الدرس الأول
الدرس الثاني
الدرس الثالث
الدرس الأول
الدرس الثاني
الدرس الثالث
ثلاثة دروس في ديكارت
ثلاثة دروس في ديكارت
تأليف
ألكسندر كواريه
ترجمة
يوسف كرم
الدرس الأول
اجتمعنا هنا اليوم لنحتفل بانقضاء المائة الثالثة على حدث أدبي عظيم هو ظهور كتاب ديكارت «مقال في المنهج»، ذلك الكتاب الذي يعد من أكثر الكتب الفلسفية مدعاة للدهشة، والذي كان إخراجه حدثا روحيا كبيرا؛ أي ثورة روحية نحن ورثتها، وإن تفاوت حظنا في هذا الإرث.
ثلاثة قرون - وأي قرون! - تفصلنا من ديكارت ومن كتبه، وهي فترة طويلة بالإضافة إلى التاريخ، وإلى العلم نظريا، وعمليا، وإلى الحياة، ولكنها قصيرة بالإضافة إلى الفلسفة، فإنا نعترف صراحة أن تقدم الفلسفة بطيء، أنها تعنى بأمور بسيطة جدا: تعنى بالوجود، وبالمعرفة، وبالإنسان؛ وهذه أمور بسيطة لا ينقطع اهتمامنا بها؛ لذلك تظل أجوبة كبار الفلاسفة عن هذه المسائل البسيطة خليقة بالعناية، مفيدة هامة قرونا طويلة بل آلاف السنين، فإن الفلسفة في حاضر مستمر، وقد لا يوجد اليوم فكر فلسفي أكثر ملاءمة من فكر ديكارت، إلا أن يكون فكر أفلاطون.
ولكن لندع أفلاطون جانبا، وسنصادفه أثناء سيرنا، فإنما أقصد أن أحدثكم اليوم عن ديكارت، وعن «المقال في المنهج».
نحن نعرف جميعا هذا الكتاب، فقد قرأناه جميعا، ودرسناه في المدرسة مع تفاوت في العناية، وذاكرتنا مليئة بعباراته المتثاقلة اللطيفة، كلها سذاجة وتهكم وحكمة، وكلها «أصالة رأي»، تلك الأصالة التي هي أندر وأنفس شيء في العالم، مهما يقل في ذلك ديكارت، أو بعبارة أخرى أدق جريا مع ديكارت نفسه.
جميعنا نذكر قوله: «إن أصالة الرأي أعدل الأشياء توزعا بين الناس، فإن كلا يعتقد أن حظه منها موفور، حتى الذين هم أقل الناس رضى فيما عدا ذلك فليس من عادتهم أن يطلبوا منها أكثر مما قسم لهم.» وجميعنا تذوقنا ما في هذا التدليل من تهكم، وجميعنا نعلم أن المهم «ليس أن يكون عقلنا جيدا، بل أن نجيد استخدامه»، ولقد تساءلنا جميعا كيف السبيل إلى ذلك، وجميعنا نذكر «أنه ينبغي أن نكون حازمين في العمل، محاكين في ذلك المسافرين الذين إذا ضلوا في غابة حرصوا على ألا يدوروا فيها دورانا، بل مضوا في اتجاه واحد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ لأنهم بذلك إن لم يذهبوا إلى حيث يرغبون فإنهم يصلون حيث يكونون في الراجح أحسن حالا منهم في وسط الغابة»، وإن «قراءة الكتب القيمة بمثابة حديث مع أفضل رجال القرون السالفة» و«إنا لا نستطيع أن نتصور شيئا أكثر غرابة، وأبعد عن التصديق إلا وقد قاله أحد الفلاسفة.»
ثم إننا جميعا منذ ثلاثة قرون متشبعون بالفكر الديكارتي عن طريق مباشر أو غير مباشر من حيث إن الفكر الأوربي بأجمعه، أو على الأقل الفكر الفلسفي بأجمعه يتجه ويتعين منذ ثلاثة قرون بالنسبة إلى ديكارت؛ لذلك يصعب علينا جدا أن ندرك أهمية عمل ديكارت وجدته، فقد كان ثورة من أعمق ما عرفته الإنسانية من ثورات فكرية بل روحية، كان عبارة عن استعادة العقل سلطانه على نفسه، وكان نصرا حاسما في الطريق الوعر الشاق المؤدي بالإنسان إلى التحرر الروحي إلى حرية العقل والحقيقة، وإنه لأصعب من ذلك إن لم يكن مستحيلا أن نتصور ما كان «للمقال» من أثر عند الذين كانوا يقرءونه لأول مرة منذ ثلاثة قرون.
وإنا لنكرر القول: إن ثلاثة قرون حقبة طويلة، ومع أن المسائل الفلسفية هي في الواقع دائمة فإن من الحق أيضا أن ما كان لمعاصري ديكارت من المرامي الروحية يختلف أشد اختلاف عما لنا نحن من مرام روحية؛ لذلك اختلف ما كانوا يطلبونه في هذا الكتاب عما نطلبه نحن.
وفضلا عن ذلك فإن «المقال في المنهج» كما كان بين أيديهم كما خرج من مطبعة جان مير بلدين في 5 يناير 1637 كان يختلف عن الكتاب الذي نقرؤه اليوم، أو إن شئتم كان بالإضافة إليهم غير ما هو بالإضافة إلينا.
فبالإضافة إلينا «المقال» كتاب صغير لطيف يحوي بالأخص وقبل كل شيء الترجمة الروحية لديكارت، ثم القواعد الأربعة المشهورة، ولم تعد لنا حاجة بها، وإنما نستبقي منها خاصة المواضع المتعلقة ب «الأفكار الجلية الواضحة » والتي تفرض علينا ألا نعتبر حقا إلا ما نراه كذلك بجلاء، وأن نقود أفكارنا بنظام مبتدئين بأبسط الأشياء وأسهلها، ثم هو يحوي عجالة في الأخلاق عليها مسحة رواقية، وفيها حرص على مجاراة العرف، وبحثا قصيرا في الميتافيزيقا عويصا للغاية، فيه الجملة المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود» وبيان - هام جدا للمؤرخ، ولكنه ممل جدا للمثقف من أهل عصرنا - لتجارب علمية أجريت، أو كان يجب أن تجرى، وكلنا يعلم من غير شك أن كان «للمقال» ملحق هو عبارة عن ثلاث رسائل: واحدة في البصريات، وأخرى في الآثار العلوية، وثالثة في الهندسة، لا نقرؤها ولا تثبت في طبعاتنا العامة.
أما معاصرو ديكارت فقد كان الحال عندهم على خلاف ذلك؛ فإن «المقال في المنهج» أو بحسب عنوانه التام «مقال في المنهج لحسن قيادة العقل، والبحث عن الحقيقة في العلوم»، مضافا إليه علم البصريات والآثار العلوية والهندسة، وهي تطبيقات هذا المنهج، نقول: إن «المقال» كان كتابا ضخما في 527 صفحة بقطع الربع يحوي ثلاث رسائل علمية ذات جدة مدهشة وأهمية عظمى، فرسالة البصريات كانت تشتمل بنوع خاص على نظرية في انكسار الضوء، وعلى دراسة للآلات الجديدة «كلتلسكوب، والمنظار» التي كانت قد غيرت علمنا بالعالم، ورسالة الآثار العلوية؛ أي الظواهر الجوية تتحدث عن السحاب، والمطر، والبرد، وقوس قزح، وانعكاس صورة الشمس في السحاب، مفسرة بأبسط الوسائل، وأكثرها مطابقة للطبيعة، وأكثرها غرابة أيضا بالإضافة لذلك العصر، وعن حركة المادة المالئة للفضاء، وانعكاس الماء في قطرات المطر، وأخيرا رسالة الهندسة أي رسالة في الجبر قلبت الأفكار المتعارفة في الرياضيات بإيجاد مشاركة بين موضوعين مختلفين اختلاف المكان وهو كمية متصلة، والعدد وهو كمية منفصلة، وجاءت هذه الرسالة في «الهندسة» بنظرية عامة للمعادلات، واصطلاح جديد للرمز للكميات، هو الاصطلاح الذي ما نزال نعول عليه، وجاءت أيضا فيما جاءت به بحل لطيف لمسألة بابوس الشهيرة، وفيما عدا ذلك كان الكتاب يحتوي على مقدمة طويلة مطبوعة على حدة، ولصفحاتها ترقيم خاص هو «المقال» بالذات، يقدم للقارئ فضلا عن برنامج لأبحاث علمية منشط للتفكير غاية التنشيط، موجزا في الميتافيزيقا غريبا وجريئا جدا، ورسالة قصيرة في «المنهج»، وأخيرا ترجمة لحياة المؤلف الروحية.
فبالإضافة إلى معاصري ديكارت وإلى ديكارت نفسه «المقال في المنهج» مقدمة لعلم جديد، وإعلان لثورة فكرية ستتلوها ثورة علمية كثمرة لها، ولقد نسينا نحن أنه مقدمة، ولنا في ذلك بعض الحق من غير شك من حيث إن الرسائل العلمية البحتة التي كانت تنطوي عليها دفتا المجلد قد تجاوزها العلم فشاخت وسقطت، بينما «المقال» ما يزال محتفظا بنضارته، على أني مع ذلك أريد أن أذكركم اليوم بأن «المقال» إنما هو مدين بحظه ونفوذه وأثره لتلك الرسائل العلمية.
ولم تكن الكتب في المنهج نادرة لعهد ديكارت، وأحدثها عهدا «المنطق الجديد» لبيكون جاء هو أيضا بمنهج جديد، منهج يؤدي إلى علم جديد؛ إلى علم عملي للعلم النظري القديم، ولقد أعلن ديكارت من ناحيته هذا العلم الجديد الذي كان ينتظر منه تغيير الحياة الإنسانية وإقامة الإنسان «سيدا، ومالكا للطبيعة»، ولكن ديكارت لم يقتصر على إعلانه، بل جاء هو بذلك العلم الجديد وأعطانا نتائج، ولم يكن منهجه مجردا، ولكنه كان يلخص تجربة حقيقية ويصوغها في قانون، وهذه التجربة هي التي كانت تبرهن على قيمته وتسمح بتفهم المعنى الحقيقي العميق للقواعد المبهمة التي نجدها في «المقال».
وفي الواقع من ذا الذي وضع موضع الشك أن الفيلسوف من حيث هو كذلك لا ينبغي أن يذعن إلا لوضوح العقل ليس غير؟ ومن ذا الذي - إلى أيامنا هذه على الأقل - وضع موضع الشك ما للفكرة الجلية على الفكرة الغامضة من قيمة عالية؟ لا أحد، كما أن أحدا لم يضع قط موضع الشك قيمة النظام وضرورة الابتداء بأبسط الأشياء وأسهلها، لا على العكس بأصعب الأشياء وأكثرها تقيدا، هذه أمور متعارفة في الفلسفة، ولكن ما هذا الوضوح الذي ينبغي أن نطلبه؟ ما هذا النظام الذي ينبغي أن نتبعه؟ ما هذه الأشياء البسيطة التي ينبغي أن نبدأ بها.
في الجواب عن هذه الأسئلة يقوم «الإصلاح الديكارتي». وهذا الجواب - وهو ثورة حقا - يجب علينا أن نطلبه لا في «المقال» بل في الرسائل.
ولقد أثار «المقال في المنهج» ضجة غير قليلة بين العلماء؛ وذلك بسبب مضمونه من غير شك، وبسبب المؤلف أيضا، أجل إن اسمه لم يكن مذكورا على الغلاف، فإن ديكارت تقدم للجمهور مخفيا اسمه بكبرياء، ولكن العارفين، وأعني بهم أعضاء جمهورية الآداب، كانوا يعلمون.
لم يكن ديكارت سنة 1637 قد بلغ المنزلة التي سيبلغها بعد ذلك ببضع سنين؛ أي منزلة الفيلسوف الكبير الشهير وزعيم العقل في زمانه، لم يكن الناس يتحدثون بعد في الأزقة عن نظريته في الحركة، ولم يكونوا يتناقشون في الصالونات في المادة اللطيفة، ولكنه لم يكن مجهولا، فقد كان عالم الأدب والعلم أضيق مما هو الآن، وكان رجاله أكثر معرفة بعضهم ببعض، وكان ديكارت قد عاش بباريس واختلف إلى الأوساط العلمية فيها، وكانت هذه الأوساط ما تزال تذكر ذلك الرجل القصير الكريه غريب الأطوار - فإنه لم يكن يطيق المعارضة، وكان ينهض من فراشه متأخرا ويكره الزيارات - ذلك الرجل الذي كان يمكن لقاؤه عند مرسين، أو بريل، أو جيبيف، كان الناس يعلمون أنه غادر باريس فجأة ليختفي في مكان حقير في هولاندا، وكانت المراسلة متصلة بينه وبين مرسين، ذلك الرجل الذي كان بمثابة صندوق البريد في عالم العلم على حد قول ويجنس، ولم يكن يحبه، أو إن فضلتم هذا التعبير: «بمثابة النائب العام في جمهورية الآداب»، كما أسماه هوبس، وكان مدينا له بالشيء الكثير، وكان الأب مرسين آخر من يكتم سرا، وبالأخص إذا كان هذا السر خبرا أو رسالة، فكانت رسائل ديكارت تجوب أنحاء فرنسا من رين إلى تولوز، ومن مرسيليا إلى ديجون، وكان الكل يعرف أن ديكارت عالم كبير وفيلسوف كبير، وأنه يعد كتابا في «العالم» أو في «الضوء»، وأنه يقول بدوران الأرض، وأنه وعد بلزاك أن يقفه على تاريخ فكره، فكان الكل ينتظر هذا التاريخ بفارغ الصبر.
ولم يخيب «المقال في المنهج» ظن المنتظرين؛ القسم العلمي من الكتاب جميل جدا مبتكر جديد، فثار حوله نقاش عنيف، كان فرما، وروبرفال، وفرنييكل، وديزارج ، وبوجران، وميدورج يعترضون، ويجادلون، ويقارنون، ويتراشقون بالمسائل، ويتبادلون التحدي وقوارع الكلم.
كل ذلك ومرسين فرح؛ فإن تلك النفس الوادعة الساذجة لم تكن تحب شيئا مثل حبها لشجار أدبي.
ومقدمة الكتاب - وهي «المقال في المنهج» - أثارت أيضا اهتماما كبيرا، بل نوعا من الدهشة.
وإني أكرر القول: إن «المقال» أصبح مألوفا لدينا، قد ألفنا أن نرى فيه فيلسوفا كبيرا يقص علينا حياته الروحية، ونحن نرى ذلك أمرا طبيعيا، ولا ندرك كم كان ذلك على العكس خارجا عن المألوف، منقطع النظير، غريبا.
