مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
المقدمة
الباب الأول: صفات العروق النفسية
1 - روح العروق
2 - حدود تغير أخلاق العروق
3 - نظام مراتب العروق النفسي
4 - تفاوت الأفراد والعروق التدريجي
5 - تكوين العروق التاريخية
الباب الثاني: كيف تتجلى الأخلاق النفسية للعروق في مختلف عناصر الحضارات
1 - عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة
2 - كيف تتحول النظم والديانات واللغات
3 - كيف تتحول الفنون
الباب الثالث: اشتقاق تاريخ الأمم من أخلاقها
1 - كيف تشتق النظم من روح الأمة
2 - تطبيق المبادئ السابقة على البحث المقارن في تطور الولايات المتحدة بأمريكة والجمهوريات الإسبانية الأمريكية
3 - كيف يؤدي تغيير روح العروق إلى تغيير تطور الأمم التاريخي
الباب الرابع: كيف تتغير أخلاق العروق النفسية
1 - شأن الأفكار في حياة الأمم
2 - شأن المعتقدات الدينية في تطور الحضارات
3 - شأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم
الباب الخامس: انحلال أخلاق العروق وانحطاطها
1 - كيف تذوي الحضارات وتنطفئ
2 - خلاصات عامة
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
المقدمة
الباب الأول: صفات العروق النفسية
1 - روح العروق
2 - حدود تغير أخلاق العروق
3 - نظام مراتب العروق النفسي
4 - تفاوت الأفراد والعروق التدريجي
5 - تكوين العروق التاريخية
الباب الثاني: كيف تتجلى الأخلاق النفسية للعروق في مختلف عناصر الحضارات
1 - عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة
2 - كيف تتحول النظم والديانات واللغات
3 - كيف تتحول الفنون
الباب الثالث: اشتقاق تاريخ الأمم من أخلاقها
1 - كيف تشتق النظم من روح الأمة
2 - تطبيق المبادئ السابقة على البحث المقارن في تطور الولايات المتحدة بأمريكة والجمهوريات الإسبانية الأمريكية
3 - كيف يؤدي تغيير روح العروق إلى تغيير تطور الأمم التاريخي
الباب الرابع: كيف تتغير أخلاق العروق النفسية
1 - شأن الأفكار في حياة الأمم
2 - شأن المعتقدات الدينية في تطور الحضارات
3 - شأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم
الباب الخامس: انحلال أخلاق العروق وانحطاطها
1 - كيف تذوي الحضارات وتنطفئ
2 - خلاصات عامة
السنن النفسية لتطور الأمم
السنن النفسية لتطور الأمم
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
مقدمة المترجم
يسيح الفيلسوف الاجتماعي غوستاف لوبون في الأرض كثيرا فيضع في سنة 1884 كتابه الخالد «حضارة العرب»، ويضع في سنة 1887 كتابه الخالد «حضارات الهند»، وفي سنة 1889 يعززهما بثالث ، يعززهما بكتاب «الحضارات الأولى»، ونترجم السفرين الأولين اللذين هما أهم من السفر الثالث، ومن السفر الثالث هذا ننقل إلى العربية الجزء الخاص باليهود، وهو أطرف أجزائه.
وفي تأليف تلك الكتب يعتمد لوبون على ما لاحظ في رحلاته وترصد، ومن تلك الكتب، على الخصوص، يستنبط ما بدا له من سنن الاجتماع فيضع في سنة 1894 كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم»، ويضع في سنة 1895 كتاب «روح الجماعات»، وفي كلا الكتابين يتحرر لوبون من جميع المذاهب الاجتماعية فينتهي إلى نتائج مخالفة لما ألفه العلماء من المبادئ والآراء، فيعد، بحق، مجددا في علم النفس وعلم الاجتماع، إماما موجها فيهما.
وعالج لوبون جميع الموضوعات التي تناولها بالبحث في كتبه ببراعة ودقة فوصل إلى حقائق رائعة، وامتاز لوبون في ذلك بمعرفته للإنسان وتعبيره عما يوحي به العقل والذوق السليم من المناحي، وظهر لوبون في كل ما كتب عبقريا مبتكرا حر الفكر مستقلا لبقا إلى الغاية؛ ولذلك كان من الصواب أن قيل: «لا جدال في أن لوبون أعظم عالم نفسي فرنسي في الزمن الحاضر بما تذرع به من صبر، وما اتفق له من بصيرة نفذ بها روح العصر».
وفي كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» بحث لوبون في صفات العروق النفسية وتغير أخلاقها ومراتبها، وفي تفاوت الأفراد والعروق، وفي تكوين العروق التاريخية، وفي كون عناصر الحضارة مظهرا خارجيا لروح الأمة، وفي تحول النظم والمعتقدات والفنون، وفي تأثير المبادئ في حياة الأمم، وفي تأثير الديانات في تطور الحضارات، وفي شأن العظماء في تاريخ الأمم، وفي ذوي الحضارات وانطفائها.
ويغدو مبدأ تساوي الأفراد والعروق الذي بشر به فلاسفة القرن الثامن عشر من العقائد الثابتة لدى أكثر شعوب أوربة على الخصوص، ويبلغ هذا المبدأ من النفوذ والتأثير في هذه الشعوب ما قلب به العالم الغربي رأسا على عقب، وعلى هذا المبدأ تقوم نظريات الاشتراكية، وعلى ما دل عليه العلم الحديث من وهن في ذلك المبدأ لم يجرؤ أحد على مناهضته سوى قليل من العلماء، ولاح لوبون على رأس هؤلاء؛ فبين في كتابه «السنن النفسية لتطور الأمم» أن الحضارات كلما تقدمت تفاوتت الشعوب والأفراد، وأن البشرية تسير إلى التفاوت لا إلى المساواة، ومما وجده لوبون أن العروق تختلف فيما بينها بما تشتمل عليه من صفوة الرجال، وأن الحضارات تؤدي إلى تفاوت الأفراد بالتدريج من الناحية الذهنية، وأن الأمم كلما تقدمت في ميدان الحضارة تفاوت الجنسان فيها بنسبة هذا التقدم.
وكتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» عظيم الشأن، وهو لهذا العظم اتفق له من الأثر البالغ في أقطاب السياسة ما رأوا معه اتخاذه خير رفيق لهم، حتى إن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، ثيودور روزڨلت، كان يستصحبه في حله وترحاله؛ مستلهما إياه في سياسته؛ كما صرح بذلك غير مرة.
وأروع كتب لوبون الاجتماعية هو ما وضعه قبل الحرب العالمية الأولى، وما وضعه لوبون بعد تلك الحرب اعتمد فيه على مؤلفاته السابقة مكررا ما جاء فيها من المبادئ والنظريات على العموم، وقد نقلنا إلى العربية معظم تلك المؤلفات، ولا سيما «حضارة العرب، وحضارات الهند، واليهود في تاريخ الحضارات الأولى، وروح التربية، وحياة الحقائق ...»، فرأينا أن نتم عملنا فنترجم كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» وكتاب «روح الجماعات» أيضا، وهذا ما قمنا به فعلا؛ فبذلك نكون قد أدخلنا إلى المكتبة العربية أمهات كتب لوبون؛ التاريخية، والاجتماعية، والنفسية.
وكان لوبون قد وضع كتاب «الإنسان والمجتمعات وتاريخهما وأصولهما» في مجلدين قبل سياحاته العظيمة وقبل تأليفه كتاب «حضارة العرب» وغيره من تلك الكتب، فاستند في كتب الحضارات تلك إلى بعض القواعد المقررة في ذلك الكتاب، وقد كنا راغبين في ترجمة ذلك الكتاب أيضا لو لم نر أن لوبون غير كثيرا من آرائه وأفكاره فيه بعد رحلاته تلك، وعند تأليفه للكتب التي نقلناها، وفي هذه الكتب المترجمة - ومنها كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» على الخصوص - تجد عرضا وتلخيصا لما في كتاب «الإنسان والمجتمعات» ذلك من مبادئ معدلة، فلا اضطرار إلى ترجمته إذن.
وفي سنة 1913 يترجم المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» هذا بعنوان «سر تطور الأمم»، والموضوعات الاجتماعية كانت في ذلك الحين، كما هي الآن، غير مطروقة كثيرا، ونقابل بين الأصل الفرنسي وتلك الترجمة فنجد أن زغلول باشا، وإن بذل جهدا مشكورا في المحافظة على المعاني، لم تخل ترجمته تلك من التجوز والعجمة والغموض، فلذلك، ولنفاذ ما طبعه زغلول باشا من نسخ ترجمته، ولما وجدت من ضرورة ترجمة كتاب «السنن النفسية لتطور الأمم» ترجمة تتساوق هي وما ترجمته من كتب لوبون في السنين الأخيرة على الخصوص معتمدا على النص الفرنسي الأخير الذي توفي لوبون معولا عليه - نقلت هذا الكتاب النفيس على الوجه الذي أعرضه به على القراء، والله الموفق.
نابلس
مقدمة المؤلف في الطبعة الثانية عشرة
تطبيق ما جاء في هذا الكتاب من المبادئ على بعض حوادث الحرب الأوربية
نشر هذا الكتاب للمرة الأولى منذ عشرين سنة، ولم تنله يد التغيير قط في تلك الأثناء، وكانت غايته تعيين بعض السنن النفسية لتطور الأمم.
وما كان ليفترض حينئذ أن انقلابا عالميا سيجيء مصدقا لما اشتمل عليه هذا الكتاب من السنن التي استنبطها فيلسوف من عقدة التاريخ.
وتدل تلك السنن على أن عددا قليلا من العوامل النفسية الثابتة يسيطر على حياة الأمم فضلا عن سيطرة بعض المؤثرات التي هي وليدة تقدم الحضارة، ويرى من خلال الزمان والمكان تأثير تلك السنن في كل زمان ومكان، وكان لتلك السنن الأثر البالغ في قيام أعظم الدول، وسقوط هذه الدول.
ولم تكن القوى النفسية التي لها ذلك التأثير الكبير صادرة عن العقل، وهذه القوى هي التي تسيطر على جميع العقول، وفي الكتب وحدها تجد أن المعقول يقود التاريخ.
وإذ كانت علل ما يملأ حياة الأمم من اصطراع غريبة عن العقل فإنك ترى أن أي تقدم في العلم لا يلطف ضراوته، وعلى ما تبصر من نمو العقل باتساع أفق المعرفة تجد المشاعر والأوهام والشهوات التي سيرت الناس منذ دور الكهوف الأولى ظلت ثابتة كما هي، فالحق أنه لا دور للحقد والحب والحرص والطمع والعجب.
والأمم - وهي لا كبير تأثير للعقل فيها - مسيرة بأخلاق عرقها؛ أي بمجموع المشاعر والاحتياجات والعادات والرغبات التي هي دعائم روحها الأساسية، وتمن هذه الروح القومية على الأمم بثبات دائم مع تقلبات الحوادث على الدوام.
وهنا نلمس سر التاريخ، وهنا نلمس القوى الخفية التي توجه مجراه.
والعرق بالحقيقة هو الذي يعين الوجه الذي تسير به الأمم بفعل الحوادث وتقلبات البيئة.
وتهيمن روح العروق على مقادير الأمم حين تسيطر على النظم والقوانين وعلى عزائم الطغاة.
وتعين معرفة روح العروق على حل ألغاز التاريخ، وتخبرنا معرفة روح العرق بأسباب العظمة والانحطاط، وبالعلة في نماذج أمم وعجز أمم عن ذلك، والعرق هو حجر الزاوية الذي يقوم عليه توازن الأمم، والعرق هو الذي يعين الحد النفسي لطموح الفاتحين ولما يبتدعونه من أخيلة العظمة والتصدر. •••
وشأن العرق يرسخ في حياة الأمم رسوخا عظيما على الدوام، فلا يجوز جهله، وعلى ما تراه من بيان الكتب الدينية القديمة لقوة هذا الشأن تبصر الثوريين الغافلين عن الماضي يجادلون في هذه القوة.
بيد أن على من يرغب في اكتناه مبدأ العرق أن يعرف ما أسفر عنه علم الحياة الحديث من الاكتشافات.
ويكفي الاصطراع الأوربي لإثبات خطأ النظريين الذين يحاولون إنكار روح العروق، ومصدر هذا الاصطراع الرئيس بالحقيقة هو ادعاء إحدى الأمم بالصدارة لما افترضته من خصال عرقها فاعتقدت أنها مدعوة إلى السيطرة على العالم، ومن أسباب هذا الاصطراع أيضا ما كان من الحقد الموروث المفرق بين أمم مختلفة الأصول؛ كالنمسويين والصرب والروس على الخصوص.
وينشأ ذلك الاصطراع، بوجه خاص، عن الأوهام التي نبتت في روح مؤرخي الألمان ومؤلفيهم بفعل تصورهم لمبدأ العرق تصورا خاطئا.
ووقع ذلك التصور في زمن كان نقص المعارف الأنتروپولوجية فيه يؤدي إلى الظن بأن بعض العروق في أوربة ظل خالصا من شائبة الاختلاط مع تعاقب القرون.
ولو لم تظل الأفكار التي نشأت عن النظريات الوهمية قائمة بعد نقض هذه النظريات ما وجدت خطأ كهذا باقيا في أيامنا، والحق أن ما أدت إليه الأنتروپولوجية الدقيقة من ملاحظات يثبت عدم وجود عروق خالصة لدى الأمم المتمدنة.
أجل، لا يزال كثير من البقاع في إفريقية وآسية مشتملا على عروق خالصة، غير أن أوربة لا تحتوي سوى ما سميته بالعروق التاريخية، وهذه العروق التاريخية هي وليدة انصهارات مختلفة نشأت عن مصادفات الهجرة والفتوح، وإذا كانت صفات هذه العروق النفسية الموروثة قد غدت كثيرة الثبات فلأن حواصل مثل تلك الانصهارات قد خضعت في قرون كثيرة لحياة جامعة منطوية على نظم مشتركة، وعلى مصالح مشتركة بوجه خاص.
وإذ تكررت مؤثرات كتلك منذ الدور الذي تخلصت فيه الأمم من مغازي الفتح، فانتهت إلى الوحدة السياسية، فإنها أوجبت حدوث أخلاق العروق الحاضرة، واليوم قد توطدت هذه الأخلاق لدى معظم الأمم، وإن لم يرجع زمن ظهورها إلى أجيال ما قبل التاريخ.
وإذ إن صفات العروق النفسية متباينة أشد التباين فإنها تتأثر تأثرا مختلفا بفعل المؤثرات الواحدة، وفي الغالب ينشأ عن ذلك عدم تفاهم مطلق، وبدا عدم التفاهم هذا منذ أدت سهولة الصلات السريعة إلى تماس الأمم.
وكانت النتيجة الأولى لهذا التقارب هي إظهار الفروق النفسية التي تفصل بين الأمم وما ينشأ عن ذلك من تباين في إدراك الأمور.
وأتت الحرب الأوربية بدليل آخر على درجة ما يمكن أن يكون من تباين نفسي بين أمم ذات حضارة واحدة في الظاهر صاحبة أفكار متقابلة منذ طويل زمن حائزة لبعض المصالح المتماثلة.
وتلك الأمم غير متعارفة بالحقيقة، وليست حكوماتها أحسن معرفة لها من ذلك مع ما يزودها به من المعلومات سفراؤها وملحقوها العسكريون ووثائقها الكثيرة.
وكانت ألمانية تجهل روح إنكلترة، ولم يكن جهل فرنسة لروح ألمانية أقل من ذلك، وخفيت نفسية سكان البلقان على معظم السياسيين الأوربيين، فاقترف هؤلاء السياسيون أفدح الأغاليط لما كان من تفسيرهم لتلك النفسية بأفكارهم التي هي أفكار رجال متمدنين، فلروح العروق من الحدود ما يتعذر اقتحامه.
