السيجار‏

يموت الزمار‏

19502‏

أنصاف الثائرين‏

اقتلها‏

صح‏

البطل‏

السيجار‏

يموت الزمار‏

19502‏

أنصاف الثائرين‏

اقتلها‏

صح‏

البطل‏

اقتلها

اقتلها

تأليف

يوسف إدريس

السيجار

ربما للمرة النادرة الثالثة أو الرابعة في حياتي، حدث ذلك الشيء الذي كثيرا ما يحلم به أي راكب اعتاد ركوب الطائرة وحيدا، حتى أصبحت مسألة من يكون جاره، وكيف يكون، أهم ما يخطر بباله قبل وأثناء - وربما بعد - الركوب. بضربة حظ مفاجئة، والمقاعد حولي وعبر الطائرة كثيرة وفارغة، وجاءت الحلوة الطويلة ذلك الطول السامق، الذي نفتقده في شرقياتنا العظيمات القصيرات، مبتسمة ابتسامة المرحب بك، وبكل ما يمكن أن يدور بخلدك، حمراء الشعر، حمراء النمش، حمراء البياض، والحمرة درجات ودرجات، وبالدقة مرسومة وموزعة، حمراء لحمرتها هالة، وكأن آلهة الجمال تسلط عليها من يوم ولادتها كشافا مسرحيا، متلون الحمرة يتبعها أنى تتوجه، ولها يصبح الظل والواجهة، والمسقط والبروفيل! جاءت وتلفتت واختارت - دون المقاعد جميعها - ذلك المجاور لي واعتلته، فعلى الفور أصبح الكرسي عرشا! وردا على ابتسامتها المرحبة، أطلقت تحية لها ألف ابتسامة ترحيب؛ ملكة من بافاريا بكل إرادتها اختارتني لأكون شعبها الوحيد المحظوظ، بل الظاهر أن صمام الحظ، كان قد أفلت من قبضة النحس تماما، وقبل أن تقلع الطائرة كانت قد طلبت مني مطلبا صعبا جدا، ومن فرط جسامته يكاد يكون مستحيلا؛ أن أتفضل وأتنازل وأسمح، وأكون دليلها حين تصل إلى القاهرة، دليلها إلى أوتيل لائق؛ فهذه أول مرة لها في الشرق، تحلم به منذ عاشت، والقاهرة بالذات كانت دائما مركز الحلم؛ ولهذا فلم تمض في بيروت إلا يوما واحدا، ومن فرط لهفتها ذهبت إلى المطار دون حجز! ومن حظها الحسن أنهم ارتضوا الوضع، وها هي الآن في الطائرة، وبعد أقل من ساعتين ستكون في قلب المدينة الحلم!

صدقوني أو احسدوني، أو تزمتوا وتظاهروا بالنفاق والورع، ولكنها راحت مرة أخرى ترجوني أن ترافقني - وليس أن أرافقها أنا - إلى حيث «أضيع وقتي!» بعض الوقت كي أساعدها في إيجاد المكان المناسب، في الفندق المناسب، وبالسعر المناسب؛ فهي تمقت الهيلتون والشيراتون والأماكن الخاصة بالأغنياء؛ لأنهم عواجيز، أو العواجيز؛ لأنهم أغنياء، وتعبد الفنادق ذات الطابع! حبذا لو كان لدينا فنادق في الهواء الطلق، أو فيللات غرفها خيام وفناؤها الصحراء، وطعامها يشوى في العراء على النار، والنار يقلبها بدوي بلحيته السوداء، وشبابه الأسمر وعقاله المدلى - إهمالا أو أناقة - إلى جانب! حبذا لو يشوي لها اللحم ومعها يلتهمه، في ليلة تحت خيمة، ليلة لا يشهدها سوى القمر.

حين رأيتها قادمة في الممر، ودون أن أدري، كنت من فرط طولها وهيبة الأنوثة المكتملة في القوام الكامل، قد أعطيتها خمسة وثلاثين عاما أو شيئا من هذا القبيل، وحين اقتربت بدا لي عمرها الحقيقي في حدود الثلاثين، وحين ابتسمت وجلست وتحادثنا؛ بالذات حين بدأت تغمغم حلمها اليقظ، وكشافات حمرتها تزداد توهجا، وكل نمشة في وجهها تكتظ انفعالا، وتصنع من مكانها وبسمتها إلى جارتها، وعلاقتها بالجارة الأخرى كلمة؛ سر جمالي خاص تبوح به عن نفسها وتنكشف، وعمرها يتناقص، بحيث قرب النهاية، ولولا أنها لا تصح إلا لمن جاوزت الطفولة، إلا لصبية تدرك وعن يقين تلمس لماذا المرأة مطلوبة؟ لماذا يتقاتل عليها الرجال؟ لماذا تضن بالحب؟ لأنها هي الحب - كل الحب - حين تحب؟ لولا هذا لارتدت إلى العاشرة، وكلماتها تتحشرج بالحلم وبالنهاية حلما. ما أجملكن أيتها الغربيات في شيء واحد، حين لا تجعلن ألسنتكن تنفرد وحدها بكل الحديث، حين نالت أجسادكن معكن الحرية، وأصبح لها ومع العقل والقلب حق التعبير؛ تحلمن، أو حتى تتكلمن أحلاما، فتستحلن جميعا حلما بالصدق، وليس بالتمثيل!

وما أبشعك أيتها البافارية الألمانية، كأنك من قبيلة جن أحمر انحدرت! كنت تحلمين، وتقتربين مني تريدينني مشاركة لك في حلمك. تحلمين ويزداد كشافك الأبدي احمرارا، وبنفس حلمك، «النفس حلمك» ينصب - من حيث لا أدري - على ملامحي ذلك الاصفرار المتغامق الفضاح، فحلمك تبنينه كنت تقوضين حلما لي مذ رأيتك، وبقاهرة تضعينها في خيالك وصحراء، وباللحم البدوي، كنت تقتلين قاهرة أجمل أعرفها وأحفظ أركانها، وصحراء أروع ما فيها أنها ليست من رمال، وببدويك الأسمر ولحيته وشاربه كنت تنزعين عني - كما يفعل بعض مخرجينا بقساوة - دوري؛ دور البطل، فلا بدوي أنا ولا لحية لي، وبلون جلدي لا أمت إلى الصحراء، أو حتى إلى محافظات بحري، عيناي مصيبتهما السوداء أنهما ليستا سوداوين كما بطلك، ذلك الذي لم أشعر نحوه بذرة تفسير لحماسك هذا الفائر المتوحش.

وأيضا كما يفعل ممثلونا والرواية تقرأ، حيث لا أحد إلا الملقن يصغي إلى الموضوع، وإنما الكل وبلا وعي يبحث عن أكثر الأدوار صلاحية له، أغناها «بالإفيهات والنكات» أطولها، أبطلها كما يحدث هناك، وحلمي يتحطم، ولونك يحمر، وحلمي يتحطم، ولون البطل يسود، ولوني أنا يصفر! كنت وقد فقدت الدور الرئيسي أبحث - بغير ما لهفة - عن الدور الذي أعددته لي في حلمك ذاك.

فجأة ضحكت.

وبانزعاج مؤدب سريع، توقفت عن الحديث وسألتني: ماذا حدث؟ هل أخطأت في شيء؟

كان انزعاجها حقيقيا؛ فالضحك في ألمانيا ليس كالضحك هنا؛ فمن حقك المطلق هنا أن تضحك في أي وقت تشاء، ولأي كلام يقال، حتى لو كان الكلام جادا، ليس فيه ما يضحك؛ بل بالذات لو كان الكلام جادا حقيقة، وليس فيه ما يضحك، الضحك هناك - كأي شيء - لا بد أن يتوفر لحدوثه أسباب وجيهة قوية، مقنعة جدا، وواضحة جدا، ولا يختلف عليها اثنان. حتى في بعض الروايات مثلا ممكن أن تحدث مواقف تدفعك دفعا للضحك، ولكن لأن النص لم ينص على الضحك هنا، فإن أحدا لا يضحك! الضحك هناك نظام، وكأي شيء لا بد أن يتم بنظام، فإذا فعل إنسان فعلتي، وفي نهاية كنهاية حلمها في لحظة تحشرج فيها صوتها، ضحك، فلا بد أن شيئا قد اختل في النظام العام؛ جننت أنا، أو جنت هي، أو تسرب مع فتحات الهواء في الطائرة شيء من الغاز الضاحك!

انزعجت، وبلهفة تساءلت مروعة: لماذا أضحك؟

وكنت أضحك لأني اكتشفت أن دوري في حلمها، هو الدور الذي نحتفظ به في الرواية للرجل الطيب الذي يقود الناس لتحقيق أحلامهم؛ للقادة.

كنت أضحك للكم الهائل من خيبة الأمل التي أحسست بها؛ فليس لشخصي اختارتني ملكتي البافارية، وفضلت المقعد الخالي بجواري على كل ما عداه من مقاعد خالية، وإنما لمؤهلاتي تلك التي يتطلبها دوري، واضح أني عربي مثقف، أعرف لغات، وأعرف النساء أيضا، وأحب - كما رأت كل أمثالي في بيروت وغير بيروت - أن أساعد السيدة، أي سيدة؛ فما بالك بجنية ملتهبة الأنوثة صاخبة الاحمرار؟!

يا بنت الإيه! اسمعي إذن و...

وكما يتحدث الطلبة في برنامج ألف سلام، وكخطابات المغتربين ومحاضرات ذوي الحماس ... رحت والأصفر في وجهي ينتقل إلى البرتقالية والطماطمية والبطيخية، وما شئت من ألوان الاحمرار، رحت وبقسوة بالغة، أو فلنفعل كاللغويين الكبار ونقول: بقسوة بليغة، أو ببلاغة قاسية، رحت أخلع تلك الصورة البدائية الكريهة، التي يبدو أنها علقتها في عقلها منذ الطفولة. كما غاظتني بحلمها عن البدوي وسمرته، تهورت في حماسي دفاعا عن برج الجزيرة وآثار الفراعنة ساعة العصرية على شرفة مينا هاوس.

وحين انتهيت ضحكت؛ ربما تقليدا لما فعلت بكلامها أنا، ووجدت أن عليها اتباعه، ورد التحية فعلت، ولكني أنا انزعجت؛ فقد خفت أن تكون قد وقفت على سر البلاغة القاسية، والقسوة البلاغية وحماسي المفاجئ للبرج؛ لا جمال البتة فيه، وربما أي برج حمام أبيض في أي نجع، يبدو لي أكثر منه وداعة وحضارة ورمزا.

أكثرت من تفاصيل البداية، أعرف؛ فأنتم لا بد أنكم - مثلما كنت أنا تماما - شغوفون أن تنتهي البدايات بسرعة. وفي القاهرة أصبح وحدي مع البافارية الغربية الحالمة، بليلة تنطبع فيها آثار الأحلام على الرمال.

ولقد حدث!

بل، ولقد حدث أكثر من هذا.

حين هبطنا القاهرة كان اللقاء قد تم. في بيروت بدأنا والبدوي حلمها، وهي أو مثلها حلمي، وكعادة الحياة والأحياء نبدأ معها ومعهم مستنكرين، مطلقا مختلفين غير راضين، ببساطة نرفض الواقع تماما، ونرفض الخضوع، وببساطة وكما رفضت أنا حلمها تماما، حتى مزقت القاهرة كلها من أجله، وكما لا بد كانت سترفض حلمي لو عرفته، وكعادة الأحياء أيضا حين يرفضون الواقع المفروض، ثم شيئا فشيئا يلتقون بادئين من الأماني المشتركة والأحلام. نحن أيضا تعادينا تماما في الحلم، ولكن الواقع المحض بدأ يقربنا، واقتراب الواقع من الواقع فن اسألوا عنه أهل الذكر. فالسيدة حين تخرج السيجارة وتضعها في فمها، دون أن تبحث أو تحاول حتى البحث عن ثقاب، منتظرة أن تفعل أنت ذلك الحريق الصغير، الذي تلتقط بعضه بطرف سيجارتها، وبحنكة تتذوق طعم الدخان الناتج عنها، السيدة حين تفعل هذا، تضعك في الواقع أمام امتحان، يرسب البعض فيه رسوبا لا نقض فيه.

ذلك أنها أيها السادة حين تضع السيجارة في فمها، الذي ضيقته خصوصا، حين يحدث هذا إنما يكون في الواقع بداية بداية لمحاورة محاذية، تسير جنبا إلى جنب مع الحوار العادي؛ المحاورة الحقيقية ذات اللغة الخاصة والمستويات المختلفة في الإدراك والفهم، المحاورة الأهم التي من خلالها تدرك المرأة من أنت؟ - في الحقيقة: من أنت؟ وأي الرجال أنت؟ وبأي الخصال تتمتع؟ وأين نقط الضعف؟ - إنك إذا اندفعت مثلا كالتلميذ الخائف أن ينسى قطعة المحفوظات ملهوفا، فتبحث في جيبك عن الولاعة، وما إن تعثر عليها حتى تحس بالاضطراب، ومن بعيد تدقها، تشعلها، وغالبا ما تفشل، وبعصبية من يريد إثبات البراعة ثانية - وربما ثالثة - تحاول، ثم تقرب النار بخوف من يخشى أن يحرقها، وليس بأناقة من يتيح لها أوسع الفرص لاستعراض أناقتها الخاصة في تحاشي اللهب، والاقتراب من الشعلة، وأخذ النفس، وإخراج النفس، والتحرك إقداما وتراجعا، والتفاتا وابتلاعا، وإهمالا في الإسراع والتراخي، الذي تنشد له الأعصاب، اسألوا أهل الذكر، ستجدون أن لكل حركة كتابا أو بابا، وللأبواب مفاتيح، والمفاتيح أحجام، والمشكلة ليست مشكلة اصطدام رجل بامرأة وخلاص؛ المشكلة أن تدبر بحيث يبدو الالتقاء طبيعيا أكثر من الالتقاء نفسه، المشكلة أنك عارف وأنها عارفة، وأنك عارف أنها عارفة، وهي عارفة أنك عارف أنها عارفة ... وهلم جرا. ولكن كيف؟ وأين الرجل الذي يصبح فخره هذه المرة أنه الجاهل (مدعيا طبعا) وقوته أنه الغبي المفاجأ، وكأن الأمر يحدث ولا يد له فيه؟! إن شرب الشاي هو شرب الشاي، ولكن أن تجعل من مجرد احتساء قدح من الشاي فنا وطقوسا تزاولها مستمتعا، وكأنها ليست وسيلة لشرب شاي، أي شاي! ولكنها - هي الوسيلة - غاية في حد ذاتها! كيف تجعل من كلمة «شكرا»، تبدو وكأنها أهم كلمة نطقتها في حياتك، وكأنك لأول مرة تقولها، ومن أجلها استخرجتها من صندوق كنوزك التي لم يرها أحد، وتقدمها بإعزاز الملك يقلد الملكة التاج؟ كيف بصدق تجعلها تحس بكلمة شكرا؛ بنطقك لها، بإخلاصك وإعزازك واختصاصك بها تاجا باهرا كالتاج الحقيقي على رأسها، ساعة ترى الرجال تضعه، وعلى كل الناس، وبالكلمة متوهجة فوق شعرها تفخر وتتيه.

اسألوا أهل الذكر.

فأنا لم أسألهم فقط؛ أنا بعض من أهل الذكر هؤلاء.

وكان من المحتم إذن أن أجعل الحلم الذي في خيالها يتبخر.

وأحل مكانه ما أريده أنا.

وما أردته بالضبط تحقق.

فقد تحولت الخيمة إلى حجرة في فندق فاخر.

وتحول البدوي الأسمر ذو اللحية إلى شخصي أنا، محدثا وأنيقا وبارعا.

ومضت خطتي في طريقها بأسرع وأروع ما توقعت، وانتهى العشاء.

وكنت أعرف وأحفظ درس السيجارة، والحريق الصغير الذي علي أن أحدثه.

وأول نفس لها من السيجارة كيف تخرجه.

ومددت يدي بعلبتي أنا أعزم.

ولكنها هزت رأسها بأناقة بالغة معتذرة.

وبيد رخوة مدت يدها إلى حقيبة يدها، وفتحتها وأخرجت ...

أخرجت ...

أخرجت سيجارا ضخما من حجم «تشرشل».

وفضت عنه ورق السلوفان.

وبين شفتيها وضعته.

ومالت برأسها وفمها، وبالسيجارة ناحيتي، تطلب الشعلة.

وكالمذهول المنوم تماما، وبأكثر من فشل واحد اشتعل طرف السيجار في النهاية.

وبتلذذ عظيم تمتص رحيق دخان، وتنفثه ليشيع في الحجرة تلك الرائحة الخاصة للسيجار الهافانا.

ولا بد أنها لاحظت ذهولي.

فبنعومة بالغة سألتني: أيضايقك أن أشرب سيجارا؟

قلت بسرعة: أبدا أبدا.

ثم رحت أقول ببطء شديد: أبدا ... أبدا!

ولكني كنت أقولها وأنا سرحان تماما!

لقد كان في عقلها حلم بدوي لحمي حمراوي طردته.

ولكن ...

هذا السيجار ...

كلما رأيتها من «الفاس» أو «البروفيل» نفس الملامح الدقيقة؛ النمش البني فوق الأرضية المحمرة، الشعر المتوهج بالاحمرار، كل شيء كما كان، ولكن السيجار - ذلك السيجار اللعين - قد غير بوجوده، بمجرد وجوده، معنى كل شيء، طعم كل شيء. تطبق بفمها على فم السيجار، فينبت لها شارب !

والرائحة التي تعبق المكان تحيل ملكة بافاريا إلى كائن آخر، أي كائن غير المرأة!

قالت: أعرف أن كثيرا من الرجال، لا يعجبهم أن تدخن المرأة السيجار مثلهم، أرجو أن تكون من المؤمنين بالمساواة، أليس كذلك؟!

هززت رأسي موافقا، وعن يقين موافق؛ فالسيجار في الحقيقة قد ساوى بيننا، بين ملكتي البافارية، وبين الرجل، أي رجل؛ أنا مثلا!

يموت الزمار

تقريبا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسي، أو قمت فيه بدور الراوي، كانت كلها أبدا لم تقع لي، إلا هذه القصة؛ فأنا فعلا فيها الراوي، وما حدث فيها حدث لي. ولقد حاولت المستحيل لكي لا أكون أنا أنا، أو لكي يكون الحادث وقع لغيري، وكان ممكنا أن تكون أروع وأكثر إمتاعا، ولكني بيني وبين نفسي، كنت أحس أني سأكذب؛ بالضبط مثلما كنت حين أتقمص أنا شخص الراوي في قصص أخرى، معظمها أبدا لم يحدث لي، كنت أحس أني أكثر صدقا مع الآخرين ومع ذاتي.

إنها إذن قصة خاصة جدا، أعرف أن كثيرين سيهزون أكتافهم حيالها ويقولون: وما لنا ولهذا القول الذاتي الخاص؟! ولكن، من يدري؟ ربما لن أعدم واحدا يحس ذاته تماما، وهو يراني أتحدث عن ذاتي؛ فنحن في النهاية أبناء ذات واحدة؛ عليا عميقة، أو سفلى. إنما الاتصال قائم وموجود، والمهم هو الوصول إليه، وقد يضطر الكاتب في أحيان أن يستعمل دلوه الداخلي الخاص؛ للوصول إلى مياه الآخرين العميقة.