طبيعي أن العالم أو الفيلسوف الذي بلغ إلى اكتشافات جميلة يعرض علينا الطرق والوسائل، أو المناهج التي مكنته من الوصول إليها، وطبيعي كذلك أن العالم أو الفيلسوف الذي كشف منهجا جديدا للبحث يعرضه علينا ويقدم لنا أمثلة على قيمته، أما أن يقص علينا حياته بهذه المناسبة، فهذا هو الأمر الغريب.
هل نتصور أينشتاين أو ديبرويل يروي لنا تاريخ حياته - حتى حياته الروحية - قبل أن يعرض علينا نظرية النسبية، أو النظرية الكمية؟ لا، أليس كذلك؟ ولكن ديكارت يصنع ذلك، لم اعتبر نفسه ملزما بأن يصنع ذلك؟ أجل إنه يعلن أسبابه، ولكن لا يبدو لي أنها هي الأسباب الحقيقية.
يقول إنه وفق إلى اكتشاف «منهج» مكنه من التقدم تقدما كبيرا في دراسة العلوم، وإنه يعرضه لفائدة القراء.
وهاك نصه:
لقد واتاني الحظ؛ فوجدت منذ صباي في طرق أدت بي إلى اعتبارات ومبادئ ألفت منها «منهجا» يبدو لي أنه يمكنني من زيادة علمي بالتدريج، والبلوغ به إلى أعلى نقطة أستطيع الوصول إليها مع قلة حظي من الذكاء وقصر حياتي، ومع أني في تقديري لنفسي أحرص دائما أن أكون أميل إلى قلة الثقة مني إلى الزهو، ومع أني إذ أنظر بعين الفيلسوف إلى مختلف أفعال الناس ومشاريعهم، أكاد لا أتبين شيئا منها إلا وهو باطل عديم الجدوى، فقد حصلت على نتائج لا أتمالك معها من أن أستشعر غبطة بالغة بما يلوح لي أني وصلت إليه في البحث عن الحقيقة، وآمالا بالمستقبل تحملني على الاعتقاد بأنه لو كان بين أعمال الناس، من حيث هم ناس، عمل حسن وهام حقا لكان هو العمل الذي اخترته.
ولكن لعله أخطأ «وظن ماسا وذهبا ما هو نحاس وزجاج»؛ لذلك فهو يقول لنا: «لست أقصد أن أعلم هنا ما ينبغي لكل واحد أن يتبع من منهج ليحسن قيادة عقله، وإنما أريد أن أبين على أي نحو حاولت أن أقود أنا عقلي، فلست أعرض هذا المؤلف إلا على أنه قصة، أو إذا آثرتم هذا التعبير حديث خرافة قد يجد فيه القارئ إلى جانب بضعة أمثلة قد يحسن احتذاؤها أمثلة أخرى يحسن صنعا بعدم اتباعها.» ويضيف ديكارت إلى ذلك قوله: «أرجو أن يعود هذا المؤلف بالفائدة على البعض دون أن يضر أحدا، وأن يحمد مني الجميع صراحتي.»
ما أجمل هذا التواضع!
ولئن كانت الرغبة في نفع معاصريه والإنسانية جمعاء من أقوى الدواعي وأقلها حظا من الحمد في نشاط ديكارت الفلسفي، أليس من قوانين الأخلاق، بل أليس القانون الأعلى للأخلاق، أخلاق «التضحية» التي يعلمنا إياها ديكارت، ذلك القانون الذي «يلزمنا أن نوفر الخير للناس جميعا ما وسعنا ذلك»؟ ولئن صح أنه اعتبر كشف «المنهج» من قبيل الحظ، إن لم يكن نعمة إلهية، فمن الحق مع ذلك أن التواضع لم يكن قط أهم نقائص ديكارت، ذلك الرجل الذي لم يعتقد قط أنه تعلم شيئا، أو يمكن أن يتعلم شيئا من أحد كائنا من كان، ذلك الرجل الذي كان قد أخذ على نفسه أن ينظم العالم هو وحده في هيئة جديدة، وأن يحل محل أرسطو في مدارس العالم المسيحي.
أما الأسباب التي يتمحلها فهل تبدو كافية حقا؟ لقد سبق لي القول: إني لا أعتقد ذلك.
وقد أتهم بجريمة العيب في ذات ديكارت، وقد يقال لي: إن ديكارت كان يعلم أكثر من أي إنسان ماذا كان يصنع، ولم كان يصنعه، بل إنه كان الوحيد الذي يعلم ذلك حقا، لا شك، ولكن ديكارت رجل حذر متكتم، يفكر فيما يقول، ولا يقول ما يفكر، أو على الأقل لا يقول كل ما يفكر، ألم يكتب إلى مرسين - وهو أحد رجلين أو ثلاثة كان يثق بهم كل الثقة: «إني أتقدم مقنعا»؟ لا نؤاخذه على احتياطه؛ فإن حكاية جاليليو كانت ما تزال قريبة العهد، ولم يكن ديكارت يحس أي رغبة في أن تتجدد الحكاية على حسابه، وكان يعلم أن رسالته للعالم أخطر بكثير من رسالة الرياضي الفلورنتي، فالعلم - ذلك العلم الذي تظهرنا الرسائل العلمية على أمثلة منه - لا يكتفي بأن يطرد الإنسان والأرض من مركز العالم، ولكنه يحطم هذا العالم ويخربه ويفتح بدلا منه الفضاء اللامتناهي. أما «المنهج» فكان عبارة عن مراجعة جميع أفكارنا ونقدها نقدا منظما، كان عبارة عن دعوتها جميعا إلى أن تبرر أنفسها أمام محكمة العقل، ومهما يحرص ديكارت - بكل إخلاص من غير شك - على تضييق مجال هذا «المنهج»، ومهما يؤكد لنا من أنه لم يقصد قط إلا إلى إصلاح أفكاره هو، وهو حر في التصرف بها، فإنه لا يستطيع أن يجهل أنه قد أنجز أهول آلة حربية عرفها الإنسان في الحرب ضد السلطة، والسنة الموروثة، وأن أصحاب الأمزجة القلقة لن يحسبوا حسابا لتحفظاته، ولكنهم سيعملون تلك الآلة غير هيابين سلطة الكنيسة ولا سلطة الدولة، وهما قيمتان من قيم الماضي كان بوده لو يصونهما، وإذن فنحن لا نقيم وزنا ل «صراحة» ديكارت، وهو إلى ذلك يسرف في التظاهر بها، وحينئذ فالمسألة باقية بتمامها: لم يروي لنا حكاية حاله؟ إن المسألة لخطيرة، وهي تمس فكر ديكارت في صميمه.
إني أعتقد أنه يصدر عن أسباب عميقة جدا هي معارضة، تمام المعارضة، للأسباب الواهية التي يذكرها لنا، فإن هذه الأخيرة تتضمن أن المنهج الديكارتي - ذلك المنهج الذي يقول عنه ديكارت في العنوان الأصلي للكتاب: إنه كفيل ب «إبلاغ الطبيعة الإنسانية أعلى كمالها» - ليس إلا قيمة شخصية ذاتية، وأنه قد يفيد الواحد ولا يفيد الآخر، وما من شيء أبعد عن المذهب الديكارتي من كل هذا.
وهي تتضمن كذلك أن لكل أحد أن يختار من هذا المنهج ما يعجبه، أن يأخذ شيئا ويدع شيئا ، وإنا نكرر القول أن ليس شيء أبعد من هذا عن المذهب الديكارتي، فإن المنهج، منهج الشك، والأفكار الواضحة، كتلة واحدة لا تتجزأ، هو «المنهج»؛ أي «الطريق»، الطريق الوحيد الكفيل بتحريرنا من الضلال والتأدي بنا إلى معرفة الحق.
أجل، إن منهج ديكارت لا يصلح لأن يطبق تطبيقا عاما، وإن الطريق الذي اتبعه لا يصلح لأن يسلكه كل إنسان، وديكارت لا يعرضه على أنه نموذج يجب على كل أن يحاكيه؛ ذلك لأنه طريق شاق جدا، طويل جدا، خطر جدا، لا يفيد إلا الذي أوتي القوة اللازمة لسلوكه إلى النهاية. أما الآخرون، أولئك الذين «يعتقدون في أنفسهم أكثر مما لهم من الحصافة، فلا يتمالكون أنفسهم من التسرع في أحكامهم، ولا يملكون من الصبر ما يلزم لقيادة جميع أفكارهم بنظام»، والذين «قد أوتوا من العقل، أو من التواضع ما يكفي لأن يحكموا بأنهم أقل مقدرة على تمييز الحق من الباطل من بعض آخرين يستطيعون أن يتتلمذوا لهم، فيقنعوا باتباع آرائهم دون أن يحاولوا كشف آراء خير منها بأنفسهم»، أما هؤلاء وأولئك فإن المثل الديكارتي لا يلائمهم بحال؛ إنه يضرهم لأنهم «إذا اعتزموا أن يشكوا في المبادئ التي تلقوها، وأن يحيدوا عن الطريق المألوف فلن يستطيعوا الاهتداء إلى الطريق الضيق الذي ينبغي سلوكه للسير سيرا قويما، فيظلون ضالين طول حياتهم، ويكاد يكون العالم مؤلفا من هذين الصنفين من العقول»؛ وإذا فليس يكتب ديكارت لهم، ليس يكتب للعامة، ولكنه يكتب للحاصلين على القوة اللازمة الذين يستطيعون اتباعه للنهاية، كذلك القديس أوغسطنيوس لم يكتب ترجمة حياته للعامة؛ أي قصة عودته إلى الله.
وإذا كان ديكارت يقص علينا في «المنهج» - وهو كتاب الاعترافات الديكارتية - ترجمة حياته الروحية، وحكاية عودته إلى الروح، فإنه لم يقصد من ذلك إلى أن يظهرنا على ما فيه من شخصي فردي، ولكنه على العكس يقص علينا ليجعلنا نرجع إلى أنفسنا، وليبين لنا في هذه القصة الشخصية موجز حال الإنسان في عصره، وليبعثنا على إتيان الأفعال التي يستطيع بها الإنسان أن يتغلب على داء زمانه .
هذا الداء وهذا الحال يمكن التعبير عنهما بلفظين: شك، وفوضى، وهما حالتان نفسيتان يستطاع تفسيرهما بسهولة؛ فقد كان القرن السادس عشر فترة هامة جدا في تاريخ الإنسانية، فترة ثراء فكري عظيم، وتحول عميق في موقف الإنسان من الوجهة الروحية، فترة تتملكها رغبة قوية في الاستكشاف؛ استكشاف في المكان، واستكشاف في الزمان، ورغبة في الجديد، ورغبة عن القديم.
استخرج العلماء جميع النصوص المدفونة في مكتبات الأديرة القديمة، قرءوا كل شيء، ودرسوا كل شيء، ونشروا كل شيء، بعثوا جميع ما كان لقدماء فلاسفة اليونان والشرق من المذاهب المنسية: مذهب أفلاطون، ومذهب أفلوطين، الرواقية، والأبيقورية، الشك، والفيثاغورية، والمذاهب السرية من وثنية ويهودية.
وحاول العلماء إقامة علم جديد، علم طبيعي جديد، وعلم جديد للفلك، وجاب الرحالون والمجازفون أنحاء القارات والبحار، فكونت روايات أسفارهم علما جديدا للجغرافيا ولخصائص الشعوب.
فكان من ذلك تكبير إلى حد بعيد لصورة الإنسان والعالم من الوجهات التاريخية والجغرافية والعلمية، وكان من ذلك غليان مختلط خصب لأفكار جديدة وأفكار مجددة، وكان بعث لعالم منسي، وميلاد لعالم جديد، ولكن كان أيضا نقد وزعزعة، وأخيرا هدم وموت تدريجي للعقائد القديمة والتصورات القديمة، والحقائق القديمة التي كانت توحي للإنسان اليقين بالعلم والأمن في العمل، والاثنان متلازمان، فإن الفكر الإنساني جدلي في الأكثر، أو في الأكثر تقوم الحقائق الجديدة على أنقاض الحقائق القديمة.
ومهما يكن من أمر هذه القضية العامة فهي صادقة بالإضافة إلى القرن السادس عشر؛ إذ إنه هدم في كل شيء، هدم وحدة أوروبا السياسية والدينية والروحية، هدم نفوذ العلم ونفوذ الإيمان، هدم سلطة الكتب المقدسة، وسلطة أرسطو، وسلطة الكنيسة، وسلطة الدولة، وسلطة الجامعة.
ركام من النفائس وركام من الأنقاض، تلك هي نتيجة ذلك النشاط العنيف المختلط الذي خرب كل شيء، ولم يعرف أن يبني شيئا، أو على الأقل لم يعرف أن يتم شيئا؛ لذلك نرى الإنسان وقد حرم معاييره الموروثة للحكم والاختيار، يحس أنه ضل السبيل في عالم أصبح قلقا وانتفى منه اليقين وصار فيه كل شيء ممكنا، فبرز الشك شيئا فشيئا ؛ إذ إنه كان كل شيء ممكنا، فمعنى ذلك أن ليس شيء حقا، وإذا لم يكن شيء محققا فمعنى ذلك أن ليس شيء حقا، وإذا لم يكن شيء محققا فمعنى ذلك أن الخطأ وحده مؤكد.
لست أنا الذي يستخرج هذه النتيجة من المجهود البديع الذي بذله عصر النهضة، ثلاثة رجال من أبناء ذلك العصر استخرجوها من قبلي هم: أجريبا، وسانشير، ومونتاني.
أما أجريبا ففي سنة 1537 بعد أن استعرض جميع العلوم أعلن الشك فيها، وأما سانشير فبعد أن نقد قوتنا الفكرية كرر الحكم سنة 1562 «بأنا لا نعلم شيئا»، وتشدد فقال: «إنا لا نستطيع أن نعلم شيئا، لا العالم ولا أنفسنا.» وأخيرا مونتاني يطفح الكيل فيقول: الإنسان لا يعلم شيئا؛ لأن الإنسان ليس شيئا.
إن في أمر مونتاني بنوع خاص لعبرة وعجبا: هذا الهادم الكبير لم يهدم في الواقع إلا على الرغم منه. كل ما أراد هدمه بادئ ذي بدء إنما هو الخرافة والخطأ والتعصب للرأي الخاص الذي يدعي أنه على حق، ويعتقد ذلك بدون دليل. ولم يكن الذنب ذنبه إذ تركه صفر اليدين، فالواقع أن كل شيء إنما هو «ظن» في عالم يسوده الشك.