وعدم الإدراك ذلك لأنه يسود ما بين مختلف الأمم من صلات، ونحن لأننا نود أن نحكم في أمر تلك الأمم بمشاعرنا وأفكارنا الشخصية، كان من الصعب أن يبصر سير الأمم الأجنبية وسادتها في حال ما، ولنا في الحرب الأوربية عدة أمثلة؛ ومنها أن ما لدى أولياء الأمور بألمانية من غفلة نفسية أدى إلى تأليب بلاد كإنكلترة وإيطالية عليها ظانين أن هذه البلاد مما يجب أن يعتمد على صداقته أو حياده.
وما كان لروح التوتون (الألمان) النفعية أن تبصر أن احترام إمضاء المعاهدات، الذي هو أساس جميع الحياة التجارية بإنكلترة، مما يوجب قيام هذه الأمة المسالمة ضد ألمانية، وأن اضطرار بلجيكة الضعيفة إلى الدفاع عن نفسها يحملها على الوقوف في وجه قاهرها القوي.
وعدم إدراك مثل هذا تجلى فينا أيضا؛ فقد نسينا ما قد يكون لروح الأموات من السلطان الهائل على الأحياء، فاعترانا الدهش من صولة تلك الجيوش الهمجية التي حرقت المدن والآثار بدم بارد، وقتلت السكان العزل من السلاح بدم بارد، وما كان الألمان في ذلك إلا مكررين أعمال أجدادهم في ذلك. نعم، لاح أن الحضارة ألانت طبائع الألمان، بيد أن ما كان منسيا من القسوة في أيام السلم، لتعذر إبدائه، لم يزل، فظل التراث سليما. •••
ومن الطبيعي أن تظل المعضلة التي أثارها اختلاف العروق وما ينجم عنه من نفور باقيين بعد الحرب، فيكون أشد المصاعب في المستقبل تعديل زمر الأمم المتحاربة في جميع أوربة، ولا سيما بلاد البلقان.
وتبدو صعوبة تلك المعضلة عند النظر إلى وحدة الدين واللغة والمصالح بأشد مما قد تبدو في قيام القومية على العرق وإن كان على وجه أبسط من ذلك في هذه الحال، ومما يؤسف عليه في أمر دوام السلم الأوربية القادمة أن كان من النادر اجتماع هذه العناصر الأربعة في أمة واحدة.
وسيظل تباين العروق، لطويل زمن، مصدر اصطراع بين الأمم الناقصة التمدن على الخصوص، كأمم البلقان التي لم يسطع شيء أن يسكن أحقادها المتأصلة.
ولا يؤثر الزمان في تباين العروق إلا بأقصى البطوء، وإذا لاح أحيانا تغير أمة فإن بعض الأحوال لا يلبث أن يكشف أن هذه التغيرات لم تكن في غير الظاهر، وأنها لم تتناول غير ما في الشخصية من النواحي الثانوية.
ولا تكفي تقلبات البيئة ولا الفتوح لتغيير روح الشعب، ولا يمكن تحول الشعب إلا بالتوالد المكرر، وما كانت الأرض ولا النظم ولا الديانة لتغير روح العرق.
على أن التوالد لا يكون مؤثرا إلا إذا وقع بين أمم ذات نفسية متقاربة، ولا يكون التوالد إلا مضرا بين أمم ذات نفسية شديدة الاختلاف، ولا يكون لتزاوج البيض والسود والهندوس والپوروج (أصحاب الجلود الحمر) نتيجة سوى انحلال ما في حصائل هذا التزاوج من عناصر الثبات النفسي الموروث، وذلك من غير إحداث ما يقوم مقامها، وتظل قيادة الأمم المولدة؛ كأمم المكسيك، وأمم الجمهوريات الإسپانية الأمريكية، أمرا متعذرا؛ لأنها مولدة فقط، وقد أثبتت التجربة أن أي نظام أو تربية لم يقدر على إخراج هذه الأمم من الفوضى. •••
قلنا آنفا إن من أسباب الحرب الأوربية الرئيسة هو ما تسرب في أدمغة الألمان بالتدريج من الفكر القائل إن الألمان قوم عالون أعدوا لفتح العالم.
وإني، حين درست في أحد فصول هذا الكتاب أمر انتشار الأفكار وتأثيرها في حياة الأمم، بينت كيف أن الفكر لا يعتم أن يكون ذا سلطان على طبقات الأمة العميقة فيغدو كالسيل المنهمر بعد أن يلازم المنطقة النظرية المتحولة للرأي الصرف، وهنالك لا يستطيع الزعماء الذين أبدوه أن يسدوا مجراه، والزعماء هم الذين يأتون بناحية الفكر المجردة، والجماعة هي التي تحول الفكر إلى أعمال.
وبذلك الجهاز قام اعتقاد ألمانية الحديثة بأفضليتها كما قامت عبادتها للقوة، وما انفكت كتيبة من الأساتذة والفلاسفة والكتاب والجمعيات الوطنية تنشر في ألمانية مثل الصدارة الأعلى والتعطش إلى الفتح منذ خمسين سنة.
وببطء، ولكن مع قوة، نفذت تلك النظريات في روح الشعب الألماني فلم تنشب أن صارت من العقائد ذات المسحة الدينية، وما فتئت ألمانية تبدو قانعة بأن الله دعاها إلى تجديد العالم واستغلاله.
نما ذلك المعتقد، واتفق له من القدرة ما شهر الإمبرطور به الحرب في زمن لو نظر فيه إلى أن أسطوله أدنى من أسطول إنكلترة لرأى عدم استعداده لها، ولوجد أن الانتظار خير من الإقدام عليها لا ريب. •••
وأظهرت الحوادث الحاضرة صواب كثير من المبادئ الأخرى المعروضة في هذا الكتاب؛ ومن ذلك أنني حين درست ما تم في القرون القديمة من مختلف الفتوح، ولا سيما فتح الرومان لبلاد اليونان، سألت عن استطاعة بعض الملكات المتوسطة، إذا ما تصرف فيه مثل عال قوي، أن يمنح إحدى الأمم قدرة على تقويض حضارات رفيعة عندما يكون نمو هذه الحضارات الذهني قد أبطل صفات الخلق.
والمستقبل سيخبرنا بقدرة ألمانية على تحقيق تلك السنة التاريخية التي وردها كثير من البلدان القديمة كمصر وفارس واليونان وإيطالية، إلخ.
أجل، إنك لا تجد خلفاء للعظماء الذين شرفت بهم ألمانية فيما مضى، بيد أن ألمانية علمت نظام المراتب، وأنها عرفت أن تنتفع بجميع قواها مهما صغرت، وأنها استطاعت بفضل نظامها الحربي الشديد أن تجعل من نقع أبنائها المتوسطين كتلة هائلة مهددة لسلم العالم.
وفي المستقبل ستكون معضلة الحياة لدى الأمم ذات الحضارات الرفيعة أن تنضد فوق ثقافتها الذهنية تربية للخلق صارمة وتدريبا للإرادة على الخصوص، تينك القوتين القادرتين على ضمان استقلال الأمم.
ومما قلته غير مرة في هذا الكتاب، وفي كتب لاحقة أخرى، أن قوة الأمم بأخلاقها لا بذكائها، والذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، والأخلاق تعلم السير ومكافحة ضروب الاعتداء بنجاح. •••
ومن ركام خفي موروث تتكون صفات الخلق التي يتألف من مجموعها ما للأمة من روح قومية، ومن هذه الصفات تتركب مجموعة ثابتة من المشاعر والتقاليد والمعتقدات مشترعة في غضون الأجيال لضرورات تخضع لها حياة كل أمة.
ويتطلب بناء الروح القومية عدة قرون على العموم، وإذا ما رسخت الروح القومية ظلت في مأمن من كل مس طويل زمن، وقد حبط عمل الثورة الفرنسية الكبرى في تغيير روح فرنسة على ما تذرعت به هذه الثورة من أقسى الوسائل، فلم تعتم مؤثرات الماضي أن بدت ثانية فأدت إلى أكثر من رجعة بعد دور الانقلابات.
وحوادث مهمة كهذه تترك بعض الأثر في روح الأمة لا ريب، غير أن التحولات لا تكون عميقة إلا بفعل تقلبات البيئة.
وقد ألمعت إلى سبب ذلك في هذا الكتاب بأن ذكرت وجود عناصر ثانوية بجانب جهاز روح العرق الأساسي توجب ظهور شخصيات جديدة، ولنا في الثورة الفرنسية وفي الحرب الأوربية أمثلة كثيرة على ذلك.
وفي هذه الحرب ظهر تحول الشخصيات ذلك واضحا إلى الغاية، وبدا ذلك التحول في فرنسة بغتة؛ ففيها صرت تبصر أقسى الثوريين قد غدا من ذوي الحمية الوطنية، وفيها صرت تبصر أشد الناس وجلا قد غدا من ذوي الإقدام، وفيها صرت تبصر الأحزاب المتناحرة قد جمع بينها فكر عام.
وما كان التحول أقل عمقا من ذلك في إنكلترة، وإن كان أكثر تؤدة؛ فقد عدلت إنكلترة التي هي أشد تمسكا بالتقاليد عن كل نفرة من الحياة العسكرية، ونسيت منازعها إلى الحرية متخذة روحا جديدة ملائمة لمقتضيات الساعة، والحق أن ملاءمة أحوال العيش المفاجئة لا تكون إلا وئيدة في أمة استقرت روحها بعوامل موروثة كررت زمنا طويلا على معنى واحد.
أجل، يمنح ذلك الثبات في الروح القومية الأمة قوة عظيمة، ولكنه قد يصبح شؤما عليها إذا ما استقر كثيرا فيها، فالأمم التي لا تقدر على ملاءمة مقتضيات العيش الجديدة تنحط لعدم المرونة.
ومن الطبيعي أن تتضمن الملاءمة اكتساب أفكار جديدة ومشاعر جديدة، ومن ثم طبائع جديدة، والتحولات التي تنشأ على هذا الوجه لا تدوم إلا إذا ثبتت ما دامت وليدة تقلبات البيئة، وكل يعلم درجة انزواء الشخصيات التي صدرت عن تلك الرواية الثورية الفاجعة، فلما هدأت تلك الزوبعة لم يلبث أولئك الذين نعتتهم الأسطورة بالجبابرة؛ لما اقترفوا من أقسى أعمال القتل؛ نصرا لغرضهم، أن عادوا من أبناء الطبقة الوسطى المسالمين، والتجار الهادئين، والموظفين الوادعين، وبدوا أول من دهش من التحول الذي طرأ على روحهم.
ومما لا مراء فيه أن تحول الشخصيات الذي أدت إليه الحرب الأوربية سيكون ذا نتائج أكثر دواما من ذلك لمس جميع المصالح في الحاضر وتهديدها في المستقبل، وسيكون التهديد القادم هذا عاملا قويا في تحويل روح كثير من الأجيال.
وسيظل التهديد قائما زمنا طويلا لا ريب، وستكرر الحروب بين الأمم ذات الروح والأماني والاحتياجات المتباينة حتما، وستعقب المنافسات الاقتصادية المنازعات الحربية في المستقبل مناوبة.
وقد بدت ضرورات جديدة فتجب ملاءمتها؛ خشية الزوال.
وهل يدوم بعد السلم ما فرضته الحرب من الاتحاد؟ وهل يغلق إلى الأبد دور الانقسامات السياسية والدينية المقدر؟ وهل نرى ظهور الأحقاد الفظيعة التي أوجبها المتفيهقون المشؤومون المضحون بمصلحة الوطن في سبيل مآربهم الشخصية؟ إن إلغاء المنازعات الداخلية هو شرط أساسي لحياتنا القومية، ونحن نكون عاجزين عن مقاتلة أعدائنا في الخارج إذا ما وجب علينا أن نقاتل أعداءنا في الداخل.
وإذا ما وازنت خصائل عرقنا مساوئه قرر اتجاهه مصيره، ولا حياة لنا بغير محالفات متينة في الخارج وسلم ثابتة في الداخل، وما ينبغي لمجتمع لا يتمتع بالسلم الداخلية أن يعيش طويل زمن، وارجع البصر إلى أغارقة القرون القديمة فإلى بولونيي الزمن الحديث تجد الأمم التي لم تعرف أن تكف عن انقساماتها قد غرقت في العبودية، وأضاعت حتى حقها في أن تكون ذات تاريخ.
مايو 1916
المقدمة
مبادئ المساواة في الزمن الحاضر وعوامل التاريخ النفسية
تقوم حضارة كل أمة على عدد قليل من المبادئ الأساسية، ومن هذه المبادئ تشتق نظمها وآدابها وفنونها، وهذه المبادئ تتكون ببطء كبير كما أنها تزول ببطء كبير، وهي إذا غدت من الأغاليط الواضحة لدى أصحاب النفوس المثقفة منذ زمن طويل ظلت عند الجماعات من الحقائق التي لا جدال فيها، واستمرت على عملها في أعمق طبقات الأمم، والمبدأ الجديد، وإن صعب فرضه، لا يقل فرضه هذا صعوبة عن القضاء على مبدأ قديم، فالبشر يتشبثون تشبثا قاطعا بالمبادئ الميتة والآلهة الميتة على الدوام.
ولم يكد يمر قرن ونصف قرن على الزمن الذي قذف العالم فيه بمبدأ المساواة بين الأفراد والشعوب فلاسفة جاهلون كل الجهل لتاريخ الإنسان الفطري واختلاف مزاجه النفسي وسنن الوراثة.
وقد انجذبت الجماعات إلى ذلك المبدأ كثيرا فلم يلبث أن رسخ في نفوسها وآتى أكله؛ أي إنه زعزع أسس المجتمعات القديمة وأدى إلى أشد الثورات هولا، ورمى العالم الغربي في سلسلة من الاضطرابات العنيفة التي تستحيل معرفة مداها .
ومما لا ريب فيه أن بعض الفروق التي تفصل بين الأفراد والعروق كانت من الوضوح بحيث لا تحتمل الجدل الجدي، ولكنه اعتقد بسهولة أن هذه الفروق هي وليدة اختلاف في التربية، وأن الناس يولدون متساوين صالحين، وأن النظم هي التي أفسدتهم، ولذلك بدا الدواء بسيطا، وهو أن تجدد النظم ويمنح الناس تعليما واحدا، وهكذا لم تعتم النظم والتعليم أن صارا ترياق الديموقراطيات الحديثة ووسيلة معالجة التفاوت المناقض للمبادئ الخالدة التي هي آخر الآلهة في الزمن الحاضر.
وقد تقدم العلم بالحقيقة فأثبت فساد نظريات المساواة وأنه لا يمكن ملء الهوة النفسية التي أوجدها الماضي بين الأفراد والعروق إلا بتراكم الوراثة البطيء إلى الغاية، ومما دلنا عليه علم النفس الحديث بجانب دروس التجربة القاسية هو أن النظم والتربية التي تلائم بعض الأفراد والأمم تكون بالغة الضرر لأفراد آخرين وأمم أخرى، وليس مما يقدر عليه الفلاسفة أن يبطلوا مبادئ سرت في العالم إذا ما قالوا بفسادها، فالفكر يتبع سيره المخرب، ولا شيء يعوق مجراه، وهو في ذلك كالنهر الزاخر الذي لا يحبسه سد.