وكنت حين أقرأ أن فلانا الممثل، أو أن جريتا جاربو الممثلة، تتبع طرقا بوليسية منذ أكثر من أربعين عاما؛ لتختفي عن الأنظار العامة، وتعتزل الفن أو تقاطع هي دائرة الضوء؛ لأنها تستمتع كثيرا بأي كوخ ظل تأوي إليه، كنت حين أقرأ هذا كله، أحس أنه نوع من الإبهار الصحفي، يلجأ إليه النجوم؛ زيادة في اجتذاب البريق.

وهذه المرة لا شيء من «هيافة» بعض النجوم في ذهني، وبعد طول تدبر وتفكير، وبعد انفراد بالنفس ذلك الانفراد الخاص التام، الذي تحس أن همسة الخاطر، حتى، لا تشاركك إياه، قررت في لحظة حسم باردة كالثلج، لا انفعال فيها ولا تراجع أو ندم، أن أكف تماما عن الكتابة، أي كتابة! ليس يأسا أو تدللا أو نوعا من استدرار الإشفاق على النفس، تجاه النفس، ولو من ذات النفس، ولكنه إدراك عميق كامل بعدم جدوى الكتابة أصلا، ليست كتابتي فقط، ولكن كل الكتابة مذ عرف الإنسان الكتابة، أو - في رأي - ماذا فعل الإنسان بالكتابة؟! أو بمعنى أصح: ماذا فعلت بالإنسان الكتابة؟ أصلحت أخلاقه؟ كذب في كذب؛ فالإنسان أيام الحضارة المصرية القديمة، وأيام أثينا وطيبة وبابل، وأيام أفلاطون وأرسطو والفلاح الفصيح، ربما كان أكثر تسامحا وهدوءا مع نفسه ومع الآخرين، وربما لم تفعل نصائح كتابه بتحريضه على الصدق وعلى الشرف وعلى النبل، إلا العكس تماما، فلا أعتقد أن وحشية المحاربين أيام أول حروب عالمية عرفها التاريخ بين المصريين والحيثيين، أو بين الفرس والإغريق، كانت تصل إلى معشار ما وصلت إليه وحشية المتحاربين في آخر حرب عالمية خاضها الإنسان، ولا وحشية ما حدث ويحدث للبشر في فيتنام أو أفغانستان أو لبنان. فصحيح أن بالكتابة تعلم الإنسان، ولكنه بالتطور العقلي الذي أحدثته الكتابة والكتاب فيه تعلم أيضا أن يصبح شريرا أكثر علما وبشاعة علم، كالحية الرقطاء التي فوق الناب الطبيعية، التي زودتها بها الطبيعة؛ لتلدغ بها عدوها مرة، تعلمت وتعلم كيف يزود نفسه بأنياب أكثر، وخزانات سم أكثر، أنياب لا تكتفي بنفث السم، ولكنها ترسله ميراج وميج وفانتوم ونابالم ونيوترون وكوبالت! وبدلا من ترس التعذيب الذي كان يشد إليه جسده، أصبحت وسائل العذاب تصل إلى نخاع النخاع من أدق أعصابه حسا، ولم يعد في الحرب فروسية أو علم أبيض أو قوانين أسرى، وإنما هو الشر يندفع من عقول قد زودتها المعرفة بالتصميم القاتل على الإبادة! باختصار، مذ عرف الإنسان الكتابة عرف أيضا كيف يصبح الشرير في أعنف وأبشع صوره.

قد يقول القائل: ولكنه التطور، وليس الكاتب أو الكتابة! والرد جاهز؛ فالتطور ناتج العقل، والعقل ناتج الكتابة. ودعونا لا نتفلسف أكثر؛ فلقد كان حلمي بالكتابة كحلمي بالثورة، كحلمي بالمعجزة القادرة على شفاء كل وأي داء. وفي عمري أنا سأرى اختفاء الحفاء، وعمومية الكساء، وزوال الحاجة، واكتفاء كل محتاج. كانت واحة العمر ألجأ إليها، كلما نضب معين الخيال، وأتزود منها وبها بالقدرة على مواصلة اللهاث، وكان الوصول على مرمى حجر، وكأنني سأصحو في الغد لأجد الصباح فجرا، ليس فجر يوم، ولكن فجر عصر؛ عصر كامل تام يعود فيه الإنسان يحب بكل نهم وعمق وظمأ الحب، ويعيش وروعة الحياة يشربها مترعة قطرة وراءها قطرة، ولكل قطرة طعم، ولكل لحظة زمن، تمر أشواق وصهللة ومعان.

حياة أستمتع فيها إلى التعالي أني ابن، مثلما أستمتع به إلى مهجة كبدي أني أب، تأخذني الأم إلى أعمق أحضانها، ترضعني خلاصة الأنوثة، وأرتشف وأنا أضمها نعناع أني ولد، وخمرة أني رجل! حياة أنا فيها محب محبوب، عاشق معشوق، مؤثر ومغير، ومتأثر ومتغير، ودائما إلى الأعلى والأروع، حياة، حياة؛ أتعرفون ما هي الحياة؟!

في الواقع وأنا أتأمل القرار من نواحيه، أدركت جانبا من عظمة وعبقرية شكسبير الشاعر الكاتب، فليست روعته أنه فقط كتب، ولكن الأروع من كتابته أنه عرف متى وكيف يتوقف ويقف. في الواحدة والخمسين كان قد انتهى من كتابة آخر أربع أعظم مسرحياته على الإطلاق: الملك لير، وعطيل، وماكبث، وهاملت. وبانتهاء عرض آخر واحدة منها، لست أعرف ما هي على وجه الدقة، اتخذ القرار، وصفى نصيبه في مسرح الجلوب، وسوى أموره ورحل إلى بلدته، وهناك اشترى منزلا (أصبح الآن كعبة الرواد)، ومكث عامين بعيدا تماما عن الكتابة والمسرح، وكل ما يتصل بهما، ثم مات في الثالثة والخمسين!

هذا هو الرجل؛ عاش وقال، وصمت ومات، وهكذا وهكذا لم يمت، ولا زال يعيش ويقول، ولا ينتهي أبدا.

وليس مطلقا تقليدا لشكسبير، ولا لأي أحد - فالموضة عندنا أننا لا نكتب إلا تقليدا، ولا نحيا إلا تقليدا؛ ربما لأن معظم من يقيمون إنتاجنا وحياتنا هم دائما وأبدا مقلدون، ومقلدون أيضا غير متقنين؛ فأنا لم أعرف هذا إلا في قراءة عابرة لمجلة قديمة، كان فيها مقال عن شكسبير قرأته بعد القرار (واسمحوا لي باستعمال الكلمة)، فأكد لي حتمية ما انتهيت إليه.

وحين راحت السكرة وجاءت الفكرة، وجدت أني لست فقط مختلفا تماما؛ كما، ونوعا، وحياة عن شكسبير وغيره، ولكن مختلف أيضا أني موظف كتابة عام، بينما كان هو صاحب قطاع خاص، في استطاعته تصفية كتابته والعيش بما يتبقى لديه من رأس مال، أنا موظف في جريدة كبرى تدفع لي راتبا شهريا من أجل أن أكتب، وعلي - شئت أم أبيت، ومن أجل أن أعيش - أن أظل أكتب، فإذا قررت أن أكف تماما عن الكتابة فأبسط المواقف الشريفة، أن أبحث لي عن عمل آخر، أو وسيلة حياة ثانية، وهكذا مثلما يفعلون قبل المعاش، حيث من حقهم أخذ إجازة ثلاثة أو أربعة أشهر، أعطيت لنفسي الحق في إجازة أبحث فيها عن مصدر رزق؛ أزرع قطعة الأرض التي تخصني في قريتنا، أفتتح مستوصفا للعلاج الرخيص، أتقن حرفة النجارة التي أهواها، والتي أصبحت ماهية الأسطى فيها لا تقل عن عشرة جنيهات في اليوم، أحيل عربتي إلى تاكسي أعمل عليه ... أي شيء، إلا أن أمسك القلم مرة أخرى، وأتحمل مسئولية تغيير عالم لا يتغير، وإنسان يزداد بالتغيير سوءا، وثورات ليت بعضها ما قام؛ فما حدث بعد بعضها أبشع مما كان عليه الحال قبلها.

يأس؟!

ولماذا نسمي النظرة الحقيقية الواقعية يأسا، والتمسك بخرافة الأحلام التي لا تتحقق، هو التفاؤل الإنساني، الذي لا نجده سوى في الكتب، وعلى ألسنة وأفواه وأقلام «إخواننا» الكتاب.

وكنت في قراري صامتا كتوما، لا كلمة واحدة لزوجتي نفسها، ولا علم لصديق؛ فأنا أعرف كم ما سيصدر من اعتراض وسخرية، أقلها أني أتصيد التقريظ والمديح، والرغبة في الحث على مواصلة ما يسمونه بالنجاح. إن الحياة - هكذا أراها - ليست لعبة أضيعها مصغيا لهذا، أو موليا أذني لذاك؛ الحياة حياتي، والقرار قراري، وكم من أمور تكاد تكون قتالة، فعلتها دون ذرة تردد وحتى لو كادت، أو بعضها فعلا ضيعني، دون ذرة ندم.

بل والقرار التالي الأخطر بعد اللاكتابة: هو اللاقراءة! فالحليف الداهية الخبيث للكتابة هو القراءة، هي المنزلق الذي إذا وضعت عليه قدمك، وجدت نفسك في سرعة الضوء، تهوي حتما إلى حيث تبدأ، أنت لا ترى ولكن تصنع الحروف والمعاني والكلمات، ويلفك التيه الخالد ما بين أحرف تصنعها وأحرف تصنعك، وحياة تصنعها ولا تحياها، وحياة تصنعك أجيرا لها، فقط تحقق لها ما هي تريد. مذ كان عمري خمس سنوات وإلى الخمسين، وأنا أقرأ وأكتب، وأكتب وأقرأ. الحياة تصطخب في الدنيا، وأنا صريع الحياة الموهومة بين دفتي كتاب، وكلها من ورق، وكلها من حبر، ضيعت عمري أتعلم كيف أتعلم الكتابة، والبقية الباقية ضيعتها كيف أعلم ما في الكتابة، والنتيجة أني أنا نفسي استحلت إلى كلام، وأصبحت روحي من ورق، وأحلامي ومتعتي كائنة كلها من حبر، بين كلمتين أو جملتين أو صفحتين. أي حياة؟!

كثيرا ما قضيت الليالي إلى صباحها في غابة الأحرف تائها؛ أزرعها مرة، وأقطعها مرات، ولا نسمة إلا رائحة اللون الأسود، وسحابات من دخان، وأنصاف أكواب مليئة «بتنوة» من بن جاف، ولا أتبين إلا هناك أشعة الشمس تشحب ضوء الكهرباء، وأحس أن ظهري انكسر مقوسا إلى الأبد أو يكاد! فأقوم لأعدله وأخرج إلى الشرفة؛ ما أجملها ساعة السابعة في الصباح؛ طازجة، ودائما جديدة! تصور كل صبح دائما جديدا أبدا، لم تمسسه أرض من قبل، ولا احتوته سماء، وإنما هو هدية الكون الجديدة تماما لنا، الناشئة لتوها وفي الحال، هذا هو الصباح الطازج الصابح، الذي علي أن أتركه لأمضغ ساعات ليل ونوم بائتة وحامضة؛ فقد مضى أوانها من زمان.

في ساعات صبح كتلك، كنت كثيرا جدا، ما ألمح «كناس» شارعنا جالسا على الرصيف المقابل، مسندا مقشته إلى كتفه، محتضنا إياها وكأنما يلتمس منها ألفة يوم كامل سيقضيانه معا، وفي يده اليمنى غالبا كنت ألمح كوب شاي وفي اليسرى سيجارة. ومهما كانت الدنيا صيفا أو شتاء، فأبدا لا برودة هناك ولا نية احترار، وإنما هي - في رأيي - لحظة السعادة القصوى! هذا رجل يقوم بعمل جاد محدد؛ ينظف شارعنا من كل ما نقذفه نحن الأفندية والستات من فضلات! نام قطعا الليل ونامه مبكرا؛ فها هو مبكرا قد استيقظ، واستمتعت كل خلية من خلاياه بسبع ساعات على الأقل من خلو البال. واحدا من ملايين ملايين الرجال، الذين لا أشير ولن يشار لهم بأي بنان، عاش وقام، ورفس زوجته ونام، بالضبط اتسق تماما مع قانون كون أعظم، جالسا استعدادا لقانون عمل أعظم، وها أنا المشار إليه بالبنان، عاكس القانون، ومقاوم الظلام ليغير الناموس، وأتى عليه النهار ليجده حطام دون كيشوت، خيل إليه أنه قضى الليل يعكس ويحارب طواحين الهواء والاتجاه، وأحس حتى دون أن يواجه أحدا، أن طاحونة لم تتوقف وجناحا منها لم يتعطل أو يتغير أو يتبدل، لا تنعم براحة البال ولا حتى براحة البدن، أعطني مقشتك أيها الرجل وخذ ذلك القلم؛ فمنتهى أملي أن أرى أو أستعمل شيئا له مفعول مقشتك، والمفعول أراه أمامي بعيني، وأشهده وأحس بفائدته.

قدرك الذي عذبك وأمرضك، وحملت من أجله هموم الكرة الأرضية فوق قرنك، ولست ثورا إفريقيا خالدا، باستطاعته أن يتحمل الدنيا بهمومها، بله همومك أنت وحدك إلى الأبد، كل جسدك من المرض، مرض المرض، وحيرت نطس الأطباء من الكرملين إلى مايو كلينيك وكليفلاند وهارلي ستريت، وأصبحت مريضا عالميا، وأصبحت حياتك كونية الحيرة، فيقرر الأطباء أنك ستموت في ظرف 48 ساعة، وإذا بك بعد 24 ساعة في قوة الحصان، ويقرر الأطباء أن عندك سرطانا، وأنك أمامك شهر بالكثير لتودع الحياة، فتبدأ حياة جديدة وسيمة الملامح جدا بعد أسبوع، حتى يئسوا منك مثلما قالت لك الدكتورة إيلينا: أنت يا زميل، حالتك لا تخضع للطب الذي درسنا، وقال لك البروفيسور الكبير في نيويورك فريدمان: حالتك نادرة، ولكنها التفسير الأوحد، تنفعل إلى درجة المرض، وتمرض إلى درجة الموت، وتموت إلى درجة الحب، والمسألة خرجت عن كل ما لدينا من علم تعلمناه نعلمه؛ ربما تعرف أنت!

وفي ركن خفي من أركان نفسي السرية كنت أعرف: أنها ذلك الجزء الذي يملي علي أن أكتب، يمرضني ويحيرني، وجزء كقوانين الكون كيف لي أن أسيطر عليه؟ ولا كيف أريحه؟ فإذا أخذت إجازة وذهبت إلى الشاطئ، ثارت الزوبعة في يافوخي حتى تتكتل علي الأمراض، وربما تهدأ تماما إذا وجدت نفسي في وسط وحركة جيش التحرير في الجزائر، أو أستعد ليوم عصيب من أيام الحركة الوطنية والقومية.

وأيضا ما علينا.

فلتكن قد فعلت الكتابة ما فعلت، وليكن قد حدث ما حدث، بل فلأكن سأموت حتى، أقسم غير حانث أني قدرت الموت واستحضرته تماما، ووجدته ألف مرة أرحم، لم أعد أستطيع، أبدا لم أعد أستطيع! إني لأكاد أحسد إلى درجة البكاء، هؤلاء الزملاء الكتاب الذين يكتبون كل يوم، وعن كل وأي قضية؛ من السياسة إلى القصة، إلى العلم، إلى المذكرات، إلى الحب، إلى الأمومة إلى ... إلى ... إلى ... إلى أي شيء، كيف بالله يكتبون؟! ولماذا أجد القلم في يدهم سهلا، ودرجة الانفعال 37، لا تنخفض ولا تزيد، وضغط الدم لا يعلو ولا ينخفض، 120 على 80 بكل الصحة - واللهم مزيدا من الصحة - وبكل التعقل والمنطق، يكتبون ويكتبون ويكتبون، يوما بعد يوم بعد يوم، ألديهم آلة «زيروكس»، يضغطون على الزرار من هنا، فتخرج الصفحة زيروكسية مكتوبة جدا من هناك، أم «أنا» الحالة؟ فلا بد أن أحدنا هو الحالة قطعا.

وأيضا - ولثالث مرة - ما علينا. •••

طيب، أخذت المهنة وقلت أتدرب على إصلاح أجهزة الفيديو كاسيت؛ فلقد أخطأت ذات مرة، وأحضرت جهازا غير تقليدي، وحاولت تشغيله فأبى أن يعمل، وجربت جميع المشاهير وغير المشاهير من مصلحي الفيديو، حتى استوعبت العملية تماما مثلهم، وأصبحت أعرف البال، من سيكام، من الأوتوماتيك بال سيكام، والأنظمة الثلاثة الأوتوماتيكية، والألوان التسعة والسبعة، ومثلهم أيضا أدركت أننا كلنا قد أخذناها فهلوة، وأن أقصى ما قضاه أي مهندس منهم، لدراسة هذا الجهاز الجديد، الذي سيقلب العالم رأسا على عقب في القريب العاجل جدا، لم يقض في الخارج أكثر من ستة أشهر، وهي في رأيي فترة غير كافية لدراسة نظرية - مجرد نظرية - التليفزيون، فما بالك بالتسجيل التليفزيوني العملي وأجزائه المعقدة الوظائف؟!

سأكون صناعيا علميا جدا، وحتى لو كان الأمر تغيير مهنة، فأنا كثيرا ما بشرت في أحاديثي «أيام الجد!» أن الإنسان في عالم المستقبل، لن يقصر عمره على مهنة واحدة، يقضي في روتينها محترفا كلية، وأن المستقبل يحمل للإنسان القدرة على أن ينتقل من جراح قلب إلى قافز باراشوت هاو إلى نجار موبيليا - أعرف جراح قلب في أمريكا، يعمل يومي السبت والأحد نجارا محترفا فعلا - إلى عازف أكورديون، إلى ما شاء من المهن والهوايات، خلال حياته الواحدة، بحيث لا يعتريه شهر أو أسبوع أو حتى يوم ملل واحد.

وجئت ببعض المراجع، وأحضرت تليفزيوننا القديم، وبدأت أدرس الدوائر ومصائد الأشعة والصمامات وأنصاف الموصلات «الترانسستور»، ولم يستغرق الأمر أكثر من أربعة أيام؛ لألقي بكل شيء جانبا؛ إذ كنت قد تركت أجمل أنواع المعادلات الكتابية الشاحذة للخيال المدرة للجمال، فهل أغرس نفسي في معادلات أبعد ما تكون عن التصور، وأقرب ما تكون إلى واقع صلب ينطح فيه الإنسان رأسه؟ لا كتابة، لا قراءة، لا دراسة؛ فلقد أخطأت، كان الواجب التكتيكي يقتضي مني، وقد قررت أن أتنحى، أن أتنحى عن عالم الأحرف كلية، والخيال إلى قلب الحياة نفسها، قلبها الصاخب المتدفق متعة، وليس إلى دوائر الترانسستور والتليفزيون، المغلقة حتى على نسمة الهواء.