ويحاول مونتاني حينئذ أن يقوم بالمناورة السقراطية، تلك المناورة المعروفة التي تحاولها الفلسفة متى أحست الضيق واليأس، فإن الفلسفة تحاول دائما أن تعطينا جوابا عن هذين السؤالين: «ما الوجود؟» و«ما أنا؟» أو إن شئتم: «أين أنا؟» و«ما أنا؟» أنا الذي يضع هذا السؤال.
ففي العصور السعيدة تبدأ الفلسفة بما هو موجود بالعالم، ومن النظر في العالم تحاول أن تجيب عن سؤال: «ما أنا؟» وذلك بالبحث عن المكان الذي يشغله الإنسان في «سلسلة الوجود الكبرى» في النظام الوجودي، ولكنها في أوقات الأزمة؛ إذ يخيم الشك على الوجود، يتفكك العالم وينحل أجزاء، تتجه نحو الإنسان وتبدأ بسؤال: «ما أنا؟» وتسأل ذلك الذي يسأل.
وهذا هو ما يفعل مونتاني فإنه يدع جانبا العالم الخارجي، وهو موضوع ظن، ويحاول أن يخلو إلى نفسه، وأن يجد فيها أساس اليقين والمبادئ الوطيدة للحكم أي للتمييز بين الصواب والخطأ.
هذا هو السبب الذي من أجله يدرس نفسه ويصفها ويحللها، وهو يطلب في أحوالها المتغيرة المتنوعة أساسا متينا يسند إليه معيار الحكم، وإني أكرر القول أن ليس الذنب ذنبه؛ إذ لم يجد شيئا هنا أيضا؛ إذ لم يجد سوى الشك والفراغ والانتهاء والموت.
أمام هذا الفراغ ماذا سيصنع؟ لن يصنع شيئا أصلا، هو يسلم بإخفاقه، يسلم بحاله كما هو وكما كشفه له التحليل، وما العمل حيث قد امتنع العمل؟ اللهم إلا أن يعدل المرء عن الأمل المستحيل وأن يسلم بالواقع؟ أما أن يعود القهقرى، وأن يثور في نوبة من اليأس، وأن يحاول رتق حجاب الوهم الذي مزقه، فقد كان مونتاني أخلص طوية وأقوى نفسا وأذكى عقلا من أن يصنع ذلك، ليس كتابه «رسالة في اليأس»، وإنما هو «رسالة في الزهد».
على أن الشك لا يصلح موقفا للحياة، وهو إن طال أضحى موقفا لا يطاق، إن «وسادة الشك اللينة» صلبة جدا، وليس يستطيع الإنسان أن يعدل نهائيا عن اليقين، عن «طمأنينة الحكم» كما يقول ديكارت، إنه بحاجة لليقين لكي يحيا، كي يدبر سيرته في الحياة؛ لذلك بدت حركة مقاومة منذ نهاية القرن السادس عشر على أيدي شارون وبيكون وديكارت: الأول يمثل الإيمان، والثاني التجربة، والثالث العقل.
الحق أن ليس لدى شارون ما يعارض به مونتاني اللهم إلا أن الحالة التي كشفها لا تحتمل، وأنها تؤدي بنا إلى اليأس، إذا كان العقل عاجزا عن تخليصنا فبئس مصيره، بل نعم المصير إذ يبقى لنا الإيمان.
أجل إن نقد مونتاني قد هدم أسس اللاهوت المدرسي، والأساليب المعروفة في الدفاع عن الدين، والأدلة المألوفة على الحقيقة الدينية، ولكن شارون يعترض فيقول: إن النقد الشكي يهدم نفسه؛ ذلك أنه إذا كانت الأدلة المؤيدة غير صالحة فإن الأدلة المعارضة غير صالحة كذلك، فهو أمام شك العقل الطبيعي يقيم يقين الإيمان الفائق الطبيعة.
لم يلق موقف شارون هذا، المؤلف من إيمان بالوحي وشك في العقل، نجاحا يذكر، وهذا أمر مفهوم، فإن «العاطفة الدينية» كانت شيئا مجهولا إلى حد ما في عصره، ولم يكن الإله في ذلك العصر موضوع شعور باطن، لم يكن بسكال قد وضعه بعد على هذا النحو، ولكنه كان إلها معقولا، وسيقول ديكارت في «رسالته إلى أساتذة السوربون»:
ولو أنه من المحقق أنه يجب الإيمان بالله؛ لأن الكتب المقدسة تعلم ذلك، وأنه من جهة أخرى يجب الإيمان بالكتب المقدسة؛ لأنها صادرة عن الله، فليس يمكن عرض ذلك على غير المؤمنين (على الشكاك، والزنادقة)؛ إذ قد يتصورون أن في هذا القول الغلط الذي يسميه المناطقة بالدور.
لذلك لم تقف «حكمة» شارون حركة الشك، بل بالعكس صارت أصلا له.
كان شارون رجل دين، وكان بيكون رجل دولة وجه عنايته لا إلى اليقين الديني ومصير الإنسان في العالم الآخر، بل إلى «تقدم» العلوم والمخترعات النافعة، وإلى مصير الإنسان في هذه الحياة الدنيا، لم يكن يتوق إلى السعادة الأبدية، بل إلى رغد الحياة؛ لذلك لم يلتمس دواء شرور الحاضر في الماضي، بل في المستقبل.
هو يسلم بنقد الشاك، ولم يوفق أحد مثله في تصنيف الأخطاء الإنسانية والكشف عن أصلها في الطبيعة والمجتمع جميعا، ولم يكن أحد أقل ثقة منه في قوة العقل الذاتية.
أجل إن العقل - العقل النظري - مريض عاجز مشحون بالأوهام والأخطاء، وبيكون يذعن لذلك، إن ما يهمه، إن ما يهم الإنسان في رأيه، ليس النظر والتأمل بل العمل؛ لأن الإنسان فاعل قبل أن يكون مفكرا؛ لذلك إنما توجد الأسس الوطيدة للعلم - بالإضافة إلى الإنسان - في العمل والتجربة. العقل النظري هو «مجنون الدار»، يضل حالما يترك التجربة؛ لذلك كان الواجب منعه من الاسترسال في الضلال، وتثقيله بقواعد عديدة محكمة، والهبوط به قسرا إلى أرض التجربة الثابتة.
التجربة: ذلك هو الداء الذي يصفه بيكون، وليس لكتابه «المنطق الجديد» من غرض سوى معارضة شك العقل المتروك لنفسه بيقين التجربة المنظمة.
وقد اعتقد بيكون أنه أصاب هدفه، وكتابه اللامع في «تقدم العلوم وكرامتها» إنما هو رد، حتى بالعنوان، على كتاب أجريبا اليائس المطمئن إلى اليأس.
وصادف الحل الذي جاء به نجاحا عظيما، على أن هذا النجاح كان أدبيا بحتا؛ لأن بيكون لم يضع ذلك العلم الجديد، العلم العملي، الذي أعلنت عنه كتبه، ولم يضعه أحد من بعده، والسبب بسيط: هو استحالة الأمر.
إن التجربة البحتة لا تؤدي بنا إلى شيء، لا تؤدي بنا حتى إلى التجربة، فإن كل تجربة إنما تستند إلى نظرية سابقة، التجربة سؤال نلقيه على الطبيعة، فهي تقتضي لغة نلقيه بها، فأخفق بيكون في إصلاحه لأنه لم يدرك هذه النقطة، ولأنه أراد «أن يتبع نظام الأشياء بدل أن يتبع نظام الأدلة» على حد تعبير ديكارت، وأفلح ديكارت في ثورته؛ لأنه أدرك تلك النقطة وسلك طريقا معارضا فحرر العقل بدل أن يعوق سيره.
أيها السادة!
لقد فرضت عليكم هذا الاستطراد التاريخي الطويل؛ لأنه بدا لي ضروريا كل الضرورة لتحديد مكان «المقال في المنهج» من التاريخ، والبيئة التي يجب وضعه فيها لكي نفهمه، فإني أعتقد أنا نسيء فهم «المقال» بل فهم ديكارت، إذا نحن لم نر ظل مونتاني القوي منتشرا عليهما.
إن لديكارت خصمين: أرسطو، والفلسفة المدرسة، على أنهما ليسا الخصمين الوحيدين، كما ردد البعض وكما سبق لي أن قلت، كان سلطانهما قد تزعزع فأراد ديكارت أن يحل محلهما، لا أن يحاربهما، إن له خصما آخر هو مونتاني، ولعله أقوى الخصوم، ومونتاني هو في نفس الوقت المعلم الحقيقي لديكارت.
إن ديكارت يتم مهمة مونتاني ويبلغ بها الغاية، تلك المهمة الهادمة المحررة، وأعني بها مهاجمة الخرافات والأوهام وما في الفلسفة المدرسية من ظاهر العقل، فإنه يحيل الشك منهجا ويسنده إلى يقين الحقيقة بعد استعادتها، فيجعل منه بين يديه محكا وآلة فعالة للنقد ووسيلة لتمييز الصواب من الخطأ، إن ديكارت يقتفي أثر مونتاني في الرجوع السقراطي إلى النفس، ويسبقه ويمضي بالتحليل إلى غايته.
هو يحارب شك مونتاني ويدفع به أيضا إلى غايته، وهذه هي عظمته، أي هذا التشدد الذي لا يلين ولا يخطئ، وهو فضيلة نادرة جدا تقتضي أكثر من صفات عقلية عادية بالغة ما بلغت، هو فضيلة تتطلب إقداما وشجاعة وعزيمة صادقة تأبى الوقوف في الطريق، وتمضي في سبيلها مهما يكلفها ذلك، مقتحمة العقبات غير مبالية بالتناقض الظاهر.
إنما استطاع ديكارت أن ينجو من تعاريج الخطأ والشك؛ لأنه مضى إلى النهاية في كل مسألة، واستطاع أن يكشف بها الحرية الروحية، وأن يستعيد يقين الحقيقة العقلية، وأن يجد الله، حيث لم يجد مونتاني سوى الفراغ، هذا هو الغرض الحقيقي الذي توخاه ديكارت من «المقال»؛ أي أن يستعيد نفسه، وأن يدل فيما وراء الشك الهادم «للرأي العقلي» إلى طريق الوضوح وإلى يقين «المعرفة العقلية»، إن ديكارت يرد ب «المقال» على «رسائل» مونتاني، ويعارض تاريخ مونتاني الروحي بتاريخه هو، إنه يعارض قصة هزيمة بقصة انتصار.
والآن نستطيع أن نتحدث عن «المقال» الجدير بأن يسمى «طريق العقل إلى الحقيقة»، ولكن الوقت يضيق اليوم دون ذلك، فموعدنا الدرس الآتي نسلك معا الطريق الذي رسمه لنا ديكارت.
الدرس الثاني
في محاضرتي الأولى رسمت لحضراتكم الصورة الروحية لعصر ديكارت، أي البيئة التي يجب أن نضع فيها «المقال في المنهج» لكي نستطيع فهمه، أما اليوم فسنعنى بدراسة المقال نفسه.
كم كنت أود لو استطعت أن أتلوه عليكم بأكمله، وأن أشرحه صفحة صفحة، بل جملة جملة، ولم يكن ذلك ليعد إسرافا؛ بالنظر لما فيه من الثراء والرصانة، ولكنه قد يستغرق سنة، فلا محيص من العدول عن مثل هذا الشرح.
لنمر مرا سريعا على الصفحات الأولى حيث يقص علينا ديكارت تاريخ أولى أزماته الروحية، أزمة الشباب غداة مغادرة المدرسة، وكانت أزمة شك وخيبة.
وهاكم بالتقريب ما يقول لنا، يقول إنه غذي بالآداب منذ حداثته، درس في مدرسة «لافليش» لليسوعيين، وكانت من خير مدارس العالم المسيحي، تلقى العلم فيها على خير المعلمين، وكان تلميذا نجيبا فتعلم كل شيء، تعلم كل ما كان مألوفا أن يتعلمه من يريد «الانتظام في سلك الألباء»، قرأ كل ما وقع له من الكتب، ونال درجة الماجستير في الآداب، والليسانس في الحقوق، فما بلغ العشرين حتى لاحظ أن كل هذا عديم القيمة، أو على الأقل لا يساوي شيئا كثيرا.
فأحس الخيبة، وأحس أنه قد خدع، فقد قيل له: تعلم الآداب والفنون تصب بها معرفة واضحة محققة بكل ما هو نافع للحياة. فصدق القول، وها هو ذا مرتبك بالشكوك والأخطاء ومرغم على الإقرار بأن «ليس في العالم مذهب هو على ما كانوا قد عللوه به»، أجل لم يكن كل ما علموه عديم القيمة بالمرة؛ «فاللغات مثلا ضرورية لفهم الكتب القديمة، والقصص اللطيفة توقظ الفكر، والأفعال المجيدة التي ترويها التواريخ ترفعه، ومتى قرئت باعتدال عاونت على تكوين أصالة الرأي، وللبلاغة قوة وجمال لا نظير لهما، وللشعر لطائف رائعة، وللرياضيات مكتشفات هي في غاية الدقة، واللاهوت يعلم كيف تكتسب الجنة، والفلسفة تؤهل صاحبها لأن يتحدث حديثا مقبولا في كل شيء، وأن ينال إعجاب من هم أقل علما منه، والفقه والطب يعودان بالثروة والكرامة على أصحابهما»، ولكل هذا قيمته من غير شك، ولكن المعلمين كانوا قد منوه شيئا آخر، كانوا قد منوه معارف واضحة محققة، وعلما لا غنى عنه لإصابة الحكم وحسن التدبير في الحياة، وبالجملة كانوا قد منوه علما وحكمة، ولم يعطوه هذه ولا ذاك.
فإن شيئا مما علموه لم يكن ضروريا كل الضرورة، بل لم يكن نافعا ولا محققا، ما خلا الرياضيات، أجل إن قراءة الكتب القديمة والقصص والتواريخ تزين الفكر، ولكنها قد تفسده؛ «فإن القصص تحمل على الاعتقاد بإمكان حوادث هي في الواقع مستحيلة»، وأصدق التواريخ «لا يروي الحوادث كما وقعت»، فليس باستطاعتها أن تعاوننا على تكوين أصالة الرأي، بل بالعكس إنها تحملنا على الخلط بين الحق والباطل، والبلاغة والشعر شيئان جميلان ولكنهما لا يتعلمان، إنهما موهبتان، ولا يكتسبان بالدرس، ولإقناع الناس ينبغي أن نكلمهم كلاما واضحا ليستطيعوا فهمنا، لا أن نرهقهم بمحسنات البديع والبيان.
