1
ومن المحتمل أن كان عمل ثورتنا الكبرى المهم هو تعجيل هذا التكوين بالقضاء تقريبا على ما كانت فرنسة مجزأة بينه من القوميات الصغيرة؛ كالپيكار والفلامان والبورغون والغسكون والبريتان والپروڨنسيين إلخ. وهيهات أن يكون هذا التوحيد قد تم؛ وذلك لكثرة العروق التي تتألف منها، والتي تؤدي بحكم الطبيعة إلى أفكار ومشاعر مختلفة أشد الاختلاف، فترانا نظل ضحية الانقسامات التي لا تعرفها الأمم الأكثر تجانسا منا؛ كالإنكليز مثلا، ولدى الإنكليز تبصر السكسوني والنورمندي والبريطاني القديم قد انتهوا بالتمازج إلى تأليف مثال كثير التجانس متماثل السير، ولم يلبث الإنكليز بفضل هذا الامتزاج أن اكتسبوا الأسس الجوهرية الثلاثة لروح الأمة؛ وهي: وحدة المشاعر، ووحدة المصالح، ووحدة العقائد، والأمة إذا ما بلغت ذلك اتفق جميع أبنائها بالغريزة على جميع المسائل المهمة، وعاد لا يبدو فيها كبير شقاق.
ووحدة المشاعر والأفكار والمعتقدات والمصالح، التي هي وليدة رواسب بطيئة موروثة، تمنح مزاج الأمة النفسي تجانسا وثباتا عظيمين، وهي تمن على هذه الأمة بقوة كبيرة، وفيها سر عظمة رومة في القرون القديمة وعظمة إنكلترة في أيامنا، وإذا ما غابت الروح القومية انحلت الأمة، وكانت خاتمة شأن رومة يوم أضاعت تلك الروح.
وتلك الشبكة من المشاعر والأفكار والتقاليد والمعتقدات الموروثة التي تتألف منها روح الزمرة قد وجدت، دائما، لدى جميع الأمم على درجات متفاوتة لا ريب، غير أن نموها التدريجي وقع بأقصى البطوء، ولم تشمل روح الزمرة جميع سكان البلد إلا مؤخرا بعد أن كانت مقصورة على الأسرة في البداءة، فامتدت بالتدريج إلى القرية، فإلى المدينة، فإلى الإقليم، وهنالك، فقط، ظهرت فكرة الوطن وفق ما ندركها به اليوم، وهي لم تغد ممكنة إلا بعد أن تكونت الروح القومية، وما ارتقى الأغارقة قط إلى ما فوق فكرة المدينة، وقد ظلت مدنهم متحاربة، على الدوام؛ لأن بعضها كان أجنبيا عن بعض في الحقيقة، ولم تعرف الهند غير وحدة القرية منذ ألفي سنة، فتجد في هذا سر خضوعها باستمرار لسادة من الأجانب الذين انهارت دولهم الموقتة بسهولة كالتي قامت بها.
وفكرة المدينة، وإن كانت بالغة الضعف من الناحية العسكرية كوطن محض، بالغة القدرة من حيث تقدم الحضارة. وروح المدينة، وإن كانت أصغر من روح الوطن، أكثر إنتاجا منها في بعض الأحيان، وقد أثبتت لنا أثينة في القرون القديمة وفلورنسة والبندقية في القرون الوسطى درجة ما يمكن أن تصل إليه زمر الناس الصغرى في ميدان الحضارة.
وإذا حدث أن قضت المدن الصغيرة أو الأقاليم الصغيرة حياة مستقلة زمنا طويلا فإنها لا تعتم أن تحوز روحا تبلغ من الثبات ما يتعذر معه تقريبا أن تمتزج بروح المدن والأقاليم المجاورة فتؤلف روحا قومية، وإذا أمكن حدوث امتزاج مثل هذا؛ أي حينما لا تكون العناصر المتقابلة كثيرة الاختلاف، فإن ذلك لا يكون من عمل يوم واحد، بل من عمل القرون، ولا بد من ظهور رجال من طراز ريشليو وبسمارك لينجزوا مثل هذا العمل، وهم لا يتمونه إلا بعد أن يكون قد نضج منذ زمن طويل، وقد يتفق لبلد، كإيطالية، أن يصير دولة واحدة بغتة بفعل بعض العوامل الشاذة، ولكن من الخطأ أن يعتقد أن ذلك البلد ينال بهذا روحا قومية، وأنت إذا أبصرت الپيمونتي والصقلي والبندقي والروماني إلخ، في إيطالية، فإنك لا تبصر الإيطالي فيها.
ومهما يكن أمر العرق الذي يبحث فيه اليوم، وسواء أكان هذا العرق متجانسا أم غير متجانس، فإنه يجب أن يعد عرقا مصنوعا على الدوام، لا عرقا طبيعيا ما دام قد تمدن ودخل ميدان التاريخ منذ زمن طويل، واليوم لا تجد العروق الطبيعة إلا عند الهمج، وعند الهمج وحدهم تستطيع أن تبصر أمما خالصة من كل اختلاط، وأما معظم العروق المتمدنة فعروق تاريخية.
ولا نشغل أنفسنا الآن بأصول العروق، وليس من المهم أن تكون العروق قد كونتها الطبيعة أو كونها التاريخ، وإنما الذي يهمنا هو أخلاق هذه العروق التي تمت في ماض طويل ، وهذه الأخلاق إذ أمسكت في قرون بفعل أحوال عيش واحدة، وهذه الأخلاق إذ تراكمت بالوراثة، اكتسبت مع الزمن ثباتا وعينت مثال كل أمة.
هوامش
الفصل الثاني
Unknown page