شارع المتعة والحياة، فلان؟ أهلا وسهلا، أو أهلين وسهلين، هاي جو، بالأحضان يطبق ضلوعي، وأنا قرأت لك، وأنا فاتني أن أقرأ، يا سلام يا عبقري! يا لسوء حظي! وبدلا من أن أستمتع أنا، أصبحت أنا وسيلة المتعة، وغير مسموح لي حتى بمشاركة «جمهور» الحاضرين مباذلهم الصغيرة أو الكبيرة أو رواية نكتة فاضحة؛ فأنا «فلان» المفكر «المهول»، والاستنكار ينبثق كالدش البارد المفاجئ، إذا حدث وحاولت - مجرد محاولة - أن أهرج، وهل يسمح حتى في أيام الوثنية للآلهة بالتهريج؟! وأعود آخر الليل شديد التأنيب لنفسي؛ فالعاصفة الهوجاء التي قوبلت بها، تنتهي في آخر السهرة بسلام كسلام صداقة انتهت، وكأن الواحد يقول لنفسه: ها هو آخر يطلع زينا، والظاهر كلهم كده، صيت ولا غنى، وأهه كله بكش! لم يقبلني صخب الحياة ولم أقبله؛ فالناس يفضلون إذا صخبوا أن ينسوا العقل، فإذا حضر العقل أو كلام العقل ، فهم يصنعون شيئا من شيئين؛ إما يلغونه تماما بإحالته إلى محط سخرية، وأما يحيلونه تماما إلى عنصر عاقل كابت، كالوعي يثبتون له ولأنفسهم أنهم لا يقلون عنه «احتراما»، والنتيجة أن ينقلب الأمر إلى حالة تمثيل، تتوقف فيه الانطلاقة التلقائية، التي رغم كل ما يبدو فيها من هبوط، انطلاقة براءة الطفل، الذي يريد أن يلهو داخل الإنسان، وهكذا وببساطة تامة تنتهي المتعة، أي متعة. •••

وقلت: لقد مضت أحقاب، منذ أن لعبت دور الأب، وإذا كنت قد أنتجت أعمالا، فلماذا لا تلتفت الآن لإنتاج بشر؛ بشر تعطيهم ما أعطتك الحياة من خبرة؟ تجمعهم كل عشية وتعيدها أواصر عائلة، فككها التليفزيون الذي أخرس الحوار بين أفرادها، شلل النادي والكورة التي تولت مهمة التربية والأب، وأصدقاء السوء ليس وراء معظمهم سوى الشوائب، تنزعها كالشوك السام الذي يغرس كل يوم في الأقدام، وعليك بإبرة رفيعة متهالكة، وبمقاومة رهيبة من الولد صاحب القدم أن تنتزعها.

واكتشفت أني أبحث عن دور، أصبح مكانه حفريات التاريخ هناك، حيث ترقد مراكب الشمس، لو أمعنت في الصحراء قليلا، ستجد ملايين قبور عليها شواهد مكتوب فوقها: كائنات كانت آباء! فليرحمهم الله.

أب ماذا في هذا الزمن، الذي أراد النظام الذي يدير الكون الآن، أن يفكك العائلة فيه؛ ليسهل على نفسه شراءها؟! أيد عاملة شابة، ترضى بالقليل وتعطي الكثير، ولا تسمع تعاليم الآباء، عن عمق مطالب الشعوب والفئات منذ أقدم العصور، آلات منتجة حديدة غير مثقلة بتاريخ مطالبات ونقابات، وإنما هي ابنة «رجل بستة مليون دولار» و«جي آر» و«سوالين» جديدة، تشكلها وتعطيها ما شاءت من بنج بونج وتنس وكورة، ومنطق ساحق رهيب، دراسة ماذا وأنت تستطيع كجرسون في فندق أو حتى شيال، أو مصادق للسائحات العجوزات، أن تطلع لك في اليوم بعشرين أو ثلاثين جنيها بالتمام والكمال، تصرف وتشتري عربة، والجامعة والتعليم واللقب الذي تريده، ستجدها كلها ملفوفة في خرق قديمة، ألقيناها من نوافذ المناور في العمارات؟! ماذا يجدي الحديث عن سعد زغلول ومصطفى مشرفة وحتى فاروق الباز، أمام ثلاثين جنيها وعربة ولو «سيات»، يلمسها المراهق لمسة اليقين كل يوم، ويحيلها لصناديق بيرة وشحنة بنات وطريق صحاري سيتي وهات إيدك، إلى حديث عن المجد القديم، والمجد ها هو أمامك جديدا «نوفي» تحت أمرك، ودقيقة واحدة ويكون رهن طلبك، وإذا أرقك ضميرك هاك بلبوعة قادمة من بيروت، تزيل كل الآلام وتحقق جميع الأحلام، وتصبح إذا أردت في ومضة كسرى أنوشروان!

كان الله واحدا والأب واحدا، وفي البدء كان الكلمة، بالطبع الكلمة الطيبة.

في عصر الوثنية الحديثة هذا أصبح الإله الواحد، حتى في الدين الواحد عشرات الملل والنحل، والأب الواحد أصبح عشرات الآباء تختار أيهم كما شئت، حسب لون الفانلة أو نوع الفتاة أو فرقة الغناء أو مكانتك في الشلة. وما أبعد المسافة بيننا وبين البدء! بحيث أصبحت الكلمة والأوقع والأكثر جذبا للانتباه شارع المتعة والحياة: فلان؟ أهلا وسهلا، أو أهلين! من جديد أمر يحتاج إما أن تهدمه تماما وتعيده خلقا آخر، وهذا ليس بمستطاعك، وإما أن تكتفي أن تقوم بدور المتفرج، في طابور طويل من الآباء يغمر العالم كله، يتفرجون على كائنات كانت في البدء أبناء. •••

ولم يعد إلا أن أحيل نفسي - رغم الطاقات التي تتفجر مني، ورغم أني في أكمل وأنضج «فورمة» إنتاج في أي مجال ومكان - إلى التقاعد! وتقاعدت. أتمشى مبكرا في الصباح، أحتسي كوب شاي في مقهى أو ناد، أعود إلى البيت، أحاول أن أصلح حنفية أو أفسد «كوبس» نور، أنا في إجازة ما قبل الإحالة إلى الاستيداع.

وشيئا فشيئا بدأت ألحظ مسألة بالغة التفاهة.

إن قدرتي على التمشي أصبحت أقل، وكل يوم تقل، وأصبحت أعود إلى البيت، وكأني قد بنيت السد العالي بمفردي، متعبا مهدودا لا أكاد أصل إلى البيت، حتى أظل أستريح - ولو من الراحة - استراحة تصل إلى الظهر.

وأتغدى وأجد نفسي في حاجة ماسة إلى النوم، وكأنني ظللت اليوم بطوله ساهرا.

ثم ساءلت نفسي السؤال الأكبر: لماذا اليقظة المبكرة أصلا، وليس ورائي من عمل أؤديه؟

ثم سؤال أكبر وأكبر: ولماذا المشي كل يوم كل يوم ، وأنا ليس لدي عمل ثابت لكل يوم؟ وأسئلة ليست مجرد أسئلة، ولكنها مقدمة حتمية معقولة؛ لشمولها بالنفاذ الفوري.

ما أروع التمطي في فراش دافئ ونحن في طوبة، حيث كل شيء وكل إنسان من البرد يتجمد! ما أروع فكرة أن ليس وراءك بالمرة أي عمل! ليس الكسل هو الرائع في الموضوع، ولكن الأروع هو الإحساس الكامل أن ليست لديك أية مواعيد أو واجبات، وإنما أنت لك حرية اليوم والغد والزمن القادم كله.

كل حياتي كان محورها أني أكتب؛ كل اتصالاتي، دعواتي، ارتباطاتي، سببها خيط واحد يصدر مني ليوزع آلاف خيوط بعضها يجذب، بعضها يعزف، بعضها يقلق، بعضها يفرح، بعضها يذكر أو يتذكر أو يصرخ ألما. والخيوط تلتقي عندي، تصنع لي يقظتي ومنامي، وترغمني أن أرتدي الثياب كل يوم، وأعاني مشاق كل يوم، وأودع الأمس وداع المغتاظ مرة، وداع الصبوة مرة، لا أنتظر الغد بصبر نافد، بل لا أريده أن يأتي أبدا.

ذلك المحور لم يعد له وجود؛ الكرة الأرضية الآن انطلقت في الفضاء على حريتها، بكل اتساعه وشموله، تدور حول الشمس أو لا تدور، تترك وليدها القمر ينعي حظه وخسوفه، إذا أحست بعلل الصحبة.

ولأول مرة أحس أني لست أنا ملتقى خيوط، ولا دائرة بالأمر القدري حول محوره، ولا يهمه أن يتلقى النور من هذه الشمس بالذات، أو يكتب عن هذا الموضوع، الذي يشغل الناس جميعا، الآن بالذات، أقرأ أو لا أقرأ، وجميع ما أقرؤه غير مضطر لاختزانه، أو إمعان التفكير فيه؛ فلم يعد عقلي في حاجة إلى مذاكرة ما يقع، أي: مما يقع، وشبح الامتحان الكتابي قد اختفى من أمامه.

صادقا مع نفسي لم أحس بطعم سعادة حقيقية، مثلما أحسست وأنا لثلاثة أيام بنهارها ولياليها لا أتحرك من فراشي، زوجتي تعتبرني لا بد مريضا، فحتى حين أطلب الطعام، وأنا نصف جالس، ألمح الاستنكار البين في عينيها، ولكنها في قرارة نفسها تقنع نفسها، أني لا بد أستعد لعمل عظيم، ومن حقي أن أستعد له بالطريقة التي تحلو لي. وما دامت الطريقة هذه المرة هي التمدد في الفراش المنكوش، وملاءاته التي يحل كل يوم موعد تغييرها، فكم كان لي معها من تصرفات تستغربها، تنتج في النهاية شيئا تكون هي أول السعداء به.

ماذا لو عرفت أن لا شيء وراء الأكمة، وأن لا كتابة بعد الآن؟! ماذا لو أدركت أنها لو احتجت أو عارضت، فسأترك كل شيء وأمشي لو اضطررت؛ بلاد الله لخلق الله.

طال الرقاد حتى أصبح الذهاب إلى الحمام مشقة - وأي مشقة - ألهث لها، وأحس أني وكأني أسافر على أقدامي عدة أميال، وغسيل الوجه لم يعد يوميا بالضرورة! ماذا لو حدث كلما أحسست باتساخه؟ وغسيل الأسنان باعتباره عادة راسخة، أحس بالقلق طوال اليوم، إذا لم أفعلها بكوب من الماء الدافئ والمعجون بجوار الفراش.

في الأيام الأولى كنت أقضي اليوم في أحلام يقظة، تعيد لي خصوبة أحلام اليقظة في طفولتي، وعبر رحلة الثماني كيلو مترات من المشي ذهابا وعودة إلى المدرسة، أكتفي من الجرائد بالمنشتات، ثم أكتفي فقط من أجل العادة وحدها بتسلمها دفعة واحدة، ثم إرقادها بجواري على أمل أن أعود إليها في المساء. والمساء يجدني مشدودا إلى التليفزيون، حفظت البرامج عن ظهر قلب، ولا حلقة أجنبية أو محلية تفوتني! ثم ضج جسدي بهذا النشاط التليفزيوني والإذاعي، وشيئا فشيئا زهقت من الصورة، ثم زهدت في الموسيقى، ثم أخرست اللاسلكيين تماما، وحتى أحلام اليقظة استهلكتها جميعا، ولم يعد عقلي قادرا على اختراع أدوية مثيرة أمضي فيها الأحلام، حتى حدث الأمر الذي لا أعرف بالضبط، أني كنت طوال الوقت أتوقع حدوثه، أو أني دون أن أدري - وباللاوعي كما يقولون - كنت أخاف حدوثه؛ بدأت ساقي اليمنى تتورم، ثم أعقبتها اليسرى، بلا ألم ولا أعراض جلطة. من ناحية - وكدارس طب - قلقت كثيرا أن تكون جلطة في الأوردة العميقة للساقين، ورحت أتصور كيف ستتكون الجلطات في بحيرات الدم الوريدية في عضلات الساقين، يعقبها لا بد زحف إلى أعلى حتى يشل التجلط وريدي الفخذين العظيمين، ويا حبذا لو زحفا إلى البطن حيث يتحد الاثنان، ويكونان الأورطى الوريدي ، وأكون قد انتهيت!

ومن ناحية أخرى وجدت فيما حدث المنفذ والمهرب.

فالآن وبعد أن بدأت ألمح في عيون زوجتي أشياء، كالتي كانت تحفل بها نظرات بطلة المرآة المقعرة، الآن عندي سبب وجيه تماما للرقاد؛ فالجلطة - أو الاشتباه فيها - أول تعليمات علاجها الرقاد تماما، ورفع الساق وعدم الحركة مطلقا.

وحتى ولو لم تكن هذه هي تعليمات كبار الأطباء والجراحين الذين عادوني، فأنا نفسي كنت قد فقدت الرغبة تماما في الحركة؛ أي حركة، ولو حتى لرفع رأسي وصدري ربع ارتفاعة لتناول الطعام والشراب، وبمثل ما فقدت الرغبة في الحركة؛ فقدت الرغبة في أشياء كثيرة جدا، أسأل نفسي: نفسك في إيه؟ الإجابة دائما واحدة: لا شيء أريد؛ لا الشوق أريد، ولا القلق على ابن أو زوجة أو صديق أو قضية! لا رغبة أبدا أبدا في أي شيء. وبدأت أورام السيقان تزداد، وتزحف إلى أسفل البطن، والأطباء يوصونني بعمل تمرينات رياضية؛ لتحريك أصابع الأقدام، وقبض وبسط عضلات الساق والأفخاذ؛ لدفع الدم للعودة، ولا أجد في نفسي ذرة رغبة في القيام بأي تمرين أو تحريك أية عضلة.

الموت قادم.

لا أراه؛ فهو ليس شبحا أو ملاكا أو قابلا للرؤية، ولكني أحسه، تماما كمقدم المساء حين ينتهي العصر، ويحتقن وجه الدنيا بالغروب، وتحس أن الظلام لا محالة سيتبع هذا. الليل، الصمت الأبدي، عدم الحركة في تمامها واكتمالها، وشمولها واستمراريتها! المذهل: لا استنكار، لا احتجاج، لا تفكير مطلقا في أي مقاومة! وهل يقاوم الإنسان مطلبا هو شديد الرغبة فيه؟! بل هو حتى لم يعد شديد الرغبة فيه، إنما هو الانتظار الصبور غير المتعجل! فليجئ حين يجيء؛ فالجسد مسجى لا يتحرك، والوعي بأنه هناك ممدد ومسجى وساكن، أو انتفاء الوعي سيان، وماذا يصنع الوعي من فارق، إلا أن يجعل الانتظار معدودا بالأيام والساعات، ومشوبا بالقلق؟! سيتكفل هذا الزاحف القادم بالقلق يستأصله، وبالانتظار ينهيه، كما يتكفل الظلام بإخفاء الأشياء جميعها؛ الجميل والقبيح، البعيد والقريب، الدافع للحركة والمانع لها.

ربما الشيء الوحيد الذي تبقى يخصني، ويجعلني في لحظات أحس بصهللة الإحساس بالحياة، هو نوع من حب الاستطلاع؛ كيف - إذا جاء - سيجيء؟ كيف الناس يموتون؟ وأي إحساس بالضبط؟ وما هو ذلك الشيء الذي تواضعت عليه البشرية من قديم الزمان، وأسمته طلوع الروح؟ أتأتي على هيئة «كرشة» نفس، تنتاب الشخص لهنيهة، ثم ينقطع النفس؟ أتأتي على هيئة استمرار طويل لنوبة من نوبات التوهان والدوخة، التي كانت تعتريني بين الحين والحين، حتى لأحس أني انفصلت عن وعيي، وأنه بقي معلقا مدركا للموجودات من حولي، بينما أنا هويت وأهوي بسرعة مخيفة إلى بئر لا قرار لها؟ لا أحس أني أهوي، ولكن حين ينتقض شيء في رأسي، يعيد وصل الوعي بالأنا الهاوية، أحس أني فعلا أصعد، ومعنى هذا أني كنت بالتأكيد أهوي.

كيف إذن يأتي ذلك الشيء المحير؟ تلك النهاية السؤال؛ الموت؟ إن الجهد الذي بذله مخترع المحرك؛ ليوجد الوسيلة التي يستطيع بها إيقافه عن الدوران، لم يقل في رأيي عن الجهد الذي بذله؛ لكي يحول المعدن الساكن إلى عجلة متحركة؛ فخلق الحركة لا يعادله سوى اختلاق السكون. كيف سأسكن أنا؟ أيحدث إغماء محتم قبلها، أم أن بعضهم يكون إحساسه بالموت هو آخر مدركاته، بحيث تكون النهاية هي نهاية الإدراك؟

ولم أكن أتوقع أن يأتي هكذا أبدا.

فجأة ذلك الصباح، وأنا أداعب ابنتي الصغيرة، قبل ذهابها المبكر إلى «أوتوبيس» المدرسة، حاملة جبل الكتب المقررة على الثانية الابتدائية - كتلة ضخمة تنوء بها البنت فعلا لا مجازا - فجأة وهي تجري لتلحق بالأوتوبيس الزاعق، أحسست أني بلا ألم أتنفس بصعوبة، أشفط بطني كله لكي أخلق الفراغ في صدري، وما يكاد جزء منه يمتلئ، حتى أحس بحاجتي إلى هواء أكثر، وهكذا في منتصف الشهيق أشهق، وفي منتصف المنتصف أعود أشهق!

ولم يبرق خاطر وإنما مسمار رهيب، بخبطة شاكوش واحدة مفاجئة، أدركت السلاح الذي اختاره الموت؛ جلطة الرئة! في ثوان ينتهي كل شيء. ولم أعرف - أنا المسجى ثلاثة أرباع ميت، على فراش غائص بي، مقعر فعلا - أني أمتلك هذه القدرة الهائلة على الهلع.

وكأنما كنت، وأنا أفكر بالموت بتلك السهولة واللامبالاة، أتحداه من حيث لا أدري، فحين استقر إلى درجة النزال وأمسك بسلاحه، أرعش الرعب كل خلية من خلاياي.

وعادة تليفون الجيزة لا يتصل بالدقي، فإذا اتصل ورد منزل جراح الشرايين الكبرى، لتقول لنا الفاضلة زوجته: إنه في مستشفى قصر العيني الآن، فمعنى هذا أنك ميت، لا محالة ميت، إن الجلطة لا يبدو أنها من النوع القاتل في الحال، وأن هناك احتمالا لاستئصالها بالجراحة، والحياة - كل الحياة - أصبحت معلقة بتليفون قصر العيني، الذي أعرفه منذ عملت فيه من قديم الزمان، أنه أبدا عمره ما كان إلا مشغولا مشغولا مشغولا! فالاتصال بالعزيز رئيس المكتب «تعبير تليفوني»، وكأن المكالمة من الخارج أو إلى الخارج، وليدخل على الخط، وفي ثوان يكون سامع على الطرف الآخر! وفي ثلاث دقائق تكون زوجتي تقود العربة بأقصى سرعة، وهي تؤكد أن لا جلطة ولا خوف. وإلى قسم التشخيص بالإشعاع الذري، ومجموعة هائلة - من عميد الكلية إلى الجراح إلى كتيبة من شباب الأطباء - تتلقفني وتدخلني غرفة، الوحيدة في مصر التي ترسم الرئة بالألوان بواسطة عقل إليكتروني، وتظهر نتيجة غريبة محيرة؛ الرئة اليسرى ليس بها قطرة دم، ولكن أيضا ليس بها أي جلطة!