أما اللاهوت «الذي يعلم كيف تكتسب الجنة» أفليس هو «علما» عديم الفائدة أصلا من حيث إن طريق الجنة «مفتوح للجهلاء والعلماء على السواء؟» بل أليس هو علما كاذبا ممتنعا كل الامتناع «من حيث إن حقائق الوحي تفوق العقل»، وإن من الواضح «أنه يلزمنا للشروع في الفحص عنها والتوفيق في هذا الفحص معونة سماوية خارقة ترفعنا فوق مرتبة الإنسان؟»
الرياضيات وحدها تنجو من نقد ديكارت «لما لبراهينها من اليقين والوضوح»، ولكنه لا يرضى عنها إلا بعض الرضى؛ لأن الذين تقدموه لم يفهموا ماهيتها ومنفعتها الحقة، وهي تغذية النفس بالحقيقة وتمكينها من معرفة العالم، وظنوا أن منفعتها قاصرة على الفنون الآلية، فلم يوفقوا إلى بناء شيء على هذه الأسس المكينة.
فلا يبقى إذا، أو لا يكاد يبقى شيء من تحصيله المدرسي، وهذا مفهوم، فإن العلوم جميعا إنما تستمد مبادئها من الفلسفة، والفلسفة في مقدمة المعارف اختلاطا وريبا، فلا يستبقي ديكارت سوى المعارف التي لا تمت إلى الفلسفة بصلة؛ أي الإيمان بالله وبالرياضيات.
فلنسجل ذلك، إن له أهميته، فإن فلسفة ديكارت ستحاول أن تربط بين هذين اليقينين وأن تسند أحدهما إلى الآخر.
هل وصل ديكارت إلى حالة الشك بنفسه؟ إن هذا جائز، هل تأثر بالكتب التي قرأها؟ إن هذا راجح، هل تأثر بتلك البيئة المثقفة التي اختلف إليها بعد مغادرة المدرسة؟ إن هذا محقق، والأمر يعد قليل الخطر.
إن العقلية التي يصفها ديكارت هي عقلية عصره، عقلية الرجل المثقف الذي قرأ بيير راموس، ومونتاني، بومبوناس، وكردان، أجريبا، وبيكون، والذي أرهقته «دقائق الفلسفة المدرسية» فازدرى ما كان لزمانه من «علم رسمي» وولاه ظهره، وسوف يحذو ديكارت حذوه، فهو يقول: «حالما أذنت لي السن بالخروج من سلطة أساتذتي تركت دراسة الآداب بالمرة، واعتزمت ألا أطلب من علم إلا ما قد أجده في نفسي أو في كتاب العالم الأكبر، (وفي هذا يشبه مونتاني تمام الشبه)، وقضيت بقية شبابي في الترحال والتردد على قصور الملوك والأمراء، والاتصال بالجيوش، ومعاشرة الناس على اختلاف أمزجتهم وطبقاتهم، والتزود من التجارب، وامتحان نفسي فيما كان الحظ يعرض علي من أحوال، والتفكير في كل مناسبة بحيث أخرج منها بفائدة، فقد كان بي دائما شوق بالغ لأن أتعلم التمييز بين الصواب والخطأ للتبصرة في أفعالي والمضي باطمئنان في هذه الحياة.»
لقد كانت أسفار ديكارت موضوع جدل غير قليل فيما سلف من الزمان. كانت رحلته الأولى إلى هولندا وهو في العشرين ليخدم في جيش أجنبي، غريبة جدا في نظر الفرنسي الملازم لبلده من أهل القرن الماضي، وفي نظر الأديب الذي لم يكن يتصور الحياة ممكنة في غير باريس؛ لذلك كانوا يتلمسون لهذه الأسفار أسبابا عميقة خفية، ولكنا نعلم اليوم أنهم كانوا مخطئين.
إن المثل القائل: «الأسفار تكون الشباب» يرجع إلى أبعد من أمس، وقد كان التنقل في أنحاء أوروبا جزءا من تربية «الرجل المثقف» في زمن ديكارت، والواقع أن اكتساب «التجربة والآداب الاجتماعية» التي تميز «المثقف الرجل» لا يتأتى بغير السفر، ومعاشرة الجند وأهل القصور، والتفرج على البلدان الأجنبية.
وليس من المستغرب كذلك أن يكون ديكارت قد قصد إلى هولندا، فقد كانت هذه الدولة حينذاك قوة بحرية عظيمة، وكانت حليفة لفرنسا، وكانت غاصة بالفرنسيين من أساتذة وطلاب وعسكر وشباب الأشراف يفدون إليها ليتعلموا فن الحرب في جيش موريس دي ناسو، أكبر قائد في عهده، وكان ديكارت أحد هؤلاء، أجل إنه كان من طبقة متواضعة بين الأشراف هي طبقة رجال القضاء، ولكنه كان شريفا على كل حال واتخذ له اسما شريفا «سيد دي بيرون» للتنويه بمكانته.
فالسفر أو على الأقل، سفرة ديكارت الأولى كانت تكملة طبيعية للمدرسة، كانت مدرسة الحياة، أفاد منها مثل غيره، زعزعت الأسفار ما تبقى من يقين؛ أي آراءه الموروثة، ولكنها عوضته منها شيئا من سعة الفكر، فإنه يقول: «كنت أتعلم ألا أغالي في تصديق ما أقنعتني به القدوة والعرف، وبذلك تخلصت شيئا فشيئا من أخطاء كثيرة تحجب ضوءنا الطبيعي وتدعنا عاجزين عن إدراك الحق.»
للآن كل ما صدقناه فهو طبيعي، وما ترجمة ديكارت إلا ترجمة أي فرد من الناس، وفي استطاعة كل واحد من قراء ديكارت، كل «رجل مثقف» من قراء «المقال» أن يصيح قائلا: إن هذه لترجمتي، وقد قلت لكم في المحاضرة الماضية: إن تاريخ ديكارت كما يقصه علينا يلخص عقلية عصره.
وللآن لم نبرح موقف مونتاني، ولكن ديكارت يعقد العزم ذات يوم على «أن يدرس في نفسه، وأن يستخدم قوة عقله لاختيار الطرق الواجب اتباعها» كما فعل مونتاني. وهنا يحدث الصدع.
يقول لنا ديكارت: «كنت حينذاك في ألمانيا حيث دعتني الحروب التي ما تزال ناشبة فيها» وكلنا يعلم الحكاية المشهورة عن «المدفأة» التي لجأ إليها، ومع ذلك فلست أريد أن أحرم نفسي لذة قراءتها، يقول: وفيما كنت عائدا من تتويج الإمبراطور، أقصد إلى الجيش، وقفتني بداية الشتاء في محلة لم يكن لي بها حديث يلهيني، ولم يكن لي بحمد الله شواغل أو أهواء تدخل الاضطراب على نفسي، فكنت أقضي سحابة يومي في حجرة دافئة مغلقة علي وحدي أقلب أفكاري، وكان من أول ما خطر لي أن المصنوعات المركبة من قطع عدة والتي اشترك فيها صناع عديدون، كثيرا ما لا تحوي من الكمال بقدر ما تحويه المصنوعات الخارجة من يد صانع واحد، ويستنتج ديكارت من ذلك أنه كما أن البيت الذي يبنيه بناء واحد أجمل من البيت الذي يشترك في بنائه بناءون عديدون، وكما أن المدينة التي تشيدها أجيال متعاقبة أقل نظاما من المدينة التي تشيد دفعة واحدة، فإن العلوم لما كانت قد تكونت شيئا فشيئا فهي خلو من كل يقين، وليست تعلم النظام الحقيقي، ومن ثمة فيجب أن يشرع واحد في إقامتها من جديد وفي ترتيبها.
إن ما تعلنه لنا عبارات «المقالات» على ما فيها من تلميح وحذر إنما هو ثورة علمية حقا، فهي ترمي إلى استبعاد كل ما عمل من قبل وإلى استئناف الفلسفة كأن أحدا لم يفلسف، وإلى تجديد البناء، أو بعبارة أدق: إلى البناء لأول مرة ونهائيا، بناء المجموعة الحقة للعلوم، المجموعة الحقة للعالم.
إن المشروع من العظمة بحيث يتولانا الذهول من جرأة ديكارت، ولكن ديكارت يسير في حديثه بهدوء فيقول: «وفكرت أنا كنا أطفالا قبل أن نصير رجالا، وقضينا زمنا طويلا تحت سيطرة شهواتنا ومعلمينا، وللشهوات والمعلمين تأثيران متعارضان في أكثر الأحيان لا يوجهاننا إلى الخير دائما، فيكاد يستحيل والحالة هذه أن تكون أحكامنا نقية ثابتة كما لو كان أتيح لنا استخدام العقل كاملا منذ ميلادنا، ولم يحكمنا إلا العقل.»
أجل كان يكون جميلا جدا لو كنا منذ ميلادنا متمتعين بالعقل كاملا لا بالعقل الذي نحن حاصلون عليه اليوم في سن النضوج والذي ملؤه الأخطاء، بل بالعقل الذي كنا نحصل عليه حينذاك، العقل الكامل «الجوهري» كما كان يجب أن يكون عليه، كما كان يحصل عليه رجل مثل آدم يخلق بالغا بعقل خارج من يدي الطبيعة، أو الله مباشرة؛ إذا لما كنا ندعه يقع في الخطأ، ولما كان يطرأ عليه أي وهم يحجب ضوءه الطبيعي.
وليست هذه الفكرة بجديدة، إنها آتية من شيشرون، وأغلب الظن أنه استمدها من آخر، ولكن أحدا من بين جميع الذين قالوا بها - حتى بيكون - لم يكن جادا فيها. أريد أن أقول: إن أحدا لم ينشئ برنامجا للعمل من هذا الأسف الأفلاطوني إلا ديكارت، فقد شرع جادا أن يعيد للعقل نقاءه وكماله «الفطريين» ليذهب بالطبيعة الإنسانية إلى أعظم درجة من الكمال، وهو يقول:
ولأجل تنقية العقل من شوائبه بدا لي أن خير ما أصنع إنما هو أن أشرع في أن أنتزع من فكري كل الآراء التي كنت صدقتها لذلك الوقت؛ لأحل محلها آراء خيرا منها، أو نفس الآراء بعد أن ألائم بينها وبين عقلي.
ثورة عقلية أو بالأحرى ثورة روحية تسند الثورة العلمية وتعلن بجرأة منقطعة النظير قوة العقل وقيمته وسلطانه المطلق.
أجل إن ديكارت سيحاول أن يحد من هذا السلطان الذي أعلنه وأن يتلافى ضرره، وسيقول لنا مخلصا كل الإخلاص: إن نقد العقل لا يجب ولا يمكن أن يتناول الحقائق الدينية، أي الحقائق الموحاة من حيث إنها بماهيتها أسمى من العقل، وسيحاول حصر الدمار ونفض يديه من النتيجة المؤلمة التي قد تنتج والتي ستنتج بالفعل.
لم يكن ديكارت بالرجل الثوري، بل كان يحرص مخلصا على الطمأنينة العامة والنظام العام، فإنه كان بحاجة إليهما ليستطيع متابعة أبحاثه العلمية، وكان يحرص بالأخص على طمأنينته الشخصية، ولست ألومه في ذلك، لقد كان من السهل على بوسويه أن يسميه «الفيلسوف الشديد الحرص» فلم يكن بوسويه يستهدف لخطر، ولم يكن أتى بشيء يذكر، ولعل ديكارت لم يستهدف لخطر، ولكنه جاء بكنز، فليس من المستغرب أن يطلب الطمأنينة؛ لذلك هو يسرع إلى توفيرها لنفسه، وهذا دليل واضح على أنه كان يعلم خيرا من أي إنسان ما لمنهجه من قيمة «كلية».
هو يقول إنه لا يقصد إلى إصلاح الدولة ولا الهيئات العامة الكبرى، بل لا يقصد إلى إصلاح «نظام العلوم» أي مناهج المدارس، فإنه لا يعنيه، يقول: «لا أستطيع بحال أن أقر أصحاب الأمزجة القلقة الذين لا يدعوهم داع من حسب أو مال للعناية بالشئون العامة، فلا يخلون مع ذلك من تصور إصلاحات جديدة، ولو كنت أعلم أن شيئا من هذا الكتاب من شأنه أن يحمل الناس على أن يظنوا بي مثل هذا الجنون لكنت آسف جدا لنشره.» على أن أفكاره ملكه الخاص، وله كل الحق أن يصنع بها ما يشاء، وهو يقول لنا إنه لا يريد بحال أن يجاوز ذلك الحد، بل لا يريد إصلاح أفكار الآخرين، وإنما يقتصر على إصلاح أفكاره ليس غير، «للذين قسم لهم الله من نعمه أكثر مما قسم له أن يتوخوا أغراضا أسمى»، أما هو فغرضه يكفيه.
من غير شك إن إصلاح المنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا أو بالأحرى خلق هذه العلوم خلقا جديدا - أي خلق عالم بأكمله - يكفي هذا الرجل المتواضع.
لنقف هنا لحظة فقد بلغنا الوقت الحاسم، بلغنا بداية الفلسفة، في رأي ديكارت على الأقل، ومن هنا يبدأ كتابه «التأملات». إن الإنسان بحاجة - والإنسانية أيضا من غير شك - لأن ينزع عنه مرة في حياته كل ما سبق له من آراء، وأن يهدم كل ما سبق له من معتقدات ليعرضها كلها على حكم العقل.
أليس التخلص من جميع الآراء وهدم جميع المعتقدات هو أيضا التحرر منها؟ أوليس عرضها على حكم العقل يتضمن القول بسلطان العقل وحريته؟
وهذا هو المنهج الديكارتي وهذا هو الدواء الديكارتي، المنهج يعني الطريق المؤدي إلى الحقيقة، والدواء هو الذي يشفينا من التردد والشك.
إذا أردنا أن نستعيد ما كان لعقلنا من نقاء فطري وأن نبلغ إلى يقين الحقيقة فيجب التخلص من جميع الأفكار والمعتقدات؛ أي التحرر من جميع التقاليد والسلطات، فإن الشاك - وأقصد مونتاني - على حق في أن يشك، أليس هو بإزاء آراء مريبة بل خاطئة؟ قد يكون على غير حق أحيانا، ولعل هناك إلى جانب الأفكار الكاذبة أفكارا صادقة، ولكن ما السبيل إلى العلم بذلك؟ يجب أن نتمكن من الحكم عليها جميعا؛ أي التمييز بين الصدق والكذب وكيف نستطيع ذلك ونحن آمنون من الخطأ ما دمنا نحتفظ برأي واحد بغير امتحان، وقد يكون كاذبا فيفسد علينا الحكم؟
لا سبيل إذا إلا أن نفرغ العقل بالمرة، وسيقول ديكارت في رسالة للأب ميلان: «إذا كان لدينا سفط من التفاح بعضه فاسد مفسد للبعض الآخر، فكيف العمل إلا أن تفرغه بأكمله وتتناول التفاح واحدة واحدة فتعيد الجيد منه إلى السفط وتطرح الرديء؟»
ولنلاحظ أن هذا العمل يتم على دورين: نبدأ بإفراغ السفط، ولكنا لا ندعه فارغا؛ لأنا سنعيد إليه التفاح غير الفاسد، فكيف وبم نمتحن الآراء لاستبقائها أو اطراحها حسبما توافق العقل أو لا توافق؟ بالعقل نفسه، بذلك الضوء الطبيعي الذي إن خلصناه من جميع الآراء التي تملؤه استعاد كماله الطبيعي وصار من ثمة قادرا على التمييز بين الصواب والخطأ.
