لن أتتبع هنا خطوة فخطوة تاريخ نمو فكر ديكارت، بل سأحذو حذوه فأعرض عليكم هذا التاريخ كما يبدو في عهد «المقال». إن وحدة الرياضيات لازمة من أن نفس المناهج، وهي المناهج الجبرية، تطبق في الهندسة والحساب؛ أي تطبق على العدد والمقدار على السواء، ونعني بقولنا «نفس المناهج» نفس خطوات الفكر، وهذا يبين لنا أن المهم ليس الموضوعات - أعدادا كانت أو خطوطا - بل خطوات الفكر وأفعاله في ربط الموضوعات وكشف العلاقات ومقارنتها وقياسها بعضها ببعض ونظمها في سلاسل، فيحصل على نظام خصب حي يعارض النظام الجامد المكون من الأنواع والأجناس في المنطق المدرسي، يحصل على نظام هو نظام الإيجاد لا نظام التصنيف. كل حد من حدوده يتبع الحد السابق ويعين الحد اللاحق، ولكن إذا كان الأمر كذلك، إذا كان النظام والعلاقة هما اللذين يكونان ماهية الرياضيات كما أسلفنا، فمن المستطاع التعبير عن كل علاقة عددية بعلاقة مكانية، وإحالة الأعداد خطوطا والخطوط أعدادا، واستخلاص علم أعم، هو علم العلاقات والنظام، وهو علم عقلي بحت بين للعقل، من حيث إن العقل لا ينظر فيه لغير أفعاله الخاصة وأسبابه الخاصة.
هذه هي الرياضيات الحقة التي سيستبدلها ديكارت بتحليل القدماء وجبر المحدثين، وسيستطيع العقل بذلك أن «يمد الأسباب البسيطة السهلة في سلاسل طويلة» دون أن يقف عند حد، سواء أكانت هذه الأسباب معادلات أو علاقات، وأن يربط بينها ويركبها بعضها مع بعض ويصوغها في نظام «طبيعي كامل» من العلاقات؛ أعني من الموضوعات المتدرجة في التعقيد والثراء.
وإذا كان الأمر كذلك، إذا كان كمال الرياضيات وخصبها آتيين من أن العقل يوجد فيها علاقات ويركب هذه العلاقات بعضها مع بعض، ويوجد نظاما بين عناصرها، وهي الأعداد والخطوط على السواء، أفليس من البين - والأمر بين عند ديكارت - أن هذا هو نموذج كل علم إنساني وماهيته، وأن العلم الإنساني واحد كما أن العقل واحد، من حيث إن العلم ما هو إلا العقل الإنساني ناظرا في مختلف الموضوعات.
وإذا كان المعول على العقل لا على الموضوعات فيصبح من المضحك تقسيم العلوم بحسب موضوعاتها، وإذا فلأجل إقامة العلم يجب ويكفي أن نضع أو نكشف نظاما وعلاقات معقولة واضحة بين أبسط معاني العقل، وأن نتدرج منها بنظام إلى الأشياء الأكثر تعقيدا «فإن الأشياء التي تقع في معرفة الناس تتعاقب على نحو واحد، فإذا امتنعنا من التصديق بشيء إلا أن يكون حقا، وإذا حافظنا على النظام اللازم لاستنباط الأشياء بعضها من بعض فما من شيء إلا بلغنا إليه مهما يكن بعيدا، وما من شيء إلا كشفناه مهما يكن خفيا» فبالابتداء بأفكار العقل دون إدراك الحواس، وباتباع نظام التركيب الخاص بالعقل وبأفكاره نهتدي إلى النظام الحقيقي في العلوم؛ ذلك النظام الذي هو الآن خفي محجوب.
وأغلب الظن أن توقع ديكارت هذه النتائج المدهشة سبب تدوينه في مذكراته أنه في العاشر من نوفمبر سنة 1619 غمره «حماس عظيم، وبدأ أن يفهم أسس العلم العجيب» ذلك العلم الكلي، تلك الرياضة الكلية للعلم التي عرضتها الآن، على أنا نسأل: ماذا كانت تلك الأسس؟
أعتقد أنا أن ديكارت يجيب عن هذا السؤال في موضع آخر من مذكراته، فإنه يقول: «إن فينا بذور العلوم»، ومعنى ذلك أن العقل ليس فارغا، ليس «لوحا مصقولا» معدا لأن يقبل كل شيء من خارج عن طريق الحواس والمخيلة كما يعتقد أرسطو والمدرسيون، بل بالعكس إن فينا ما يكفي لإقامة العلم، ونحن نحمل في أنفسنا مبادئ العلم، فإذا ما رجع العقل إلى نفسه استطاع وهو واثق بنفسه أن يستنبط دون أن يخرج من ذاته تلك السلاسل الطويلة للأسباب التي يحدثنا عنها «المقال».
بذور العلوم فهي فينا؛ ذلك هو السبب في أن مشروع ديكارت ليس وهميا، وذلك هو السبب في أنه يمكن - بل يجب - أن نحاول تخليص عقلنا من كل ما طرأ عليه من الخارج من كل ما اكتسبه أثناء الحياة. «بذور العلم» هذه أو كما سيسميها ديكارت فيما بعد حين يهتدي إلى ما كان لأفلاطون من تصور عميق، دون أن يعلم أنه لأفلاطون، «المعاني الفطرية» و«الحقائق الدائمة» و«الطبائع الحقة الثابتة»؛ أي ماهيات معقولة بحتة ومستقلة تمام الاستقلال عن اكتساب الإدراك الحسي، معاني يكشفها الشك في النفس، ذلك الشك المنهجي الإرادي المطلق الذي راض ديكارت نفسه عليه، تلك هي الأسس الوطيدة التي لم يهتد إليها مونتاني، والتي يستطيع الإنسان أن يقيم عليها حكمه.
وأراد ديكارت وقد ملأه الفرح أن يعلن للعالم دون ضياع وقت بشرى استعادة اليقين، فهو يقول في رسالته إلى بكمان:
أرجو أن أنجز كتابي حوالي عيد الفصح، وحينئذ أبحث عن الناشر.
لم يظهر هذه الكتاب قط، هل حرر؟ هل ذهب ديكارت إلى أبعد من العنوان «بحث في العقل الجيد»؟ إني أشك في ذلك شكا قويا، فإن ديكارت على ما يقول باييه - أول مترجم له: لم يلبث أن أدرك أن هدم «جميع» الأفكار التي قبلتها النفس ليس بالأمر الهين، وأن أهون منه بكثير إحراق بيت، بل تخريب مدينة، أما تجديد البناء ... أجل إن «المقال» يصرح بأنه ميسور، ما علينا إلا أن نبدأ بأبسط الأفكار، ولكن ما هذه الأفكار التي هي أبسط الأفكار وأوضحها وأسهلها، هذه الطبائع الحقة الثابتة، هذه المعاني الفطرية كما سماها فيما بعد، هذه العناصر المطلقة لعالم الفكر؟ المسألة بعيدة من أن تكون بسيطة، بل إنها أعسر المسائل، وسيعترف ديكارت بذلك فيقول: من المحقق أن أفكارنا الواضحة حقة جميعا، غير أنه من الصعب جدا أن نعين هذه الأفكار بالضبط.
Unknown page