ويشكون في صدق الآلة؛ فهذه نتيجة عبثية تماما، فمعنى خلو الرئة من لون الدم أنها لا تتنفس، بينما بالسماعة وحتى باليد صوت تنفسها واضح وجلي ومسموع.

ويتطوع الطبيب الشاب بشرح كيف أنهم في أمريكا يبتكرون بحثا أو علما جديدا اسمه: أخطاء الآلات، وأنها تشكل كذا في المائة.

وكان لا بد من إعادة الفحص.

وأوضع من جديد تحت شقي الرحى، ولكن أي رحى؟! أية غرفة تلك التي أنا فيها؟! حين تخرجت في كلية الطب، كانت الآلة الهندسية الوحيدة التي نعرفها هي جهاز أشعة إكس، وجهاز إصدار الأشعة فوق البنفسجية. ما أراه طب مختلف تماما، وفرع جديد اسمه الهندسة الطبية، يتطور بسرعة الصاروخ، ليبتكر كل يوم اختراعا لم يتصوره أحد من قبل. آخرها؛ ها هو موجود بالغرفة أمامه، أو تمد له يدك فيعطيك في الحال اسم ونوع ووزن كل عنصر داخل في تركيبك، ويصدر إشارات كسيرينة الإسعاف أو بوليس النجدة، لدى كل عنصر فيه نقص أو دون المستوى المعتاد، وكل هذا حدث في أقل من ربع قرن.

شقا الرحى اللذان كمنت بينهما؛ أحدهما ثابت وهو الراقد أنا فوقه، والآخر متحرك حركة رائحة غادية، كحركة نقاش يطلي الجسم بشيء غير منظور، يسمونها طريقة المسح؛ مسح الرئة، مسح الكبد، في الواقع مسح أي شيء أو عضو تريده، وأيضا ثبت من الفحص الثاني أن الرئة تتنفس، ولكن بغير نقطة دم! واستمرت المناقشات طويلة ومليئة بتغييرات، كالأجهزة لم تكن في الخمسينات نستخدمها، بل لم نكن نعرفها.

ولكن آلات ما آلات! تشخيصات ما تشخيصات! احتمالات أسوأ احتمالات! لقد عرفت أنا مرضي أو بالأصح حالتي، نعم، أعرفه الآن تماما.

وأنا متأكد منه؛ الموت! زاحفا خفيا، حتى بغير قفاز حياء، أو تشخيص، فما الحل؟

على مر عشرات ومئات ملايين السنين، أصبح الشغل جزءا من التكوين العضوي للإنسان، صحيح أنه ليس عضوا كسائر أعضائه، ولا يرى لا بالميكروسكوب ولا بالعين المجردة، ولكنه موجود، إشعاعات من الموجات تنطلق من أجزاء جسمه، وتشكل هالة موجية من الموجات الحية، باعتبار أن الحياة في أعلى صورها، هي أرقى وأدق وأعقد أشكال الوجود المادي الموجي، رغم أنها مثل كل الموجات والتموجات، تلك التي تشكل صلب الوجود وقدرته على التبدل والتغير والتفاعل، مثلها مثلهن؛ لا ترى بالعين المجردة ولا بالميكروسكوبات الإلكترونية، ولا بأي صورة ممكن أن يتفتق عنها العقل البشري في المستقبل! إننا فقط نفترض أنها موجودات، ونفترض أنها من مادة ما، ولكن المؤكد أنها موجودة، مؤكد موجودة، وإلا لما كان الوجود.

هذه الموجات المحيطة - موجات التنبؤ والاتصال والربط العضوي الكامل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان والنبات، وذرات الرمال في الصحراء وماء المحيطات، وأقصى مجرة من المجرات - هي التي تحرك الإنسان، أي: تحرك زميلاتها موجات الداخل، وتعطي إنسانا مثلك اتجاه وحكمة ورؤية وضرورة أن تتخذ الحركة إيقاعا يؤدى، وفي أنماطه العليا يبتكر ما نسميه بالعمل. ويستوي في هذا أينشتين وأجهل فلاح في بلدنا، وكما يخصص ويركز ويضيف أينشتين، والذي هو في وجوده أول الأمر نقطة التقاء وتفاعل للموجات، أعطته القدرة القصوى على تصور الكون على هيئة معادلات وحل تلك المعادلات، وبالفعل أثبت أن المعادلات التي ابتكرها، تنسجم تماما مع قوانين الموجات، وتجعله يتحكم لأول مرة في الموجات، وكانت القنبلة الذرية والانشطارات، كذلك هي في فلاح بلدنا قدرة خارقة على الانحناء، ربما لأكثر من عشر ساعات، وهو ما لا يستطيعه أينشتين، ولكل منا محيطه الخارجي من موجات، الجزء الأكبر الذي ينظمه هو العمل الملائم لموجاتنا الداخلية، بحيث متى تم التوافق العزفي بين نحن من الداخل ونحن في الخارج، نحن إنتاجا وإبداعا وجمادات، دخل الكائن دورة الكون رائعا عظيما ومنسجما، وأرضى عنه الله والوالدين والإخوة والأصدقاء، والناس.

وما انسحاب الحياة وتضاؤل اتصالاتها، ثم أخيرا موتها، سوى الخلل الحادث بين دائرة الداخل ودائرة الخارج؛ ولهذا يموت فورا بعض الذين يحالون إلى المعاش، ومن بقي منهم حيا لا بد أن لديه بديلا لموجة العمل، واتصالا آخر بالوجود والموجودات.

باختصار لا سفسطة فيه ولا نظريات، حين قررت ألا أكتب، بينما موجاتي كانت قد رتبت نفسها لأكثر من ثلاثين عاما، على العمل الكاتب وتحويل الفكرة المختلطة بالوجدان، وبالذاكرة الجماعية النشطة الاتصال، بالعدد الهائل من نقاط الالتقاء والبشر؛ اتصال كامل ذي اتجاهين، حين قررت التوقف خبت تلك الموجات، وبدأت تخمد في جذوة الحياة، وأفضل المشي على الجري، ثم الجلوس على المشي، ثم الرقاد على الجلوس، ثم السكون التام عن الحياة، كان في حقيقة الأمر نوعا غريبا مبتكرا من الانتحار؛ توقفا عن العمل، مثلي مثل أي خلية في المخ أو الكبد، أو حتى الجلد، تقرر عدم القيام بوظيفتها، فلا ترسل الأنزيمات ولا تستقبل، وتنقطع الصلة بينها وبين العضو التي تنتمي إليه، ثم بينها وبين جسد الوجود الأعلى «الإنسان»، والنتيجة حتما أن تموت.

ولقد حاولت الخلية - والشهادة لله أنها كانت محاولات بطلة - أن تستبدل عملا بعمل، وتتسرب من حيث الكبد مثلا إلى الجارة المعدة، وتصبح خلية جوع وشبع، التهام طعام ومضغ فقط، والنتيجة كانت الكف عن وظيفة الحياة نفسها، فخلية الكبد لا تهضم ولا تستطيع أن تواجه حامض المعدة، بل وتهلك حتما إذا وقفت وظيفيا حائلا بين جارتها الكبدية تلك والخلية الأخرى. القانون سادر، ولا بد أن يظل سادرا، وأنا لا خلقت تخصصي أو اختياري، ولا أستطيع أن أغير نوعيا أو عضويا نفسي، كل ما أستطيعه أن أعمل في اتجاهي بكل موجاتي، وأن أوسع دائرة الوجود من حولي؛ دائرة وجودي، وليس ضروريا أن أجيب الديب من ديله، أو أبني هرما رابعا! لعل السر الذي خلقني، كائن في أني ذات يوم سأقول كلمة تصل إلى إنسان ما في مكان ما، وتلتحم موجتي على شكل الكلمة بموجاته، التحاما ينشط آلاف وملايين ومليارات الموجات، ويتفجر الشيء الذي لم يكن قد خطر على قلب البشر، فأنا قطعا موجود بوظيفة ولأداء وظيفة، وكوني قلت لا مجرد تمرد كخبط الرأس في الحائط، يكفي أنه أوصلني - وأنا على حافة أن أموت سكوتا - أن أكتشف أن سر الوجود هو الحركة، وسر وجودي الشخصي أن أتحرك، وبمطلق وبمنتهى وبأعظم ما أستطيع، أطلق الموجات تلو الموجات، وأستقبل الموجات تلو الموجات، وأنا أخبط رأسي ليس في الحائط هذه المرة، ولكن بكفي نافضا عن نفسي كل ما اخترعته تلك النفس؛ لتحتج على سوء توزيع دورها سكوتا؛ فهذا هو بالضبط طريق الموت.

والموت ليس ضروريا أن يكون صاعقا مفاجئا كالذبحة، إنه كأضرار التدخين أضعفها وأوهنها، وبريء تماما براءتها، أو هكذا يبدو! إنه الموت الأخطر والأبشع، الموت حياة كحياة الموتى، الموت سكونا وسكوتا وصامتا، الموت تمردا وقتيا عالي الضجيج؛ فشديد الضجة يصم كشديد السكون، الحياة! ليس مجردها وإنما خلقها خلقا، ويوميا خلقها خلقا، تعدي الآخرين بها، تنشرها كالوباء صحة، تبثها موجات إثر موجات؛ موجات صحيحة كالجنين الجميل القابل للتشكيل حسبما تريد. الحياة سامية شامخة بشرف، وبلا مساومة أو إزعاج ضمير، الحياة الحلوة حقا ليس دفعا بالأكتاف، ولا عدوانا على الآخرين، ولا استغلالا لحاجتهم. ما أروع أن تصحو من نومك اليوم، وتختار أي عمل طيب بسيط تفعله، حتى لو كان زيارة لسرير مريض مجهول، لا أمل له ولا أهل، إذا كنت فقيرا أعطه كلمة طيبة وبرتقالة، وإذا كنت غنيا وقادرا ابن له مستشفى. •••

يموت الزمار وأصابعه تلعب؛ فالعزف شكل موجات وجوده، وحتما يظل يعزف ويعزف إلى آخر الرمق، فالمسألة ليست هزلا؛ إن لها قانونا، وهكذا بدلا من الموت كفا وكفرا بأداء الدور. أليس الأروع أن تظل تعزف؟! مهما بدا عزفك نشازا وشاحبا؛ فحتما سيأتي اليوم الذي يعلو، ويجبر الناس من صدقه على السمع، أو حتى إذا لم يأت اليوم!

فماذا تفعل؟

إنه وجودك، لا فكاك منه.

فشمس الشموسة قد طلعت.

وما أجمله من صباح!

سأجعله أسعد صباح عشته في حياتي.

وسأقول لنفسي كل يوم: سأجعل من هذا اليوم أروع أيام حياتي.

ولن أدع شيئا أبدا أو شخصا، يحيله إلى يوم قبيح.

الأمر صدر من إشعاعات الشمس الطازجة، التي لا يزيد عمرها عن ثماني دقائق: قم وافعل شيئا تفخر به أمام نفسك وأولادك، ويفخر به أحفادك؛ فأنت أعظم مخلوق في هذا الكون الفسيح، الذي لا تصدق أبعاده.

أنت أروع ما فيه.

أنت الكائن الوحيد القادر أن يكون إنسانا.

أتعرف ما هو الإنسان؟! •••

ملحوظة: رغم كل وأي أدوية أو عقاقير، شفيت الجلطة من تلقاء نفسها!

الآن فقط متأكد أنها شفيت تماما.

ولكن المشكلة، بعد، قائمة.

فما أزال حبيس قدري وموجاتي، مهما صرخت أو تحاييت أو تماوت أو مت، أيمكن أن يكون الحبيس سعيدا؟!

حتى لو كانت حياته في سجنه!

أممكن أن يكون الحبيس سعيدا؟!

19502

ظن في بادئ الأمر أنه مغمض العينين. باستماتة حاول فتحهما، لم يستطع، كانتا فعلا مفتوحتين. المرآة أمامه، بكل قواه حدق، الفضة العاكسة تعكس كل ما أمامها؛ الحائط من ورائه بلونه القاتم واضح ظاهر، الستارة المضاهية ظاهرة، خلفه الباب هناك، كل شيء، كل شيء. ولكن الشيء الوحيد وجهه، ليس هناك! جن انقض بيده على وجهه يتحسسه، أمسك بخصلة من شعره. اليد بقوة ووحشية تتحسس الجلد واللحم، وتكاد تغور من تحته في العظم، ولكن وجهه غير موجود في المرآة العاكسة! مستحيل، لست في كابوس، أنا صاح تماما، ومدرك؛ بالأصح كنت نائما وصحوت، صحوت عاقلا، أسمع صوتي، ها هو: أنا أتكلم؛ فأنا موجود! أنا أسمع كلامي؛ فأنا صاح، أنا لم أجن، أنا عاقل؛ أعرف من أنا؟ ما عملي؟ متى ولدت؟ أين أبواي؟ أنا في المؤسسة، بالضبط في دورة مياهها، كنت من لحظة خاطفة أشرب من نافورة الكولدير في الخارج، وأنا في الداخل أحدق في المرآة؛ القيشاني من ورائه ظاهر، النافذة مفتوحة، المنظر الخلفي البعيد أراه، برج القاهرة منتصب في مكانه لا يزال، الدنيا نهار، الشمس نصفها فوق الأرض، نحن في عز الظهر، الضوء، صوت الحنفية التي دائما تخر، يسمعه، إلا هو.

ضحك، قهقه، انطلق يجري إلى دورة مياه المدير، نظر أيضا وأمعن في التحديق؛ لا أثر لوجهه، الصابونة الغالية معكوسة في المرآة، الفوطة، فوطة المدير العام التي ينشف بها يده، وأجزاء من وجهه وجسده في بعض الأحيان! هناك، لونها بمبي، بها البقعة الحمراء ذاتها التي كانت موجودة بالأمس؛ السيراميك الزاهي، أعاد النظر، مطلقا لا أثر لوجهه، كل شيء إلا وجهه أو رقبته أو أي جزء منه، يده فردها إلى آخرها أمام المرآة، ولكنه يرى اليد ولا يرى صورتها! جرى إلى حجرة «شمس»، التي تمتلك جهاز التسجيل الوحيد؛ لتسمع عليه طوال ساعات العمل أغانيها المفضلة، استأذن منها فلم ترفض، لم تقبل! انكبت على «التريكو» وكأنها مستغرقة تماما فيه، أخرج الميكروفون من جراب الجهاز، تنحنح، ضغط على الأبيض والأحمر ليسجل، أنا - وتردد - فلان الفلاني، العاقل الكامل العقل، سيداتي سادتي، والآن إليكم الفقرة التالية من برنامج أقوال الصحف، حيث ينتقل الميكروفون إلى إذاعة خارجية للوصف التفصيلي لمباراة كرة القدم بين الزمالك والكروم. وشك حلو يا كابتن لطيف، أظن كفى! أوقف التسجيل، ضغط زرار الترجيع، أدار الجهاز، نفس أغنية وردة: وحشتوني، استمع واستمع، ووصل إلى حيث الرقم الذي بدأ التسجيل عنده، ووردة شغالة، ولا أثر لصوته! استمر يسمع، ليس هناك إلا: وحشتوني وحشتوني، استمع إلى أن انتهى الشريط ولا أثر! الحقوني . جرى هابطا الأدوار كلها، نفس سعاة وعلامات ومصليات كل دور. في لهوجته داس بكل ثقله على قدم عواطف وكيلة العلاقات العامة الحامل في شهرها الثامن، لم تصرخ ولم تحتج! وصل إلى الشارع. على الباب الرئيسي وقف يصرخ بأعلى صوته، الناس تروح وتجيء، لا أحد يلتفت، لا رأس يرتفع! ملأه الغيظ تماما، والله لأعلمها! خلع كل ملابسه، قطعة قطعة، وتعمد أن يقذف كل عابر بقطعة، ويزيحها (اللوح البارد)، وينظر إلى أعلى وكأنه غسيل سقط من حبل يلقيه أصحابه. إنها ملابسي أنا يا حمقى! أنا هنا واقف عريان كما ولدتني أمي! ها هو ذا جسدي كله، أنا هنا، يا أولاد الحلال، والله العظيم، أنا أهه، أنا هنا، يا محسنين أنا هنا، التفتوا حتى، اضربوني، أنبوني، موتوني، يا أولاد الكلب! أنا هنا، الحق لا بد أن أبصق عليكم. استمروا غير مدركين أو مبالين، وكأن لا شيء يخجل، وكأن لا شيء أبدا يحدث، النجدة! الحقوني يا هوه، لا بد جننت، أو أنكم جميعا جننتم! زوجتي، المنقذة، النجدة! بيتي، أولادي، عقلي كله لا بد هناك. جرى، انحشر في الأوتوبيس! دفع الناس بغلظة، خيل إليه أنهم تمايلوا، فقط تمايلوا وكأن لا آدمي هو السبب، أصدر أصواتا منكرة، لم يسمع إلا الكمساري يقول: تذاكر! قرص سيدة، لم تتحرك، عضها في ردفها، لم يرتعش لها ردف! لم يأبه أحد. قفز من الأوتوبيس؛ فاستمراره فيه جحيم سيفقده عقله. أمام عمارتهم وقف. تطلع، زوجته تطل من الشرفة، لمحها من أسفل ونصفها مدلى تنشر الغسيل، نط قلبه من الفرح، لم ينتظر المصعد، أخذ السلالم قفزا واثنتين اثنتين، دق الجرس. دق ودق ودق. وكأن لا أحد هناك! لا جواب. جلس على البسطة وكاد يبكي؛ لقد رآها تنشر الغسيل، وهي بالتأكيد في الداخل، جاء بائع العيش، دق الجرس، فتح له الباب رجل يرتدي فانلة بحمالات وبنطلون بيجاما أحمر! من أنت؟ إنت مين؟ الرجل يسأل بصوت عال: عايز كام رغيف مقمرا؟ اندفع ناحية الباب. دفع الرجل الضخم الذي لم يتحرك ودخل، رأى زوجته مقبلة . نط قلبه نطتين، الآن سيعود إلى الكون، ويعود إلى الكون اتزانه وعقله، قابلها فاتحا ذراعيه، أطبقهما على الهواء؛ فالرجل الضخم كان قد أخذ العيش، وأغلق الباب، واندفعت هي تتعلق برقبته دون داع مطلقا، وكأنما لتغطيه. جاء طفل يبكي، هل هو ابنه؟ هو فعلا عمرو ابنه. حملت الطفل بيد ولفت يدها الأخرى بصعوبة حول رقبة الرجل، زوجها؛ هكذا فهم! يا مجرمون! هذا بيتي، هذه زوجتي، هذا ابني، فمن يكون هذا الطويل الضخم الهايف؟ هل مات هو وتحول إلى أثير لا يراه أحد؟ ولكن الأثير لا يرى، هو يرى. الأثير لا يسمع، هو يسمع. الأثير لا يدرك، هو يدرك. المجرم يزيح زوجته في تبرم، وكأنما هو زوجها، وقد بدأ يملها. إنه حي. أنا حي. هذه يدي، أعضها فتؤلمني، أليست هذه أصابع تتحرك أمامي؟ أليست هذه ساقا؟ إنها مؤامرة! أهم قد طلوه بطلاء كالرجل الخفي، بحيث لم يعد يراه أحد؟ ولكن منظاره هناك، وهو قطعا غير حر وغير مكبل، أيقفز في الهواء ويوقف شعورهم رعبا؟ أنا موجود يا كلب أنت وهي، انت يا ابني، انت ابني أنا، هذا يا عالم بيتي.