وكيف صنع ذلك؟ هنا أيضا الأمر بسيط غاية البساطة، نشك في الأفكار التي نستطيع أن نتبين فيها غموضا واختلاطا، إن الأفكار التي نستطيع الشك فيها تحتوي بكل تأكيد شيئا غامضا مختلطا؛ لذلك نحن نمتحنها بالشك، والشك هو محكنا، كل فكرة تتأثر بهذا الحامض المحلل فهي كاذبة، أو على الأقل فهي من طبيعة أدنى، هي تفاحة فاسدة، وإذا فنحن نطرحها ولا نستبقي إلا التي «تعرض للفكر بوضوح وجلاء لا يستطيع معهما الشك فيها.»
الشك محك الحقيقة، هو الحامض الذي يحلل الأخطاء؛ لذلك يجب أن نجعله أقوى ما يمكن، وأن نشك في كل شيء ما استطعنا إلى الشك سبيلا، حينئذ فقط نكون على يقين أنا لا نستبقي إلا ذهب الحقيقة الخالص.
وسيغلب الشك بنفس أسلحته، إنه يشك، ونحن سنعلمه الشك، لن يكون شكنا «حالة» حالة ريب متكاسل، بل سيكون فعلا، فعلا إراديا، وسنمضي به إلى نهايته، وشتان بين حالة الشك وفعل الشك، لقد فزنا بالنصر مبدئيا؛ إذ إن الشاك يذعن للشك، أما ديكارت فيزاوله، وهو إذ يزاوله بحرية يسيطر عليه ومن ثمة يتحرر منه، إنه حاصل على محك وقاعدة لم تكونا لمونتاني، وإذا فيستطيع التمييز بين الصواب والخطأ ووضع الأفكار التي ستكون عالم العقل في مواضعها ومزاولة «النقد»؛ أي الحكم والاختيار.
ما هذه الأفكار التي هي من الوضوح والجلاء، أو بعبارة أدق: فإن لكل لفظ أهميته في هذا المقام، ما هذه الأفكار التي «تعرض» للعقل على نحو هو من الوضوح والجلاء بحيث لا يبقى لديه سبب للشك فيها؟ ما هذه الأفكار التي لا يتبين العقل فيها غموضا ولا اختلاطا، والتي هي بالطبع متلائمة مع العقل، والتي بسبب ذلك تكون النموذج والقاعدة والمقياس الذي يقيس به العقل سائر الأفكار؟ وما هو هذا العقل الذي سيقوم بهذا القياس؟
هذه الأفكار هي الأفكار الرياضية، وهذا العقل هو العقل الرياضي كذلك، ففي الرياضيات دون سواها بلغ العقل الإنساني إلى الوضوح واليقين، وأفلح في إقامة علم بمعنى الكلمة «يتقدم فيه بوضوح وجلاء من أبسط الأشياء إلى أشدها تعقيدا.»
لذلك كان المنهج الديكارتي مأخوذا عن الرياضيات، ذلك المنهج الذي يقول لنا ديكارت إنه كونه لنفسه بانتقائه خير ما في «الفنون أو العلوم الثلاثة التي كان درسها بعض الشيء في صباه» وهي: المنطق، وتحليل المهندسين، والجبر.
أجل ليس المراد أخذ مناهج الرياضيات في الاستدلال وتطبيقها هي هي على موضوعات أخرى، فمع «أن الرياضيين وحدهم من بين الذين سبق لهم البحث عن الحقيقة في العلوم، هم الذين وجدوا براهين، أعني أسبابا محققة بينة»، إلا أن طرائقهم، أو بكلمة أدق صناعتهم، خاصة بموضوعاتهم ليس غير، وهي «موضوعات غاية في التجريد، تلوح بعيدة عن كل فائدة عملية» وإن تحليل القدماء مقصور على اعتبار الأشكال بحيث لا يروض العقل دون أن يجلب للمخيلة عناء كبيرا، وإن علم الجبر عند المحدثين من الخضوع لبعض القواعد والأرقام أصبح «فنا مختلطا غامضا يرهق العقل بدل أن يثقفه»، فيجب إذا البدء بإصلاح الرياضيات أنفسها، وذلك بتعميم مناهجها، أو إن شئتم باستخراج ماهية الاستدلال الرياضي والروح المنبث في «سلسلة الأسباب البسيطة السهلة التي يستخدمها المهندسون ليبلغوا بها إلى أعسر براهينهم.»
ماهية الاستدلال الرياضي - وهو يختلف عن الاستدلال القياسي البحت أو المنطق - نقول: ماهية الاستدلال الرياضي وروحه تقوم في أن الرياضي مهما تكن موضوعات بحثه معادلة جبرية أو شكلا هندسيا فهو يحاول أن يوجد بينها علاقات أو «نسبا» مضبوطة، وأن يربط بينها بسلاسل من العلاقات المنظمة.
فاستكشاف علاقات ونظام بين العلاقات تلك هي ماهية الفكر الرياضي، ذلك الفكر الذي لا يعني لديه «السبب» إلا علاقة أو نسبة، والعلاقة أو النسبة توجد بذاتها «نظاما» وتنمو بذاتها حتى تصير سلسلة. وقواعد المقال تعلمنا قوانين هذا الفكر، أو على الأقل القواعد الثلاث الأخيرة: القاعدة الأولى هي: ألا نسلم أبدا شيئا إلا بعد أن نكون قد عرفنا بوضوح أنه حق، وهذه القاعدة تعبر عن ضرورة تطهير العقل بالشك. القاعدة الثانية: أن نقسم كل صعوبة ما وسعتنا القسمة، وما اقتضى الحال لحلها على أحسن وجه، وهذا يعني «قسمة» كل علاقة أو نسبة مركبة إلى ما يستطاع من العلاقات أو النسب البسيطة.
القاعدة الثالثة: أن نقود أفكارنا بنظام مبتدئين بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة للتدرج إلى معرفة أكثر الأفكار تركيبا، وهذا يعني الابتداء بأبسط العلاقات أو المعادلات؛ أي التي هي من الدرجة الأولى، ثم التدرج منها بنظام إلى العلاقات أو المعادلات التي هي من درجة أعلى، فارضين نظاما حتى بين التي لا يصدر بعضها عن بعض بالطبع، وذلك بإدماج حدود بين طرفي السلسلة، وفرض الحدود جميعا قابلة لأن تربط في سلسلة. القاعدة الرابعة: أن نقوم بإحصاءات تامة واستعراضات عامة بحيث نتحقق أنا لم نغفل شيئا، أي لم نتحرز من ترك حد ما أو مجهول ما من مجهولات المسألة غير مرتبط بسائر الحدود، ومن وضع معادلات أقل عددا من المجهولات.
لا سبيل إلى الشك في أن هذا «المنهج» وهذه القواعد التي يزعم ديكارت أنه اكتشفها في مدفأته لم تكتشف إلا بعد ذلك بمدة طويلة، من حيث إنها عبارة عن تلخيص غامض بعض الشيء لأنواع الاستدلال المستخدمة في رسالتي «البصريات» و«الهندسة»، وبالأخص لطريقة وضع مسألة جبرية في معادلة، على أن علم الجبر الجديد وتطبيق الجبر على الهندسة ذلك التطبيق الذي يحرر الهندسة من المخيلة، ويحيل المكان ماهية معقولة تمام المعقولية، هو بالإضافة إلى ديكارت نفسه وإلى معاصريه وخلفائه أمثال مالبرانش وسبينوزا، وبالإضافة إلينا أعظم فتوحاته العقلية هو الفتح الذي مكن ديكارت من إقامة علم طبيعي نظري، ومن الرد على انتقادات أرسطو ومن اجتياز العقبة التي وقفت في سبيل أفلاطون.
ومهما يكن من قول ديكارت فإنه في الواقع يدلنا على الطريق الواجب سلوكه، لا الطريق المتشعب الوعر الذي سلكه هو، وليس يهمنا أن يرجع إفصاحه عن مكتشفاته بوضوح إلى سنة 1628 أو 1636 فإن أصلها أول حدس سطع في فكره، يرجع من غير شك إلى سنة 1619؛ أي إلى عهد المدفأة.
وفي الواقع حين جاء ديكارت يقيم في مدفأته أوائل شتاء 1619 لم يكن قد شغل سنيه الماضية بالسفر ومخالطة الناس ليس غير، بل كان قد سلخ سنتين في العمل والكشف؛ لم يكن قد صرف وقته سدى في هولندا، وإذا كان لم يتعلم شيئا يذكر من فن الحرب فيما يلوح، فإنه كان قد اكتشف منهجا حسابيا ممهدا لحساب التكامل وطبقه على مسائل العلم الطبيعي، فسماه صديقه بكمان منذ ذلك الحين ب «الطبيعي الرياضي الكامل»، وكون منهجا للتحليل هندسيا بحتا في بادئ الأمر، من قبيل تحليل العالم «فرما»، فلما استحثه بكمان على ترك الرياضيات التطبيقية وتوجيه قواه العقلية نحو الرياضيات البحتة بدا له أن يعمم مناهج الهندسة، وأن يطبق مناهج التحليل على علم الجبر، ومن هذه الفكرة سيستخرج فيما بعد الهندسة الجبرية أو الهندسة التحليلية كما تسمى اليوم، أجل إنا ما نزال بإزاء محاولات لن تنتهي إلى غايتها إلا بعد أن يصلح ديكارت علم الجبر بأكمله بتركيبه ورموزه، وكان ديكارت في مدفأته ما يزال بعيدا من الغاية، ولكنه اكتشف حينذاك من غير شك الفكرتين الأساسيتين اللتين ستسيطران على علمه وفلسفته، وهما فكرة وحدة الرياضيات، وفكرة وحدة العلوم، وهذه أعمق وأهم من تلك.
لن أتتبع هنا خطوة فخطوة تاريخ نمو فكر ديكارت، بل سأحذو حذوه فأعرض عليكم هذا التاريخ كما يبدو في عهد «المقال». إن وحدة الرياضيات لازمة من أن نفس المناهج، وهي المناهج الجبرية، تطبق في الهندسة والحساب؛ أي تطبق على العدد والمقدار على السواء، ونعني بقولنا «نفس المناهج» نفس خطوات الفكر، وهذا يبين لنا أن المهم ليس الموضوعات - أعدادا كانت أو خطوطا - بل خطوات الفكر وأفعاله في ربط الموضوعات وكشف العلاقات ومقارنتها وقياسها بعضها ببعض ونظمها في سلاسل، فيحصل على نظام خصب حي يعارض النظام الجامد المكون من الأنواع والأجناس في المنطق المدرسي، يحصل على نظام هو نظام الإيجاد لا نظام التصنيف. كل حد من حدوده يتبع الحد السابق ويعين الحد اللاحق، ولكن إذا كان الأمر كذلك، إذا كان النظام والعلاقة هما اللذين يكونان ماهية الرياضيات كما أسلفنا، فمن المستطاع التعبير عن كل علاقة عددية بعلاقة مكانية، وإحالة الأعداد خطوطا والخطوط أعدادا، واستخلاص علم أعم، هو علم العلاقات والنظام، وهو علم عقلي بحت بين للعقل، من حيث إن العقل لا ينظر فيه لغير أفعاله الخاصة وأسبابه الخاصة.
هذه هي الرياضيات الحقة التي سيستبدلها ديكارت بتحليل القدماء وجبر المحدثين، وسيستطيع العقل بذلك أن «يمد الأسباب البسيطة السهلة في سلاسل طويلة» دون أن يقف عند حد، سواء أكانت هذه الأسباب معادلات أو علاقات، وأن يربط بينها ويركبها بعضها مع بعض ويصوغها في نظام «طبيعي كامل» من العلاقات؛ أعني من الموضوعات المتدرجة في التعقيد والثراء.
وإذا كان الأمر كذلك، إذا كان كمال الرياضيات وخصبها آتيين من أن العقل يوجد فيها علاقات ويركب هذه العلاقات بعضها مع بعض، ويوجد نظاما بين عناصرها، وهي الأعداد والخطوط على السواء، أفليس من البين - والأمر بين عند ديكارت - أن هذا هو نموذج كل علم إنساني وماهيته، وأن العلم الإنساني واحد كما أن العقل واحد، من حيث إن العلم ما هو إلا العقل الإنساني ناظرا في مختلف الموضوعات.
وإذا كان المعول على العقل لا على الموضوعات فيصبح من المضحك تقسيم العلوم بحسب موضوعاتها، وإذا فلأجل إقامة العلم يجب ويكفي أن نضع أو نكشف نظاما وعلاقات معقولة واضحة بين أبسط معاني العقل، وأن نتدرج منها بنظام إلى الأشياء الأكثر تعقيدا «فإن الأشياء التي تقع في معرفة الناس تتعاقب على نحو واحد، فإذا امتنعنا من التصديق بشيء إلا أن يكون حقا، وإذا حافظنا على النظام اللازم لاستنباط الأشياء بعضها من بعض فما من شيء إلا بلغنا إليه مهما يكن بعيدا، وما من شيء إلا كشفناه مهما يكن خفيا» فبالابتداء بأفكار العقل دون إدراك الحواس، وباتباع نظام التركيب الخاص بالعقل وبأفكاره نهتدي إلى النظام الحقيقي في العلوم؛ ذلك النظام الذي هو الآن خفي محجوب.
وأغلب الظن أن توقع ديكارت هذه النتائج المدهشة سبب تدوينه في مذكراته أنه في العاشر من نوفمبر سنة 1619 غمره «حماس عظيم، وبدأ أن يفهم أسس العلم العجيب» ذلك العلم الكلي، تلك الرياضة الكلية للعلم التي عرضتها الآن، على أنا نسأل: ماذا كانت تلك الأسس؟
أعتقد أنا أن ديكارت يجيب عن هذا السؤال في موضع آخر من مذكراته، فإنه يقول: «إن فينا بذور العلوم»، ومعنى ذلك أن العقل ليس فارغا، ليس «لوحا مصقولا» معدا لأن يقبل كل شيء من خارج عن طريق الحواس والمخيلة كما يعتقد أرسطو والمدرسيون، بل بالعكس إن فينا ما يكفي لإقامة العلم، ونحن نحمل في أنفسنا مبادئ العلم، فإذا ما رجع العقل إلى نفسه استطاع وهو واثق بنفسه أن يستنبط دون أن يخرج من ذاته تلك السلاسل الطويلة للأسباب التي يحدثنا عنها «المقال».