ومبدأ مساواة الناس الوهمي ذلك هو الذي قلب الدنيا، وأحدث في أوربة ثورة عظيمة، وأوقع أمريكة في حرب الانفصال الدامية، وساق جميع المستعمرات الفرنسية إلى حال محزنة من الانحطاط، ولا تجد عالما نفسيا ولا سائحا ولا رجلا سياسيا على شيء من الثقافة لا يعلم خطأ ذلك المبدأ، وقليل من هؤلاء من يجرؤ على مكافحته مع ذلك.
ويداوم مبدأ المساواة على نموه، وهو لا يزال بعيدا من دخوله دور الأفول، وباسم هذا المبدأ تزعم الاشتراكية - التي تعبد معظم أمم الغرب عما قليل كما يظهر - أنها تنشر ألوية السعادة بين هذه الأمم، وباسم هذا المبدأ أيضا تطالب المرأة بمثل حقوق الرجل وبمثل تعليمه، غافلة عن الفروق النفسية العميقة التي تفصلها عنه، والمرأة إذا ما كتب لها النصر في ذلك جعلت من الأوربي بدويا؛ لا منزل له ولا أسرة.
ولا تبالي الأمم بما أسفرت عنه مبادئ المساواة من الانقلابات السياسية والاجتماعية مطلقا ، كما أنها لا تبالي بما تتمخض عنه هذه المبادئ من نتائج أشد خطرا من تلك، واليوم غدت الحياة السياسية لرجل الدولة من القصر بحيث لا يبالي هذا الرجل بها أكثر من مبالاة الأمم تلك، على أن الرأي العام صار صاحب السيادة، فأصبح من المتعذر عدم اتباعه.
وليس لأهمية الفكر الاجتماعية مقياس حقيقي غير ما يكون له من السلطان على النفوس، وليس لدرجة ما في الفكر من الصواب أو الخطأ نفع إلا من الناحية الفلسفية، والفكر الصائب أو الخاطئ، إذا ما اكتسب في الجماعات طور المشاعر، وجب أن يخضع بالتتابع لجميع النتائج التي تصدر عنه.
إذن، يسار إلى تحقيق خيال المساواة الحديث بطريق التعليم والنظم، ونحن، حين نزعم تقويم ما في سنن الطبيعة من جور بفضل التعليم والنظم، نحاول أن نصب في قالب واحد أدمغة زنوج المارتينيك والغوادلوپ والسنغال، وأدمغة عرب الجزائر، وأدمغة سكان آسية، ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الخيال أمر متعذر، ولكن التجربة وحدها هي التي تكشف عما في الأوهام من خطر، والعقل يبدو عاجزا عن تحويل عقائد الناس على الدوام.
وغاية هذا الكتاب هي وصف الأخلاق النفسية التي تتألف منها روح العروق، وبيان كيفية اشتقاق تاريخ الأمة وحضارتها من هذه الأخلاق، ونحن؛ إذ ندع الجزئيات جانبا، أو لا نلجأ إليها إلا عند الضرورة، تسويغا للمبادئ المعروضة، نبحث في تكوين العروق التاريخية ومزاجها النفسي؛ أي في العروق المصنوعة التي تكونت منذ أزمنة ما قبل التاريخ بفعل مصادفات الفتوح أو بفعل الهجرة أو بفعل التحولات السياسية، ونسعى في إثبات صدور تاريخها عن ذلك المزاج النفسي، وسنحاول اكتشاف سير الأفراد والأمم نحو المساواة، أو ميل الأفراد والأمم إلى التفاوت مقدارا فمقدارا، وسنرى بعد ذلك: هل تكون العناصر، التي تتألف منها الحضارة؛ أي: الفنون والنظم والمعتقدات، مظاهر مباشرة لروح العروق، وأن هذه العناصر لا تستطيع أن تنتقل من أمة إلى أخرى لهذا السبب؟ ثم نختم كتابنا بأن نسعى في تعيين الضرورة التي تذوي بها الحضارات وتنطفئ، وقد أسهبت في إيضاح هذه المسائل في كتبي عن حضارات الشرق؛ فلا أصنع في هذا الكتاب غير إجمالها.
وأوضح انطباع اتفق لي من سياحاتي البعيدة في مختلف البلدان هو أن لكل أمة مزاجا نفسيا ثابتا ثبات صفاتها التشريحية، فتشتق منه مشاعرها وأفكارها ونظمها ومعتقداتها وفنونها، ومما اعتقده توكڨيل وغيره من المفكرين المشهورين وجود سبب تطور الأمم في نظمها، وتراني أرى العكس فأرجو أن أثبت أن للنظم في تطور الحضارات تأثيرا ضعيفا إلى الغاية، فالنظم معلولات في الغالب، وهي قلما تكون عللا.
ولا مراء في أن هنالك عوامل مختلفة تعين تاريخ الأمم، وأن التاريخ مملوء بأحوال خاصة وبعوارض كانت وكان من الممكن ألا تكون، بيد أنه يوجد بجانب هذه المصادفات وهذه الأحوال العارضة سنن عظيمة ثابتة توجه سير كل حضارة، وأكثر هذه السنن شمولا وأشدها قسرا هو ما يصدر عن مزاج العروق النفسي، وما حياة الأمة ونظمها ومعتقداتها وفنونها إلا لحمة ظاهرة لروحها الخفية، وما على الأمة التي تود تحويل نظمها ومعتقداتها وفنونها إلا أن تحول روحها في بدء الأمر، وما على الأمة التي ترغب في دخول حضارة إلا أن تدخل إلى هذه الحضارة روحها أيضا، وليس هذا ما يعلمه التاريخ لا ريب، غير أننا سنثبت بسهولة أن التاريخ يكون قد خدع بظواهر باطلة حينما يسجل مزاعم مخالفة لهذا.
وقد حاول المصلحون الذين تعاقبوا منذ قرن أن يبدلوا كل شيء؛ أي أن يبدلوا الآلهة والأرض والناس، وهم لم يستطيعوا صنع شيء فيما أثبته الزمان من الأخلاق المتأصلة في روح العروق.
ويخالف مبدأ الفروق الثابتة التي تفصل بين الأشخاص مبادئ الاشتراكيين المعاصرين مخالفة تامة، وليس مما تستطيعه معارف العلم أن تحمل رسل العقيدة الحديثة على ترك الأوهام، وما جهود هؤلاء الرسل إلا وجه جديد لما تشنه البشرية من حرب صليبية لنيل السعادة: لنيل كنز هسپريد الذي ما فتئت الأمم تبحث عنه منذ فجر التاريخ، وربما لم تكن أوهام المساواه أقل قيمة من الأوهام القديمة التي سيرتنا فيما مضى لو لم تصطدم بصخرة التفاوت الطبيعي المنيعة، والتفاوت مع الهرم والموت جزء من المظالم الظاهرة التي ترى الطبيعة مملوءة بها فلا بد للإنسان من معاناتها.
الباب الأول
صفات العروق النفسية
الفصل الأول
روح العروق
يستند الطبعيون في تقسيمهم للأنواع إلى مشاهدتهم بعض الصفات التشريحية التي تظهر منتظمة ثابتة بالوراثة، واليوم نعلم أن هذه الصفات تتحول بتبدلات غير محسوسة تتراكم وراثة، ولكننا إذا نظرنا إلى الأزمنة التاريخية القصيرة وحدها أمكننا أن نقول إن الأنواع لا تتغير.
وحين طبقت مناهج الطبيعيين في التقسيم على الإنسان أظهرت لنا أمثلة متمايزة، وهي حين استندت إلى الصفات التشريحية الواضحة، كلون البشرة وشكل الجمجمة وحجمها، أمكنها أن تقرر اشتمال الجنس البشري على أنواع مختلفة متغايرة إلى الغاية متباينة الأصول على ما يحتمل، ويرى العلماء المحافظون على التقاليد الدينية أن هذه الأنواع هي العروق فقط، ولكن الأمر هو - كما قيل بحق - «أن الزنجي والقفقاسي، إذا كانا من فصيلة الحلزون، يقرر علماء الحيوان بالإجماع أنهما نوعان مختلفان لا يمكن أن يولدا من زوجين افترقا عنهما بالتدريج».
ولا تحتمل تلك الصفات التشريحية، ولا سيما التي يمكن أن تنالها يد التحليل، غير تقسيمات عامة موجزة، ولا يظهر اختلافها إلا في الأنواع البشرية البادية التباين؛ كالبيض والزنوج والصفر مثلا، غير أن هنالك أمما كثيرة التشابه من الناحية الجثمانية شديدة الاختلاف في شعورها وسيرها؛ ومن ثم في حضاراتها ومعتقداتها وفنونها، أفيمكن أن ينظم الإسپاني والإنكليزي والعربي في زمرة واحدة؟ ألا تبدو الفروق النفسية بينهم لكل ذي عينين؟ ألا تقرأ هذه الفروق في كل صفحة من تاريخهم؟
وقد أريد - عند عدم الاختلاف في الصفات التشريحية - أن يستند في تقسيم بعض الشعوب إلى عناصر مختلفة كاللغات والمعتقدات والزمر السياسية إلخ، بيد أن تقسيمات كهذه مما لا يقف أمام سلطان البحث.
وما عجز التشريح واللغات والبيئة والزمر السياسية عن تقديمه من عناصر التقسيم عرضه علينا علم النفس، وعلم النفس هذا يدل على أنه يوجد خلف نظم كل أمة وفنونها ومعتقداتها وانقلاباتها السياسية ما يصدر عنه تطور هذه الأمة من صفات خلقية وذهنية، ومن مجموع هذه الصفات يتألف ما يسمى روح العرق.
ولكل عرق مزاج نفسي ثابت ثبات بنيته التشريحية، ولا نرى ما يدعو إلى الشك في وجود نسب بين المزاج النفسي وتركيب الدماغ، ولكن العلم لم يبلغ من التقدم ما يكتنه به هذا التركيب؛ ولذلك يتعذر علينا اتخاذه أساسا للبحث، وهذا إلى أن معرفة ذلك التركيب لا تغير شيئا من وصف المزاج النفسي الذي يشتق منه فتبديه لنا المشاهدة.
والصفات الخلقية والذهنية التي يتألف من اقترانها روح الشعب هي عنوان لخلاصة ماضيه وتراث أجداده وعوامل سيره، وفي بعض الأحيان تلوح تلك الصفات أول وهلة كثيرة التقلب لدى أفراد العرق الواحد، غير أن البحث الدقيق يدل على اتصاف معظم أفراد هذا العرق في كل وقت بصفات نفسية مشتركة ثابتة ثبات الصفات التشريحية التي تتخذ في تقسيم الأنواع، والصفات النفسية كالصفات التشريحية تنتقل بالوراثة انتقالا منتظما مستمرا.
ويتألف من اجتماع تلك العناصر النفسية التي تشاهد لدى جميع أفراد العرق ما نرى من الصواب تسميته بالخلق القومي، ومن مجموع تلك العناصر يتكون المثال المتوسط الذي نتمكن به من تعريف الشعب، ونحن إذا ما أخذنا، اتفاقا، ألف فرنسي أو ألف إنكليزي أو ألف صيني، فإننا نجد بينهم اختلافا كبيرا، ومع ذلك نراهم حائزين، بما ورثوه عن عرقهم، صفات مشتركة يمكن أن يستعان بها لتكوين مثال فرنسي أو إنكليزي أو صيني مماثل للمثال الخيالي الذي يعرضه العالم الطبيعي عندما يصف الكلب أو الفرس وصفا عاما، وإذا ما طبق مثل هذا الوصف على أجناس الكلب أو الفرس فإنه لا يشتمل على غير الصفات المشتركة بين هذه الأجناس، لا على الصفات التي يتميز بها كل جنس من هذه الأجناس.
والمثال المتوسط للعرق، الذي هو شيء من الكبر ومن التجانس لهذا السبب، يكون من الوضوح بحيث يستقر بنفس الباحث من فوره.
ونحن إذا زرنا شعبا غريبا أبصرنا أن الصفات الوحيدة التي يمكن أن تقف نظرنا هي الصفات المشتركة بين جميع سكان البلد المطاف فيه لتكرارها باستمرار، ونحن تفوتنا الفروق الفردية فيه لتكرارها القليل ، ونحن، فضلا عن تمييزنا الإنكليزي أو الإيطالي أو الإسپاني عند أول نظرة، لا نلبث أن نعزو إلى هؤلاء بعض الصفات الخلقية والذهنية التي هي عين الصفات الأساسية المذكورة آنفا، ونحن نرى الإنكليزي أو الغسكوني أو النورمندي أو الفلامندي من مثال حسن الاستقرار بذهننا فيمكننا وصفه بسهولة، وهذا الوصف يكون ناقصا في الغالب غير صحيح في بعض الأحيان عند تطبيقه على الشخص المنفرد، وهو يكون تاما عند تطبيقه على معظم أفراد عرق من تلك العروق، وما يكون في ذهننا من جهد لاشعوري لتعيين المثال الجثماني والنفسي في أمة ما هو في جوهره عين المنهاج الذي يقسم العالم الطبيعي به الأنواع.
ولذلك التماثل في المزاج النفسي عند معظم أفراد العرق الواحد أسباب فزيولوجية بسيطة جدا، وبيان الأمر أن كل إنسان لا يمثل بالحقيقة ثمرة آبائه القريبين فقط، بل يمثل ثمرة عرقه أيضا؛ أي جميع سلسلة أجداده. وقد أحصى العالم الاقتصادي مسيو شيسون مقدار ما يجري في عروق كل فرنسي من الدماء فوجد أنه دم عشرين مليونا من معاصري سنة 1000؛ ناظرا إلى اشتمال كل قرن على ثلاثة أجيال، ومن قوله: «إن سكان كل ناحية أو كل إقليم يشتركون في أجدادهم بحكم الضرورة إذن، وإن أولئك السكان من طينة واحدة وذوو طابع واحد، وإنهم صائرون، دائما، إلى المثال المتوسط بفعل تلك السلسلة الطويلة الثقيلة التي لم يكونوا غير حلقاتها الأخيرة، فنحن أبناء آبائنا وعرقنا معا، وليس الشعور وحده هو الذي يجعل لنا من الوطن أما ثانية، بل الخواص الجثمانية والوراثة تؤدي إلى ذلك أيضا.»
والمؤثرات التي يخضع لها الفرد وتوجه سيره ثلاثة أنواع؛ فالنوع الأول، وهو أهمها لا ريب، هو تأثير الأجداد، والنوع الثاني هو تأثير الآباء القريبين، والنوع الثالث، وهو الذي يعتقد أنه أقوى العوامل مع أنه أضعفها على العموم، هو تأثير البيئات، وإذا عدوت الانقلابات المفاجئة العميقة التي تحدث في المحيط وجدت البيئات، وما تنطوي عليه من مختلف المؤثرات الفزياوية والأدبية التي يخضع الإنسان لها ما دام حيا ولا سيما في إبان تربيته، لا تؤدي إلى غير تغيير ضئيل، والبيئات لا تؤثر بالحقيقة إلا عندما تركمها الوراثة في صعيد واحد زمنا طويلا.
والإنسان، مهما كان صنعه، ممثل عرقه في كل وقت وقبل كل أمر إذن، ويتألف روح العرق من اجتماع ما يأتي به أفراد البلد الواحد من الأفكار والمشاعر حين يولدون، وهذه الروح، وإن كانت خفية في جوهرها، ظاهرة كثيرا في آثارها، وهي تسيطر على تطور الأمة بالحقيقة.