فرت الدموع من عينيه، بكى صامتا، ثم رافعا صوته إلى آخر المدى؛ جعير كان كفيلا بأن يفرج عليه الجيران وجيران الجيران والشارع كله. ولكن - وكأنه مات - يبكي، ووحده الذي يسمع، يا ربي، عبدك أنا، موجود، فأمر عبيدك أن يروا! دخل حجرة الرجل، انتقى قميصا وبدلة وحذاء ورباط عنق، ارتداها. أكبر وأوسع منه. تصور أنه حين يخرج إلى الصالة على الأقل سيوقفونه بتهمة السرقة. بنت يا «رقية» أنا عبده حبيبك، أنا «دودة» كما كنت تدللينه. هذا الركن احتوانا، عيناك كم احتضنتاني، حضنك اندسست فيه، عمرو، أنا أبوك، أنا بابا. أنا دادي، أنا الذي طالما تعلقت برقبته، وطلبت منه الكرة والبسكليتة والشيكولاتة. لم يعد يستطيع، انطلق كالقذيفة، فتح الباب، أخذ السلالم قفزا قفزا، حتى البواب المؤدب لم يأبه له، تعمد أن يقفز فوق سطح عربة تاكسي، ويزحف فوق المقدمة؛ حتى يغطي الزجاج الأمامي ويعمي السائق. والسائق سائق، لا يتوقف! من تاكسي إلى تاكسي إلى عربة. عاد للمؤسسة، تعمد أن يصفع رجل الأمن صفعة، لا بد دوى لها المكان، فلم يسمعها، ولا جرى الرجل وراءه، في ومضة صعد إلى الدور الأول، ليس هو الأول؛ لقد كان مقر رئيس مجلس الإدارة، ولكنه لم يجد رئيس المجلس ولا مقرا له، لافتة كانت في مكانهما معلقة، لافتة شركة «الكودمو» بالعربية والإنجليزية. أيكون قد أخطأ؟ هبط، قطع الشارع طولا وعرضا. من المؤكد أنها المؤسسة؛ هذا هو المستشفى المجاور، هذه هي محطة المترو، هذا هو الكوبري العلوي. عاد يجري، الدور الثاني تعمد ألا يقرأه. الدور الثالث كان فعلا دوره الثالث؛ حيث يوجد مكتبه، الحجرة التي يجلس فيها صغيرة، وطالما اشتكى من صغرها، ووعدوه بحجرة أكبر، ولكنه على أي حال يجلس في حجرة بمفرده. فتح الباب، انفتح؛ الأثاث هو الأثاث، المكتب مكتبه، ولكن الجالس عليه ليس هو. سيدة، شديدة الأناقة مندمجة في حديث خطير مع زبون. هذه مؤسسة، وليست «بوتيك»! هذا مكتبه، إنه موظف هام، والحديث عن صفقة شامبو، لا أقل من عشرين في المائة! يقف مصعوقا يسمع. قاوم الزبون، لانت السيدة، وافق الزبون. تمت الصفقة دون أدنى انتباه له. قبلة على اليد الناعمة انتقلت بسرعة إلى الخد الأيمن، ثم عبرت إلى الأيسر، مارة بالشفتين ... لا اعتراض ولا مانع.

تكوم في ركن منهارا، ولكن قشعريرة حمى جعلته ينتفض. لا بد هناك خطأ جسيم ما. انطلق صاعدا هابطا باحثا عن رئيسه مدير المستخدمين. لا توجد لافتة واحدة لأي مدير. حجرات مرقمة مختلفة، أبوابها في درجات الأهمية، وكأنها حجرات سرية، انتقى أكثرها أهمية. بقدمه وساقه ركل الباب ودخل.

كان اجتماعا يضم وجوها شقراء وحمراء وبعضها أسمر. المناقشات هادئة جدا، والطرقة مكيفة بجهاز صامت، لا صوت له، والكلام يكاد يكون همسا. زعق وزعق وزعق، وظل يزعق حتى انحشر الصوت في حنجرته، وانحاش صوته، وأصبح لا يستطيع سوى مواء كمواء القطط الشريدة الجائعة، أدرك أن لا فائدة!

صعد إلى سطح العمارة، فتح نافذة الدور الأخير العاشر. دون لحظة تردد - مخافة أن يتراجع، أو يعدل - فتح النافذة.

قفز. حين وصل جسده إلى الشارع، تكومت حينذاك فقط جثة مهشمة الوجه، مدشدشة الرأس، التف حولها مئات من محبي الاستطلاع، واللاحول واللاقوة إلا بالله! كثرت التعليقات. فرق أمناء الشرطة وعساكر الأمن الناس. جاءت عربة الإسعاف. فتح محضر. مجهول الهوية ذكروا، إلى النيابة أحيل الدوسيه، أشر الوكيل، دفنت الجثة.

قيد الحادث ضد مجهول، أخذ الدوسيه رقم 19502 محفوظات.

أنصاف الثائرين

في الليل لما خلا إلا منه، ولم يكن الشاكي، وليس حتى ذلك الرضا المؤقت عن النفس بعد عمل باهر. تائه! الهدف مهم، حتى المشاكل حين تقع تصبح هدفا. المهم ماذا بعد؟ بكلمة انتهى الإشكال، دقائق معدودة حدث فيها كل شيء، حين يجيء الليل وأنت لا تعرف لمن، وإلى أين تذهب. حين يجيء الليل ويسحب الكائنات. كل إلى عشه ومستقره ومقامه، ووحدك تبقى، وحدك، وحولك لا يوجد سوى الظلام واللاهدف. حينذاك يعود الليل شيئا آخر؛ عمى أصاب الشمس، أو غولا ابتلع الدنيا والناس، ولا تتحول أرض النهار كالعادة إلى ليل، وقد تغير منها اللون فقط، تصبح الأرض المستوية بحرا، ليس مجرد تشبيه؛ تتحول حقا إلى بحر، الريح أمواجه، والظلام آفاقه، والإضاءات البعيدة أو القريبة مراسيه ومناراته.

وفي الليل لما خلا إلا من الشاكي، صوت عباس يدندن، يطرد الوحشة، لكن الدندنة تؤكدها، يعلو الصوت، يغني، يطلب الونس، فيتحدث إلى الليل المسكون بالظلام الراسخ العميق. في الليل لما خلا، الجمال الوحيد في صوت عباس، أنه يجعلك تتذكر عبد الوهاب وهو يغنيها، وبحنجرته الحلوة يستأنس كون الظلام، ويضيء على مدى الصوت الرخي أنيق الشموع.

في الليل والعربة تجأر، تصعد، تميل، تتلوى، صندوقها المغلق الكبير يتأرجح؛ فهي تسلك الطريق الوعر، الخالي من أكشاك المرور وعساكر المرور؛ فقد سحبوا الرخصة منه من زمن لضعف بصره، وفي الليل يزداد ضعفا! ويزداد تأرجح اللوري فوق جسور المصافي غير الممهدة، وغير المعدة لمرور العربات، أي عربات.

في الليل والعائلة الغريبة منكمشة بجواره، الزوجة وضعها الرجل لصق الباب؛ غيرة عليها أن تكون محشورة في الوسط بينه وبين السائق، والأولاد في الدواسة وفوق ركب الأب والأم وفي كل مكان. في الليل وقد مضى النهار المزدحم، ذلك النهار، قصته الكاملة لو كتبت لاستغرقت كتبا، بل لا أحد بإمكانه أن يحيط بها كلها.

عباس السائق جذبته الأغنية وغرق في دوامتها؛ الليل صاحبه القديم، والليل عمره، بل أصبح قدره، ولم يعد سواه ملجأ يحميه من النهار، نهار الناس العاديين والقانون العادي، نهار البوليس والتفتيش والرخص، النهار الذي يضبط فيه كل شيء، ولا يفر منه أحد، ولم يعد له سوى الليل؛ ذلك الليل، الذي خلا إلا منه ومن محتويات «لوريه» من بشر وأشياء وخيالات، يستجير به معيدا حتى لا يتخلى عنه؛ إذ حتى لم يعد يرى أمامه أي مرفأ.

قطع عباس اندماجه وسأل: مريوط؟ مريوط؟

حجاج الراكب وصاحب الكومة الأسرة فرح؛ فالسائق في العادة ذلك الذي اعتاد الصمت، وقصر حواره دوما مع الموتور، إذا أجاب مضطرا خرجت الإجابة من أنفه؛ تكبرا يقولون، تكبر السائقين الذين يعرفون أنهم فوق الناس؛ لأنهم يعرفون ما لا يعرفه الناس؛ تحت إمرتهم سر الصنعة، والآلة اللغز، سلسلة في يدهم، الآلة لغز في عالم يحيا بآلات من الحمير والكارو والجاموس والنهيق. الآلة، أصبع الحضارة البعيدة، تخترق الفيافي وتظهر هنا، معجزة ومرعبة، وسيدها عباس، أو أي عباس، وحتى لو كان نظره شيش بيش ليجعل تكبره على الآخرين أقل شموخا، ولكنه حتما يملك ذلك الشموخ.

مريوط! لماذا مريوط؟ وهل يعقل - وفي هذه الساعة - أن يطرق حجاج «أفندي» باب أنيس أفندي، ولغرض كهذا الغرض؟! مريوط مريوط مريوط، وهذا البغل ذو الكرش المحشو جشعا ونتانة! مريوط يا ابن بائعة الفجل، الذي أصبحت صاحب أرض، وبفضلي أنا تحولت من «بقجة» القماش، تحملها لتبيعها بالمتر والنصف متر في الأسواق، إلى صاحب دفتر شيكات ضخم بقلمك المذهب، تستطيع أن تضع أي رقم وتوقع، ولتوقيعك قيمة وسمعة، أعظم من سمعة محافظ البنك الأهلي، وورقة دفتر شيكاتك أضمن من الورقة أم مادنة، والمميزة بالصورة المسحورة لأبي الهول. مريوط مريوط! يا حسن بن وهيبة بائعة الفجل، يا من سموك يوم ولادتك حسن الكبش؛ لفرط شبهك به، ثم لما تاجرت وأصبحت صاحب عربة خضار سموك المعلم، وتلاشى الكبش من اسمك، وذاكرة الناس للأسماء وللألقاب ضعيفة، خاصة إذا كان أصحابها يكبرون، والناس تصغر. وحسن بك أصبحت، مائة فدان تملكها رغم أنف قانون الإصلاح الزراعي، وقوانينه الصارمة لمنع التحايل، ومائة أخرى تستأجرها رغم أنف قوانين الإيجار الحاسمة؛ مائتا فدان! الجناين مائة، والخضار مائة، والسراية اسمها الشاليه، والسور الذي يحيط بالمائتي فدان أسلاكه شائكة، وفي الليل مكهربة، وماكينة النور تكفي لإضاءة مدينة، وحظك نار! بمائة جنيه لهفتها والأرض فدانها بألف، وصاحبها الخواجة يبكي؛ فالعمر أضاعه، يصنع من الجنينة جنة، قنواتها بالأسفلت، ونقل الفاكهة والخضار يتم بقطار صغير، ذي عربات قلابة وأوناش، وخيم للرش وموتورات، وببلاش أصبحت «بك»، ولو كان ممكنا لتخطيت - بأرض الخضار ومزرعة الدواجن والبهائم وخلايا النحل، وحتى بتقطير زهر الياسمين وحده - رتبة الباشا!

فلتكن مريوط.

الخواجة كان أحسن، ألف مرة أحسن! خواجة على غير الدين والملة، لا يكذب ولا يغش، ولم يذهب ليحج، ومعه حقيبة ضخمة فارغة، وعاد بملء عربة لوري بضائع للتجار والاستهلاك.

الخواجة كان أحسن، وكان في أيامه وطنيا صميما ووفديا قحا، وعباس السائق هذا نفسه كان حين يريد أن يسترضيه، يضغط على «سيرينة» العربة النقل، لتعزف ذلك الهتاف المموسق يحيا ... النحاس ... باشا ...

خواجة وأحسن، وذمته أنضف، ولكنه ذهب لأنه كان يمت إلى جنس كبير، حرفته السرقة المنظمة المقننة، والإرهاب بالقتل العسكري المباح، والاحتلال طريقته في السطو المسلح، خواجة واحد نظيف في عصابة قوامها عشرات الملايين من السفلة، وراح.

والجنينة في الحقيبة لا كانت جنينة الخواجة، ولا جنينة حسن بك «الكبش» سابقا حين لهفها لهفا، الجنينة جنينة حجاج. جاءها وبها أربع شجرات «كازورينة» عجاف، جاءها وهي بور، حتى الحشائش لا تقوى على النمو فيها. وبيده - بيده وحده - أحياها، بحذائه ينغرز في الوحل، بالليالي يسهرها حتى الفجر، لا يزيد الري جرعة ماء أو ينقص، ولا يزيد السماء ملليجرام أو يتغير، بالبهائم رباها عاما وراء عام، تحيل بقاياها وعلفها إلى طبقة أرض نيتروجينية جديدة، تختلط بالقديمة، وبالطمي، آلاف الأطنان من الطمي والرمل، من شيء كان كالرأس الأصلع الخالي تماما حتى من الزغب، شعرة شعرة راح يزرع، وحوضا حوضا راح يزحف بالخضرة والخصب، حتى - بعد عشر سنوات - أصبحت تلك المعجزة التي تتحدث بأخبارها ألسنة المارين ركوبا في أوتوبيس، أو سيرا على أقدام بجوار الحمير المثقلة.

أصبحت جنة يستضيف الخواجة «شيميز» أصدقاءه ومعارفه، وكل من يكاد يعرفه أو يلقاه؛ ليريه «إيزابيللا فارم»، كمن اكتشف المعجزة، كمن حقق أكثر المستحيلات استحالة، في شرحه وحماسه، ووجناته المحمرة يندمج، وتنطلق دفعات الكلام من فمه صادقة أو كالصدق، كأنه هو الذي قام بالعمل وحده، هو الذي غرس، هو الذي قام على «المشاية» وسهر، هو حتى ذلك الذي أقام هذه «الفراندة» الأصيلة، التي لا مثيل لها ولا لروعتها. في وسط «إيزابيللا فارم» تماما تقوم شجرة كازورينا هائلة الضخامة، هي مع الكازورينات الثلاث، كل ما وجده في الأرض حين اشتراها، يندمج تماما حتى ينسى اسما أو تاريخا أو حادثة، فيتلفت لحجاج أفندي السائر متواضعا خلف الجميع، الصامت تماما دونا عن الجميع، الذي اعتاد على اغتصاب الخواجة لمجهوده ودوره، حتى لم يعد يزعجه الأمر، فليتكلم ما يحلو له الكلام، وليصمت حجاج تماما؛ فثمة ألف شيء يتحدث نيابة عنه؛ كل شجرة، كل عرق من شجرة، كل ثمرة مانجو، كل عنقود عنب، كل زهرة ياسمين، كل نخلة، كل «قرص» عسل نحل، كلها دوما يراها ويسمعها بغير عين الجميع، وأذن غير أذن الجميع؛ إذ بأذنه وعينيه وحدها يسمعها، تبثه الشكر والحمد، تغرقه في اعترافها بالجميل إلى درجة أن لو أشار لها بالكف عن النمو لكفت! أن تكف عن إنتاج الثمار لكفت. الخواجة له الأرض وله النقود، وله الشاليه المذهل، وله ذهول الضيوف، وآهات انبهارهم ودهشتهم. ولكنه هو الذي يملك ما هو أعظم من ذلك كله؛ يملك أجمل وأروع حديقة حياة، أرغمه هذا الفحل الأصلع على أن ينشئها، فأنشأها.

وكمن يشير إلى برج إيفل؛ يشير الخواجة إلى شجرة الكازورينة، لتكون المفاجأة؛ اندفع يسرع راكضا ناحيتها، والركب والركض يتبعه، هناك، وكأنما يكتشف في التو معهم، يتطلع ويتطلعون، وفي أعلى مكان في شجرة الكازورينة العالية، حيث أقيمت، من نفس الأفرع غير المهذبة «فراندة» مستديرة مريحة، ذات سور تحيط بالشجرة كلها، ومن نفس الأفرع، وعلى نفس حالتها صنع للفراندة مقاعد ومناضد، وكالطفل الذي فقد اتزانه؛ يبدأ الخواجة شيميز يتسلق السلم المصنوع أيضا من الكازورينة، وليبدو وكأنه مجرد فرع شذبت نهاياته قليلا، للسلم والدرابزين، وخرطوم المياه الرقيق، وأسلاك النور التي طليت بنفس لون الشجرة، والمصعد ذو البكرات الذي يتحرك حاملا الطعام أو العجزة الذين لا يستطيعون الصعود، أو أجهزة الموسيقى أو ما شاءوا من صناديق الشراب. ولأن الأسئلة حينذاك تنهال بكثرة وبالفرنسية في الغالب، ولأن حجاج أفندي له إلمام بها و«شيميز» يعلم هذا، ويعلم أيضا أنه قد ظل أنانيا إلى درجة لم تعد تحتمل؛ يتحرك الضمير، معترفا أولا بأن برج «الكازورينة»، هو فكرة أراد حجاج أن يفاجئه بها، حين استضاف وزير الزراعة يوما، ثم تتوالى اعترافاته، وحتى ما لم يعترف به بينه وبين نفسه، يبدأ من تلقاء نفسه يشير إلى صاحب فكرته وخالقها. وتبدأ السيدات تضع النظارات، تفحص هذا الصامت العبقري، وتتأمل أنه هو الرجل المقصود، يصبح ارتباكه أعظم من أن يحتمل، ولا بد أن يعذر، إن لم يبد وجيها أو مقبولا، فالأمر لا يهم! يختفي حجاج، وتختفي الخواجات والطبقة. وفي أسبوع واحد يبدأ «شيميز» الفرنسي يفكر في البيع، ثم البيع، ثم تهريب الثمن، والأسبوع التالي يجيء عليه وهو في مرسيليا، وقد عاد إلى «الوطن الأم»، بينما كان في الحقيقة - وفي نفس هذا الوقت - يبكي وقد أحس لأول مرة أنه فقد الوطن الأم حقا، وقد ينجح «شيميز»، وتكون له حديقة وضيعة ومزرعة، ولكنه أبدا لن يجد في ذلك الوطن الجديد برج الكازورين، ولا حجاجا. •••

كما كان يعامل «شيميز» ظل يعامل حسن بك، لم يكن هناك ما يدعو لاستمساك حسن الكبش بالسيد حجاج هذا؛ إنه من عائلة قوامها ألف رجل، كلهم فقراء، وأولى من حجاج بالعمل والماهية، ولكن أن يقلد الخواجة شيميز، الذي اشترى منه المزرعة، بإبقاء حجاج «مديرا» للحديقة والمزرعة، بنفس راتبه، ومسكنه في الركن الجنوبي للحديقة، أبدا ليس هو السبب الذي دفعه للاستمساك به؛ فالبند الذي ورد في العقد خاصا بهذا الموضوع كان في ذاته نكتة، بند لا يعني شيئا ولا يشترط للفكاك منه جزاء، كل ما في الأمر أنه يدفع للعجب؛ أن يتمسك المالك السابق بموظف عنده بهذه الطريقة، مسألة لا بد فيها سر؛ سر حاول شيميز أن يشرحه له أكثر من مرة، بقوله: إن حدائق كهذه ليست مجرد عقار أو سلعة؛ إنها حيوان ومجتمعات كالبشر، ورعايتها تستلزم - كرعاية أي أسرة - الحب والرعاية والتفاني والحنان. وحجاج هو ذلك الراعي والأب، وأيضا، ورغم التكرار والتكرار فحسن بك ظل يؤكد لنفسه أن في الأمر سرا، وأن الأيام كفيلة بإظهاره! الشيء الآخر أنه بدأ يشرح لحجاج طريقته، وأنه ليس خواجه، وليس «كروديا»، وأنه بدأها من عربة اليد، ويفهمها وهي طايرة، ويعرف في الجناين وأمورها أكثر من صاحب دكتوراه، وهكذا عليه - إذا أراد أن يستمر «يأكل عيشه» - أن يطيع؛ كذا يعني كذا! مفهوم؟!