بذور العلوم فهي فينا؛ ذلك هو السبب في أن مشروع ديكارت ليس وهميا، وذلك هو السبب في أنه يمكن - بل يجب - أن نحاول تخليص عقلنا من كل ما طرأ عليه من الخارج من كل ما اكتسبه أثناء الحياة. «بذور العلم» هذه أو كما سيسميها ديكارت فيما بعد حين يهتدي إلى ما كان لأفلاطون من تصور عميق، دون أن يعلم أنه لأفلاطون، «المعاني الفطرية» و«الحقائق الدائمة» و«الطبائع الحقة الثابتة»؛ أي ماهيات معقولة بحتة ومستقلة تمام الاستقلال عن اكتساب الإدراك الحسي، معاني يكشفها الشك في النفس، ذلك الشك المنهجي الإرادي المطلق الذي راض ديكارت نفسه عليه، تلك هي الأسس الوطيدة التي لم يهتد إليها مونتاني، والتي يستطيع الإنسان أن يقيم عليها حكمه.
وأراد ديكارت وقد ملأه الفرح أن يعلن للعالم دون ضياع وقت بشرى استعادة اليقين، فهو يقول في رسالته إلى بكمان:
أرجو أن أنجز كتابي حوالي عيد الفصح، وحينئذ أبحث عن الناشر.
لم يظهر هذه الكتاب قط، هل حرر؟ هل ذهب ديكارت إلى أبعد من العنوان «بحث في العقل الجيد»؟ إني أشك في ذلك شكا قويا، فإن ديكارت على ما يقول باييه - أول مترجم له: لم يلبث أن أدرك أن هدم «جميع» الأفكار التي قبلتها النفس ليس بالأمر الهين، وأن أهون منه بكثير إحراق بيت، بل تخريب مدينة، أما تجديد البناء ... أجل إن «المقال» يصرح بأنه ميسور، ما علينا إلا أن نبدأ بأبسط الأفكار، ولكن ما هذه الأفكار التي هي أبسط الأفكار وأوضحها وأسهلها، هذه الطبائع الحقة الثابتة، هذه المعاني الفطرية كما سماها فيما بعد، هذه العناصر المطلقة لعالم الفكر؟ المسألة بعيدة من أن تكون بسيطة، بل إنها أعسر المسائل، وسيعترف ديكارت بذلك فيقول: من المحقق أن أفكارنا الواضحة حقة جميعا، غير أنه من الصعب جدا أن نعين هذه الأفكار بالضبط.
على أن إخفاق هذه المحاولة الأولى لا يوقف ديكارت، فهو يقول لنفسه ولنا: إني ما أزال شابا والمستقبل كفيل بالنجاح، ثم يجعل من الضرورة فضيلة ويستأنف السفر، وتطول أسفار ديكارت ست سنين، ست سنين نكاد لا نعلم عنها شيئا، في سنة 1622 نلقاه بفرنسا، وفي سنة 1624 في البندقية، فروما، وفي سنة 1626 يعود إلى باريس.
ماذا صنع أثناء هذه السنين الست؟ نحن نجهل ذلك، إنه من غير شك ثابر على الدرس، وعلى ملاحظة العادات والأخلاق، وعلى التفكير النافع أينما حل، ومن غير شك تابع مهمته الكبرى، مهمة تنظيف عقله والبحث عن تلك الأمور البسيطة السهلة التي يجب البدء بها، لقي بباريس الجو المعهود، بل كان الجو قد ساء، أصبح الرجل المثقف شاكا صراحة، لا يحفل بشيء، ويسخر من كل شيء، أصبح زنديقا، بل إن مرسين يزعمه ملحدا، ويعد خمسين ألف ملحد بباريس. الخطر عظيم! لذلك حشد الدين قواته جميعا للنضال، وانهالت على الملحد المسكين كتب ضخمة بأقلام جاراس ومرسين وسيلون وغيرهم.
لم يساهم ديكارت في هذا النضال بادئ الأمر، الحق أنه مشغول جدا فإنه اهتدى أخيرا إلى الأمور البسيطة التي يجب البدء بها، وهي بالذات الأفكار التي كان يعتبرها الفلاسفة أصعب الأفكار، الحركة والامتداد والمدة، وبالأخص اللامتناهي، وهو شارع في وضع أسس العلم الجديد، العلم الذي يبدأ بالفكرة لا بالموضوع ويتبع نظام الأسباب لا نظام المواد، إنه يدون منطقه «قواعد تدبير العقل»، يعارض فيه عقم القياس الصحيح صوريا بثراء الحدس العقلي للحقيقة وخصبه، وهو إلى ذلك مختلف مع أنصار الدين.
إنه مؤمن من غير شك، بل إنه متدين تدينا عميقا، وإن كان ذلك على طريقته هو، ولكن من يدري لعلها خير الطرق؟ أجل لم تكن ديانته ديانة بسكال، ولكنها لم تكن دونها صدقا ولا عمقا، إنه ينكر الإلحاد، وهو لا يحب الشكاك «الذين يشكون لأجل الشك»، وهو إلى جانب الأسرار المقدسة التي جاء بها الوحي يؤمن بحقيقة دينية في متناول العقل البشري، يؤمن بوجود الله، ووجود النفس، ويؤمن بإمكان البرهان على هذه الحقيقة الدينية ووجوبه.
وسينهض ذات يوم بهذا البرهان بتشجيع بيريل، وجيبيف، وبتأثير القديس أوغسطينوس.
كيف يستطيع أن ينقم من الشكاك والزنادقة عدم اقتناعهم ب «البراهين» والحجج المنصبة عليهم؟ ليس لهذه البراهين من قيمة، وإنه ليعلم ذلك، وإنه الوحيد الذي يعلم ذلك حق العلم، أما أنصار الدين فلا يعلمون، ومن ثمة فلا قيمة لما يصنعونه.
ماذا يصنعون؟ ماذا يصنع مرسين مثلا؟ الأمر في غاية البساطة؛ إنهم يجمعون كل ما اخترعه الناس من أدلة، ويبرهنون على وجود الله بجميع الوسائل: بالمنطق والعلم الطبيعي والميتافيزيقا، يسردون جميع التقاليد وجميع الحوادث «العجيبة» التي تدل على وجود فائق للطبيعة، ولا يعرضون لهذه الحوادث والتقاليد بأقل نقد، هم ليسوا مؤمنين فقط، هم أكثر من ذلك، هم سذج، وديكارت يعلم أن أول واجبات العقل أن يخضع كل هاته الحوادث والتقاليد للنقد والقياس والحكم، وأنه إذا فعل لم يجد فيها سوى حديث خرافة؛ إذ إن العقل لا يستطيع أن يقبل ما هو معارض له.
أما الأدلة المنطقية والطبيعية والميتافيزيقية فليست تساوي شيئا هي الأخرى، إنها كلها أو أكثرها ساقطة؛ لأنها كلها أو أكثرها قائمة على المنطق القديم والعلم الطبيعي القديم والتصور القديم للكون، وقد هدم ديكارت هذا كله.
فهو بكتابه «قواعد تدبير العقل» يعارض المنطق القياسي القديم الذي وضعه أرسطو - منطق المتناهي - بمنطق جديد حدسي قائم على تقدم اللامتناهي في حكم العقل، وهو يستبدل بالعلم الطبيعي القديم الذي يبدأ بالإدراك الحسي للعالم الملون الصائت الذي نعيش فيه علما طبيعيا قوامه الأفكار الواضحة، علما طبيعيا رياضيا يستبعد من العالم الواقعي كل كيفية ويقدم لنا صورة أو فكرة من العالم أغرب وأبعد عن التصديق من كل مخترعات الفلاسفة، إلا أنها مع ذلك صحيحة.
أما الكون، ذلك الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى فقد كان العلم الحديث هزه بأيدي كوبرنك وغليليو وكبلر، فجاء ديكارت يهدمه هدما.
لست أدري أيقدر كل الناس ما لهذا الاكتشاف، أو بتعبير أدق، ما لهذه الاكتشافات، فإنها تكون كتلة واحدة وتؤلف جميعا ما سمي ب «الثورة الديكارتية» من مغزى عند الإنسان في عصر ديكارت وعند الإنسان بالإجمال.
الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى عالم منظم محدود، منظم من حيث المكان ومن حيث القيمة ومن حيث الكمال، عالم مرتب ترتيبا محكما تتقابل فيه درجات الوجود ودرجات القيم، هو سلم يصعد من المادة إلى الله.
هذا الكون جميل جدا يروع نفس اليوناني، وينطق صاحب الزبور بقوله: إن السماء والأرض تسبحان الله، وتمجدان صنع يديه، الحكمة الإلهية تتلألأ في هذا الكون حيث كل شيء موضوع في مكانه، وحيث كل شيء مرتب على أحسن وجه.
العلم يكشف عن هذا النظام الكامل والترتيب الكامل، فإن لكل شيء مكانه في هذا الكون، وإن في كل شيء ميلا لبلوغ مكانه والاستقرار فيه، وإنما يعنى العلم الطبيعي باستكشاف هذه الميول الطبيعية.
وفوق ذلك فإن هذا الكون، والأرض مركزه، مشيد كله لأجل الإنسان، لأجل الإنسان تشرق الشمس وتدور السيارات والسماوات، والله الغاية القصوى والمحرك الأول، وقمة هذا السلم المرتب، هو الذي ينفخ في الكون الحياة ويبعث الحركة.
والإنسان في مثل هذا الكون المصنع لأجله، أو على الأقل المصنوع على قدره موجود في بيئته.
هو يعجب بهذا الكون المملوء عقلا وجمالا، بل قد يعبده، ولكن العلم الطبيعي الذي أنشأه ديكارت يهدم هذا العلم الجميل هدما تاما.
ماذا يضع مكانه؟ الحق أنه لا يضع شيئا يذكر، لا يضع غير الامتداد والحركة، امتداد لا متناه ذهب منه النظام والترتيب والجمال، ملؤه لا شيء، فيه حركات بغير علة ولا غاية ولا نهاية، انتفت منه «الأمكنة الخاصة» للأشياء، وتساوت فيه الأمكنة جميعا والأشياء جميعا، فما الأشياء إلا مادة وحركة، ولم تعد الأرض مركزا للكون، بل لم يعد هناك مركز، ولم يعد هناك كون، وليس العالم مرتبا للإنسان، بل ليس مرتبا بالمرة، ولم يعد على قدر الإنسان، بل صار على قدر العقل.
هذا هو العالم الواقعي لا العالم الذي تظهرنا عليه حواسنا الخداعة، وإنما هو العالم الذي يجده العقل في ذاته، العقل الخالص الصافي المعصوم من الخطأ.
أنا هنا بإزاء انتصار حاسم فاز به العقل، ولكنه فجيعة إذ لم يعد في هذا العالم اللامتناهي الذي شيده العلم الديكارتي، مكان للإنسان ولا لله.
لذلك لا نبحث عن الله في العالم، في هذا السكوت الدائم للفضاء اللامتناهي، بل في النفس.
الدرس الثالث
في هذا الدرس الثالث والأخير سأتحدث إليكم في الميتافيزيقا عند ديكارت وفي مهمته، وسأضطر لمعالجة بعض المسائل التي مررت بها مرا سريعا.
أبطأ ديكارت في العناية بالميتافيزيقا، فهو يقول: «وانقضت تسع سنين قبل أن أتخذ لي موقفا من المسائل العسيرة التي يخوض فيها أهل العلم وأن أحاول تأسيس فلسفة أوكد من الفلسفة الشائعة.»
إن فكر ديكارت يتمشى على النظام الموروث بعد المنطق العلم الطبيعي، وبعد العلم الطبيعي الميتافيزيقا، وهذه ترضي حاجتين عنده: «الحاجة لليقين الديني والحاجة لليقين العلمي.»
أما الحاجة لليقين الديني فقد أجملت لكم في نهاية الدرس السابق الصورة الموئسة للعالم الديكارتي، عالم آلي بحت، مركب من امتداد وحركة فحسب، ليس فيه مكان للإنسان ولا لله.
وديكارت رجل متدين تدينا عميقا مخلصا، أجل إنه متدين على طريقته الخاصة، ولكن من يدري؟ لعله خير الطرق؟ إن لدينا منه نصوصا غاية في الغرابة. هاكم مثلا نصا من مذكراته يرجع إلى عهد الشباب إلى عهد المدفأة:
ثلاث عجائب أبدعها الله: الخلق من عدم، والإنسان الإله (المسيح)، والحرية.
وقد نستطيع أن نعلق طويلا على هذا النص، على الاختيار الغريب لما أبدع الله من أمور عجيبة، قد نستطيع أن نلاحظ أن هذه العجائب الثلاث أي الأمور الثلاثة المعارضة للعقل، أو بتعبير أدق الفائقة للعقل تشترك في شيء هو تلاقي اللامتناهي والمتناهي، فالخلق يعبر المسافة اللامتناهية الفاصلة بين العدم والوجود، والتجسد يجمع بين اللانهاية الإلهية والنهاية الإنسانية، وأخيرا الحرية؛ فهي نوع من تحقيق اللامتناهي في المتناهي.
وهاكم نصا يرجع إلى عهد الكهولة، كتب ديكارت في 15 سبتمبر سنة 1645 إلى الأميرة إليصابات تلميذته - ولعلها موضوع الحب الأكبر في حياته - قال:
من بين الأفكار الفطرية، الفكرة الأولى والأهم أن هناك إلها جميع الأشياء متعلقة به، كمالاته لا متناهية، وقدرته عظيمة، وأوامره لا تخطئ.
لنلاحظ جيدا أن فكرة الله فطرية حاصلة للإنسان بالطبع وأنها ميزة له غير منفكة عنه، فإنا قد نستطيع أن نجد الإنسان في رأي ديكارت؛ إنه الموجود الحاصل على فكرة الله.
وهاكم نصا أقدم من السابق بخمس عشرة سنة، كتبه إلى مرسين في 15 أبريل 1630:
إني أرى أن الذين منحهم الله العقل ملزمون باستخدامه خاصة في محاولة معرفة الله ومعرفة أنفسهم بهذا حاولت أن أبدأ دراساتي.