ويمكن تشبيه العرق بمجموع الخليات التي يتألف منها ذو الحياة، ووجه الشبه هو أن حياة مليارات الخليات هذه قصيرة جدا، وأن حياة الجسم الذي يتكون من اجتماعها طويلة إلى الغاية إذا ما قيست بتلك الحياة، وأن لتلك الخليات حياة شخصية وحياة مشتركة في الجسم الذي يتركب منها، وأن لكل فرد في العرق الواحد أيضا حياة قصيرة جدا وحياة مشتركة طويلة إلى الغاية، فهذه الحياة الطويلة هي حياة العرق الذي ولد منه ذلك الفرد فيساعد على دوامه، وهو تابع له على الدوام.
إذن، يجب عد العرق موجودا دائما محررا من الزمان، ولا يتركب هذا الموجود الدائم من الأفراد الأحياء الذين يتألف منهم في زمن معين فقط، بل يتركب أيضا من سلسلة الأموات الذين كانوا أجدادا له، ولا بد من الامتداد إلى العرق في الماضي وفي المستقبل معا لإدراك معناه الحقيقي، وإذ كان الأموات أكثر من الأحياء بما لا يحصى فإنهم أقوى من الأحياء بما لا يحصى، والأموات يسيطرون على دائرة اللاشعور الواسعة؛ تلك المنطقة الخفية التي يصدر عنها جميع مظاهر الذكاء والأخلاق، والشعب مسير بأمواته أكثر مما بأحيائه، وبالأموات وحدهم يقوم العرق، والأموات في القرن بعد القرن هم الذين أوجدوا أفكارنا ومشاعرنا، ومن ثم جميع عوامل سيرنا، والأجيال الغابرة تفرض علينا أفكارها فضلا عن مزاجها الجثماني، والأموات وحدهم هم سادة الأحياء بلا جدال، ونحن نحمل وزر خطايا الأموات ونقتطف ثمرة فضائلهم.
ولا يتطلب تكوين مزاج الأمة النفسي مثلما يتطلبه تكوين أنواع الحيوان من العصور الجيولوجية الطويلة التي لا يحصى لها عد، ومع ذلك فهو يحتاج إلى زمن غير قليل؛ فقد اقتضى إحداث ما تتألف منه روح عرقنا من المشاعر والأفكار انقضاء أكثر من عشرة قرون مع ضعف ما انتهى إليه عرقنا من ذلك حتى الآن،
1
ومن المحتمل أن كان عمل ثورتنا الكبرى المهم هو تعجيل هذا التكوين بالقضاء تقريبا على ما كانت فرنسة مجزأة بينه من القوميات الصغيرة؛ كالپيكار والفلامان والبورغون والغسكون والبريتان والپروڨنسيين إلخ. وهيهات أن يكون هذا التوحيد قد تم؛ وذلك لكثرة العروق التي تتألف منها، والتي تؤدي بحكم الطبيعة إلى أفكار ومشاعر مختلفة أشد الاختلاف، فترانا نظل ضحية الانقسامات التي لا تعرفها الأمم الأكثر تجانسا منا؛ كالإنكليز مثلا، ولدى الإنكليز تبصر السكسوني والنورمندي والبريطاني القديم قد انتهوا بالتمازج إلى تأليف مثال كثير التجانس متماثل السير، ولم يلبث الإنكليز بفضل هذا الامتزاج أن اكتسبوا الأسس الجوهرية الثلاثة لروح الأمة؛ وهي: وحدة المشاعر، ووحدة المصالح، ووحدة العقائد، والأمة إذا ما بلغت ذلك اتفق جميع أبنائها بالغريزة على جميع المسائل المهمة، وعاد لا يبدو فيها كبير شقاق.
ووحدة المشاعر والأفكار والمعتقدات والمصالح، التي هي وليدة رواسب بطيئة موروثة، تمنح مزاج الأمة النفسي تجانسا وثباتا عظيمين، وهي تمن على هذه الأمة بقوة كبيرة، وفيها سر عظمة رومة في القرون القديمة وعظمة إنكلترة في أيامنا، وإذا ما غابت الروح القومية انحلت الأمة، وكانت خاتمة شأن رومة يوم أضاعت تلك الروح.
وتلك الشبكة من المشاعر والأفكار والتقاليد والمعتقدات الموروثة التي تتألف منها روح الزمرة قد وجدت، دائما، لدى جميع الأمم على درجات متفاوتة لا ريب، غير أن نموها التدريجي وقع بأقصى البطوء، ولم تشمل روح الزمرة جميع سكان البلد إلا مؤخرا بعد أن كانت مقصورة على الأسرة في البداءة، فامتدت بالتدريج إلى القرية، فإلى المدينة، فإلى الإقليم، وهنالك، فقط، ظهرت فكرة الوطن وفق ما ندركها به اليوم، وهي لم تغد ممكنة إلا بعد أن تكونت الروح القومية، وما ارتقى الأغارقة قط إلى ما فوق فكرة المدينة، وقد ظلت مدنهم متحاربة، على الدوام؛ لأن بعضها كان أجنبيا عن بعض في الحقيقة، ولم تعرف الهند غير وحدة القرية منذ ألفي سنة، فتجد في هذا سر خضوعها باستمرار لسادة من الأجانب الذين انهارت دولهم الموقتة بسهولة كالتي قامت بها.
وفكرة المدينة، وإن كانت بالغة الضعف من الناحية العسكرية كوطن محض، بالغة القدرة من حيث تقدم الحضارة. وروح المدينة، وإن كانت أصغر من روح الوطن، أكثر إنتاجا منها في بعض الأحيان، وقد أثبتت لنا أثينة في القرون القديمة وفلورنسة والبندقية في القرون الوسطى درجة ما يمكن أن تصل إليه زمر الناس الصغرى في ميدان الحضارة.
وإذا حدث أن قضت المدن الصغيرة أو الأقاليم الصغيرة حياة مستقلة زمنا طويلا فإنها لا تعتم أن تحوز روحا تبلغ من الثبات ما يتعذر معه تقريبا أن تمتزج بروح المدن والأقاليم المجاورة فتؤلف روحا قومية، وإذا أمكن حدوث امتزاج مثل هذا؛ أي حينما لا تكون العناصر المتقابلة كثيرة الاختلاف، فإن ذلك لا يكون من عمل يوم واحد، بل من عمل القرون، ولا بد من ظهور رجال من طراز ريشليو وبسمارك لينجزوا مثل هذا العمل، وهم لا يتمونه إلا بعد أن يكون قد نضج منذ زمن طويل، وقد يتفق لبلد، كإيطالية، أن يصير دولة واحدة بغتة بفعل بعض العوامل الشاذة، ولكن من الخطأ أن يعتقد أن ذلك البلد ينال بهذا روحا قومية، وأنت إذا أبصرت الپيمونتي والصقلي والبندقي والروماني إلخ، في إيطالية، فإنك لا تبصر الإيطالي فيها.
ومهما يكن أمر العرق الذي يبحث فيه اليوم، وسواء أكان هذا العرق متجانسا أم غير متجانس، فإنه يجب أن يعد عرقا مصنوعا على الدوام، لا عرقا طبيعيا ما دام قد تمدن ودخل ميدان التاريخ منذ زمن طويل، واليوم لا تجد العروق الطبيعة إلا عند الهمج، وعند الهمج وحدهم تستطيع أن تبصر أمما خالصة من كل اختلاط، وأما معظم العروق المتمدنة فعروق تاريخية.
ولا نشغل أنفسنا الآن بأصول العروق، وليس من المهم أن تكون العروق قد كونتها الطبيعة أو كونها التاريخ، وإنما الذي يهمنا هو أخلاق هذه العروق التي تمت في ماض طويل ، وهذه الأخلاق إذ أمسكت في قرون بفعل أحوال عيش واحدة، وهذه الأخلاق إذ تراكمت بالوراثة، اكتسبت مع الزمن ثباتا وعينت مثال كل أمة.
هوامش
الفصل الثاني
حدود تغير أخلاق العروق
دراسة تطور الحضارات بدقة هي التي نبصر بها وحدها ثبات مزاج العروق النفسي، والذي يظهر أول وهلة هو أن القاعدة العامة في التغير لا في الثبات، والحق أن تاريخ الأمم يحفز إلى افتراضنا أن روح هذه الأمم تخضع أحيانا لتحولات سريعة جدا عميقة إلى الغاية، أفلا يلوح في ذلك التاريخ فرق عظيم بين أخلاق الإنكليزي أيام كرومويل وأخلاقه في الوقت الحاضر مثلا؟ ألا يبدو الإيطالي المعاصر الحذر الفطن مختلفا أشد الاختلاف عن الإيطالي المندفع المفترس الذي يدلنا عليه بنڨنوتوسليني في مذكراته؟ وإذا لم نذهب بعيدا فاقتصرنا على فرنسة جاز لنا أن نقول: ما أكثر ما اعتور الأخلاق فيها من تغيرات ظاهرة في قليل قرون، بل في سنين! وأي المؤرخين لم يسجل ما في أخلاقها القومية من فروق بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر؟ أفلا يخيل إلى الناظر وجود عالم بين أخلاق رجال العهد الغلاظ، وأخلاق عبيد ناپليون الودعاء؟ هؤلاء هم أولئك، وقد بدا تغيرهم تغيرا تاما في بضع سنين.
ونحن، لكي نوضح أسباب هذه التغيرات، نذكر قبل كل شيء أن النوع النفسي هو كالنوع التشريحي مؤلف من عدد قليل من الصفات الأساسية الثابتة التي تتجمع حولها صفات ثانوية متغيرة متحولة، وذلك كالمربي الذي يحول بنية الحيوان الظاهرة، والبستاني الذي يغير منظر النبات؛ فلا يتبين ذلك من ليس له إلمام بالأمر، مع أن المربي والبستاني لم يؤثرا في غير الصفات الثانوية لذلك الحيوان وذلك النبات، والصفات الأساسية تميل، دائما، إلى الظهور ثانية في كل جيل جديد على الرغم من كل حيلة.
وللمزاج النفسي كذلك صفات أساسية ثابتة كصفات الأنواع التشريحية، غير أن للمزاج النفسي صفات ثانوية سهلة التغير أيضا، وهذه الصفات الثانوية هي التي يمكن البيئات والأحوال والتربية وما إليها من مختلف العوامل أن تغيرها بسهولة.
وكذلك يجب أن يذكر الأمر الجوهري القائل إن المزاج النفسي لكل واحد منا يشتمل على بعض الممكنات الخلقية التي لا تهيئ الأحوال لها فرصة الظهور في كل وقت، فإذا ما حدثت هذه الأحوال ظهرت في الحال شخصية جديدة موقتة، وذلك ما تمكن ملاحظته في أدوار الأزمات الدينية والسياسية الكبيرة من تحولات خلقية عرضية كالتي يخيل بها تحول الطبائع والأفكار والسلوك وكل شيء، ويكون كل شيء قد تحول في الحقيقة كما يتحول بغتة وجه البحيرة الهادئة الذي تثيره العاصفة، ومن النادر أن يدوم هذا الاضطراب زمنا طويلا.
ولتلك الممكنات الخلقية التي تحققت بفعل بعض الحوادث الاستثنائية يبدو لنا صانعو الأزمات الدينية والسياسية الكبري من جوهر أعلى من جوهرنا، وأنهم نوع من العمالقة وأننا أبناؤهم المنحلون، ولم يكن أولئك إلا رجالا مثلنا مع ذلك، ولم يكن أولئك إلا أناسا قد أثارت الأحوال ما فيهم من الممكنات الخلقية الخفية في كل واحد منا. انظروا مثلا إلى «جبابرة العهد» الذين وقفوا أمام أوربة المدججة بالسلاح وكانوا يرسلون خصومهم إلى المقصلة لأقل معارضة، انظروا إلى هؤلاء الجبابرة الذين كانوا في الأساس من أبناء الطبقة الوسطى الصالحين المسالمين، من أولئك الذين يحتمل في الأوقات العادية أن ينقطعوا إلى دراستهم أو ينزووا في غرفتهم أو يلزموا مكتبهم فيقضوا حياة هدوء واعتزال، فهم لما وقع من الحوادث الخارقة للعادة التي هزت في دماغهم بعض الخليات المعطلة في الأيام العادية برزوا بتلك الوجوه الهائلة التي لا يدرك أمرها الخلف، ولو ظهر روبسپير بعد مئة سنة لكان قاضيا نزيها من قضاة الصلح محبا لقسيسه، ولو ظهر فوكيه تنڨيل بعد مئة سنة لكان قاضيا للتحقيق متصفا بأكثر مما في زملائه من الغلظة والغطرسة الملازمتين لأبناء مهنته، ولكن مع تقدير لغيرته في تعقب المجرمين، ولو ظهر سان جوست بعد مئة سنة لبدا معلما ماهرا من معلمي المدارس، ولصار محل احترام رؤسائه، ولغدا فخورا بأوسمة الأكاديمية التي كان لا بد له من نيلها في نهاية الأمر، ومما يؤيد صحة هذه الافتراضات بما فيه الكفاية ما صنعه ناپليون من وحوش الهول الذين لم يبق لهم من الوقت ما يضرب بعضهم فيه رقاب بعض؛ فقد أصبح معظم هؤلاء من رؤساء الدواوين والجباة والقضاة والمديرين؛ وذلك لأن الأمواج التي أثارتها العاصفة - وهي التي تكلمنا عنها آنفا - كانت قد هدأت، ولأن البحيرة المضطربة عاد إليها وجهها الهادئ.
ويسهل عليك أن تجد صورا جديدة لأخلاق العرق الأساسية حتى في أشد الأدوار اضطرابا وأغربها تغييرا للشخصيات، وهل كان النظام المركزي الاستبدادي المتحكم الذي جاء به يعاقبتنا الأشداء يختلف بالحقيقة عن النظام المركزي الاستبدادي المتحكم الذي قالت به الملكية في خمسة عشر قرنا، فأصلته في النفوس تأصيلا عميقا؟ وخلف جميع ثورات الأمم اللاتينية يعود إلى الظهور، على الدوام، ذلك النظام العنيد، ذلك الاحتياج المتأصل إلى الخضوع؛ وذلك لما فيه من إجمال لغرائز العرق اللاتيني، ولم يكن ما اتفق لبوناپارت من مجد الفتوح وحده هو الذي جعله سيدا، وبوناپارت حينما حول الجمهورية إلى دكتاتورية كانت غرائز العرق الموروثة تتجلى كل يوم بأشد مما هي عليه، ولو لم يظهر هذا الضابط العبقري لكفى لذلك أي مغامر كان، وتمضي خمسون سنة فلم يكن على وارث اسمه إلا أن يري نفسه لينال أصوات أمة تعبة من الحرية متعطشة إلى العبودية، وليس برومير (الشهر الثاني من السنة الجمهورية) هو الذي صنع ناپليون، بل روح العرق الذي أخذ يركع تحت قدمه الحديدية.
1
وإذا كان تأثير البيئات في الإنسان يظهر كبيرا؛ فلما للبيئات من فعل في العناصر الثانوية المؤقتة أو في ممكنات الخلق التي تكلمنا عنها، وفي الحقيقة لا تكون التغييرات عميقة، وبيان ذلك أن أكثر الناس دعة إذا ما عضه الجوع بلغ من القسوة ما يدفعه إلى اقتراف جميع الجرائم، حتى إلى افتراس نظيره في بعض الأحيان، أفيقال، والحالة هذه، إن خلقه الأصلي قد تغير؟
وإذا حدث أن مقتضيات الحضارة حفزت أناسا إلى أقصى الغنى وما يوجبه الغنى من المتاعب حتما، وأنها أوجدت في أناس آخرين احتياجات عظيمة من غير أن تجعل لهم وسائل لقضائها، فإن الذي ينجم عن هذا هو استياء وقلق عام يؤثران في السير ويثيران انقلابات من كل نوع، بيد أن أخلاق العرق الأساسية تتجلى في ذلك الاستياء وفي هذه الانقلابات، ومن هذا القبيل ما كان من تمزق إنكليز الولايات المتحدة في حربهم الأهلية، وإبدائهم في ذلك من العناد والنشاط العظيم مثل ما يبدونه اليوم في شيد المدن والجامعات والمصانع، فخلق أولئك لم يتغير في ذلك، وإنما الذي تغير هو الموضوعات التي طبق عليها ذلك الخلق.