يرمقه حجاج بعيون لا ترمش، ولا تريد أن يخفى عليها خافية، نظرة تطول، وتئوب إلى رأس ينخفض يفكر. من الآن عليه أن يدرك أن كل شيء قد تغير، ليس صاحب العمل فقط، ولكن عليه هو أيضا أن يتغير، بل ربما على الأرض نفسها والشجر والزرع أن يتغير.

لقد كان شيميز يشعره أن الأرض وإن كانت له، إلا أن كل ما هو أخضر فيها هو من صنعه ومسئوليته، وهكذا وعمره الآن تسعة وثلاثون عاما، اعتصر نفسه وشبابه، وأحالها فاكهة خضراء وثمرا، وبينما أعاد للحديقة صباها وشبابها، فقد هو كل صباه، وأصبح من يراه يظنه في الخمسين.

من الآن، عليه - كما فعل شيميز - أن يبيع هو الخضرة، كما باع الآخر الأرض، وأن يشتري صحته وحياته، كما اشترى الآخر عنقه، وما دام حسن بك الكبش يريد أن يكون الصاحب والآمر والناهي، والرأي رأيه، والتصرف تصرفه، فليكن الأمر كما يريد، وليبدأ ومنذ الآن دوره الجديد، وما دام «المدير» قد ذهب مع الخواجة الذي ذهب، فليكن دوره مع الصاحب الجديد الآمر، دور المأمور المنفذ؛ كذا يعني كذا، حاضر.

حاضر وهي حاضر. الري يعرف أن موعده خطأ، وطريقته خطأ، ولكن تأتيه الكلمة: ارو، حاضر. يروي.

وبدأت المسائل ترتبك، ويستشير حسن بك الدنيا كلها، ويعيد ما كان يفعله بأراضيه الأخرى، ناسيا أن لكل أرض معدنها، وشخصية العنب الذي ينمو هنا، غير شخصية بني جنسه ونوعه، الذي ينمو هناك. ناسيا أن القواعد العامة شيء، والقواعد الخاصة التي تسنها الخبرة الطويلة شيء آخر. وكثير جدا من الأشياء تبدأ ترتبك.

وكان حريا بحسن بك «الكبش سابقا»، أن يعزو الارتباك، ليس لما يصدره من أوامر، إنما يعزوه كالعادة لتنفيذ الحجاج السيئ، ويجعل من هذا سببا وجيها لفصله والتخلص منه.

وهو بالضبط ما كان يتوقعه حجاج، وظل يتوقعه.

ولكنه الشيء الذي لم يحدث.

والذي ظل حجاج يضرب أخماسا في أسداس، متسائلا عن سبب عدم حدوثه، وأنى لحجاج أن يعرف أن العلة في القلة.

وأنها شربة ماء كانت، ولكنها هي نفس الشربة، التي لولاها ما كان قد أصبح هكذا تائه الليل، في طريقه إلى «أنيس أفندي»، عبر قنوات وطرق غير ممهدة إلى مريوط، والليل قد خلا، وسجى، ولا ندم، وكذلك لا فخر، وما حدث حدث، ولا بد أن يحدث، بل حتى هناك في هذه الوقفة، ما يستحق الفخر، رغم أن فيها وسبقها ما يستحق كل خجل.

الثورة محدودة، وحين ثار، كعادته حين كان يثور أيام الخواجة، ويتلقى الخواجة الجانب الموضوعي من ثورته، ولا تهمه الطريقة، بل أحيانا كان يستحسنها، كانت الثورة تأتي بنتيجة وفي الحال.

هذه المرة ثار؛ فقد أمره حسن بك بتقليم العنب، والتقليم الآن معناه أن يقتله قتلا، ولكنه الأمر! وقد تعود أن يرضخ. هذه المرة صمم تماما أن يقول: لا، ولكنه لسان حسن بك خرج ولم يعد، خرج طويلا سافلا، يلعن آباءه وأجداده! احتج نصف احتجاج؛ فبنصف عقله الآخر كان يحسبها، فإذا استمر في الأمر فالفصل مصيره، والفصل يعني أن يبحث ليس فقط عن عمل آخر، وإنما - وهذا هو الأدهى والأمر - عن سكن آخر، فالسكن لمن صناعتهم الزراعة تبع العمل، ويعني أن يلف البلد كلها طولا وعرضا، يبحث عن زملائه من نظار الجناين ومآميرها ومديريها، وعن وظيفة ولو وظيفة خولي؛ بشرط أن يجد المأوى في بيت، ولو في حجرة! وهنا سكت نصفه الموافق، وأوقف نصفه الثائر وقلم العنب، ومات العنب!

ومن بركان سفلي بشع، خرج غضب حسن بك: يا حمار. هكذا عيني عينك قالها! - لماذا قلمت العنب؟ - ولكن هذه أوامرك. - ومن قال لك أن تطيع أوامري؟ - سعادتك الذي قلت: كذا يعني كذا. - ولماذا لم تعارض إلى النهاية؟ لقد كنت أنا أفكر في التراجع إذا وصلت أنت المعارضة، ولكنك وافقت.

لماذا يعرف الخطأ ولا يقول لا، ويظل يقولها حتى لو قامت القيامة؟!

والنتيجة: أنت مرفوت! ابحث لك عن عمل. - ولكن أولادي، أنا لا بيت لي، لا بد أن أذهب أبحث عن بيت وعمل، وأنتقل إليهما. - من الغد عفشك بره، وأنت مرفوت! وإذا بقيت لحظه سأسلخ جلدك، وخذ.

ورمى إليه بعشرين جنيها قيمة «المكافأة».

ولم يكن هناك مناص، فأرخص وسيلة هي عربة النقل، التي يملكها عباس الأعمش، والتي لا يقودها إلا في الليل خوفا من ضبطه بلا رخصة، وقد سقط في امتحان النظر ثلاث مرات، وإلى الطرق الفرعية المنحنية والمنحدرة، والصاعدة والهابطة، ينشال اللوري وينحط، ويميل، ويكاد ينهال في الترعة والمصرف، والعائلة مكومة في الكابينة، وعباس، يراه بعينيه - كلما نقل عصا الفيتيس - يلمس ركبة امرأته، وحتى ابنته ذات الأربعة عشر عاما؛ متعللا بعصيان العصا، والليل قد خلا إلا من جئير الموتور المنهك، وجعجعة الدبرياج، ولمسات الأعمش.

وأنيس أفندي يخرج من منزله في مريوط، مذعورا في منتصف الليل، يعتذر فهو لا يعرف عملا، لا يعرف مكانا للإقامة؛ زوجته مريضة، وابنه يعاني الحمى، وهو مدثر ببطانية، وأنا آسف يا حجاج، آسف؛ الظروف قوية، والعمل صعب، والمزارع والجناين قلت، ولماذا لم تبلعها يا أخي ؟

وحجاج يقول لنفسه: ولماذا - ما دام هذا هو المصير - كنت لا أخلع الحذاء، وأنهال به على الرأس الأصلع للكبش حتى أدميه، وعلى الأقل أخرج بكرامتي، ولكنه المصير الذي ينتظر أنصاف الغاضبين.

والليل قد خلا مرة أخرى، إلا من لوري ذي سائق أعمش، وعائلته تبحث عن عمل مأوى، أو عن مأوى عمل، والموتور يزأر، وعباس يغني في الليل لما خلا إلا من الشاكي، والنوح على الدوح ... وينسى بقية الأغنية ليمد يده إلى عصا الفيتيس، وإلى ما أصبح يصل إليه فوق الركبة، ثم يتذكر عباس الأغنية، ويجأر بصوته: للصابر الشاكي، والليل يمتد ويستشري، ومن بحر إلى محيط يصبح، والعربة بركابها تغرق فيه وتغرق، ولا حتى من نجمة قطب عند الفجر تشهد.

لماذا لم يقتله؟

لماذا لم يكب راكعا - وأمره إلى الله - ويقبل حذاءه؟!

اقتلها

الحياة التي يحياها الآن كأنما هي بالضبط ما أراده طول الوقت، دون أن يعي، والكرسي الذي يجلس عليه، والمنضدة الكائنة في الركن؛ ركنه المفضل، والكم الذي يجرعه من كوب الماء المثلج المضبب البارد، هو بالضبط ما أراده، بلا زيادة أو أقل نقصان، كل نزوة تعن له حتى، ولو تجاه امرأة يحيلها إلى نظرة فخطة، حتما تنتهي حسبما أراد لها! كانت مشكلته دائما أن يحقق، ومن أجل أن يحقق أصبح عليه الآن أن يقتنع. لا إيمان مطلق، لا تسليم. التحقيق هو الحياة، والعمر يمتد مسطحا أمامه أملس كالزجاج، يدحرج البلية، ويأمرها أن تقف، بالضبط حيث كان واقفا، عند الخشبة الثالثة بعد المكسورة من السور، بالضبط هنا قفي أيتها البلية، وحذار أن تتحركي، فمن الممكن وباستطاعتي أن أهدم الكون فوق رأسك.

في العادة حين نتذكر الشيء أو الحدث، نلتزم بالخط الواحد، مذ لم يكن الحدث قد كان، إلى أن كان، وبعد أن كان. هكذا تصنع بنا ذاكرتنا، فوهي تجذب الماضي وتضمه لحظات معا - غير قادرة على التشتت، إلا إذا كنا قد جننا - إما أن تتشتت وهي أعقل ما تكون وأثبت ما تكون، وإما أن ترتد عيناك لتصبحا ليستا نقطتين، ترى بهما ما أمامك، وإنما هي شريط بصري دائري يحيط بكل رأسك، وترى به أقصى زوايا الكون، وبأذنيك وقد امتدتا وتفرعتا ملايين «الإيريالات»، حتى ليسمعانك نبض الكون الأعمق، إذا عن لقلب الكون أن ينبض، إذا استعدت الزمان والصوت والمكان - وبلا حدود - واستحضرت الحدث بلا ذرة تتساقط منه وأنت تستعيده، وكل شيء وكأنه لا يتجمع الآن، ولكنه بقوة عظمى خافية يتحد، ويشكل من الماضي حاضرا في قلب الحاضر الدائر، بل ولأصبح باستطاعتك أن توقف أو تبطئ من دوران أيهما؛ الماضي أو الحاضر، والإسراع بالآخر لتصنع من الزمن عجينة، لها ما شئت من سمك، ومن المكان مساحة لها ما شئت من حيز، الذرة فيها في حجم المجموعة الشمسية، والمجرة فيها تستطيع أن تصغرها بأصبعيك إلى أقل جزيء ممكن.

حين تصنع هذا كله، أو يمكنك صناعته، فإما أن عقلك انتهى تماما، وإما أن عقلا آخر فيك بدأ يبرز، عقلك الأكبر، وويلك إذا انتهى عقلك وبقيت حيا! وويل وويلك إذا بدأ العقل الأكبر، وأنت لا تزال سجين وجودك الأصغر! وفي الحالين أنت في لحظة جحيم، واسمع سيدي.

وقبل أن تسمع سيدي، اكبر أيها الحجم! وتضخم أيها المكان! واقترب أيها الزمان! لا ليس عاما، بل شهرا، بل عدة أيام أريدك. اقتربي أيتها اللحظة، ليس كما خططت يومها لك، ولكن فاجئيني وكوني طويلة طول العمر؛ فأنت حقا تساوين عمرا بطوله، أصبح أيها الحدث في قرب وجهها ذي النمش الخفيف. ذلك الوجه، اقترب، ولو عذبتني أكثر.

عذبك يا مصطفى ذلك الوجه؛ الرموش البنية الغامقة انغرست طويلا وكثيرا في حبابي عينيك، وأنت مستعذب ذلك العمى البني المدبب! أفعلا أحببت ذلك الوجه؟ أفعلا كانت صاحبته تحبك؟ أم هو السجن والجسد الفائر، والشبق الموضوع قسرا في زنازين من أقفاص صلبة لا تلين ولا تنكسر؟ اقتربي كثيرا يا لحظات عشتها وعاشتني؛ فأنتم أنا، ولكنه لأنا المستحيل - أعرف هذا جيدا - التجمع والتكون والعودة للوجود، فلا أنا انتهى عقلي الأصغر، ولا نبت لي ذلك الأكبر المهول بعد.

المسافة قائمة وباقية بينهم في «الدور» الثالث ، وبينه على «البسطة» الأولى للسلم الحلزوني الصاعد في قلب العنبر، والوقت طال وطال، والصبر نفد. فحين تكون في السجن لا تستعذب أبدا أي صبر؛ فأنت دائما في انتظار اللحظة التالية، ولو لم تحمل لك أي خير أو حدث. فمن يدري؟ لعلها تحمل! لعل شيئا خارقا يحدث! أنت تتصورها وتحشوها بالاحتمالات، وتبتهل؛ عساها تأتي مثقلة، كان معهم مع الكبار - حيث كانوا، ولا يزالون - في الزنزانة الواسعة بالدور الثالث. دخل عليهم ثم بدا من نظراتهم المتبادلة، أنهم يطلبون منه الانصراف. أكان اجتماعا مدبرا وجاء هو ليفسده؟ أما كان التدبير هو تلك الأسئلة الغريبة التي انهالت عليه، ثم كفت فجأة؟ وبدأ تبادل النظرات، حتى أحس من التيار المرسل والمستقبل بين العيون، أن ثمة كلمة ضوئية تصاغ، أو بالأصح أمرا: قم، وانتظر!

وقام.

ولم يطلب منه أحد أن ينتظر، فجعل بينه وبينهم ثلاثة أدوار، وجلس؛ فقد كانت الكلمة لا تزال في أذنه: لا تبتعد كثيرا يا بني!

لقد سبقهم إلى السجن، هذا صحيح رغم أنه الأصغر، فقد جاء متهما في جريمة قنبلة، ألقاها في ملهى شارع الهرم، لم يمت بها أحد، هذا صحيح، ولكنها جعلت منه كبيرا وبطلا دخل السجن. وكم عض أصابع يديه العشرة ندما؛ فقد كانت رعونته هي السبب! كان واجبا أن ينتظر إلى أن يعد خمسة ثم يقذفها بقوة، ولكنه استعجل وقذفها وهو يعد الثالثة؛ خوفا أن تنفجر في يده، وبظهورها بلونها الأحمر الغريب المثير المرعب، انكفأ الكل على وجوههم، وكل ما ناله ليلتها قطعة من فخذ الراقصة الدهني الذي جرح، ظلت لاصقة بين ياقة قميصه وجلد رقبته، وكلما حاول استخراجها ضربوه؛ مخافة أن تكون ثمة حركة مباغتة أو بداية عدوان، وهو يحس بها قطعة من نار الجحيم اللصاقة، قد غرزت كاوية جلده، حارقة لحمه حتى نخاع النخاع. وفقط عند مطلع الفجر ينجح في انتزاعها، ينتزعها هي، ولكن أثرها لا يمحى! يكاد يكون إلى الآن باقيا.

مصيره معروف، إنه يدرك هذا! معروف له وللقاضي، وحتى للشحاذ الذي يدعو له كلما لمحه هابطا من عربة السجن إلى المحكمة؛ الإعدام!

فليكن! أبدا لم يفكر أن هناك موتا بمعناه الذي تعارف عليه الناس، ولا خاف مثلهم منه، لكم أحبه قبل الحادث وابتغاه في أثنائه وبعده. كلما غور ببصره في أعماق رحلة الخلد، التي سوف يقطعها به إذا استشهد، أحس أن الناس لا بد مجانين؛ لتمسكهم بحياة هي خرقة بالية! وستبلى أكثر، مليئة بالأوحال والأقذار، لا تصلح حتى لتلميع حذاء! وأعظم شيء يصنعه الإنسان بها، هو أن يقذفها بأطراف أطراف أصابعه، بعيدا بعيدا؛ كي يزيحها عنه، وعن الطريق إلى الخلود.

بل هو حتى أصبح يضيق بتلك المعاملة الخاصة، التي تعامله بها جماعته؛ المئات منهم الذين جاءوا بعده، ولأسباب مختلفة حين جاء أحدهم مرة، وهمس في أذنه، يسأله: من أين هو؟ وإلى أي أمير ينتمي؟ لم يخبره. وحين تكشف في السجن، وبالسجن كل شيء، وعرف السلسال من أوله لآخره لم يفرح، بل ولا غير من نظرته إلى غيرها، فالدين دين الكل، وهو فقط ضد الخارجين ومع كل الداخلين، قابله مرة وكيل وزارة الداخلية، يحمل له عفوا، وقائمة بأسماء كثيرة، الغريب أنها كانت صحيحة تماما ودقيقة جدا، وكأنه هو شخصيا الذي كتبها، وحمل الورقة في يده، ورأسه - رأسك يا مصطفى - في اليد الأخرى، ومجرد توقيع ينقذ هذا الرأس؛ توقيع صغير منك يا مصطفى، يصنع هذا العمل الكبير! ابتسم للرجل في طيبة واحتقار، ودعا له أن يغفر له المولى ذنبه، وأن لا يأخذ ذريته بخطاياه. ومضى.

وأحس بيد توضع - أو بالأصح - تبارك كتفه، رأسه ارتفع؛ الشيخ الجليل هناك، مهيب في وقفته على السلمة الأعلى، ابتسامته نقية وكأنما عليها آثار لا تزال طازجة من مياه زمزم، وقد خفض الشيخ يده من كتفه إلى كوعه واصطحبه، وسارا، وخيل إليه أن السير في الفناء قد طال، والشيخ صامت لا يقول شيئا، وحين تكلم سأله إن كان يريد دخول الجنة، سؤال من هو متأكد مما سوف يكون عليه الجواب؛ ولهذا لم يأته الجواب، وإنما فرت من عين مصطفى دمعة، وانحنى على كف الرجل وقبلها. - لا، لا، لا تفعل، لا كلام بيننا الآن، لقد أعددنا لكل شيء عدته، وسآتي الليلة لأبيت عندكم في زنزانتكم، وستعرف كل شيء بإذن الله.

كان مصطفى معجبا بهذا النظام الصارم الدقيق؛ فكل شيء يتم بالضبط كما يجب أن يتم؛ ولهذا فالكلمة هنا ليست كلمة، ولكن في سبيلها يحارب المرء الجيوش، أما حارس الليل فقد تولاه زكريا، أما رقيب النهار فقد احتاج إلى مائة جنيه، تسلمتها زوجته بالضبط في الميعاد.

والليل، والزنزانة، والهمس، وانبلج السر الأكبر.

