" إنهما ابنا الخالتين "
، وإنما كانت لأب، لأنهما بنا عمران بن ماثان، لكن مريم من حنة وإيشاع من غيرها، ومريم ابنة عمران أكبر رتبة من إيشاع، وإيشاع أكبر سنا من مريم، وأما قول زكريا، أنا أحق بها، عندى خالتها، فوجهه أن حنة وإيشاع بنتا فاقود، فمريم بنت أخت إيشاع، وبنت الأخت يطلق عليها الأخت، فيكونان ابنى خالتين مجازا.
وكانت فى منزل زوج أختها زكريا، ورغب فى أن يكون له ولد من إيشاع مثل ولد أختها حنة، وأنهضه إلى الولادة أنه رأى طائرا يزقو ولده، فإيشاع خالة مريم وكانت أختها، وهذا حاصل ما ذكرت، فيوجه إما بأن حنة وإيشاع بنتا فاقود، فمريم بنت أخت إيشاع خالة، وكثيرا تطلق الأخت على بنت الأخت، فأطلق على عيسى ويحيى أنهما ولدا خالة، لأن عيسى ابن بنت خالة يحي، فأطلق عليه ابن الخالة، والغرض أن بينهما جهة الخئولة، ولكن هذا ينافى كون إيشاع بنت عمران، وإما بأنه تزوج أم حنة فولدت إيشاع، وكانت حنة ربيبته، تزوج حنة بعد ذلك لجوازه فى شرعهم، فولدت مريم، فإيشاع أخت مريم من الأب وخالتها أيضا، وهذا أحسن وجه فى الجمع بين الروايات، ولكن مر أن نوحا حرم ذوات المحارم، ويجاب بأنه لم يحرمهن كلهن.
[3.36]
{ فلما وضعتها } أى وضعت ما فى بطنها ، ولفظ ما مذكر، وأنثه لأن هذا من كلام الله، وهو عالم بأن ما فى بطنها أنثى، فراعى جانب المعنى، وليس نفى بعض لهذا الوجه صحيحا، ويجوز أن يكون التأنيث باعتبار ما بعد ولادتها، ويناسب التأنيث وضوحه فى الجواب، كما يؤنث المبتدأ لتأنيث الخبر ولو كان ضمير المذكر، وحاصل ذلك كله أنه أنث باعتبار الواقع { قالت رب } يا رب { إنى وضعتها } أى وضعته، أى وضعت ما فى بطنى، وأنت لما ذكرت ولاعبتار الحال، وهو كالخبر، وهو قوله { أنثى } لقاعدة، أن كل ضمير وقع بين اسمين، مذكر ومؤنث مدلولهما واحد، يجوز تذكيره وتأنيثه، لا باعتبار كون المتكلم عالما بالأنوثة، فضلا عن أن يلزم كون أنثى حالا عنه لغوا، أو التأنيث فى الموضعين باعتبار أن ما فى بطنها نفس،أو حبلة، وأن النفس أو الحبلة ولو مؤنثين يطلقان على الذكر والأنثى، فبين الأنوثة بقوله أنثى،و هو حال من ها، ويجوز أن يكون بدلا منهما { والله أعلم بما وضعت } بأنوثة ما وضعت، ولكن ذكرت إنى وضعتها أنثى تحسرا على عدم الذكر الذى قصدت لخدمة بيت المقدس، واستجلابا للقبول بخضوع فلذا جوزيت بالقبول، وأن هذا الأنثى كالذكر، والكلام المنحصر فى الفائدة أو لازمها إنما هو الخبر، وهذا إنشاء، والإنشاء لا يكون معناه الفائدة ولا لازمها { وليس الذكر كالأنثى } هذا من كلام الله، لا من كلامها، معترض فى كلامها، أى ليس الذكر المعهود الذى طلبت كالأنثى المعهودة التى أعطيت، بل الأنثى التى أعطيت أفضل لمزايا يضعها الله تعالى فيها، وإن كانت لا تصلح لخدمة البيت، ويجوز أن يكون من باب القلب، أى ليس مطلق الأنثى أو هذه الأنثى الموضوعة كمطلق الذكر المطلوب إذ لا تصلح لخدمة البيت، فقلب ليفيد نكتة، هى إيهام التعبير الأول من أن بعض أفراد النساء لكمالها أفضل، أو جعل بالنسبة إليها مشبها، ويجوز أن يكون من كلامها على القلب تضرعا منها، فقلبه الله عنها لنكتة، أو على معنى أن مراد الله أفضل من مرادى تعظما لعطيته تعالى، ويجوز أن يكون بلا قلب من كلام الله أو كلامها على أنه لا يشبه الذكر بالأنثى، لأنه أفضل، وليسا سواء { وإنى سميتها مريم } تقربا إلى الله عز وجل لعصمتها، وأن تكون من العابدات، فإن مريم فى لغتهم العابدة الخادمة لله عز وجل ولو لم تصلح لخدمة البيت، لأنها ولو خدمت، لكن يقطعها الحيض، وذلك بقاء على نية الخير وقصده بما فى بطنها ولا يخفى أن التسمية باسم العبادة لله إذا كان لحب الله، وعبادته تقرب ناشىء عن القلب، وقيل، مريم معرب مارية، بمعنى جارية فى لغتهم، والتسمية قبل السابع جائزة كما فى الآية { وإنى أعيذها } أمنعها { بك } يا رب { وذريتها } وقدمت بك لمزيد اعتنائها بمريم { من الشيطان الرجيم } أى المرجوم، أى المطرود، وذلك استعارة على الصحيح، وقيل الرجم بمعنى الطرد حقيقة، ولا يدل لذلك كلام القاموس، لأنه يذكر المجاز فى معانى الكلمات، مثل أن يقول، الأسد السبع والشجاع، واستجاب الله سبحانه دعاءها، كما قال البخاري ومسلم عن أبي هريرة: كل ابن آدم يطعنه الشيطان فى جنبيه بإصبعيه حين يولد غير ابن مريم فإنه ذهب ليطعن فطعن فى الحجاب، أى المشيمة، وقيل، حجاب من الملائكة مما يلى الأرض، وقد يبس عن ظاهرها لدوران الملائكة عليه، وذلك منها يتضمن الدعاء بحياتها حتى تلد.
