. وحجاج هو ذلك الراعي والأب، وأيضا، ورغم التكرار والتكرار فحسن بك ظل يؤكد لنفسه أن في الأمر سرا، وأن الأيام كفيلة بإظهاره! الشيء الآخر أنه بدأ يشرح لحجاج طريقته، وأنه ليس خواجه، وليس «كروديا»، وأنه بدأها من عربة اليد، ويفهمها وهي طايرة، ويعرف في الجناين وأمورها أكثر من صاحب دكتوراه، وهكذا عليه - إذا أراد أن يستمر «يأكل عيشه» - أن يطيع؛ كذا يعني كذا! مفهوم؟!
يرمقه حجاج بعيون لا ترمش، ولا تريد أن يخفى عليها خافية، نظرة تطول، وتئوب إلى رأس ينخفض يفكر. من الآن عليه أن يدرك أن كل شيء قد تغير، ليس صاحب العمل فقط، ولكن عليه هو أيضا أن يتغير، بل ربما على الأرض نفسها والشجر والزرع أن يتغير.
لقد كان شيميز يشعره أن الأرض وإن كانت له، إلا أن كل ما هو أخضر فيها هو من صنعه ومسئوليته، وهكذا وعمره الآن تسعة وثلاثون عاما، اعتصر نفسه وشبابه، وأحالها فاكهة خضراء وثمرا، وبينما أعاد للحديقة صباها وشبابها، فقد هو كل صباه، وأصبح من يراه يظنه في الخمسين.
من الآن، عليه - كما فعل شيميز - أن يبيع هو الخضرة، كما باع الآخر الأرض، وأن يشتري صحته وحياته، كما اشترى الآخر عنقه، وما دام حسن بك الكبش يريد أن يكون الصاحب والآمر والناهي، والرأي رأيه، والتصرف تصرفه، فليكن الأمر كما يريد، وليبدأ ومنذ الآن دوره الجديد، وما دام «المدير» قد ذهب مع الخواجة الذي ذهب، فليكن دوره مع الصاحب الجديد الآمر، دور المأمور المنفذ؛ كذا يعني كذا، حاضر.
حاضر وهي حاضر. الري يعرف أن موعده خطأ، وطريقته خطأ، ولكن تأتيه الكلمة: ارو، حاضر. يروي.
وبدأت المسائل ترتبك، ويستشير حسن بك الدنيا كلها، ويعيد ما كان يفعله بأراضيه الأخرى، ناسيا أن لكل أرض معدنها، وشخصية العنب الذي ينمو هنا، غير شخصية بني جنسه ونوعه، الذي ينمو هناك. ناسيا أن القواعد العامة شيء، والقواعد الخاصة التي تسنها الخبرة الطويلة شيء آخر. وكثير جدا من الأشياء تبدأ ترتبك.
وكان حريا بحسن بك «الكبش سابقا»، أن يعزو الارتباك، ليس لما يصدره من أوامر، إنما يعزوه كالعادة لتنفيذ الحجاج السيئ، ويجعل من هذا سببا وجيها لفصله والتخلص منه.
Unknown page