ونحن، حين نبحث بالتتابع في مختلف العوامل التي تؤثر في مزاج الأمم النفسي، نرى أن هذه العوامل تمس نواحي الخلق الثانوية الموقتة دائما، لا عناصره الأساسية، أو أنها لا تمس هذه العناصر إلا بعد ركام وراثي بطيء.
ولا نستنتج مما تقدم أن صفات الأمم النفسية لا تتغير، بل نستنتج فقط أن هذه الصفات ذات ثبات كالصفات التشريحية، ولهذا الثبات تتغير روح العروق في غضون القرون رويدا رويدا.
هوامش
الفصل الثالث
نظام مراتب العروق النفسي
إذا ما درسنا في كتاب تاريخ طبيعي أسس تقسيم الأنواع وجدنا من فورنا أن الصفات الثابتة الأساسية التي يعين بها كل نوع هي قليلة جدا، فتكفي بضعة أسطر لعدها.
وعلة ذلك هو أن العالم الطبيعي لا يبالي بغير الصفات الثابتة، غير ناظر إلى الصفات المؤقتة، مع أن الصفات الأساسية تجر سلسلة من الصفات الأخرى وراءها حتما.
وقل مثل ذلك عن الصفات النفسية للعروق، ونحن إذا سلكنا سبيل التفصيل وجدنا ما لا يحصيه عد من الاختلافات الدقيقة بين أمة وأخرى وبين شخص وآخر، ولكننا إذا نظرنا إلى الصفات الأساسية وحدها لم نر غير عدد قليل منها في كل أمة، والأمثلة فقط - والأمثلة هي ما نأتي به عما قليل - هي التي تدلنا بوضوح على تأثير هذه الصفات الأساسية القليلة في حياة الأمم.
ولا يمكن عرض تقسيم نفسي للعروق إلا بالبحث المفصل في روح مختلف الأمم، وهذا وحده يتطلب عدة مجلدات، وتراني أقتصر لذلك على بيان خطوطها الكبيرة.
وإني، حين أنظر إلى ما في العروق البشرية من الصفات النفسية العامة فقط، أرى إمكان تقسيم هذه العروق إلى أربعة أقسام؛ وهي: العروق الابتدائية، والعروق الدنيا، والعروق الوسطى، والعروق العليا.
والعروق الابتدائية هي التي لا تجد فيها أي أثر للثقافة، وهي التي ظلت في الدور القريب من الحيوانية والذي جاوزه أهل عصر الحجر المنحوت من أجدادنا، ومن العروق الابتدائية في الوقت الحاضر نذكر الفيوجيين والأستراليين.
وترى فوق العروق الابتدائية العروق الدنيا التي يعد الزنوج عنوانا لها على الخصوص، وفي هذه العروق تجد بصيص حضارة، وبصيص حضارة فقط، وهذه العروق لم تجاوز قط وجوه الحضارة الغليظة، وإن ورثت حضارات راقية بفعل المصادفة، كما اتفق لأهل سان دومنغ.
ونذكر من العروق الوسطى الصينيين واليابانيين والمغول والأمم السامية، فالعرب والآشوريون والمغول والصينيون واليابانيون أبدعوا نماذج حضارات راقية لم يجاوزها غير الأوربيين.
ويجب أن تذكر الأمم الهندية الأوربية بين العروق العليا على الخصوص، وهذه الأمم هي التي أثبتت قدرتها على الاختراعات العظيمة في الفنون والعلوم والصناعة؛ سواء أفي عصر اليونان والرومان القديم، أم في الأزمنة الحديثة، ولهذه العروق ترى الحضارة مدينة بما انتهت إليه اليوم من المستوى العالي، ومن أيدي هذه العروق خرج البخار والكهرباء، وأقل هذه العروق ارتقاء، كالهندوس على الخصوص، قد بلغ في الفنون والآداب والفلسفة درجة لم يصل إليها المغول والصينيون والساميون قط.
وليس من الممكن خلط ما بين الأقسام الأربعة المذكورة؛ فالهوة النفسية التي تفصل بعضها عن بعض تظل واضحة، والصعوبة كل الصعوبة في تقسيم تلك الأقسام إلى أقسام أخرى ثانوية. أجل، إن الإنكليزي والإسپاني والروسي من الأمم العليا، وترى الفروق بين هؤلاء عظيمة جدا مع ذلك.
ويجب لتعيين تلك الفروق أن يؤخذ كل شعب على حدة، وأن توصف أخلاقه، وهذا ما سنفعله بعد قليل في أمر شعبين فنطبق عليهما منهاجنا مثبتين أهمية نتائجه.
والآن لا نستطيع أن نفعل غير الإشارة باختصار إلى طبيعة العناصر الرئيسة النفسية التي نتمكن بها من التفريق بين العروق.
ولا احتياج إلى الذهاب إلى الهمج الخلص لنجد العروق الابتدائية والدنيا ما دامت الطبقات الأوربية السفلى تعدل الفطريين، والذي يشاهد لدى تلك العروق على الدوام هو عجزها عن التعقل؛ أي عجزها عن أن تضم في دماغها الأفكار التي أسفرت عنها الأحاسيس الماضية - أو الألفاظ التي تدل على هذه الأفكار - إلى الأفكار التي هي وليدة الأحاسيس الحاضرة؛ وذلك للمقابلة بين الأفكارين، ولتبين ما بينهما من تشابه واختلاف، وعن هذا العجز عن التعقل تنشأ سرعة تصديق عظيمة وفقدان تام لروح النقد، وفي الإنسان الراقي تجد العكس، وفي الإنسان الراقي تجد قدرة عظيمة على ضم بعض الأفكار إلى بعض، وعلى استخراج النتائج منها، وفي الإنسان الراقي تجد ملكة النقد وروح الدقة ناميتين إلى الغاية.
وكذلك تتصف العروق الابتدائية والدنيا بضعف الانتباه وضعف التأمل إلى أقصى حد، وبنمو ملكة التقليد وبعادة استخراج النتائج العامة الفاسدة من الأحوال الخاصة، وبالعجز عن ملاحظة ما يؤدي إليه الترصد من النتائج المفيدة، وبالعجز عن استنباط هذه النتائج، وبتقلب كبير في الأخلاق، وبغفلة عظيمة، ووحي الساعة الحاضرة هو دليل هذه العروق، وهي - كعيسو (العيص) الذي هو مثال الرجل الابتدائي - تبيع مختارة حقها في البكرية القادمة في مقابل صحن حاضر من العدس، وإذا ما عارض الإنسان عاجله بآجله وكان ذا هدف فسار وراءه بثبات، فإنه يكون قد بلغ شأوا بعيدا من الرقي.
ومن شأن العجز عن البصر بالنتائج البعيدة للأعمال، ومن شأن العطل من كل دليل إلا دليل الساعة الحاضرة، أن يكون الفرد، والعرق أيضا، محكوما عليهما بالبقاء في طور منخفض جدا، والأمم، كلما عرفت أن تضبط غرائزها؛ أي كلما اكتسبت عزما، أي كلما استطاعت أن تسيطر على نفسها، تكون قد أدركت أهمية النظام وضرورة التضحية بالنفس في سبيل مثل عال والارتقاء إلى الحضارة، ولو وجب تقدير مستوى الأمم الاجتماعي في التاريخ بمقياس وحيد لكانت درجة قابلية تلك الأمم للسيطرة على اندفاعاتها اللاتنبهية هي ذلك القياس كما أرى، والرومان في القرون القديمة، والإنكليز والأمريكيون في الزمن الحديث، هم عنوان الأمم التي اتفقت لها تلك الصفة الى أبعد حد؛ وفي هذه الصفة تجد سر عظمة هذه الأمم.
ومن اجتماع العناصر الروحية المختلفة المذكورة آنفا ونموها نموا متقابلا يتألف من الأمزجة النفسية ما يستعان به في تقسيم الأفراد والعروق.
ومن تلك العناصر الروحية ما هو خاص بالخلق، ومنها ما هو خاص بالذكاء.
وتختلف العروق العليا عن العروق الدنيا بالخلق كما تختلف عنها بالذكاء، وبالخلق - على الخصوص - تختلف بعض الأمم العليا عن بعض، ولهذا الأمر أهمية اجتماعية عظيمة، فيجب بيانه بوضوح.
يتألف الخلق من امتزاج مختلف العناصر التي يطلق عليها علماء النفس المعاصرون اسم المشاعر عادة؛ وذلك على نسب مختلفة، ومن بين تلك العناصر ذات الشأن المهم أذكر الثبات والنشاط وقابلية ضبط النفس بوجه خاص؛ أي الصفات المشتقة من الإرادة. ومن عناصر الخلق الأساسية نذكر الأدب أيضا، وإن كان الأدب خلاصة مشاعر مركبة، وأقصد بكلمة الأدب احترام القواعد التي تقوم عليها حياة المجتمع، وتدل حيازة الأمم أدبا على حيازتها قواعد ثابتة للسير وعدم ابتعادها عنها، وتختلف هذه القواعد باختلاف الأزمنة والبلدان، ويلوح الأدب بهذا أنه كثير التغير، والأدب كثير التغير بالفعل، غير أنه يجب أن يكون أدب الأمة في زمن معين غير متغير، وإذ كان الأدب وليد الخلق، لا الذكاء، لا يكون وطيدا إلا إذا صار وراثيا، ومن ثم غير شعوري، وعظمة الأمم بوجه عام خاضعة لمستوى أدبها على الخصوص.
وقد تتغير الصفات الذهنية بالتربية تغيرا قليلا، وتتفلت الصفات الخلقية من سلطان التربية تفلتا تاما تقريبا، وعندما تؤثر التربية في الصفات الخلقية لا يكون هذا التأثير إلا عند ذوي الطبائع المحايدة الذين يكادون يكونون عاطلين من الإرادة والذين يسهل عليهم أن يميلوا إلى حيث يساقون، وترى هذه الطبائع المحايدة لدى الأفراد، وهي قلما ترى في أمة بأسرها، وهي إذا وجدت في الأمة لا يكون وجودها ذلك إلا في أيام انحطاطها.
ومن السهل أن تنتقل اكتشافات الذكاء من أمة إلى أخرى، وأما الصفات الخلقية فلا تنتقل، وهذه هي العناصر الأساسية الثابتة التي يختلف بها مزاج الأمم العليا النفسي، وتمثل الاكتشافات المدينة للذكاء تراث البشرية المشترك، ويتألف من صفات الخلق ومساوئه في كل أمة تراث هذه الأمة الخاص، ويعد الخلق كالصخرة الثابتة التي تلطمها الأمواج يوما بعد يوم في عدة قرون قبل أن تتمكن هذه الأمواج من ثلم أطرافها، ويعدل الخلق عنصر النوع الراسخ، وزعنفة السمك، ومنقار الطير، وناب الضاري.
وخلق الأمة، لا ذكاؤها، هو الذي يعين تطورها في التاريخ وينظم مصيرها، وهو يوجد، دائما، خلف الأهواء الظاهرة للمصادفة العاجزة، وللعناية السبحانية الوهمية، وللقدر الحقيقي الذي يسير الرجال في أعمالهم وفق مختلف العقائد.
وللأخلاق نفوذ ذو سلطان قوي على حياة الأمم، على حين يبدو الذكاء ذا نفوذ ضعيف في الغالب، أجل، كان للرومان في دور الانحطاط ذكاء أرفع من ذكاء أجدادهم الأشداء، بيد أنهم كانوا في ذاك الدور قد أضاعوا صفاتهم الخلقية من ثبات ونشاط وعناد واستعداد للتضحية في سبيل مثل عال، ومن احترام وثيق للقوانين؛ أي أضاعوا هذه الصفات التي كانت سبب عظمة أجدادهم، وبفضل الخلق يضع ستون ألف إنكليزي تحت نيرهم 250 مليون هندوسي، مع أن كثيرا من الهندوس يعدل الإنكليز ذكاء على الأقل، ومع أن كثيرا من الهندوس يفوق الإنكليز إلى ما لا حد له من الذوق الفني وعمق المباحث الفلسفية. وبالخلق غدا الإنكليز على رأس أعظم إمبراطورية استعمارية عرفها التاريخ، وعلى الخلق تقوم متانة المجتمعات والنظم والإمبراطوريات، والخلق هو الذي يجعل الأمم تشعر وتسير، والأمم لم تظفر قط بكبير طائل من إعمال عقلها وقدح زناد فكرها كثيرا.
1
ومن مزاج العروق النفسي يشتق تصورها للعلم وللحياة، ومن ثم سيرها، وسنأتي بأمثلة على ذلك عما قليل، والفرد، إذ يتأثر بالأمور الخارجية من بعض الوجوه، يحس ويعمل على وجه يختلف عما يشعر به الأفراد الذين لهم مزاج نفسي مختلف عن مزاجه، ويفكرون فيه ويصنعونه، وهذا يؤدي إلى النتيجة القائلة: إن الأمزجة النفسية القائمة على مثل شديدة الاختلاف لا يدرك بعضها كنه بعض، وما كان من تنازع العروق المتأصل مصدره ما بين هذه العروق من تناقض في الأخلاق، ومن المتعذر فهم شيء من التاريخ ما لم يقم في الذهن، دائما، ذلك المبدأ القائل: إن العروق المختلفة لا تقدر على الشعور ولا على التفكير ولا على السير على طراز واحد. فلا يدرك بعضها أمر بعض لهذا السبب، ومما لا شك فيه أن في لغات مختلف الأمم ألفاظا مشاعة فتظن هذه الأمم أن هذه الألفاظ مترادفة، بيد أن هذه الألفاظ المشاعة تثير من المشاعر والخيالات وطرز التفكير ما يباين التي تساور سامعيها، ولا بد من العيش بين أمم ذات مزاج نفسي مخالف لمزاجنا مخالفة محسوسة لتبين مدى الهوة التي تفصل بين أفكار مختلف الأمم، حتى لو وقع الاختيار في تلك الأمم على أناس نالوا تربيتنا ويتكلمون بلغتنا، ويمكن الباحث، من غير أن يحتاج إلى بعيد الأسفار، أن يستجلي ذلك عند تحقيقه الفرق النفسي الكبير بين الرجل المتمدن والمرأة؛ ولو كانت هذه المرأة عظيمة التعليم، وقد يكون هذان ذوي مصالح متماثلة ومشاعر متماثلة، ولكنهما لا يتشابهان في تسلسل أفكارهما أبدا، فهما قد فطرا على مثالين بلغا من التباين ما يتعذر أن يتأثرا معه على وجه واحد بالأمور الخارجية، وما بين منطقهما من اختلاف يكفي لإحداث هوة بينهما لا يمكن اقتحامها.