هذا كلام يشبه تمام الشبه كلام القديس أوغسطينوس: «أتوق إلى معرفة الله والنفس.» ولكن ديكارت ليس مؤمنا بسيطا، إنه مؤمن فيلسوف، هو لا يكتفي بالإيمان بالله، هو يرى مع جميع أهل عصره أن من الممكن والواجب البرهنة على وجود الله، والعلم الطبيعي الذي أنشأه قد هدم الأساس الذي تقوم عليه الأدلة الموروثة، أعني به تصور العالم كلا مرتبا، وقد هدم منطقه هذه الأدلة في صيغتها المنطقية؛ إذ إنها قائمة على امتناع سلسلة لا متناهية بالفعل، فيجب البحث عن أدلة جديدة أو الرجوع إلى بعض الأدلة القديمة «بعد الملاءمة بينها وبين العقل».
إلى هذا الغرض سيوجه ديكارت جهده، يحثه على ذلك فيما يقول أن بعضهم كان قد أذاع أنه انتهى إلى غايته فأثبت وجود الله، ولكنه يضيف قائلا بتواضع: «ولست أدري علام بنوا هذا الزعم؟ فإن كنت عاونت عليه بأقوالي، فذلك بإقراري بالجهل، في سذاجة لم يألف مثلها الذين أخذوا من العلم بنصيب أو بإعلاني ما لدي من أسباب الشك في أشياء كثيرة يراها الآخرون محققة لا بادعائي مذهبا ما.»
وفي استطاعتنا أن نحدد المعلومات التي يقدمها لنا «المقال»، إن الثناء الذي كان يذاع حول ديكارت لم يكن خلوا من كل أساس، أجل إنه لم يكن قد وضع مذهبه الميتافيزيقي بعد، ولكنه كان قد شرع منذ مدة في رسم برنامجه، كان مذهبه أكثر حرية وأقل استخداما للاستدلال من المذهب المدرسي، يعني خاصة بتعقل المبادئ، ويبحث عن الله في النفس كما كان قد فعل القديس أوغسطينوس، ويجتهد في استغلال كشفه الكبير، وأعني به تقدم اللامتناهي عند العقل، سيشرع في العمل لا ليصدق حسن ظن أصدقائه به فحسب، بل إن أصدقاءه يوجبون عليه ذلك في اجتماع عند سفير البابا الكردنيال دي بانبي، حيث ألقى ديكارت محاضرة فحتم عليه بيريل - مؤسس الجمعية الكهنوتية المعروفة «بأوراثوار» - أن ينتظم تحت لواء الله.
ماذا كان موضوع المحاضرة؟ إن بابييه أول مترجم لديكارت وراوي الخبر لا يذكر الموضوع، ولكنا نستطيع أن نفرض دون أن نستهدف كثيرا للخطأ أن ديكارت عرض على مستمعيه بطلان الأسلوب المألوف في الدفاع عن الدين، وقال لهم: إن التحالف مع أرسطو كان نكبة، وإنه يتعين الرجوع القهقرى والصعود فيما وراء القديس توما الأكويني والفلسفة المدرسية إلى القديس أوغسطينوس.
وديكارت متفق في ذلك مع أهل عصره فقد كان العود إلى القديس أوغسطينوس حديث القوم، وكانت حركة أوغسطينية كاثوليكية قوية آخذة في التكون بعد الحركة الأوغسطينية التي تمت على أيدي لوثيروس وكالفينوس.
وقد لحظ الأوغسطينيون دائما ما بين فكر ديكارت وفكر القديس أوغسطينوس من قرابة، ومنذ عهد ديكارت - فلنذكر أرنو ومالبرانشي - إلى أيامنا، ولحظوا كذلك ما بينهما من تعارض.
فإن من الخطأ اعتبار ديكارت مجرد تلميذ للقديس أوغسطينوس والناطق بلسان بيريل.
والواقع أن لعبارة القديس أوغسطينوس التي ذكرتها لكم: «أتوق إلى معرفة الله والنفس» بقية هي هذه «ولا شيء خلا ذلك، لا شيء مطلقا»، ولكتاب ديكارت إلى مرسين الذي قرأت لكم بدايته بقية هي هذه: «وأقول لك إني لم أكن لأجد أسس العلم الطبيعي لو لم أبحث عنها بهذا الطريق.» أي بمعرفة الله والنفس.
يكفي القديس أوغسطينوس أن يعرف الله ونفسه، ولكن لا يكفي ديكارت أصلا؛ هو بحاجة إلى علم طبيعي، وهو إنما ينشئ ميتافيزيقا ويتجه نحو الله ليستطيع أن ينشئ علما طبيعيا.
وهذا يعود بنا إلى ما ذكرته لكم من حاجة ديكارت الأخرى، حاجة اليقين العلمي، حاجة تسويغ أسس العلم الجديد تسويغا ميتافيزيقيا، وقد يبدو هذا غريبا لأول وهلة.
أليس العلم، العلم الحديث على الأقل، معارضا للميتافيزيقا؟ أليس هو معتزا بسلطانه، أوليس ديكارت أحد مبدعيه؟ وديكارت يعلمنا عكس ذلك تماما، إنه يقول لنا: إن العلم بحاجة إلى ميتافيزيقا، بل يقول لنا ما هو أخطر من ذلك، يقول: إن العلم يجب أن يبدأ بالميتافيزيقا.
إن هذا أخطر؛ لأن ديكارت يقلب به «نظام العلوم» وكان قد أعلن أنه لا يريد أن يمسه، ولم يكن أحد قد نهج هذا المنهج منذ عهد أرسطو، بل كان الكل يبدأ بالعلم الطبيعي ليتأدى منه إلى ما بعد الطبيعة، إلى الميتافيزيقا.
ما هو السبب في هذه الثورة الديكارتية الجديدة؟ أهي الرغبة في التجديد؟ أم ديكارت يرى من الضروري أن يسير على نظام الأسباب دون نظام المواد، وأن يعلم أن «العلوم جميعا تستمد مبادئها من الفلسفة»؟ هذا هو السبب من غير شك؛ فإن ديكارت، أو الفكر عند ديكارت، والأمر واحد، يجب أن يكون تركيبيا لا تحليليا. الفكر الديكارتي يذهب من الأفكار إلى الأشياء، لا من الأشياء إلى الأفكار، ويذهب من البسيط إلى المركب، ويتقدم من وحدة المبادئ إلى كثرة الأنواع، فيتقدم من المجرد إلى المشخص، ويسير من النظر إلى العمل، لا كفكر أرسطو والمدرسيين الذي يذهب من عالم متنوع واقعي ليرتقي منه إلى وحدة المبادئ والعلل التي هي أساسه، فإن الواقع عند الفكر الديكارتي هو الموضوع البسيط للحدس العقلي لا موضوعات الإحساس المركبة.
ولكن هناك فوق ذلك سببا أدق يلوح لي أنه لم يفقد كل قيمة، ذلك أن ديكارت إنما قام بثورته العلمية فنفى من الوجود الكيفيات والصور والنفوس النباتية والقوى الحيوية، وأثبت السيطرة الكلية للآلية في العالم الطبيعي بأن استبعد من العلم كما تذكرون كل فكرة غير «واضحة»، ومعنى هذا عنده كل فكرة «مجردة» من المحسوس، كل فكرة تحمل أثر المحسوس، ما من شيء واضح؛ أي ما من شيء يمكن عرضه بتمامه على العقل، إلا ما يتصوره العقل دون مشاركة المخيلة والحس أصلا، وهذا يعني عمليا: ما من شيء واضح إلا ما هو رياضي، أو على الأقل ما يمكن وضعه وضعا رياضيا.
1
ولكن أي حق لنا في الخروج من الفكرة إلى الشيء كما يتطلب المنطق الديكارتي؟ هل وضوح الفكرة يخولنا هذا الحق؟ قد لا يكون للوضوح إلا قيمة ذاتية، وقد لا تكون للفكرة الواضحة، الواضحة بالإضافة إلينا، إلا علاقة بعيدة جدا بالوجود كما هو في ذاته، بل قد لا تكون لها به علاقة أصلا، وخاصة إذا كان العقل يجدها في نفسه كما يؤكد لنا ديكارت، فإن وضوح الفكرة شيء ووجود موضوعها شيء آخر، قد نستطيع أن نتصور أفكارا وأفكارا واضحة عن أشياء هي مع ذلك غير موجودة بل ممتنعة الوجود، فمثلا - بصرف النظر عن موضوعات الهندسة كالمثلثات والدوائر والخطوط - أليس لدينا فكرة واضحة جدا عن الحركة في خط مستقيم؟ فهل يلزم من ذلك وجود مثل هذه الحركة في العالم الواقعي؟
وضوح الفكرة مزية لها عند عقلنا، ولكن كيف السبيل إلى التحقق من أن الوجود الواقعي يطابق مقتضياتها؟ وما القول إذا اتفق أن كان الوجود الواقعي غامضا معارضا للعقل ممتنع التصور؟
يستند ديكارت إلى ما للأفكار الواضحة من امتياز؛ فيستبعد من العالم الواقعي - من العالم كما هو موجود في ذاته مستقلا عنا وعن عقلنا - كل كيفية محسوسة وكل قوة وكل صورة، وبالإجمال كل ما ليس آليا، ويرد العالم إلى الامتداد والحركة ليس غير، فهل يملك الحق في ذلك؟ ليس هذا السؤال فضولا، ولم يفقد قيمته، وإنما يثير مسألة قيمة المذهب الرياضي، وهي مسألة هامة في الوقت الحاضر.
فلنفكر في الأمر: يعلمنا ديكارت أنه لأجل معرفة الوجود - الوجود الطبيعي كما هو في ذاته وخارجا عنا - يجب علينا بادئ ذي بدء أن نرفض كل ما يأتينا أو يبدو لنا آتيا من خارج؛ أي عن طريق الإدراك الحسي، والذي لا يمكن إلا أن يوقعنا في الخطأ، وأن نمحو عالمنا المألوف - فإن الذوق العام هو العدو - وننفي من الوجود كل ما يلوح لنا عادة أنه جزء منه: اللون والحرارة، بل الصلابة والثقل.
لأجل معرفة الوجود يجب أن نبدأ بأن نغمض أعيننا ونسد آذاننا ونعدل عن اللمس؛ يجب أن نتخذ طريقا معارضا فنتجه نحو أنفسنا ونبحث في عقلنا عن أفكار واضحة له، فإن هذه هي اللغة التي تفهمها الطبيعة، وبهذه اللغة - لغة الرياضيات - تجيب الطبيعة عن الأسئلة التي قد يلقيها عليها العلم في تجاربه، أليس هذا شيئا غريبا؟ بل من أبعد الأشياء عن التصديق وأمعنها في الإغراب؟
لا عجب أن أحدا من العقلاء لم يستطع قط تسليمه، وبالأخص أرسطو، كان يلزم لتسليمه رجل مثل ديكارت أو مثل أفلاطون.
أجل لم يشك أحد قط - جادا - في قيمة الرياضيات وحقيقتها الذاتية، بل إن كل الناس، وأرسطو في مقدمتهم، سلموا بما لها من دقة ويقين. على أن هذه الدقة وهذا اليقين هل يتضمنان أن قوانين الهندسة هي أيضا قوانين العالم الطبيعي، وأنه يتعين في دراسة الطبيعة البدء بدراسة الهندسة؟
كلا، بل إن أرسطو يقول لنا إن الأمر على خلاف ذلك، إن دقة الهندسة وضبطها يفسران بأنها لا تعنى إلا بالمجردات، بالموجودات الذهنية، ليست الدوائر والخطوط المستقيمة موجودات طبيعية، وما الفضاء الأوقليدي ذلك الفضاء اللامتناهي سوى فضاء غير واقعي، لا يوجد إلا في ذهننا.
والواقع ليست الهندسة عند أرسطو والمدرسيين إلا علما مجردا، مجردا من الوجود الواقعي الذي إن أعوزته الدقة والضبط إلا أنه غني مليء بجميع الكيفيات التي يدركها فيه الحس؛ لذلك لن تستطيع الهندسة تفسير الوجود الواقعي، وليست قوانينها مسيطرة على الطبيعة، بل بالعكس أن تطبيقها فيها يتفاوت دقة، وهو أقرب إلى عدم الدقة منه إلى الدقة، وإذن فليست دراسة الهندسة تسبق دراسة العلم الطبيعي، ولكنها تلحقها.
العلم الذي من النوع الأرسطوطالي الذي يبدأ بالذوق العام ويقوم على الإدراك الحسي ليس بحاجة لأن يستند إلى ميتافيزيقا، إنه يؤدي إليها ولا يبدأ منها، أما العلم الذي من النوع الديكارتي الذي يقرر قيمة حقيقية للمذهب الرياضي ويشيد علما طبيعيا هندسيا فلا يستغني عن الميتافيزيقا، ولا يسعه أن يبدأ إلا بها، لقد كان ديكارت يعلم ذلك، وكان أفلاطون وهو أول من وضع علما من هذا النوع يعلمه أيضا.
لقد نسينا ذلك، وعلمنا يتقدم دون أن يعنى كبير عناية بأسسه الخاصة، هو يكتفي بالنجاح إلى أن تنتابه أزمة - أزمة مبادئ - فتكشف له أن ثمة شيئا ينقصه؛ هو أن يفهم ما هو صانع.
وديكارت فيلسوف يهمه قبل كل شيء أن يفهم ما هو صانع، فهو سيحاول إذن أن «يؤسس» علمه الطبيعي ومنطقه و«منهجه»، ولكي يحقق هذا الغرض ولكي يتوفر في هدوء على مذهبه الميتافيزيقي يرحل مرة أخرى 1629 إلى هولندا.
الميتافيزيقا علم الوجود، وعلم معرفتنا بالوجود، فلأجل أن نستطيع تشييدها وتأسيس العلم الطبيعي كعلم وجودي، نحن بحاجة إلى كشف نقطة - نقطة واحدة على الأقل - يدرك فيها علمنا الوجود، أو بعبارة أوضح، نقطة يلتقي فيها علمنا والوجود، لأجل ذلك يجب الرجوع إلى منهج الشك نزيد، فيه تشددا وعنفا عما فعلناه في المرة الأولى.
في تلك المرة الأولى، حين حاولنا أن نراجع أفكارنا جميعا، وقفنا عند «الأفكار الواضحة الجلية» ونجت الرياضيات من نقدنا، أما الآن فسنذهب إلى أبعد من ذلك، وسيشتمل الشك حتى الرياضيات.
سننهج بغاية الدقة، فننكر كل علم نتبين فيه خطأ واحدا، بل إمكان الخطأ، وإذن فنحن ننكر الحس من حيث إنه يخدعنا أحيانا، ونستبعد بالإجمال دعواه إدراك الوجود من حيث إن الجنون «التخييل» والحلم يبطلان ما لهذه الدعوى من قيمة كلية.
ونحن ننكر الاستدلال والحدس العقلي نفسه من حيث إنا نخطئ أحيانا في الحساب وفي البراهين الهندسية، إن في وسع من يخدعنا مرة أن يخدعنا دائما، وننكر أن لدعوى الأفكار الواضحة الجلية قيمة وجودية من حيث إن هذه المسألة هي بالذات موضوع البحث.
