375

Taysīr al-Tafsīr

تيسير التفسير

Genres

ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب

[الطلاق: 2، 3] { إن كنتم مؤمنين } إيمانا حقيقيا يستتبع الأعمال الصالحة والإخلاص، أو إن كنتم صادقين فى دعوى الإيمان والإسلام، وليس المعنى إن كنتم مؤمنين بكمال قدرة الله ونبوءتى لأن من يسأل هذا السؤال شاك فى قدرة الله جل وعلا وفى نبوءة عيسى عليه السلام، فلا يقال له إن كنت مؤمنا بذلك إلا أنه قد تقدم تفاسير فى استطاعته تنزيل المائدة لا تنافى الإيمان كما أخبر عنهم بقوله.

[5.113]

{ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها } متعلق بشاهدين محذوف، أو متعلق بنشهد محذوفا معترض، جواب لقول من يقول علام تشهدون؟ أو حال من ضمير نكون، أو متعلق بشاهدين بعده على أن أل حرف تعريف، أو على أنها موصولة، وقد قيل عن الكوفيين جواز تقديم معمول الصلة عن الموصول ولا سيما معمول مجرور بحرف أو ظرف { من الشاهدين } فإن حاصله إنا لسنا شاكين فى كمال قدرة الله عز وجل أو نبوءتك، ولا متعنتين باقتراح آية، بل نريد الأكل منها تبركا فى الإيمان والأبدان والقلوب، وتشفيا من الأمراض والأدواء، وتقويا لضعفائنا واستغناء لفقرائنا، ولا سيما أنا فى زمان القحط ونريد بالأكل منها اطمئنان قلوبنا وازدياد إيمانها لأن العيان أقوى من الاستدلال بكمال قدرته تعالى، ونريد أن نزداد علما فى دعوى الإجابة والنبوءة، إنه أى الشأن أو إنك قد صدقتنا، وقد أجاز بعض تقدير الضمير لغير الشأن من تكلم أو خطاب أو غيبة بحسب الإمكان حيث يقدرون ضمير الشأن ويقيسون على ذلك، ونريد أن نشهد لك عند الله وعند الخلق على نبوءتك بآية سماوية غير سائر معجزاتك الأرضية مرغوب فيها طبعا، والمعنى من الشاهدين لك بها عند من لم يشاهدها، أو من الشاهدين لك بالنبوءة أو من الشاهدين لله بالوحدانية.

[5.114]

{ قال عيسى ابن مريم } أظهر بعد الإضمار زيادة في تفخيم شأنه عليه السلام في إجابته إلى مرغوب فيه { اللهم ربنا } بدل أو منادى بمحذوف لا نعت، اللهم لا ينعت ولا يعطف عليه بحرف ولا ببيان؛ لأن الله لا يخفى عنه، وقيل يجوز نعته والعطف عليه نحو اللهم وخالق كل شئ { أنزل علينا مائدة من السماء } لم يقل المائدة مع عهدها تعظيما ولأن المعهود من كلامهم مطلق المائدة وإلى فى دعائه مقيدة بأنها تكون عيدا كما قال { تكون لنا عيدا } يكون يوم نزولها عيدا نعظمه كل عام على استمرار، فنزلت يوم الأحد فاتخذوه عيدا وتركوا الجمعة المأمورين هم بها، أو المخيرين فيها وفى غيرها، فحذف مضافان، أو سماها عيدا لأنها سبب كون اليوم عيدا، أو عيدا سرورا، أى نتخذ يوم نزولها يوم سرور وعبادة، وما يعود ويتكرر يسمى عيدا، ويوم العيد يعود كل سنة، أو يعود بالفرح ويقال لكل حالة تعاود الإنسان أو غيره عيد، والياء عن واو، وتكون لنا طعاما يعود إلينا مرة بعد أخرى، وإسناد العيدية إليها على هذا حقيقة { لأولنا وآخرنا } بدل من لنا أى لمتقدمينا ومتأخرينا بدل مطابق لأن المتقدمين والمتأخرين هم معنى نا من قولهم لنا، والمراد لنا، ولمن بعدنا، فإما أن يريدوا يوم نزولها وهو مستمر أويريدوا دوامها أو تجدد نزولها { وآية منك } يا رب تدل على كمال قدرتك وصحة نبوءتى { وارزقنا } المائدة وكل ما نحتاج إليه والشكر على الرزق { وأنت خير الرازقين } لأنك خالق الرزق جواد معط بلا عوض، لما رأى غرضهم صحيحا فى ذلك ورآهم لا يكفون عنه، وخاف كفرهم إن لم يفعل قام مستقبلا وصف قدميه حتى ألصق كعبا بكعب ووضع يمناه على يسراه فوق صدره وبكى حتى ابتلت لحيته، ووصل الدمع الأرض وطأطأ رأسه وغض وقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين.

[5.115]