وما بين مزاج مختلف العروق النفسي من هوة يوضح لنا السبب في أن الأمم العليا لم توفق قط لحمل الأمم المتأخرة على اعتناق حضارتها، وما كان من الرأي الشائع القائل إن التعليم يمكنه أن يحقق مثل هذا الأمر هو من أشأم الأوهام التي صدرت عن نظريي العقل الصرف، ولا مراء في أن التعليم يمنح الشخص الذي وضع في أدنى درجات السلم البشري جميع ما لدى الأوربي من المعارف بفضل ما يكون عند أحط الأفراد من الذاكرة التي لم تكن مقصورة على الإنسان، ومن السهل أن يجعل من الزنجي أو الياباني محاميا أو حاملا لشهادة البكالوريا، بيد أن ذلك لا يعطيه سوى طلاء سطحي غير مؤثر في مزاجه النفسي، وإنما الذي يعجز التعليم عن منحه إياه هو ما يتصف به الغربيون من وجوه تفكير ومنطق، ومن أخلاق على الخصوص؛ لصدوره عن الوراثة وحدها، وقد يجمع ذلك الزنجي أو الياباني جميع الشهادات الممكنة، ولكنه لا يرتقي إلى مستوى الأوربي العادي مطلقا، ومن السهل أن يلقن الزنجي في عشر سنين مثل ما يلقنه الإنكليزي الحسن الثقافة، ولكن قد لا تكفي عدة قرون لأن تجعل منه إنكليزيا حقيقيا؛ أي رجلا يسير كالإنكليزي في مختلف أحوال الحياة التي يوضع فيها، وليس في سوى الظاهر تغيير أمة للغتها أو مزاجها أو معتقداتها أو فنونها بغتة، وتغيرات كهذه لا تكون حقيقية في الأمة إلا إذا استطاعت هذه الأمة أن تحول روحها.
هوامش
الفصل الرابع
تفاوت الأفراد والعروق التدريجي
لا تمتاز العروق العليا من العروق الدنيا بصفاتها النفسية والتشريحية وحدها، بل تمتاز منها باختلاف العناصر التي تتألف منها أيضا، وفي العروق الدنيا يكون جميع الأفراد من أي الجنسين على مستوى نفسي متماثل تقريبا، وهؤلاء الأفراد؛ لما بينهم من تشابه، تجدهم عنوانا للمساواة التامة التي يحلم بها الاشتراكيون في الوقت الحاضر، وبالعكس تجد السنة عند العروق العليا في تفاوت أفراد هذه العروق وجنسيها تفاوتا عقليا.
وكذلك لا يقاس مدى الفروق بين الأمم بالمقابلة بين طبقاتها الوسطى، بل بالمقارنة بين طبقاتها العليا، فالهندوس والصينيون والأوربيون لا يتفاوتون بطبقاتهم الوسطى إلا قليلا، وهم بالعكس يتفاوتون بطبقاتهم العليا تفاوتا عظيما.
وكلما تقدمت الحضارة سارت العروق، وكذلك أفراد العروق العليا على الأقل، نحو التفاوت شيئا فشيئا، وتؤدي الحضارة الحاضرة إلى تفاوت الناس بالتدريج، لا إلى تساويهم ذهنيا؛ وذلك خلافا لنظرياتنا في المساواة.
والحق أن من أهم نتائج الحضارة من جهة هو تفاوت العروق بعمل ذهني تفرضه الحضارة على الشعوب التي بلغت درجة رفيعة من الثقافة فيعظم كل يوم، وهو من جهة أخرى إحداث تفاوت تدريجي في مختلف الطبقات التي يتألف منها كل شعب متمدن.
وتقضي شروط التطور الصناعي الحديث على الطبقات الدنيا في الأمم المتمدنة بالعمل الضيق الذي يحط ذكاءها بدلا من تنميته، ومنذ مئة سنة كان العامل صانعا حقيقيا قادرا على صنع أية آلة كالساعة مثلا، واليوم غدا العامل صانعا بسيطا لا يصنع غير قطعة واحدة فيقضي حياته في ثقب الثقوب المتماثلة، أو صقل الأداة ذاتها، أو سوق الآلة نفسها، وهذا ما يوجب هزال ذكائه بسرعة، وعكس ذلك أمر المستصنع أو المهندس الذي تضغطه الاكتشافات والمنافسة فتحفزه إلى جمع عدد من المعلومات وروح المبادرة والاختراع يزيد عما كان يجمعه منذ قرن بدرجات، وإذ كان دماغه يعمل باستمرار على هذا الوجه فإنه يخضع للسنة المسيطرة على جميع الأعضاء؛ أي إنه ينمو مقدارا فمقدارا.
وكان توكڨيل قد أشار إلى ذلك التفاوت التدريجي بين الطبقات الاجتماعية في زمن كانت الصناعة فيه بعيدة من درجة التقدم التي انتهت إليها اليوم فقال: «كلما أوغل في تطبيق مبدأ توزيع الأعمال غدا العامل أشد ضعفا، وأضيق عقلا، وأقل استقلالا مما كان عليه، وكلما تقدمت الصناعة تقهقر الصانع، فزاد ما بين العامل ورب العمل من فرق.»
واليوم يمكن عد الأمة العليا من الناحية الذهنية كهرم مدرج يتألف من أعرض أقسامه طبقات الشعب الدنيا، ويتألف من درجاته العليا طبقات الشعب الذكية،
1
وتتألف ذروته من صفوة قليلة من العلماء والمخترعين والمتفننين والكتاب، وهذه الزمرة الأخيرة، وإن كانت صغيرة، إذا ما قيست ببقية الشعب، هي ما يقوم عليه وحده مستوى البلد في سلم الحضارة الذهني، وتكفي إزالتها لزوال كل ما فيه مجد الأمة، ومن الصواب قول سان سيمون: «إذا ما أضاعت فرنسة بغتة الخمسين الأول من كل من علمائها ومتفننيها ومستصنعيها وزراعها غدت جسما بلا روح، وجثة بلا رأس، وهي إذا أضاعت جميع موظفيها لم يصبها من وراء ذلك غير ضرر يسير.»
وكلما تقدمت الحضارة زاد التفاوت بين أقصى طبقات الشعب، ويعظم هذا التفاوت على نسبة هندسية في زمن ما، ولو سار الزمن طليقا ولم تعقه عوامل الوراثة لرئيت المسافة بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من الناحية الذهنية قد عظمت فغدت كالمسافة التي تفصل الأبيض عن الزنجي، أو التي تفصل الزنجي عن القرد.
بيد أن هنالك أسبابا كثيرة تحول دون تمام ذلك التفاوت الذهني بين الطبقات الاجتماعية، مهما بلغ، بتلك السرعة التي يمكن القول بها نظريا، والواقع ، وهو أول تلك الأسباب، هو أن التفاوت لا يكون إلا في الذكاء، وهو لا يتناول الخلق أو يتناوله قليلا، ونحن نعلم أن الخلق، لا الذكاء، هو الذي يمثل دورا مهما في حياة الشعوب. والسبب الثاني هو أن الجموع تهدف بنظامها وقوامها إلى أن تصير صاحبة السلطان في الوقت الحاضر، وإذ كانت الجموع بادية الحقد على الأفضليات الذهنية فإن كل أريستوقراطية ذهنية مقضي عليها، على ما يحتمل، بأن تقوض بعنف في ثورات دورية كلما نظمت الجموع الشعبية شؤونها، وذلك كما قضي على طبقة الأشراف القديمة منذ قرن، وإذا ما قيض للاشتراكية أن تقهر بلدا كان بقاؤها بعض الزمن موقوفا على إزالة جميع الأفراد الذين يحوزون أفضلية فيجاوزون المستوى المتوسط ولو قليلا.
وإذا عدوت ذينك السببين، المصنوعين لصدورهما عن مقتضيات الحضارة المتقلبة، وجدت سببا ثالثا أعظم أهمية منهما؛ لأنه عنوان سنة طبيعية ثابتة، ويقوم هذا السبب على منع خيار الأمة من الافتراق عن الطبقات الدنيا افتراقا ذهنيا كبيرا فضلا عن افتراقهم عنها افتراقا تاما، والحق أنك تجد، بجانب مقتضيات الحضارة الحاضرة العاملة على تفاوت أفراد العرق مقدارا فمقدارا، سنن الوراثة الشديدة الوطأة التي تهدف إلى إزالة الأفراد الذين يجاوزون المستوى المتوسط مجاوزة جلية، أو إلى إعادتهم إلى هذا المستوى المتوسط.
وهنالك مشاهدات قديمة نص عليها جميع العلماء الذين عالجوا مسألة الوراثة فتثبت هذه المشاهدات بالحقيقة أن أبناء الأسر الرفيعة الذكاء تفسد عاجلا أو آجلا (عاجلا على الأرجح)، فيؤدي فسادها إلى زوالها التام.
إذن، لا ينال الرجل سموا ذهنيا كبيرا إلا ليترك خلفه ذرية فاسدين، والواقع هو أن ذروة الهرم الاجتماعي التي تكلمت عنها آنفا لا تدوم إلا بما تستعيره من العناصر التي هي تحتها، ولو حدث أن جمع الخيار كلهم في جزيرة منفردة لأسفر توالدهم بسرعة عن ظهور عرق مصاب بضروب الفساد، ومحكوم عليه بالأفول من فوره، ويمكن تشبيه الأفضليات الذهنية العظيمة بالنبات الذي ضخمه البستاني بفنه فلا يلبث أن يموت أو يعود إلى مثال نوعه المتوسط إذا ما ترك وشأنه؛ وذلك لما في نوعه المتوسط من السلطان القوي الذي يمثل سلسلة الأصول الطويلة.
وتدل دراسة مختلف الأمم دراسة دقيقة على أن أفراد العرق الواحد، إذا تفاوتوا في الذكاء كثيرا، لا يتفاوتون إلا قليلا في الخلق الذي هو صخرة ثابتة على الرغم من الزمن كما بينت، ولذلك يجب علينا أن ننظر إلى العرق من ناحيتين مختلفتين عند البحث فيه؛ فالعرق من الناحية الذهنية لا قيمة له إلا بصفوة قليلة من الناس يتم بفضلها ما يتفق للحضارة من تقدم في العلوم والآداب والصناعات، والعرق من الناحية الخلقية جدير بأن ينظر إلى طبقته المتوسطة وحدها، والأمم مدينة في قوتها لمستوى هذه الطبقة المتوسطة على الدوام، والأمم يمكنها أن تستغني عن صفوتها الذهنية على التحقيق، لا عن درجة معينة من المستوى الخلقي، وهذا ما نوضحه عما قليل.
وبينما يتفاوت أفراد العرق في غضون القرون تفاوتا ذهنيا تدريجيا على ذلك الوجه؛ ترى هؤلاء الأفراد في كل وقت يترجحون من الناحية الخلقية حول مثال ذلك العرق المتوسط، وإلى هذا المثال المتوسط الذي يرتقى إليه ببطء ينتسب معظم أفراد الأمة، وتجد هذا الأصل الأساسي مكسوا لدى الأمم العليا على الأقل بطبقة رقيقة من ذوي النفوس العالية ذات أهمية من ناحية الحضارة غير ذات أهمية من ناحية العرق، وتزول تلك الطبقة الرقيقة فتتجدد، دائما، على حساب الطبقة المتوسطة التي لا تتغير إلا رويدا رويدا؛ وذلك لأن التغيرات الدقيقة تتطلب تراكما نحو معنى واحد في قرون كثيرة لتغدو دائمة.
وقد استعنت بمباحث تشريحية صرفة منذ بضع سنين، فانتهيت إلى أفكار في تفاوت الأفراد والعروق تفاوتا أستند في إثباته هنا إلى أسباب نفسية، وإذ يؤدي كلا البحثين إلى نتائج واحدة فإنني أقتصر على ذكر بعض النتائج التي وصلت إليها في دراستي السابقة، وقد وفقت لهذه النتائج من المقابلة بين ألوف من الجماجم القديمة والحديثة الخاصة بعروق مختلفة، وإليك أهم ما تم لي:
إذا ما نظرت إلى سلاسل من الجماجم، غير ملتفت إلى الأحوال الفردية، وجدت صلة وثيقة بين حجم الجمجمة والذكاء ، وهنالك ترى أن الذي يميز العروق الدنيا من العروق العليا لا يقوم على الفروق الضئيلة في الحجم المتوسط لجماجمها، بل يقوم على الأمر الجوهري القائل: إن العرق الأعلى يشتمل على عدد من الأفراد ذوي الدماغ الكثير النمو، على حين تبصر العرق الأدنى عاطلا من مثل هؤلاء الأفراد، ولذلك تتفاوت العروق بمن فيها من الأفراد الذين يمتازون من جموعها، لا بمجموعها، وإذا عدوت العروق الدنيا البالغة أقصى التأخر لم تجد فرق الجماجم المتوسط عظيم الاتساع بين أمة وأمة.
وإذا قابلت بين جماجم مختلف العروق البشرية في الحال والماضي أبصرت أن العروق التي يتفاوت حجم جماجمها أكثر من تفاوت جماجم غيرها هي العروق التي تكون أعرق من سواها في الحضارة، وأن العرق كلما تمدن تفاوت حجم جماجم الأفراد الذين يتألف منهم، ومن هنا نستنتج أن الحضارة لا تقودنا إلى المساواة الذهنية، بل إلى تفاوت عميق على الدوام، ولا تكون المساواة التشريحية والفزيولوجية إلا في أفراد العروق الدنيا، وإذ يتعاطى أفراد القبيلة الوحشية أعمالا واحدة فإن الفرق بينهم يكون ضئيلا بحكم الضرورة، وبالعكس يكون الفرق عظيما بين الفلاح الذي لا يجاوز ما عنده من اللغة ثلاثمئة كلمة، والعالم الذي يكون لديه مئة ألف كلمة وما يقابلها من الأفكار.
وما يؤدي إليه تقدم الحضارة من تفاوت بين الأفراد يتجلى بين الجنسين أيضا، ولدى الأمم الدنيا أو في الطبقات السفلى من الأمم العليا يتقارب الرجل والمرأة من الناحية الذهنية، وبالعكس كلما تمدنت الأمم تفاوت الجنسان شيئا فشيئا.
وإذا قصرنا المقابلة على رجال ونساء متساوين سنا وطولا ووزنا، وذلك كما صنعت، وجدنا تفاوت الجنسين تفاوتا مطردا بنسبة درجة الحضارة، وتبدو هذه الفروق ضعيفة في العروق الدنيا، وتبدو عظيمة في العروق العليا، وفي الغالب لا تكاد جماجم النساء في العروق العليا تكون أكثر نموا من جماجم نساء العروق الدنيا، وبينما تجد متوسط جماجم الباريسيين من أضخم الجماجم تجد متوسط جماجم الباريسيات لا يزيد حجما على أصغر الجماجم التي تشاهد، وهذه الجماجم النسوية هي في مستوى جماجم الصينيات تقريبا، وهي لا تفوق جماجم كلدونية الجديدة إلا قليلا.
2
هوامش
الفصل الخامس
تكوين العروق التاريخية
بينا، فيما تقدم، أننا لا نستطيع أن نجد لدى الأمم المتمدنة عروقا حقيقية بالمعنى العلمي، بل نجد عروقا تاريخية فقط؛ أي عروقا كونتها مصادفات الفتوح والهجرة والسياسة وما إلى ذلك، ومن ثم تكونت بفعل تمازج أفراد مختلفي الأصول.
وكيف تنتهي هذه العروق المتباينة إلى التمازج وإلى تكوين عرق تاريخي ذي أخلاق نفسية واحدة؟ هذا هو الذي نبحث فيه.
وأول ما نلاحظه هو أن العناصر المتواجهة اتفاقا لا تمتزج في كل وقت؛ ومن ذلك أن الشعوب الألمانية والمجرية والسلافية وغيرها من التي تعيش في الدولة النمسوية تؤلف عروقا شديدة الاختلاف فلم تبد ميلا إلى الامتزاج قط، وكذلك الإيرلنديون الذين يسيطر عليهم الإنكليز لم يختلطوا بهؤلاء قط، وأما الأمم المنحطة تماما، كأصحاب الجلود الحمر (الپوروج) والأوستراليين والتسمانيين، فإنها تزول بسرعة عند مصاقبتها للأمم العليا فضلا عن أمر امتزاجها بها، وقد دلت التجربة على أن كل أمة من الأمم الدنيا تزول حتما إذا ما واجهت أمة عالية.
