وضوح الفكرة مزية لها عند عقلنا، ولكن كيف السبيل إلى التحقق من أن الوجود الواقعي يطابق مقتضياتها؟ وما القول إذا اتفق أن كان الوجود الواقعي غامضا معارضا للعقل ممتنع التصور؟
يستند ديكارت إلى ما للأفكار الواضحة من امتياز؛ فيستبعد من العالم الواقعي - من العالم كما هو موجود في ذاته مستقلا عنا وعن عقلنا - كل كيفية محسوسة وكل قوة وكل صورة، وبالإجمال كل ما ليس آليا، ويرد العالم إلى الامتداد والحركة ليس غير، فهل يملك الحق في ذلك؟ ليس هذا السؤال فضولا، ولم يفقد قيمته، وإنما يثير مسألة قيمة المذهب الرياضي، وهي مسألة هامة في الوقت الحاضر.
فلنفكر في الأمر: يعلمنا ديكارت أنه لأجل معرفة الوجود - الوجود الطبيعي كما هو في ذاته وخارجا عنا - يجب علينا بادئ ذي بدء أن نرفض كل ما يأتينا أو يبدو لنا آتيا من خارج؛ أي عن طريق الإدراك الحسي، والذي لا يمكن إلا أن يوقعنا في الخطأ، وأن نمحو عالمنا المألوف - فإن الذوق العام هو العدو - وننفي من الوجود كل ما يلوح لنا عادة أنه جزء منه: اللون والحرارة، بل الصلابة والثقل.
لأجل معرفة الوجود يجب أن نبدأ بأن نغمض أعيننا ونسد آذاننا ونعدل عن اللمس؛ يجب أن نتخذ طريقا معارضا فنتجه نحو أنفسنا ونبحث في عقلنا عن أفكار واضحة له، فإن هذه هي اللغة التي تفهمها الطبيعة، وبهذه اللغة - لغة الرياضيات - تجيب الطبيعة عن الأسئلة التي قد يلقيها عليها العلم في تجاربه، أليس هذا شيئا غريبا؟ بل من أبعد الأشياء عن التصديق وأمعنها في الإغراب؟
لا عجب أن أحدا من العقلاء لم يستطع قط تسليمه، وبالأخص أرسطو، كان يلزم لتسليمه رجل مثل ديكارت أو مثل أفلاطون.
أجل لم يشك أحد قط - جادا - في قيمة الرياضيات وحقيقتها الذاتية، بل إن كل الناس، وأرسطو في مقدمتهم، سلموا بما لها من دقة ويقين. على أن هذه الدقة وهذا اليقين هل يتضمنان أن قوانين الهندسة هي أيضا قوانين العالم الطبيعي، وأنه يتعين في دراسة الطبيعة البدء بدراسة الهندسة؟
كلا، بل إن أرسطو يقول لنا إن الأمر على خلاف ذلك، إن دقة الهندسة وضبطها يفسران بأنها لا تعنى إلا بالمجردات، بالموجودات الذهنية، ليست الدوائر والخطوط المستقيمة موجودات طبيعية، وما الفضاء الأوقليدي ذلك الفضاء اللامتناهي سوى فضاء غير واقعي، لا يوجد إلا في ذهننا.
والواقع ليست الهندسة عند أرسطو والمدرسيين إلا علما مجردا، مجردا من الوجود الواقعي الذي إن أعوزته الدقة والضبط إلا أنه غني مليء بجميع الكيفيات التي يدركها فيه الحس؛ لذلك لن تستطيع الهندسة تفسير الوجود الواقعي، وليست قوانينها مسيطرة على الطبيعة، بل بالعكس أن تطبيقها فيها يتفاوت دقة، وهو أقرب إلى عدم الدقة منه إلى الدقة، وإذن فليست دراسة الهندسة تسبق دراسة العلم الطبيعي، ولكنها تلحقها.
العلم الذي من النوع الأرسطوطالي الذي يبدأ بالذوق العام ويقوم على الإدراك الحسي ليس بحاجة لأن يستند إلى ميتافيزيقا، إنه يؤدي إليها ولا يبدأ منها، أما العلم الذي من النوع الديكارتي الذي يقرر قيمة حقيقية للمذهب الرياضي ويشيد علما طبيعيا هندسيا فلا يستغني عن الميتافيزيقا، ولا يسعه أن يبدأ إلا بها، لقد كان ديكارت يعلم ذلك، وكان أفلاطون وهو أول من وضع علما من هذا النوع يعلمه أيضا.
لقد نسينا ذلك، وعلمنا يتقدم دون أن يعنى كبير عناية بأسسه الخاصة، هو يكتفي بالنجاح إلى أن تنتابه أزمة - أزمة مبادئ - فتكشف له أن ثمة شيئا ينقصه؛ هو أن يفهم ما هو صانع.
Unknown page