إن معهم في المعتقل - نفس السجن - شيوعيين وشيوعيات، وللنساء موعد فسحتهن وللرجال موعد، بل هي مواعيد أربعة، موعد لحرماتهم من المسجونات، وموعد للشيوعيات، ثم للرجال منهم، ثم للشيوعيين الرجال؛ يدخل هؤلاء ليخرج إلى الفناء هؤلاء. وكانت الجماعة، حتى قبل أن يلاحظ مصطفى، قد لاحظت أن شيوعية معينة تتلكأ دائما، لتكون آخر من تدخل قسمهن، وبتتبعهم الحذر الذكي إلى حيث تتجه عيون المتلكئة حددوا الهدف.

مصطفى، ذلك الذي يرتدي جلبابا بلديا أبيض، حليق الشارب والذقن، رغم إيغاله في الإيمان بكل ما تؤمن به الجماعة، الصعيدي الأفندي الوسيم الذي ترتعش له قلوب العذارى؛ أي عذارى، من هاواي أو من الحبشة، من لوس أنجيلوس أو الأنفوشي! شاب ذكر، يكاد يكون مصنوعا كله من مادة رجالية خالصة، وهو وحده الذي لا يعرف، بينما كل البنات والسيدات، وحتى الشبان والرجال يعرفون، ويوقنون، ودائما كلمة: يا خسارة على شبابه، تلمحها أذنه وأحيانا عيناه، صاعدا عربة السجن أو هابطا منها؛ في يده الحديد، أو خاليا من الحديد، قريبا من قفص المتهمين، أو همسة تأتيه عالية من بعيد. حتى القاضي، أحس مرة أنه ينظر إليه نظرة حسرة، وكأنما حسدا لأب له كل هذا الابن! وقلب سوزان يدق، وما أغرب هذا القلب وهو يدق! فكأنما لا مبادئ ولا عقائد، ولا نيران تحول بينه وبين الدق، إذا أراد أن يدق، حتى وهو يتعمد ألا يراها، ولم يرفع عينه عن الأرض، طوال الأسبوع الأول كان يدرك أن قلبها كل مرة كان يزداد دقا.

ولكن خافضا بصره أو رافعه، كان لا بد أن تلتقي العين بالعين مرة، وهذه المرة دق قلبان؛ قلب من فولاذ عمره ما دق، وقلب من الوجد كان قد ذاب، حتى تحول إلى عهن منفوش! شيوعية رقطاء، ولكن سبحانك ربي! توزع الملامح على من تشاء بغير حساب، لكأنها من بنات حور العين. حكمتك! تؤتي الملك من تشاء، وتمنح عيونا ما وقع عليها وجه إلا وخر صريعا لمن تشاء! أنت الخالق ولكل خلق لك حكمة، ولا بد لخلقها هذا من حكمة، ولكنها أبدا لا يمكن أن تكون حكمة أن يدق لها قلبك يا مصطفى! مستحيل.

عيناه اللتان سمرهما في الأرض، يشدهما إلى أعلى مغناطيس أعتى من كل جاذبية، يشدهما في الوقت المناسب تماما، وفي اللحظة المناسبة لتستمر الومضة، وأمام عينيها تسترخيان، تثقل أجفانهما يتنومان، يسلبان الإرادة، يظلان مسمرين.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فالشيء بالشيء، حتى الشيء يحس بالشيء، فما بالك والشباب شباب مصطفى، والطرف الآخر صاحبة هذا القوام والوجه والعيون؛ سوزان! كل هفة ثوب منها تخاريف مجانين، صواعق مستأنسة، ومستأنسة وترعش الجبال! ما بالك وقوة أعظم من السجن والمتريولوزات المصوبة، والسور العظيم الذي يفصل بين فناء الرجال وفناء النساء، واستعجال الشاويشية والشاويشات، والصفافير، واختلاف المذاهب وعداء المذاهب، وكل ما يستطيع الكون أن يتآمر به؛ ليبعد كائنين أو شيئين أو قوتين ... كلها قد جربت وفشلت، تساقطت واحدة إثر الأخرى وفي الحال؛ فعبر السور العظيم كانت قوة الجذب أعتى من كل القوى، كأن حدثا كونيا قد أوقف كل شيء، ولخص الزمن والأيام في لحظة تتجمع فيها كل لحظاته، وتلتقي متسائلة محمومة محيرة، لا خيرة لها في أمرها، أربع عيون كأنها قد تحولت إلى أطراف أربعة لكائن أرقى واحد، كائن سيظل باقيا ما بقيت الحياة على سطح الأرض.

أربع عيون وكل ما سواها عدم، كل شيء، حتى نفسيهما أصبحا عدما، وإرادتهما عدما، فالموجود الوحيد صانع الحدث الصاعق، هو رعد اللقاء وبرقه، والجذب! الجذب الذي أبدا لا يقاوم؛ لتبدأ المرة الأولى الخجلى، بصباح الخير، تهمسها سوزان ، والوقفة الأولى المرتعشة وقفة مصطفى عند ثالث خشبة من بعد الخشبة المكسورة، في السور الفاصل بين العالمين! الأرض ترتعش، الأيدي المتشبثة بالخشب ترتعش، وحين جنت مرة وتماسكت الأيدي، ارتعشت هي والأرض والخشب والحديد، ووصلت الرعشة عنان السماء، بل وكادت أرجل الشاويش المنتظرة والشاويشة المسئولة تضحك ارتعاشا هي الأخرى؛ فقد تاه الولد في البنت، وتاهت البنت في الولد.

وأصبح الحدث هو الحديث الوحيد الدائر بين جانبي السور.

وفي اليوم الرابع بعد الحدث، استدعوه، أو هكذا خيل إليه أنه هو الذي ذهب وحده إلى الطابق الثالث.

ولم ينزل!

لأيام ثلاثة طويلة طويلة مضت، حتى اختنق.

وفي اليوم الرابع هبط الفناء لأول مرة.

وكانت هناك، لكأنها مذ تركها آخر مرة لم تغادر المكان مرة، لكأنها ماتت وعادت تحيا هناك.

والتقيا.

ويده عبر السور امتدت.

وقلبها عبر يدها امتد.

واستماتت اليد على القلب.

واستمات القلب على اليد.

ولولا خوفهما أن يجازى الشاويش والشاويشة، وقد طال تغاضيهما عن الموقف، ما افترقا. ••• - توكل يا ولدي على المولى؛ فلقد قتلت فيك كل ما كان فيك يا مصطفى، وهي بسبيلها الآن لتأخذ منك كل ما تبقى لنا فيك؛ لتقتلنا هذه المرة كلنا، إنها عدوة؛ عدوتك وعدوتنا، ولا حياة لك أو لنا لدعوتنا إلا مقتلها! لقد جاءوا بها خصوصا ليطعنونا من خلالك، وليصرعونا بعد هذا؛ الشاب تلو الشاب، ولقد كانت البداية بك، فلا بد أن تكون البداية بها. اقتلها يا بني، اقتلها وتوكل!

كانت الكلمات ثابتة، هامسة، كل كلمة منها كفيلة بخرق القائم بين الدنيا والآخرة، وبين أي موت وأي حياة، وليس في المسائل نقاش، ولكن أمرا كهذا لا بد أن يناقش، وبدأ مصطفى - بعدما انصعق سبع مرات - في مرة يفتح فمه، فإذا بصفعة صوتية تأتيه من خلفه، من عملاق صنديد لا ترحم نظراته، كان واقفا خلفه: ألم أقل لك يا مولانا؟ لقد سحرته، الشيطانة ركبته! قال الشيخ بنفس همسه الباتر الذي لا ذرة هوادة فيه: أتعرف معنى هذا يا مصطفى؟ - ما معناه يا سيدي وأميري؟ - ما دامت الشيطانة قد ركبتك فقد حل دمك أنت قبل أن يحل دمها هي، فإرادتنا من إرادته، وأمرنا من أمره، ومن يعصينا يعصيه، ويصبح أشد عداوة لنا من كل أعدائنا. - ولكني لم أعص. - فلتطع إذن؛ فالتردد عصيان قادم. - لست مترددا. - اقتلها إذن! تقتلها؟ أليس كذلك يا مصطفى؟

من سابع بئر في قراره جاء صوته: اقتلها! - غدا إن شاء الله يا مصطفى. - غدا إن شاء الله. - في نفس موعد لقائكما. - في نفس موعده. - على بركة الله يا بني، اذهب.

وكانت الخطة أن يطيل قدر ما أمكن في عملية القتل؛ لينشغل الجميع في الحادث، فقد تم ترتيب أن يهرب سبعة هامون من الكبار، في اثناء انشغال الكل بالقتل، وضرب عصفورين بحجر.

عصفورين!

أم سوزان وأنت يا مصطفى! •••

حتى السؤال الذي ظل يلح على شيخه به، وكان سرا بينه وبينه: ولماذا هي؛ هي بالذات؟ - لأنها الأجمل! - ولكن الجمال ... - جمال العدو قوة له وضعف لنا. - ولماذا أنا بالذات؟ - لأنك المطمع؛ نقطة قوتنا، وأيضا نقطة ضعفنا. - ألا يمكن لأحد؟ ... - لا يمكن! •••

النصف الثاني للفسحة يبدأ بعد الذهاب إلى الدورات، السير فيه بطيء دائري في فناء ضيق، أناس يبدون كالمجانين؛ ذابت ملابسهم، وبليت أحذيتهم، ونمت منهم اللحى. شباب وشيوخ، وجماعات وملحدون، أنت يا مصطفى لن تفعل في اللحظة المناسبة، أكثر من أنك ستكسر عظام حنجرة، عظام، مجرد عظام، سوزان الجميلة هي السحر الذي دوخك.

إذ الحقيقة فليس هناك سوى عظمة؛ مجرد عظمة هشة هي التي أصبحت تحول بينك وبين بداية الخلد.

أدخلت كل يد من يديها في ثغرة بين عمودين، أطبقت بيديها على رأسه من الخلف في تساؤل ملهوف. جذبت الرأس إلى أمام فجأة، فاقشعر بدنه رعبا، وبرزت جبهته من ناحيتها. مدت ومطت شفتيها ولمست بهما جبهته؛ لتعرف إن كان محموما؛ فقد كان أصفر شاحب الوجه تماما، ويرتجف، ضغطت بشفتيها بكل ما تملك من قوة فوق الجبين، حتى شحبت من الضغط أيضا شفتاها، ولم تعرف إن كانت ما أحست به حمى كانت عنده، أم حمى ولدها ضغط الشفتين، عيناه مفتوحتان إلى آخرهما، وموجهتان تماما إلى وجهها، ولكن لا يراها، أوقف السمع والبصر.

بارتجافة أمسكها من كتفيها، ووسط البحر العميق قذف مرة واحدة بنفسه؛ التفت كل يد حول رقبتها النحيلة وأطبقت عليها، ذهلت يداه، انتظر انتفاضة انزعاج، إشاحة احتجاج، ولكن الرقبة بقيت ساكنة وديعة بين يديه، بل مالت الرقبة إلى ناحية، كي تلمس الساحرة بخدها يده، كما تفعل القطة حين تطمئن إلى اليد التي تربت عليها.

غضب، كما لم يغضب في حياته غضب، احمرت الدنيا، أنزفها من فرط غيظه كل دم الظهيرة الحمراء، فالشراسة حين لا ترتطم بما يغذيها تفزع، وفي فزعها تغضب، وكأنما تلاقي أعتى الأعداء؛ فعدوها - عدو الشراسة - ليس الشراسة، عدوها الأكبر والأوحد هو الوداعة! كأنها كل الشجاعة، الأقوى من الشجاعة، أعتى أعداء الشجاعة.

ولكن فورا تموتين الآن يا ساحرة؛ فهذا غدر، أنت تأخذينني على حين غرة، أنا مجهز نفسي لمذبحة، فإذا بي أواجه بالوداعة! كل الوداعة. اقتلها يا مصطفى قبل أن تغدر بك غدرا آخر، وتعود تسحرك. بكل ما تملك من قوة في يديك اضغط واضغط، ولا تتركها إلا جثة! حنان؛ أنهار من الحنان الدافق تنسال من الخد الجميل المائل، وتسري في قبضته.

أيقظ كل الوحش الكامن وخنق، فعلا خنق، تحت أصابعه الغليظة رقبتها تختلج اختلاجة العارفة التي أدركت.

وهذه المرة فتح عينيه ورآها، اتسعت عيناها اتساع غير المصدقة أول الأمر، ثم المرعوبة لهنيهة بالكاد لا تصدق، ثم ... ثم الساكتة الراغبة التي أسلمت لحبيبها المصير؛ كل المصير، مرة واحدة وإلى الأبد، كل شيء تحفل به ملامحها إلا الخوف، لمحة خوف أو رعب أخرى لم يلمحها، حتى حين ازرق الوجه، وبدأت العينان جحوظهما وانقطع التنفس، لا عضلة رقبة تختلج بالرعب، ولا عين تدمع، ولا لمحة من ملامحها تستعطف أو تستغيث، بل شبه ابتسامة بالغة الوهن، ابتسامة يرعب أنها ابتسامة سعادة؛ سعادة من يزاول حبيبه الحب معه، ويعطيه أخيرا كل ذاته ونفسه. وجسده هو الذي أصبح يختلج بالرعب، وكأن الخانق أصبح المخنوق! نظرات، يا إلهي، تطلب الموت، ترجوه، تتمناه يديه وعلى يديه هو بالذات، والدنيا نهايتها تحل، والسعادة كلها تغمر ملامحها، سعادة الحب موتا والموت حبا تغمر كل الملامح.

وكان الحوشان قد امتلآ على الجانبين، وبحر من البشر من هنا يدفع، وبحر من الناحية الأخرى يجذب ليبعد.

والسعادة كلها من بشرتها التي توردت زرقة تشرق، سعادة من أخيرا نالت كل ما تتمنى، لا تزال تتوهج وتنهمر، سعادة ليس سببها أنه أبقى على حياتها، وإنما سعادة أن إحساسها بملمسه وهو يخنقها، صنع ما لم تصنعه مئات الكتب والتعاليم، وحول القاتل الحبيب من إنسان إلى مبدأ، أصبح هو ولو للحظة خاطفة كل مبدئها! ومرحبا بالموت يأتي - ولو في الحال - حينما على يديه ومبدئه يأتي، حتى ولو لم يكن يحبها يجيء، فما عاد الحب نفسه يهمها.

ومن بين أحراشه وغاباته بدأ - شيئا فشيئا رغما عنه ثم برضاه - ينبت، ويصعد، ويكبر، ويعلو، بدا شيئا آخر غير عقله، حكيما جدا يحبو، عجوزا جدا يولد، ولكن له قلب أكبر من كل قلوب الكون، وأقوى وأعظم، ومن مرتفعه مضى يرقب الحشدين الصاخبين، اللذين يتبادلان القتل عيونا ووعيدا، والغضب الفتاك تأجج والصفافير تستغيث، ومدافع السجن قد صوبت إلى الداخل، والقيامة أوشكت، بل قامت ترعب من لا في حياته ذاق الرعب مرة.

ولكن الآخر قد تربع وانتهى الأمر، وانتهت القبضة وتراخت الخنقة، ورغم الحشد الهائل، فالحقيقة الحقيقة لم يعد هناك سواهما، حتى السور العظيم وبالذات عند خشبته بعد الثالثة المكسورة، كان قد أصبح الملاذ، والأيدي الأربع مضمومة في تعانق متشبث مجنون لا ينتهي.

كان، وكان كتاب آخر يكتب كتابهما، وشاهد عليه يا إلهي! نفس ذلك السور.

صح

كان واضحا أن الصبي لا يمت إلى جاردن سيتي أبدا!

فصبي حاف مثله، جلبابه قديم متآكل، ورأسه محلوق بالماكينة، ومضلع، وفيه نتوءات كحبة البطاطس، ووجهه رمادي أصفر، وفيه «قوب» ... صبي مثل هذا لا يمكن أن يمت أبدا إلى جاردن سيتي؛ حي القصور والفيللات والسفارات.

أما كيف وصل إلى شوارع جاردن سيتي، فيبدو أنه أفاق فوجد نفسه هناك، أو أنه ضل الطريق ، والغريب أنه لم يكن حزينا ولا مبتئسا أو خائفا ... كان في الحقيقة يبدو منتعشا طروبا.

كانت الدنيا في ساعاتها الأولى، والشمس تلون الأرض وحسب ولا تلهبها، والبنايات غارقة في صمت أرستقراطي مهيب، وكل ما يسمع من أصوات، إنما كان يأتي من العصافير والبوابين الضخام السود، الطيبين الجالسين على الأرائك يحرسون القصور، ويرتدون الجلابيب البيضاء الواسعة والعمامات المضحكة الكبيرة.

كل ما في الجو كان يوحي بالبشر ويبعث على النشاط، والولد يمضي على غير هدى في الشوارع المشمسة الواسعة، وينظر في شغف إلى البنايات والأشجار والنحاس الكثير اللامع، ويصفر، ويدندن أحيانا ويتوقف، ثم يستأنف المشي بطريقة المقص فيمد كلا من قدميه مكان الأخرى، ويسير أحيانا بعرض الشارع، وأحيانا يرفع قدمه ويمسكها بيده من الخلف، ويحجل على قدم واحدة، ولسانه يلوك فمه من الداخل، فيصنع ضوضاء مكتومة كنقيق الضفادع، ويجري إلى الأمام وإلى الخلف، ويحتل وجهه كله تعبير خالي البال المستمتع بكل ما يراه ويفعله، بلا شيء وراءه يفسد المتعة؛ لا عمل، ولا أب، ولا أسطى!

وتعثر فجأة في شيء، ووجعته قدماه، وانحنى فوجد أن ما تعثر فيه، كان قطعة حجر بيضاء، فرماها بغيظ على الأرض، ولم يكتف بهذا، بل دفعها بقدمه، وطار الحجر إلى الأمام مسافة ثم توقف، وحين وصل إليه ضربه بقدمه ضربة قوية أخرى، فطار الحجر واعتلى الرصيف، وحين وصل إلى مكان الحجر، انحنى والتقطه وحدق فيه مليا؛ ليتأكد أنه ليس شيئا ذا قيمة، واستأنف المشي وهو يقذفه إلى أعلى ويلتقطه. وبعد قليل غير الحركة فأمسك الحجر في قبضته، ومده سبابته لتلامس الحائط الذي كان يمشي بجواره، وظل هكذا فترة، ويبدو أن أصبعه آلمته؛ فقد استبدلها بالحجر. وتلفت مرة فوجد أن الحجر يصنع باحتكاكه مع الحائط خطا أبيض، وأعجبته اللعبة فاستأنف المشي وهو يمر بالحجر على الحائط، فيرسم خطا أبيض يبدو واضحا فوق الجدران الأنيقة الملونة، ورسم خطا على طول سراية آل سليمان، ثم مده إلى أن وصل عمارة الفكهاني، ثم فيللا سمعان، وعبر الشارع واستأنف حك الحجر بسور حديقة السفارة الأمريكية.

وكأنما أعجبه سور السفارة حين وجده طويلا لا ينتهي، فمضى يجري فيجري الخط بجواره، ويتوقف فيتوقف، ويحرك يده إلى أعلى وأسفل، فيتموج الخط ويتعرج، ويسرع ويبطئ، فتتسع التعرجات وتضيق.