وهناك ثلاثة شروط لا بد من اجتماعها لامتزاج العروق وتأليفها عرقا جديدا يكون على شيء من التجانس: فالشرط الأول هو ألا يكون تفاوت العروق المتوالدة كبيرا في العدد، والشرط الثاني هو ألا يكون اختلاف هذه العروق في الأخلاق عظيما، والشرط الثالث هو أن تظل هذه العروق خاضعة لبيئات واحدة زمنا طويلا.
والشرط الأول من هذه الشروط على جانب عظيم من الأهمية؛ وذلك أن عددا صغيرا من البيض إذا ما نقل إلى شعب كثير العدد من الزنوج زال بعد بضعة أجيال من غير أن يترك أثرا في دم ذراريه، وعلى هذا الوجه غاب جميع الفاتحين الذين قهروا شعوبا كثيرة العدد، ومن الممكن أن يكون هؤلاء الفاتحون قد تركوا خلفهم حضارتهم وفنونهم ولغتهم، كما اتفق للاتين في بلاد الغول وللعرب في مصر، ولكنهم لم يتركوا دمهم.
وللشرط الثاني من تلك الشروط كبير أهمية أيضا؛ وذلك أن مما لا مراء فيه أن العروق الشديدة الاختلاف، كالبيض والسود مثلا، تمتزج في نهاية الأمر، غير أن ما يسفر عنه مثل هذا التوالد من المولدين هو ظهور شعب أحط من العروق التي اشتق منها بمراحل، هو ظهور شعب كثير العجز عن ابتداع حضارة أو إدامتها، والسبب في ذلك هو أن تأثير الوراثات المتباينة يفك الآداب والأخلاق، ومما حدث أن مولدين من البيض والزنوج، كما في سان دومنغ، ورثوا اتفاقا حضارة رفيعة، فلم تعتم هذه الحضارة أن سقطت إلى دركة الانحطاط، وقد يكون التوالد عامل تقدم إذا وقع بين عروق عالية متقاربة كالإنكليز والألمان في أمريكة، والتوالد يكون عامل انحلال على الدوام إذا كانت تلك العروق متباينة جدا، ولو كانت من العروق العالية.
1
وتوالد الشعبين يعني تغيير مزاجهما الجثماني ومزاجهما النفسي، والتوالد هو الوسيلة الوحيدة لتحويل أخلاق الشعوب تحويلا أساسيا، والوراثة - إذ كان لا يفلها إلا الوراثة - فإنها تؤدي مع الزمن إلى ظهور عرق جديد ذي صفات جثمانية ونفسية جديدة.
وتظل الأخلاق التي تظهر على ذلك الوجه مذبذبة ضعيفة إلى الغاية في بدء الأمر، ولا بد، لثباتها، من ركام وراثي طويل على الدوام، وأول أثر للتوالد بين مختلف العروق هو القضاء على روح هذه العروق؛ أي على مجموع الأفكار والمشاعر المشتركة التي تتألف منها قوة الأمم والتي لا وجود لأمة ولا لوطن بغيرها، وذلك هو أحرج أدوار تاريخ الأمم، وذلك هو دور البدء والتحسس الذي لا مناص من مجاوزة الجميع له؛ لما لا تجد أمة أوربية غير قائمة على أنقاض الأمم الأخرى، وذلك هو الدور المملوء بالمنازعات الداخلية، وبتصاريف الدهر؛ فلا ينقضي قبل استقرار الأخلاق النفسية الجديدة.
ومما تقدم ترى أنه يجب عد التوالد عاملا أساسيا في تكوين العروق الجديدة، وعاملا قويا في انحلال العروق القديمة، ومن الصواب، إذن، أن اجتنبت الأمم التي بلغت درجة رفيعة من الحضارة مخالطة الأجانب، ولولا نظام الطوائف العجيب لرأى لفيف الآريين الذي استولى على الهند نفسه غارقا بسرعة في جماعة السود الكبيرة التي كانت تحيط به من كل جانب، ولما ظهرت أية حضارة في تلك البلاد العظيمة، ولو لم يحافظ الإنكليز في أيامنا على مثل ذلك النظام عمليا فتوالدوا هم وأبناء البلاد الأصليون لخسروا إمبراطورية الهند العظمى منذ زمن طويل. أجل، قد تفقد الأمة أشياء كثيرة وتعاني مصائب كثيرة ثم تنهض بعد ذلك، ولكنها تفقد كل شيء فلا تنهض أبدا إذا أضاعت روحها.
ويقوم التوالد بدوره المخرب ثم بدوره المبدع، اللذين تكلمت عنهما فيما تقدم، عندما تغدو الحضارات التي تكون في دور الانحطاط فريسة الغزاة المسالمين أو المقاتلين، ويقوض هذا التوالد دعائم الحضارة القديمة لتقويضه روح الأمة التي تمسكها، وهو يوجب ابتداع حضارة جديدة ما دامت الأخلاق النفسية القديمة للشعوب المتقابلة قد زالت، وما دامت قد بدت أخلاق جديدة في طور التكوين بفعل أحوال الحياة الجديدة.
وفي العروق التي تكون في دور التكوين بعد أن خسرت صفاتها الموروثة بوراثات معاكسة، وفي هذه العروق فقط، يبدو تأثير آخر العوامل المذكورة في بدء هذا الفصل: يبدو تأثير البيئات، وتأثير البيئات هذا، وهو ضعيف إلى الغاية في العروق القديمة، عظيم إلى الغاية في العروق الجديدة. وبيان الأمر أن التوالد، حين يهدم الأخلاق النفسية الموروثة التي دامت عدة قرون، يحدث لوحا ملسا فيقيم عمل البيئات عليه بناءه في قرون كثيرة ثم يوطد الأخلاق النفسية الجديدة، وهنالك، وهنالك فقط، يكون قد تكون عرق تاريخي جديد، وعلى هذا الوجه تكون عرقنا.
والبيئات، مادية كانت أو أدبية، ذات قوة أو ضعف بحسب الأحوال، وبهذا نفسر السبب في تناقض ما دار حول تأثيرها من الآراء، وتأثير البيئات يكون عظيما في العروق التي هي في دور التكوين كما رأينا، ولكننا إذا نظرنا إلى العروق التي ثبتت منذ زمن طويل بفعل الوراثة أمكننا أن نقول إن تأثير البيئات فيها يكاد يكون صفرا.
ولنا في عدم تأثير حضارتنا الغربية في أمم الشرق، مع اتصالها بها منذ عدة أجيال، دليل على عدم تأثير البيئات الأدبية في العروق، وذلك كما يشاهد لدى الصينيين المقيمين بالولايات المتحدة، ولنا في مصاعب التوطن دليل على ضعف تأثير البيئات المادية. وأهون على العرق القديم أن يفنى من أن يتحول إذا ما نقل إلى بيئة تختلف عن بيئته اختلافا كبيرا سواء أكان هذا العرق بشريا أم حيوانيا أم نباتيا، ومن ذلك أن غدت مصر قبرا لفاتحيها من مختلف الأمم على الدوام. ومصر هذه لم يسطع أحد أن يستوطنها، ومصر هذه لم يترك فيها الأغارقة والرومان والفرس والعرب والترك وغيرهم أثرا من دمائهم، والمثال الوحيد الذي تبصره في مصر هو مثال الفلاح الثابت الذي تشابه ملامحه ملامح أولئك الذين نحتهم متفننو مصر منذ سبعة آلاف سنة على قبور الفراعنة وقصورهم.
ولا يزال معظم العروق التاريخية الأوربية في دور التكوين، ومن المهم معرفة ذلك لإدراك تاريخ تلك العروق، ويكاد الإنكليزي الحاضر وحده يمثل عرقا ثبت أمره تماما، ففي الإنكليزي امحى البريتوني القديم والسكسوني والنورماندي لتأليف مثال جديد على شيء من التجانس، والأمر في فرنسة على العكس، فترى فيها الپروڨنسي يختلف كثيرا عن البريتوني، وترى فيها الأوڨرني يختلف كثيرا عن النورمندي، ومع ذلك نقول: إذا لم يوجد حتى الآن مثال فرنسي متوسط فإنه يوجد على الأقل أمثلة متوسطة في بعض البقاع الفرنسية، ومن دواعي الأسف أن كانت هذه الأمثلة مختلفة أشد الاختلاف في الأفكار والأخلاق، ومن الصعب، إذن، أن تجد نظما تلائم هذه الأمثلة على السواء، والنظام المركزي العنيف وحده هو الذي يستطيع أن يمن عليها ببعض الأفكار المشتركة، والمصدر الرئيس لما لدينا من فروق عميقة في المشاعر والمعتقدات، وما أسفرت عنه هذه الفروق من الانقلابات السياسية، هو فيما بين الأمزجة النفسية من فروق يستطيع المستقبل وحده أن يمحوها على ما يحتمل.
ويبدو الأمر دائما على الوجه المذكور عند تماس مختلف العروق، وتظهر المنازعات الداخلية والانشقاقات عنيفة بنسبة اختلاف العروق المتواجهة، ومن المتعذر أن تحمل العروق الشديدة التباين على العيش بنظم واحدة وقوانين واحدة كما يشهد بذلك، في كل وقت، تاريخ الإمبراطوريات العظمى التي تألفت من عروق مختلفة، والتي تزول بزوال مؤسسها في الغالب، ومن الأمم الحديثة تجد الهولنديين والإنكليز وحدهم قد وفقوا لفرض سلطانهم على شعوب آسيوية تختلف عنهم اختلافا كبيرا، ولكنهم لم يصلوا إلى ذلك إلا لأنهم عرفوا كيف يحترمون طبائع هذه الشعوب وقوانينها تاركين لها إدارة نفسها بنفسها في الحقيقة مقتصرين على جزء من الضرائب، وعلى ممارسة التجارة وحفظ الأمن.
وإذا عدوت هذه الاستثناءات النادرة وجدت أن جميع الإمبراطوريات الكبيرة المشتملة على أمم متباينة لم تقم إلا بالقوة، وأنها تزول بالعنف. والأمة، لكي تنشأ فتدوم، لا بد لها من أن تتكون على مهل بامتزاج عروق قليلة الاختلاف مقدارا فمقدرا، وبتوالد هذه العروق فيما بينها توالدا مستمرا، وبعيشها على أرض واحدة، وبمعاناتها تأثير بيئات واحدة، وبإذعانها لنظم واحدة ومعتقدات واحدة، وهكذا، تستطيع هذه العروق المختلفة أن تؤلف أمة متجانسة بعد مرور بضعة قرون.
وكلما تقادم العالم استقرت العروق فيه شيئا فشيئا، وغدا تحولها بالامتزاج نادرا مقدارا فمقدارا، وكلما تقدمت البشرية سنا شعرت بثقل الوراثة وصعوبة التحول، ولذا يمكننا أن نقول إن دور تكوين العروق التاريخية في أوربة سينقضي بعد قليل.
هوامش
الباب الثاني
كيف تتجلى الأخلاق النفسية للعروق في مختلف عناصر
الحضارات
الفصل الأول
عناصر الحضارة مظهر خارجي لروح الأمة
يجب أن يعد مختلف العناصر التي تتألف منها الحضارة، من لغات ونظم وأفكار ومعتقدات وفنون وآداب، مظهرا خارجيا لروح الذين أبدعوها، بيد أن أهمية هذه العناصر تبدو متفاوتة إلى الغاية بتفاوت الأزمان والعروق ما دامت عنوان روح الأمة.
واليوم لا تجد كتابا باحثا في الآثار الفنية من غير أن يبدي هذه الآثار ترجمانا صادقا لأفكار الأمم ومعبرا مهما عن حضارتها.
ولا ريب في أن الأمر على هذا الوجه في الغالب، ولكن الأمر بعيد من أن يكون قاعدة مطلقة فيطابق رقي الفنون رقي الأمم الذهني في كل وقت، فإذا كانت الآثار الفنية لدى بعض الأمم أهم مظهر لروحها فإن من الأمم من بلغت درجة رفيعة جدا في سلم الحضارة مع بقاء شأن الفنون ثانويا عندها، ولو قضي علينا بأن نكتب تاريخا لحضارة كل أمة غير ناظرين إلى غير عنصر واحد لوجدنا اختلاف هذا العنصر بين أمة وأمة؛ أي لوجدنا الفنون أحسن وسيلة لمعرفة بعضها كما نجد النظم أو الجندية أو الصناعة أو التجارة أظهر ما نتبين بها غيرها، وهذا أمر يجب تقريره قبل كل شيء لما نستطيع أن ندرك به، فيما بعد، ما السبب في أن مختلف عناصر الحضارة كان عرضة لتحولات متفاوتة بانتقاله من عرق إلى آخر.
ولنا في المصريين والرومان من أمم القرون القديمة عدة أمثلة بارزة على ذلك التفاوت في نشوء مختلف عناصر الحضارة، حتى في مختلف الفروع التي يتألف منها كل واحد من هذه العناصر.
وانظر إلى المصريين، قبل كل شيء، تر الآداب عندهم ضعيفة جدا في كل وقت، وتر فن التصوير عندهم هزيلا جدا، وتر فن البناء وصنع التماثيل أسفر عندهم عن أنفس الآثار، فلا تزال مبانيهم تثير إعجابنا، ويصلح ما تركوه لنا من التماثيل؛ كتماثيل الكاتب وشيخ البلد وراحوتب ونفرت آرى وغير ذلك، أن يتخذ نماذج حتى في زماننا، وما استطاع الأغارقة أن يجاوزوا مستوى تلك التماثيل إلا لوقت قصير.
وبجانب المصريين نذكر الرومان الذين مثلوا دورا كبيرا في التاريخ، والرومان لم يكن ليعوزهم المربون ولا النماذج ما وجد المصريون والأغارقة خلفهم، والرومان لم يستطيعوا أن يبتدعوا فنا خاصا بهم مع ذلك، ومن المحتمل أنك لا تبصر أمة أبدت من قلة الإبداع ما أبداه الرومان في منتجاتهم الفنية، والرومان كانوا لا يبالون بالفنون إلا قليلا، والرومان كانوا لا ينظرون إلى الفنون إلا من جهة النفع فلا يرونها إلا ضربا من سلع الاستيراد المشابهة للمحاصيل الأخرى كالمعادن والعطور والأبازير التي كانوا يلتمسونها من الأمم الأجنبية، والرومان على ما اتفق لهم من سيادة العالم لم يكن لهم فن قومي، حتى إنهم في دور السلم العام لم يؤد ثراؤهم واحتياجهم إلى النفائس إلى غير نمو قليل في مشاعرهم الفنية، فكانوا يطلبون النماذج والمتفننين من الأغارقة، وما كان تاريخ فن البناء والنحت لدى الرومان غير فصل تال لتاريخ العمارة والحفر عند الأغارقة.
بيد أن أمة الرومان العظيمة، المتأخرة في الفنون كثيرا، أوجبت نهوض ثلاثة عناصر أخرى من عناصر الحضارة؛ فقد كان عندها من النظم الحربية ما سيطرت به على العالم، وكان لديها من النظم السياسية والقضائية ما لا نزال نسير على غراره حتى اليوم، وكان لها من الآداب المبتكرة ما استوحيناه في قرون كثيرة.