ونحن نخترع أسبابا للشك - نخترع سببا يكاد يكون مانويا فنفرض أن روحا خبيثا قديرا يخدعنا دائما وفي كل موضوع، ولنلاحظ جيدا أننا إنما نقبل هذا الفرض القاسي ونقرر الشك مريدين أحرارا.
قد سبق لي القول - ولا يخلو تكراره من فائدة: إن الفلسفة الديكارتية تبدأ بفعل حر، الإنسان حر؛ فهو يستطيع أن يقول: «لا»، للميل الطبيعي الذي يدفعه لتصديق ما يرى ويسمع، وأن يمتنع عن اتباع ما للمحسوس من أثر قوي، وأن يتخلص من سلطان جسمه وعاداته، وبالجملة من سلطان طبيعته.
لا تبرهن فلسفة ديكارت على حرية الإرادة الإنسانية، ولكنها «تفرضها» وتدلل عليها بنفس وجودها، كما كان ديوجانس يدلل على الحركة بالمشي، فلأننا أحرار، ولذلك فقط، نستطيع التحرر من الخطأ والبلوغ بحرية إلى الوضوح الأعظم للعقل وقد استعاد نفسه تماما، تلك هي الفائدة في رياضة أنفسنا على الشك المطلق.
فإنا إذا مضينا بالشك والإنكار إلى الحد الأقصى فسلمنا أننا نخطئ دائما وفي كل موضوع فنحن منتهون حتما إلى أني أنا الذي يخطئ موجود لكي أستطيع أن أخطئ، وإذا سلمنا من جهة أخرى بأن جميع أفكاري كاذبة فمن المحقق أني حاصل على هذه الأفكار.
فاليقين بوجودي يثبت لكل مجهودات الشك، وهذا هو الذهب الخالص الذي لا تقوى الأحماض على النيل منه، إن الحكم بأني موجود حكم صادق كلما نطقت به، وكذلك كلما ألفت حكما وكلما شككت أو أخطأت كان وجودي متضمنا ومطويا في جميع أحكامي وأفكاري وأفعالي؛ أي حالاتي النفسية، إن الفكر يتضمن الوجود، وإن «أنا موجود» لازم مباشرة من «أنا أفكر» وديكارت يقول لنا: «أنا أفكر إذن فأنا موجود.»
وإذن أنا أفكر وأنا موجود، ولكن ما أنا؟ أنا موجود يفكر ويشك وينفي، وهذا يكفي ديكارت لأن الموجود الذي يفكر ويشك فهو موجود ناقص متناه، وهو فوق ذلك يعلم أنه ناقص متناه.
كيف يستطيع أن يعلمه؟ كيف يستطيع أن يدرك - وأن يدرك بوضوح - تناهيه ونقصه إن لم يكن حاصلا في ذاته على فكرة موجود كامل غير متناه؟ كيف يستطيع أن يفهم نفسه إن لم يكن حاصلا في ذات الوقت على فكرة الله؟
والواقع أن المنطق الديكارتي يعلمنا أن فكرة المحصلة والأولى، الفكرة التي يتصورها العقل بذاتها، ليست كما يعتقد العامة ويعتقد المدرسيون، فكرة المتناهي، بل بالضد، هي فكرة اللامتناهي، وليس يكون العقل فكرة اللانهاية بنفي تناهي المتناهي، بل بالضد إنما يتصور العقل فكرة المتناهي باستخدام النفي لوضع حد لفكرة اللانهاية.
إن العامة تنخدع باللغة التي تخلع اسما معدولا على فكرة محصلة (وبالعكس)، ولكن اللغة خادعة، وهي إنما تخاطب الذوق العام، كما أن الذوق العام هو الذي يضعها، فعند الذوق العام وعند المخيلة اللامتناهي ممتنع الإدراك من غير شك، عند العامة المتناهي أول، أما اللامتناهي فلا تبلغ إليه، وهذا هو خطأ المنطق القديم، ذلك الخطأ الذي يفسد كل الفلسفة القديمة: أي الجهل بالفكر المحرر من قيود التخيل، وبالإجمال الجهل بالفكر الحقيقي، فعند هذا الفكر، عند العقل الديكارتي، النسبة معكوسة: هو يتصور الكامل قبل الناقص، واللامتناهي قبل المتناهي، والامتداد قبل الشكل، إنه يعلم أن الفكرة الواضحة عن المتناهي تتضمن وتحوي فكرة اللانهاية.
كل هذا يؤدي إلى قضية تثير العجب: هي أن عندنا فكرة واضحة عن الله، وسينكر العامي ذلك من غير شك، وله بعض العذر؛ إذ إنه خلو من الأفكار الواضحة، وكل ما عنده خليط مضطرب من الصور والمعاني المجردة؛ لذلك هو خلو من فكرة واضحة عن نفسه وعاجز عن الإجابة عن سؤال: ما أنت؟
ومع ذلك فهو حاصل على فكرة الله وفكرة النفس، ولكنهما عنده غامضتان تغطيهما طبقة من الأفكار المختلطة التي تحجب ضوء العقل، تلك الطبقة التي كانت مهمة الشك المنهجي إزالتها.
الآن نحن نعلم أننا موجودون، ونعلم ما نحن، نحن موجود ناقص متناه، موجود يفكر، بل موجود كل ماهيته أنه يفكر، وموجود حاصل على فكرة واضحة عن الله.
هذا يكفي، أو على الأقل بالإضافة إلى ديكارت فهو مستطيع أن يبرهن على وجود الإله الكامل غير المتناهي.
ليس بإمكاني أن أدرس هنا أمامكم البراهين الديكارتية على وجود الله من حيث تركيبها الفني ومصادرها، لقد سبق لي هذا الدرس في كتاب يرجع إلى عهد الشباب، وهو درس طويل جدا وعلى شيء من التعقيد دون فائدة تذكر، فإن الأساس الحقيقي لهذه البراهين ومعناها العميق بسيطان جدا، كما يقول ديكارت نفسه؛ وذلك أن «الشعور بالذات يتضمن الشعور بالله.» عندنا فكرة عن الله، وهي فكرة فطرية بدونها نحن غير مفهومين، فقد قلت: إن الإنسان عند ديكارت ما هو إلا الموجود الحاصل على فكرة الله، هذه الفكرة بسيطة واضحة، بل هي أبسط وأوضح أفكارنا جميعا، هي من الوضوح والبيان بحيث تشمل وجود الله، إن الله هو الموجود الكامل اللامتناهي، فلا يمكن تصوره غير موجود، إنه موجود بفضل كماله اللامتناهي.
2
وفكرة الموجود الكامل هذه، البديعة الغنية، تفوقنا إلى حد أنه لا يمكن أن تصدر عنا نحن الضعفاء المتناهين الناقصين، ولا يمكن أن تأتينا إلا من عند الله ، وإذن فهذا يقين ثان، وهذه فكرة واضحة ثانية لا ينالها الشك، موضوعها حقيقي بلا ريب: إن الله موجود لأني موجود، أنا الحاصل على فكرة الله.
الأمر بسيط جدا كما ترون، ومع ذلك فهو عسير للغاية؛ لأنه لكي نفهم هذا البرهان البسيط يجب علينا أولا أن نطهر العقل ونجعله كفؤا لإدراك المعاني العقلية، وما لم نصنع ذلك، وما دام ضوءنا الطبيعي محجوبا بأفكار مزعومة آتية من المحسوس، ومشحونا بمعان مجردة، ومتبعا منطق المتناهي، فليس يستطيع أن يفهم نفسه، وليس لديه فكرة واضحة عن الله، فلا بد له من اجتياز الشك، والشك رياضة روحية حقيقية - رياضة طويلة عسيرة يجب تكرارها كثيرا.
الآن فقط تحررنا من الشك تماما، الله موجود: هذه حقيقة أكيدة، والله هو الذي وهبنا الوجود وعنه صدرت أفكارنا، والموجود الكامل لا يمكن أن يخدعنا، وإذن فأفكارنا الواضحة البسيطة صادقة؛ أي إنها تصلح لأن تكون أساسا لأحكام وجودية، وتسمح لنا بالتأدي من الفكرة إلى الموضوع، إن أفكارنا الواضحة البسيطة تكشف لنا الوجود كما هو، كما خلقه الله، فنحن نستطيع الآن أن نفهم هذا التوافق بين الوجود والفكرة؛ إنه آت من الله، إن الله خالق الوجود والفكرة وهو الموفق بينهما، وهو ضامن حقيقتهما وضامن كل حقيقة، فالثقة بعقلنا قائمة عند ديكارت على ثقتنا بالله، والملحد لا يستطيع أن يحصل على مثل هذه الثقة، ولا يستطيع أن يستيقن من شيء، أما نحن وقد وثقنا بالله وبعقلنا، واستندنا إلى صدق الله، فنستطيع أن نمضي إلى أبعد من ذلك، نستطيع أن نعيد تصنيف أفكارنا وتعيين ما لها من قيمة نسبية، حتى الأفكار غير الواضحة، حتى التي أتت من المحسوس فكانت غامضة بالمرة، نستطيع أن نفهم مهمتها وأن نضعها في مواضعها.
وجود الله ضامن لقيمة الأفكار الواضحة البسيطة، ضامن لفكرتي الامتداد والحركة اللتين بدأنا بهما، فأصبح العلم الطبيعي وطيدا، وكذلك الشعور بالذات. وكوني استطعت أن أفهم نفسي قبل أن أعلم شيئا من العالم الممتد يدلني على أني؛ أي على أن نفسي غير متعلقة بالعالم الممتد، لست ممتدا في ذاتي، أنا حاصل على جسم ولكني لست إياه، أنا شيء أعظم من الفضاء اللامتناهي الذي يدركه عقلي فإني حرية وروح، وليس الروح مادة، وليس بيني وبين المادة شبه ولا علاقة، وعالم الفضاء اللامتناهي لا يشعرنا بعد الآن أي خوف، بل بالعكس هو يكشف لديكارت قدرة الله غير المتناهية.
والآن ماذا يبقى من كل هذا، من المجهود الهائل الذي بذله هذا العبقري؟ يبقى كل شيء أو لا يبقى شيء كما تشاءون، لا يبقى شيء من عمل ديكارت، ويبقى كل شيء من روحه.
لا يبقى شيء يذكر من الميتافيزيقا، وقد لحقت أدلته على وجود الله أدلة أرسطو والقديس توما في عالم الأوهام، ومع ذلك فإن الاكتشاف الديكارتي الكبير - اكتشاف تقدم اللامتناهي عند العقل - باق، من الحق أن الفكر يتضمن اللامتناهي، وأن كل فكر متناه فهو لا يستطيع أن يدرك ذاته إلا بفضل فكرة لا متناهية، وأن الفكر حر ومستقل.
ولكن شيئا لم يبق من العلم الطبيعي، وقد استطاع بعضهم أن يكتب منذ عشرين سنة أن العلم لا يتبع الطريق الذي رسمه لنا ديكارت، كان هذا القول صحيحا منذ عشرين سنة، أما اليوم فهو أقل صحة بكثير، أجل إن العلم الطبيعي الحاضر كما نجده عند أمثال أينشتاين ودي برويل لا يردد بحال العلم الطبيعي الحاضر كما نجده في كتاب «مبادئ الفلسفة» لديكارت، كما أن ديكارت لم يكن ناقلا للعلم الطبيعي الذي نجده في كتاب «تيماوس» لأفلاطون، ومع ذلك فإن التاريخ يعتبر العلم الطبيعي الذي وضعه ديكارت ثأرا لأفلاطون، وكذلك العلم الطبيعي الذي وضعه أينشتاين فهو ثأر لديكارت، والواقع أن العلم الطبيعي الحاضر الذي يرد الوجود إلى الهندسة إنما يسعى إلى تحقيق ما كان لديكارت وأفلاطون من حلم قديم، بل يحققه إلى حد ما.
وإنما استطاع العلم أن يخرج من المأزق بفضل إجراء ديكارتي؛ أي بالرجوع على ذاته ونقد مبادئه وامتحانها بالشك من جديد، ليس علمنا الطبيعي علم ديكارت، ولكنه ديكارتي أكثر منه، إنه ديكارتي أكثر مما كان في أي وقت آخر .
أجل لم يستطع منهج ديكارت - منهج الأفكار الواضحة البسيطة - أن يوفر للإنسان طمأنينة اليقين التي كان ديكارت يرجو أن يمنحه إياها، ولم يستطع أن يعيد بناء الوجود كاملا، إن الوجود أغنى مما ظن ديكارت، ليس الوجود قاصرا على الامتداد والحركة، وليس منبسطا على سطح، هذا محقق؛ ولذلك كثيرا ما تؤخذ علينا نزعتنا الديكارتية، وكثيرا ما يقال لنا: إن طلبنا الوضوح والجلاء يؤدي بنا إلى الخطأ وإلى إنكار ما في الحياة من قوى مضطربة غامضة عميقة، ويقال لنا أيضا: إنا بشغفنا بالتحليل النقدي وإصرارنا على الشك في كل شيء نحرم الإنسان أعظم خيراته، نحرمه الطمأنينة واليقين.
هذا حق؛ إن منهج ديكارت منهج قلق وجهد، وإن طلب الوضوح أمر شاق، وهو أطول مما ظن ديكارت من حيث إنه لا يقف عند حد، هو يهدم التقاليد والمعتقدات الموروثة وأصنام فكرنا، ولكن هذا هو الثمن الذي نؤديه لإدراك الحق.
نعم، إن الحياة أشد تعقيدا من صيغة جبرية، ولكن هل نحن ملزمون بالإذعان لقواها العميقة الغامضة؟ أم على العكس الواجب علينا أن نفهمها وأن نفيض عليها نورا وعقلا ونرفعها إلى مستوى العقل؟
أعتقد أنا أنه ما من زمن كان أنسب لرسالة ديكارت اليوم؛ أي من عصر أنكر فيه الفكر الإنساني قيمته أنه مجرد صورة للمجتمع أو مجرد وظيفة للحياة؛ عصر عاد العالم فيه إلى القلق، فرأينا الإنسان يطلب بكل ثمن يقينا جديدا يشتريه مغتبطا بحريته وحرية عقله، عصر تجددت فيه الأساطير وقامت سلطات معصومة فوجب علينا أكثر من أي وقت مضى الطاعة لوصية ديكارت التي تحظر علينا أن نسلم إلا ما نرى بوضوح أنه حق، والأمانة لرسالة ديكارت التي إذ نعلن ما للعقل والحقيقة من قيمة عظمى تحظر علينا الإذعان لسلطان مهما يكن ما خلا العقل والحقيقة.
Unknown page