[3.37]
{ قتقبلها ربها } الهاء لمريم، وقيل لمرأة عمران، لأنها التى تكلمت ونادت، قبلها لخدمة بيت المقدس، ولم يقبل أنثى قبلها، التفعل هنا بمعنى الفعل لا للعلاج ولا للتأكيد، كذا يتبادر، ولا مانع من كونه للتأكيد، وفى ذلك تشبيه النذر بالهدية، ورضى الله بقبول الهدية { بقبول حسن } بأن سلمها لخدمة البيت من حين ولدت قبل أن تقدر على الخدمة، أى تقبلا حسنا، أو بوجه حسن تقبل به النذائر، أى المنذورات، وهو تسليمها عقب الولادة أو إقامتها مقام الذكر، فهو كالوضوء والسعوط بالفتح لما يفعل به الشىء { وأنبتها نباتا } اسم مصدر أى إنباتا { حسنا } رباها تربية حسنة، بعبادة ربها من صغرها، ويكبرها فى كل يوم ما يكبر غيرها فى عام، وبتعهدها بما يصلح سائر أحولها، وكانت من ذرية سليمان بن داود، لفتها أمها حنة فى خرقة وحملتها إلى الأحبار فى المسجد، وهم خدمته، تسعة وعشرون رجلا، فقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها بنت إمامهم وصاحب قربانهم عمران بن ماثان، وكان بنو ماثان ملوكا ورؤساء فى بنى إسرائيل، ولم يكن عمران نبيا، قال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندى، فقال له الأحبار، لوبركت لأحق الناسب ها لتركت لأمها، بل نقترع، فألقوا أقلامهم فى نهر الأردن على أنه من ثبت قلمه على الماء فهو أولى بها، وقيل، من ثبت قلمه ولم يجره الماء نهى له، وقيل، من ثبت قلمه مغروزا، كأنه غرز فى الطين، فثبت قلم زكريا، وهى أقلام من نحاس يكتبون بها التوراة، أو سهام النشاب، كتبوا عليها أسماءهم، وقيل عظاما، وأمر صبيا من خدمة بيت المقدس أن يخرج واحدا منها، فأخرج قلم زكريا، وقالوا، لا نرضى، بل نلقى الأقلام فى الماء على حد ما، فذلك ثلاث مرات، واسترضع لها المراضع، وقيل، ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا فى المسجد، وجعل بابه فى وسطه، لا يرتقى إليها إلا بسلم، ولا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعام وشراب ودهن، وقيل، لم ترضع، بل يأتيها رزقها من الجنة، فيقول لها زكريا، أنى لك هذا، فتقول، هو من عند الله، وهى فى المهد كولدها عيسى عليهما السلام، ويجد عندها فاكهة الشتاء صيفا وفاكهة الصيف شتاء، وذلك كما قال عز وجل { وكفلها زكريا } ضمن مصالحها { كلما دخل عليها زكريا المحراب } الغرفة، وهى أشرف المجالس، أو بيت المقدس، سميت لأنها محل محاربة الشياطين والنفوس بالعبادة،أو على ظاهره، أنه،آلة، لما كانت محلا للمحاربة، سماها باسم الآلة، أو المحراب قبلة المسجد، ببناء مخصوص فيها، وقيل بلا بناء، ثم حدثت هذه المهنيات فى قبلته خارجة عن الصفة، وقد قيل فى محراب مريم إنه غرفه فى بيت المقدس تصعد بسلم كباب الكعبة، وقيل المحراب المسجد، وكانت مساجدهم تسمى المحاريب، وهذه المحاريب الموجودة فى مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة منهم على والنخغى، كما أخرجه ابن أبى شيبة، وهى بدعة لم تكن فى العصر الأول، قال أبو موسى الجهنى عنه صلى الله عليه وسلم،
" لا تزال أمتى بخير ما لم يتخذوا فى مساجدهم مذابيح كمذابيح النصارى "
، وعن أبى عبدالله بن الجعد، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون، إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح فى المساجد، وعن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم:
" اتقوا هذه المذابح "
Unknown page