{ قال الله إنى منزلها } مرارا كما يدل عليه التشديد { عليكم } إجابة لدعائك وسؤالهم { فمن يكفر } بى أو بك أو بصفة من صفاتى { بعد } بعد نزولها { منكم فإنى أعذبه عذابا } اسم مصدر هو التعذيب مفعول مطلق لا مفعول به، لأن عذب متعد لواحد وهو هاء أعذبه { لا أعذبه } هذه الهاء مفعول مطلق واقعة على عذاب بمعنى التعذيب، كقولك القيام قمته لا مفعول به والمفعول به هو قوله { أحدا من العالمين } الخلق كلهم لأنهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذب بذلك أحد قبلهم ولا بعدهم، وقوم داود الصائدون فى السبت مسخوا قردة خاصة مع أنهم ماضون والآية فى المستقبل، فالمراد لا أعذبه بعدهم فإنه قال لا أعذبه ولم يقل لم أعذبه، أو المراد عالمو زمانهم، وقيل: مسخ قوم داود قردة وخنازير وأصحاب المائدة خنازير فقط، وقيل المراد عذاب الآخرة، فعن ابن عمر أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون وآل فرعون، والمشهور ما ذكر من أنها نزلت، وقيل عن مجاهد والحسن أنه لما قال فمن يكفر إلخ قالوا لا حاجة لنا بها، فلم تنزل والصحيح نزولها ولما نزلت جاء اليهود ينظرون فرأوا ما غمهم وغاظهم فرجعوا، شرط عليهم ألا يخونوا ولا يدخروا ففعلوا ما نهوا عنه فرفعت. روى أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال " اللهم اجعلنى من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة للعالمين، ولا تجعلها مثلة وعقوبة " ثم قام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال " باسم الله خير الرازقين " فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد، وقيل على واحد زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات، وقيل فيها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، والفلوس ما يقشر منها والشوك عظامها الشبيهة بالشوك، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أو من طعام الآخرة؟ قال: ليس منهما ولكن اخترعه الله تعالى بقدرته، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم، الله من فضله، فقالوا: يا ريوح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال: يا سمكة احيى بإذن الله، فاضطربت، ثم قال لها: عودى كما كنت، فعادت مشوية وأكل من أكل من المائدة فى ذلك فطارت وقد شبعوا، ولم تنزل بعد. قال القرطبى: جاء في حديث سلمان أن المائدة سفرات لا مائدة ذات قوائم، والسفرة مائدة النبى صلى الله عليه وسلم، وموائد العرب، ويقال الخوان ما ارتفع من الأرض بقوائمه، والمائدة ما بسط على الأرض من الثياب والمناديل، والسفرة من أسفر عما فى جوفه، وعن الحسن الأكل على الخوان فعل الملوك وعلى المنديل الأعاجم وعلى السفر فعل العرب، والسفرة في الأصل طعام يتخذه المسافر، والغالب حمله في جلد مستدير فنقل اسمه لذلك الجلد فسمى به، ولأن للجلد المذكور مغاليق تنضم وتنفرج فللانفراج سميت سفرة، أو عصوا بعد ما رفعت فمسخوا، وفيل كانت تأتيهم أربعين يوما تأتي فى يوم ولا تأتى فى يوم تجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفئ طارت وهم ينظرون فى ظلها ويقعد لها أربعة آلاف ولا ينقص منها شئ ولا يأكل منها فقير إلا غنى مدة عمره ولا مريض إلا برئ ولا يمرض أبدا حتى أوحى الله إلى عيسى عليه السلام أن اجعل مائدتى فى الفقراء دون الأغنياء والأصحاء فاضطربت الناس، فمسخ منهم ثلاثة وثمانين رجلا، وروى ثلثمائة وثمانون باتوا ليلتهم مع نسائهم ثم أصبحوا خنازير، ولما أبصرت الخنازير عيسى بكت وجعلت تطيف به، وجعل يدعوهم بأسمائهم ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام، وماتوا، وقيل سبعة، وقيل أربعة، وقيل دعا الله عيسى أن يقبض أرواحهم فأصبحوا لا يدرى هل الأرض ابتلعتهم أو ما الله فاعل بهم، وعن كعب: نزلت تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام إلا اللحم، وعن قتادة عليها ثمر من ثمر الجنة وهو رواية عمار بن ياسر، وعن عطية العوفى: نزلت سمكة فيها طعم كل شئ، وذكروا أنهم قالوا لعيسى عليه السلام: ابدأ الأكل فقال معاذ الله إنما يبدأ من طلبها، فقيل لما قال ذلك تحاصوها فدعا لها الفقراء والزمنى، فقال: ابدأوا باسم الله واختموا بحمده سبحانه، وقيل: أكل منها مرة واحدة ألف إنسان بين ذكر وأنثى وثلثمائة، وقيل كررت وتزاحم الناس فجعلت للفقراء والصبيان فكفر الأغنياء بها، وقيل لما نزلت لم يكشف عليها عيسى بل قال: ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويسم الله، ففعل شمعون وهو رئيس الحواريين، وقال الحسن ومجاهد: لما أراد الله إنزالها على شرط إن لم يؤمنوا عذبوا استعفوا فلم تنزل، فمعنى أنى منزلها أنزلها على قبول الشرط فلم يقبلوه، وأخطأ من قال: المائدة عبارة عن حقائق المعارف رغبوا في الوقوف عليها وشرط عليهم أن يتقوا فيطلعهم عليها وأن لا يضعفوا عن مقامها فيزلوا فيهلكوا.

[5.116]

{ وإذ قال } أى يقول والماضى للتحقق كأنه وقع، والعطف على إذ قال الحواريون، وقيل: قال ذلك حين رفع إلى السماء { الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى } لم يقل ومريم ليوبخهم أيضا بأنهم جعلوا من هو مولود ومن هى والدة إلهين مع أن الإله لا يلد ولا يولد { إلهين من دون الله } لما نزلت الآية أنكر النصارى القول بأن مريم إله خجلا، أو كان قوم منهم قبلهم يقولون ذلك ولم يدروا بهم، كما حكى بعض الشيعة عن بعض النصارى أى طائفة منهم فيما مضى تسمى المريمية يعتقدون ألوهيتها، كما أن فى أسلاف اليهود قوما يقولون عزير ابن الله تعالى، وذلك أولى من أن يقال عظموها تعظيم الله سبحانه فكأنهم جعلوها إلها كقوله تعالى

Unknown page