وقبل أن ينتهي السور كان قد انتهى شغفه بالخط فتوقف، وحرك يده بسرعة وعصبية فوق الحائط، فرسم الحجر خطا عصبيا متداخلا فيه نزق وغضب، ورفع يده عن السور ولعق فمه من الداخل، فصدر عنه نقيق الضفادع، وهز رأسه هزات كمن يراود نفسه، وهز جسده أيضا، ثم التصق بالحائط واختار بقعة ليس فيها خدوش، وتخير حافة بعينها من الحجر وأمسكه بحرص في يده، ثم انكب على الحائط وراح يعمل. وحين انتهى كان قد كتب كلمة: «محمد»، وحدق فيها، وتراجع إلى الوراء ولعق فمه وتأملها، كانت حروفها عجفاء ركيكة. وعقد يديه خلف رقبته وثنى جسده وركز انتباهه على «ميم» محمد، وكأنما أعجبته رأسها المستلقية إلى الوراء في عظمة؛ فقد عاد إلى الحائط بسرعة واندفاع، وكتب «ميما» أخرى، وضم شفتيه ونفخ أشداقه ونظر إليها، ويبدو أنها لم تعجبه فانكب على الحائط من جديد، وكتب «ميما» ثانية جاءت أسفل الأولى بقليل، وقريبة منها حتى إنها اشتبكت مع ذيلها، وتراجع إلى الوراء ونظر إليها، وكأنما هي أيضا لم تعجبه، فقد رمى الحجر من يده، واستأنف المشي وهو يمط شفتيه ويلوي بوزه.

وفجأة استدار إلى الخلف بسرعة، ونظر إلى الميمين من بعيد، ثم أقبل عليهما بلهفة، وبحث عن الحجر بعينيه حتى وجده، ومن جديد انكب على السور، ورسم خطا رأسيا بجوار الميمين، والتصق بالسور أكثر، وظل مدة طويلة يعمل وعرقه يسيل، ويده الصغير العصبية قد تشنجت أصابعها كالكماشة على الحجر، ولما انتهى كان قد كتب: «أممنا الشعب القنال.»

وتراجع إلى الوراء وراح ينظر إلى ما صنعه وهو يلهث منفعلا، وكأنما لم تعجبه الجملة فقد هز رأسه بشدة، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل وهو يغمض عينا ويفتح الأخرى، ولما انتهى كان قد كتب نفس الجملة مرة أخرى، ودون أن يتراجع إلى الوراء كثيرا، حدق في الخط برهة قصيرة، ويبدو أنه لم يعجبه أيضا، ووجد اللام طويلة وشرطة النون غير واضحة، والقاف مغلقة، والحروف كلها مائلة كالنخل حين تعبث به الرياح، يبدو هذا لأنه راح ينفخ في يده الممسكة بالحجر؛ لينفض عنها ذرات الغبار، ثم تخير حافة من حواف الحجر لم يستعملها، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل ويعرق، ويغمض عينا ويفتح الأخرى.

وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة، وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة الأخيرة مليا، ثم علت وجهه ابتسامة رضاء، فعض شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقا، ثم عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلا مرحا طويلا؛ علامة الرضاء الكامل.

وظل برهة يحدق في الجملة؛ كأنما ليتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من السهل محوها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل من يقرؤها - بطريقة ما - أنه كاتبها، ظل برهة يحدق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتا كصوت «العرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجل بقدم واحدة، ويمضي في الشارع المشمس الواسع.

البطل

في ذلك اليوم، مضت ساعات الصباح الأولى، دون أن يجد جديد؛ فالمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، والأوراق تملأ الأركان والأدراج، وتطل من الدواليب، وفناجين القهوة رائحة غادية، والسجائر تستخرج خلسة؛ حتى لا يعزم أحد على أحد. وخمسة موظفين في حجرة، والوجوه كالعادة مقطبة؛ مقطبة وهي تتصفح الجرائد وتغلقها، ومقطبة وهي تحدق في السقف، وعابسة وهي تطلب الشاي وتلعن طعمه، ومغمومة وهي تنحني على الأوراق وتعبث بها، وتقضي العمر تدفق وتؤجل وتكتب.

لم يجد جديد في ذلك الصباح، مع أن الحرب قامت، والطائرات بدأت تغير، وكل شيء؛ كل إنسان يخوض تجربة الحياة والموت، والعالم لا ينام، صاحيا يرقب الشرق وهو يدمدم ويتحرر، والمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، وصبحي جاد هو الذي على يميني، والغازي أبو بكر على يساري.

غير أنه قبل الظهر بقليل، جاءني الساعي وقال: تليفون.

وتليفون من أجلي كان يعني شيئا من اثنين: إما عبد الخالق فاضي في مكتبه، في وزارة الشئون، ويريد أن يصبح علي، أو كارثة حدثت في بيتنا، ورأت العائلة أن تتصل بي على عجل، وفي كل مرة يطلبني التليفون أقول: كارثة، وفي كل مرة أجد المتحدث هو عبد الخالق.

وهذه المرة أيضا قلت: عبد الخالق؟ صباح الخير.

وإذا بصوت غريب يقول: لأ، أنا أحمد. - أحمد مين؟

قلتها وأنا أخمن من عساه يكون، فالأحمدات الذين أعرفهم لا يتجاوزون ثلاثة، وإذا به يقول: أنا أحمد عمر.

ولم يكن هذا الأحمد من بين الثلاثة، فرن اسمه في أذني رنين الاسم الغريب، الذي لم تتعود على سماعه، وخجلت أن أستقصي أكثر؛ فلا بد أنه يعرفني ويتوقع مني أني لا بد أعرفه. ورحت أسأله كما يحدث في أمثال هذه الأحوال عن الصحة والمزاج والعائلة؛ حتى أظفر من ردوده بخيط يقودني إلى معرفته، دون أن أحرجه أو أحرج نفسي!

ورغم أنه مضى يجاوبني بنفس الكلمات، التي تعود الناس قولها ردا على أسئلة كأسئلتي، إلا أني دهشت؛ فصوته كان مملوءا بالانفعال يكاد يلهث، وكان يستعجل السؤال والإجابة، كأنما هناك شيء يؤرقه ويود الإفضاء به إلي، وسمعت منه كلمات عن «مصر الجديدة» و«كتيبتنا» و«المعسكر» ولكني لم أفهم. وسألني مرة إن كنت حقا أذكره، ومع ذلك لم أعرفه إلا حين سألني عن أخي محمد وصحته؛ إذ أيقنت أنه لا بد أحمد عمر، ابن جارنا عم عمر؛ أحمد صديق أخي الأصغر الحميم.

واندفعت أرحب به وأحييه، وقد بدت صورته أمامي واضحة كل الوضوح، فرغم أن عم عمر كهل نحيف، إلا أن ابنه أحمد هذا شاب ضخم، وإذا عرف الإنسان أن سنه عشرون عاما فقط بدا له ضخما جدا؛ فجسده عريض شاهق، وذقنه خصيب غزير، شعره أسود متين كذقون الرجال الكبار، ومع هذا فقد كان من ذلك الصنف من الشبان، الذين يخجلون من مواجهة محدثهم، فلا ينظرون في وجهه أبدا، وتجده إذا تكلم يتعثر في كلماته، فلا تخرج من فمه جملة كاملة، وأحيانا يقول الكلمة ويظنها نكتة وينفجر ضاحكا، وحين يدرك أن أحدا لا يشاركه الضحك، يصطبغ وجهه بلون الدم، ورغم كل شيء فالناس لا بد أن تقول بعدما يذهب: والله باين عليه ابن حلال، طيب.

وكانت صلتي به محدودة، وكل ما أعرفه عنه أنه كان في مدرسة التجارة المتوسطة، أو الصنايع لست أدري، وأخذ الدبلوم أو لم يأخذه، ثم دخل الجيش حسب قانون التجنيد الإجباري.

وأغرب شيء أنك تحس دائما، أنه ملآن ولديه آلاف الأشياء التي يود قولها، غير أنه نادرا ما يفصح عن نفسه، وإذا تكلم فلا يقول شيئا من عنده، إنما يعبث بكلمات غيره، فتقول له مثلا: إزيك انت؟ فيرد عليك ويقول: الزاكته! ويضحك ويخجل، ويحمر وجهه، كان لا يخاطبني إلا «بحضرتك»؛ على اعتبار أني الأخ الأكبر لصديقه، وأحيانا كانت تفلت من لسانه كلمة تستحق التأمل، وإذا تأملها الإنسان أدرك أنه ليس بسيطا كما يبدو، وأن له أعماقا.

وكان إذا جاء لزيارتنا وفتح له الباب، خفض رأسه وسأل عن أخي، فإذا كان موجودا، دلف إلى حيث يكون مطرق الرأس، لا يرفع بصره ولا يتلفت، وكنت أحيانا ألقاه فأحادثه وأحس به شهما خدوما؛ لو قلت له: ارم نفسك في البحر مثلا، لذهب ورمى نفسه في البحر فعلا، ثم عاد إليك في ثاني يوم مبتل الملابس، يقطر الماء من شعره، ويقطر الخجل من وجهه ويتهته ويقول: أما المية كانت ساقعة بشكل!

يقولها قاصدا بها أن يلومك ويؤنبك، وهذا كل ما في استطاعة أحمد أن يؤنب به أحدا!

ولم نكن أصدقاء بالمعنى المفهوم؛ كنت أراه كل ستة أشهر أو كل سنة، وكنت لا أراه على حالة واحدة أبدا؛ ففي كل مرة لا بد أن يكون قد حدث له أو حدث فيه تغيير؛ فهو في لقاء طالب، وفي لقاء آخر متخرج، وفي ثالث ساخط يبحث عن عمل، ومرة أراه صغيرا لم تنبت له لحية، وأفاجأ به في المرة التالية وقد فرعني طولا! جاء مرة لزيارتنا بملابس الجيش، وفوجئنا به حقا، وأذكر أننا يومها سلخناه عبثا وتريقة، نقول له: يا دفعة، ونضحك على شعره القصير، الذي قصه كما تقضي التعليمات، ونسأله: لم ربى شاربه هكذا؟ فيقول: ح اعمل ايه؟ ما دام مفيش تعليمات تحدد طول الشنب، أربيه كده إياك يعوض عن شعري!

ويمضي يحدثنا بطريقته المتلعثمة، ويسخر من نفسه ومن زملائه، ومن «اليمك» والطوابير المبكرة والبروجي والنظافة، والشاويش الذي يدربهم، ولسانه الذي لا يكاد يرى متعلما من أمثال أحمد حتى ينهال عليه، والتكدير والتزويغ، وتصاريح الأربع والعشرين ساعة، وكيف «يبلف» الضابط حتى يأخذها، ويضحك، بجسده الضخم كله ومن قلبه، ثم يكف عن سخريته وضحكه فجأة، ويتنحنح ليشعرنا أنه ينوي قول شيء جاد، يتنحنح ويقول: إنما صحتي كويسة!

وأذكر أنه في زيارة أخرى، قال لي: إنه أخذ النمرة النهائية في التنشين، وسألته وأنا أسخر من العبقرية التي هبطت عليه فجأة عن السر في نبوغه، فمضى يشرح لي نظريته؛ فقد وجد أنهم يعلمون النيشان في الجيش على علامات ثابتة، ثم يمتحنونهم على علامات متحركة؛ ولهذا فمن أول لحظة كان ينشن على العلامة الثابتة كأنها ستتحرك فجأة، وبهذه الطريقة كان يضرب بسرعة ويصيب، وبلغ به الحماس مداه، وبلغت بي السخرية مداها، وهو يؤكد لي أن الطريقة، التي يعلمون بها الجيش غير مجدية، وأن أهم شيء في الدنيا، هو أن يتعود الإنسان أن ينشن على هدف متحرك.

هذا كله أمر معقول.

أما غير المعقول فهو ما حدث؛ فلماذا يكلمني أحمد في التليفون؟

صحيح أني فوجئت به، ولكني أقول الحق فرحت، وأحسست أني افتقدته طويلا؛ فهناك أناس يفتقدهم المرء، يفتقد القيم؛ فالشرف في ذهن الواحد منا مرتبط بإنسان، والإخلاص بإنسان آخر، والحنان والمحبة بثالث، وأحمد عمر هذا كان يرتبط في ذهني - ولست أدري لماذا - بشيء يمس من قريب أو بعيد روح شعبنا؛ الشعب الضخم الخجول، الذي لا يسعده شيء مثلما يسعده أن يسخر من نفسه وأخطائه.

ولم أسأله لماذا هو في مصر الجديدة؛ فقد خمنت أن كتيبته، لا بد معسكرة هناك، تحمي شمال القاهرة؛ إذ كان الجيش يستعد للدفاع عن العاصمة. أما الشيء الذي حيرني فعلا، فقد كان لهجته اللهجة المتدفقة المملوءة بالانفعال، وصوته المحشو بضحكات موفورة الصحة، لا كحة فيها ولا بلغم.

وعجبت.

وسألته كيف يكلمني، وهل عندهم في المعسكر تليفون؟

وأجابني: احنا معسكرين قريب من هنا، وجنبي بقال. ياه! داحنا شفنا العجب؛ دي حرب بجد والله العظيم! والطيارات والمدافع؛ تك تم، تك تم ... تصور حضرتك ما غيرتش الشراب بقالي ست أيام لما بقى شربات! سامع الطيارات؟

وكنت حقيقة أسمع ضجة خافتة بعيدة، وكنت أعرف أن طائرات العدو، تركز ضرباتها على تلك المنطقة «مصر الجديدة» ليل نهار!

وانتباني شيء يشبه الخزي، وأنا أدرك أن أحمد في الميدان، وأنا في المكتب، وسلك طويل يفصل بين القتال الرهيب الدائر هناك، والمصلحة التي أنا فيها وروتينها ودرجاتها وعلاواتها ...

واندفعت أبثه كل حماسي وسخطي، وأشجعه.

وقلت له وأنا أدرك أنه لا يريد مني خدمة: كلنا معاك، عايز حاجة؟ أي خدمة؟ قول. محمد بيسلم عليك.

ولدهشتي أجابني: مش عايز حاجة أبدا، سلم لي عليه كثير، على فكرة أنا معايا مدفع اهه، أضرب لك طلقة؟

ولعلمي أنه خجول ومن الصعب عليه أن يطلب مني شيئا إن كان يريد، عدت ألح وأسأله عما يريد، وإذا به ينفي بشدة أنه في حاجة إلى شيء، وسألته إن كان يريد من عائلته ملابس فقال: سلم لي عليهم. - بس؟ - بس. - مش عايز فلوس، هدوم، أي حاجة؟ - أبدا أبدا.

وازداد عجبي، ومضى هو يقول: اسكت! مش امبارح الله يخرب بيوتهم ضربوا المعسكر بتاعنا؟!

وكان يقولها ببساطة دفعتني لأن أسأله بنفس البساطة: وعملت ايه؟ مت؟

وضج التليفون بضحكته وقال: أبدا، خمناهم؛ قبل ما يضربوا المعسكر سيبناه، وعلى فكرة حصلت حاجة هايلة دلوقت.

وإذا كان لبعض الناس كلمات مختارة، ف «هايلة»، كانت كلمة أحمد عمر المفضلة، كل شيء يحكي عنه لا بد أنه هايل! وعدت ألح وأستدرجه، وأنا متأكد أنه لا بد قد طلبني لأنه يريد شيئا، ولكنه قهقه وقال: أبدا، عاوز حضرتك كويس. كويسة دي؟ بس على فكرة حصلت حاجة هايلة خالص. - إيه؟ حصل ايه ؟

فقال: مش وقعت طيارة؟

فقلت: إيه؟! طيارة ورق؟

فقال: لأ، بجد؛ طيارة فرنساوي، كانت فايتة قدامنا، قلت للقائد: أضرب يا فندم؟ ورحت ضارب قام جناحها انكسر ومالت ووطت، فالقائد زعق وقال لي: خلص عليها يا أحمد، خلص عليها! خلصت عليها، وتصور، تصور وقعت.

واستمر يضحك ويقول: سلم لي علي محمد، لما ييجي قول له: إن أحمد وقع طيارة، أنا عارف إن هو مش ح يصدق زي عوايده، إنما والله العظيم وقعتها أهه، محروقة في الرملة هناك، أضرب لك طلقة؟

وأخذت أضحك أنا الآخر؛ فأيامها كانت مودة أن يقول كل واحد: إنه أسقط طائرة، فما بالك وأحمد يخبرني بنفس اللهجة، التي كان يعلق بها أحيانا على أشكال بنات الجيران، يخبرني أنه أسقط طائرة!

وحتى وأنا أرى صورته في الجرائد في اليوم التالي أكذب نظري، وأعود أتمعن في صورته، وأسمع صبحي جاد وهو يحدق في الصفحة ويقول: أما ولد! دا شارب من لبن أمه صحيح! ده باين عليه زي الوحش يهد الدنيا، شوف بيبص ازاي؟ الواحد سنه 35 سنة وما يعرفش يوقع ناموسة! وده يوقع طيارة بحالها! ويوقعها لوحده!

حتى وأنا أسمع هذا كله وأراه، كنت أتأمل أحمد الذي في خيالي، ولا أكاد أصدق.

لحظة أن كنت أ كلمه، كان كل همي أن أعرف الخدمة التي يريدها لأستطيع القيام بها، وأحس أني بهذا أساهم بنصيب ما في المعركة، فقلت: أمال ...

وترددت؛ فقد خجلت، ولكني استطردت: أمال بتكلمني ليه؟

وما كادت الجملة تغادر فمي، حتى أدركت أني قلت شيئا سخيفا.

وأسرعت أتكلم وأمسح أثرها من الحديث، كما يمسح الإنسان كلمة كتبها خطأ، أسرعت أقول: قول يا أحمد، عايز ايه؟ صحيح عايز ايه؟ أنا أخوك مفيش داعي للكسوف، قول لي عايز ايه؟

وسمعت صمتا في التليفون، وأدركت مدى الخجل الذي كان يعتريه، وطرقت أذني كلمة: أصل ... وأعقبها صمت قصير، أدركت أن أحمد لا بد يعض شفته السفلى خجلا؛ فتلك كانت عادته، وخمنت أنه سينطلق بعدها كالمدفع ويتكلم؛ فكما كان خجله يجعله يتعثر في أول الحديث ، فكذلك كان يجعله ينطلق بسرعة في آخره، قال: إنت عارف؟ إدوني ساعة أجازة بعد الحكاية دي، وأنا معرفشي نمرة إلا نمرة حضرتك، قلت اكلم حضرتك، دي حاجة هايلة قوي، مش كده؟ تصور! طيارة تقع، أنا أوقعها، أنا أوقعها؟! أنا مش مصدق، بيتهيأ لي انها وقعت من نفسها، ولا يمكن حد تاني وقعها! سلم لي على محمد كتير.

ثم تلجلج كمن لا يعرف كيف ينهي الحديث، وسمعت نحنحة خفيفة، فعرفت حينئذ أنه ينوي أن يدخل في الجد، وجاءني صوته: إنما صحتي كويسة، أنا متشكر قوي قوي قوي.

وكانت آخر مراحل خجله أن يضحك، وكأنه لا يطمئن إلى الغلافين السابقين، فيلف كلامه بغلاف ضاحك ثالث.

وحين وضعت السماعة كنت لا أزال غير مصدق، أن أحمد طلبني فقط من أجل أن يخبرني بهذا «الشيء الهايل»، وكانت السماعة لا تزال تضحك؛ ضحكة دسمة موفورة الصحة.

Unknown page