إذن، نرى تفاوتا يقف النظر في نشوء عناصر الحضارة لدى أمتين لا جدال في سمو ثقافتهما، ونستطيع أن نبصر الأغاليط التي نكون عرضة لها عندما نقتصر على اتخاذ عنصر واحد مقياسا كالفنون مثلا، وها نحن أولاء قد وجدنا الفنون لدى المصريين مبتكرة ممتازة إلى الغاية مع استثناء التصوير، ووجدنا الآداب لديهم هزيلة، وها نحن أولاء وجدنا الفنون عند الرومان هزيلة عاطلة من أي إبداع كان، ووجدنا الآداب عندهم رائعة، ووجدنا النظم السياسية والحربية عندهم من الطراز الأول.
والأغارقة أنفسهم، وهم من الأمم التي أبدت من التفوق في مختلف الفروع ما لم يبده غيرها، يمكن الاستشهاد بهم لإثبات فقدان المطابقة بين نمو مختلف عناصر الحضارة، وبيان الأمر أن آدابهم في العصر الأوميري كانت ساطعة إلى الغاية ما دام الناس لا يزالون يعدون أغاني أوميرس نماذج قضي على الشبيبة الجامعية بأوربة بأن تشبع منها منذ قرون، وأن الحفريات الأثرية الحديثة أثبتت كون فن العمارة وفن النحت لدى الأغارقة في العصر الأوميري على جانب كبير من الغلظة ما تألفا من تقليد مشوه لمصر وآشور.
والهندوس، على الخصوص، هم الذين يتخذون دليلا على ما في نشوء مختلف عناصر الحضارة من تفاوت، والهندوس لم تفقهم أمة في فن العمارة إلا قليلا، والهندوس، من الناحية الفلسفية، بلغوا من عمق التأمل درجة لم يصل إليها الفكر الأوربي إلا في زمن حديث جدا، والهندوس أنتجوا في الآداب قطعا تقضي بالعجب وإن لم يساووا الأغارقة واللاتين في ذلك، والهندوس ظلوا متأخرين في صنع التماثيل وبقوا دون الأغارقة بمراحل، والهندوس ظهروا صفرا من العلوم والمعارف التاريخية ومن الدقة ما لا تبصره عند أية أمة أخرى، والهندوس لم تكن علومهم سوى تأملات طفلية، ولم تكن كتب تاريخهم غير أساطير صبيانية عاطلة من أي توقيت، ومن أي حادث صحيح على ما يحتمل، وهنا أيضا ترى أن دراسة الفنون وحدها لا تكفي لتبين مستوى الحضارة عند هؤلاء القوم.
ويمكن سرد كثير من الأمثلة دعما لهذه القضية، ومن ذلك أن هنالك عروقا لم تبلغ قط أعلى درجة، فاستطاعت أن تبدع فنا خاصا غير ذي صلة ظاهرة بالفنون التي ظهرت قبله، شأن العرب الذين استولوا على العالم اليوناني الروماني القديم فحولوا فن العمارة البزنطي الذي انتحلوه في بدء الأمر حتى غدا من المستحيل أن يعرف المثال الذي استوحوه لو لم تكن أمامنا سلسلة المباني التي تخللته.
ويمكن أمة أن تبتدع حضارة رفيعة وإن لم تكن ذات استعداد فني أو أدبي، وذلك كما اتفق للفنيقيين الذين لم يكن لهم من التفوق غير حذقهم التجاري، وبالفنيقيين تمدن العالم القديم لما كان من جعلهم بعض أقسامه يتصل ببعض، ولم ينتج هؤلاء الفنيقيون شيئا تقريبا، ولم يكن تاريخهم غير تاريخ تجارتهم.
ثم إن هنالك أمما ظلت جميع عناصر الحضارة متأخرة عندها خلا الفنون، وذلك كما اتفق للمغول الذين شادوا مباني في بلاد الهند لا تجد فيها أثرا من الطراز الهندي، وهذه المباني هي من الروعة بحيث عد متفننون ماهرون بعضها من أجمل ما صنعته يد الإنسان، ويصعب عد المغول من العروق العليا مع ذلك.
على أنه يلاحظ، حتى لدى أكثر الأمم حضارة، أن أعلى درجة في نشوئها الفني لم تكن في زمن بلوغ حضارتها أعلى مراتبها، فارجع البصر إلى المصريين والهندوس تجد أن أكمل مبانيهم هو أقدمها على العموم، وارجع البصر إلى أوربة تجد أن فنها القوطي الرائع، الذي لم يعدله عجيب الآثار قط، ازدهر في القرون الوسطى التي ينظر إليها كدور شبه متوحش.
ومن المتعذر، إذن، أن يحكم في مستوى الأمة برقي فنونها فقط، فالفنون ليست غير عنصر واحد من عناصر حضارة الأمة كما قلت غير مرة، ولم يقم دليل على أن هذا العنصر والآداب أعلى العناصر، وبالعكس تكون الآثار الفنية، في الغالب، أضعف الآثار لدى الأمم البالغة ذروة الرقي المادي؛ كالرومان في القرون القديمة والأمريكيين في الوقت الحاضر، وفي الغالب أيضا - وذلك كما قلناه منذ هنيهة - تبدع الأمم في أجيالها شبه المتوحشة أنفس آثارها الأدبية وأنفس آثارها الفنية على الخصوص، والذى يلوح هو أن دور تجلي شخصية الأمة في الفنون هو دور تفتح طفولتها أو فنونها لا دور نضجها، وإذا نظرنا إلى مناحي العالم الجديد النفعية التي نبصر فجرها وجدنا شأن الفنون لا يكاد يكون باديا فيها، وأمكننا أن نبصر اليوم الذي تصنف فيه هذه الفنون بين مظاهر الحضارة الثانوية إن لم تعد من أدنى مظاهرها.
وهنالك عدة أسباب تحول دون سير الفنون في تطورها سيرا موازيا لتقدم عناصر الحضارة الأخرى ومؤديا إلى الاطلاع على حال هذه الحضارة دائما، وسواء علينا أنظرنا إلى مصر أم إلى الإغريق أم إلى مختلف أمم أوربة لم نر سوى سنة عامة واحدة؛ وهي: أن الحضارة عندما تبلغ مستوى معينا؛ أي حينما تظهر بعض الآثار النفيسة، يبدو دور من الانحطاط في الفنون مستقل عن سير عناصر الحضارة الأخرى، وطور الانحطاط في الفنون هذا يبقى إلى الزمن الذي يدخل فيه انقلاب سياسي أو غزو أجنبي أو اعتناق معتقد جديد أو أي عامل آخر عناصر جديدة إلى الفن، وذلك كما وقع في القرون الوسطى حين أسفرت الحروب الصليبية عن جلب معارف وأفكار جديدة قفزت بالفنون إلى الأمام، فنشأ عن ذلك تحويل الطراز الروماني إلى الطراز القوطي؛ وذلك كما وقع بعد بضعة قرون حين أوجبت النهضة تحويل الفن القوطي؛ وذلك كما وقع في بلاد الهند حين أدت المغازي الإسلامية إلى تغيير الفن الهندوسي تغييرا تاما.
وإذا كانت الفنون - كما نلاحظ أيضا - تعبر بوجه عام عن بعض ضرورات الحضارة، وكانت تلائم بعض المشاعر، فإنها مقضي عليها بأن تعاني من التحولات ما يلائم هذه الضرورات، كما أنها محكوم عليها بالزوال تماما عند تحول الضرورات أو المشاعر التي أوجبت حدوثها أو زوال هذه الضرورات، ولا يدل هذا على أن الحضارة تكون في دور الانحطاط إذ ذاك، وهنا أيضا نلمس فقدان الموازاة بين تطور الفنون وتطور عناصر الحضارة الأخرى، وما تقدمت الحضارة في أي دور من أدوار التاريخ كتقدمها الآن، وما كانت الفنون أكثر ابتذالا وأقل شخصية مما هي عليه اليوم على ما يحتمل، وبيان ذلك أن غياب المعتقدات الدينية والأفكار والاحتياجات، التي تجعل من الفن عنصرا جوهريا من عناصر الحضارة في الدور الذي كانت المعابد والقصور فيه محاريب لها، أسفر عن صير الفن أمرا ثانويا؛ أي موضوع تسلية يتعذر تخصيص وقت كبير ومال كثير من أجله، وإذ صار الفن أمرا غير ضروري فإنه لا يكون إلا مصنوعا أو أثر تقليد، واليوم لا ترى أمة ذات فن قومي، وكل أمة تركن اليوم إلى نسخ ما كان في غابر الأدوار نسخا موفقا أو غير موفق سواء أكان ذلك في فن العمارة أم في فن النحت.
نعم، إن فن العمارة وفن النحت وليدا احتياجات وأهواء لا ريب، ولكن من الواضح أنهما لا يعبران عن أفكارنا الحديثة، ومما يثير عجبي ما كان يأتي به متفننونا في القرون الوسطى من الآثار الساذجة حين كانوا يصورون القديسين ويسوع والجنات وجهنم، حين كانوا يصورون أمورا أساسية في ذلك الزمن، أمورا كانت تعد أغراض الحياة الرئيسة آنئذ، بيد أن المصورين الذين أصبحوا عاطلين من تلك المعتقدات، إذا ما ستروا جدرنا بالأساطير الابتدائية أو بالرموز الصبيانية محاولين الرجوع إلى فن زمن آخر، لم يكونوا قد صنعوا بذلك غير تقليد هزيل لصور لا فائدة منها للحاضر وتكون عرضة للازدراء في المستقبل.
والفنون الحقيقية الوحيدة، والفنون الوحيدة التي تعبر عن دور ما، هي التي يعرض بها المتفنن ما يشعر به وما يراه بدلا من اقتصاره على تقليد أشكال تلائم ما لا وجود له في الساعة الحاضرة من الاحتياجات أو المعتقدات، وما في أيامنا من تصوير صادق وحيد يقوم على نقل الأشياء التي تحيط بنا، وما في أيامنا من فن عمارة صادق أيضا هو شيد بيت ذي طبقات خمس، وإنشاء قنطرة، وإقامة محطة لخط حديدي، ويلائم هذا الفن النفعي احتياجات حضاراتنا وأفكارها، وهذا الفن هو من مميزات هذا الدور كما كان الفن الذي شيدت به الكنيسة القوطية والقصر الإقطاعي من مميزات الماضي، وسيكون للفنادق العصرية الكبرى وللكنائس القوطية القديمة فائدة متساوية عند عالم الآثار في المستقبل؛ لما ستعدان به صفحات متعاقبة لتلك الكتب الحجرية التي يتركها كل عصر خلفه، على حين يزدري هذا العالم ما يأتي به المتفننون المعاصرون تقليدا من الآثار الهزيلة؛ لأنه ليس من الوثائق المفيدة.
وكل فن يلخص ما لأحد الأدوار وأحد العروق من المثل الأعلى، ولما بين الأدوار، وكذلك العروق، من اختلاف وجب اختلاف المثل الأعلى باستمرار، وإذا ما نظرت إلى المثل العليا من الناحية الفلسفية وجدتها متساوية، وسبب هذا التساوي هو في كونها ليست سوى رموز مؤقتة.
إذن، تمثل الفنون المظهر الخارجي لروح الأمة التي ابتدعتها كما تمثلها جميع عناصر الحضارة الأخرى، غير أن الفنون هي - كما قلت غير مرة - بعيدة من أن تكون أصدق مظهر لروح الأمم.
وكان البرهان ضروريا؛ وذلك لأن أهمية أحد عناصر الحضارة هي مقياس لقدرة الأمة على تحويل العنصر عندما تقتبسه من أمة أجنبية، وإذا ما تجلت شخصية الأمة، مثلا، في الفنون على الخصوص، فإنها لا تنقل النماذج المستوردة من غير أن تطبعها بطابعها الخاص، وهي، بالعكس، لا تحول العناصر التي لا تعبر عن عبقريتها غير تحويل قليل؛ ومن ذلك أن الرومان حينما انتحلوا فن عمارة الأغارقة لم يحولوه تحويلا أساسيا؛ لعدم تجلي روحهم في المباني.
ومع ذلك فإنه لا مناص للفن من معاناة تأثير البيئة في قليل قرون، ومن أن يكون على الرغم منه تقريبا عنوان العرق الذي انتحله حتى عند مثل تلك الأمة العاطلة من فن عمارة خاص، والمضطرة إلى البحث عن نماذجها ومتفننيها في الخارج، ولا ريب في أن المعابد والقصور وأقواس النصر والنقوش البارزة في رومة القديمة هي من صنع الأغارقة أو من صنع تلاميذ الأغارقة، غير أن سمة هذه المباني وغايتها وزخارفها، وسعتها أيضا، لا تثير فينا ذكريات العبقرية الأثنية الشعرية اللطيفة، بل تثير فينا فكر القوة والتغلب والروح الحربية الذي كان يقيم رومة ويقعدها، وهكذا ترى أن العرق، حتى في الميدان الذي لا تبدو فيه شخصيته كثيرا، لا يخطو خطوة من غير أن يترك أثرا خاصا به فينم هذا الأثر على شيء من مزاجه النفسي وفكره الباطني.
وبيان ذلك أن المتفنن الحقيقي، معماريا كان أو أديبا أو شاعرا، ذو ملكة سحرية يعبر بها في تراكيبه عن روح أحد العروق أو أحد الأزمان، وإذ كان المتفننون كثيري الانفعال، غزيري اللاشعور، مفكرين بالصور على الخصوص، قليلي التعقل؛ فإنهم يكونون في بعض الأدوار مرايا صادقة للمجتمع الذي يعيشون فيه، فتكون آثارهم أصح الوثائق التي يستند إليها في تصوير إحدى الحضارات، وهم يظلون من كثرة اللاشعور بحيث يبدون صادقين شديدي التأثر بالبيئة التي تحيط بهم فيعبرون بإخلاص عن الأفكار والمشاعر والاحتياجات والمناحي، وليس لدى المتفننين حرية، وفي هذا سر قوتهم، والمتفننون مسجونون في شبكة من التقاليد والأفكار والمعتقدات التي يتألف من مجموعها روح أحد العروق وأحد الأزمنة؛ أي مسجونون في تراث من المشاعر والآراء والإلهامات العظيمة التأثير فيهم؛ لسيطرتها على مناطقهم اللاشعورية الغامضة حيث تنضج أعمالهم، ولو لم تكن هذه الآثار لدينا لاقتصرت معارفنا بالقرون الغابرة على ما جاء في الأقاصيص السخيفة، وعلى ما ورد في كتب التاريخ من تلفيق مصنوع، ولغدا ماضي كل أمة بذلك أمرا خافيا علينا تقريبا كأمر هذه الأطلنتيد الحافلة بالأسرار والتي غمرتها الأمواج فتكلم عنها أفلاطون.
إذن، مزية الأثر الفني الصحيح هي في التعبير بإخلاص عن احتياجات الزمن الذي ولد فيه وعن أفكاره، ولا تزال الآثار الفنية؛ ولا سيما المباني، أبلغ من جميع اللغات التي تخبرنا بالماضي، وتلك الآثار هي أصدق من الكتب وأقل تصنعا من الديانات واللغات، وهي تعبر عن المشاعر والاحتياجات معا، والبناء هو المنشئ لمنزل الإنسان وبيت الآلهة، والواقع هو أن في سواء المعبد والدار تنضج الأسباب الأولى للحوادث التي يتألف التاريخ منها.
ومن الملاحظات السابقة يمكننا أن نستنتج أن العناصر المختلفة التي تتألف منها الحضارة إذ كانت عنوان روح الأمة التي ابتدعها يعبر بعض هذه العناصر الذي يتغير بحسب العروق، ويتغير بحسب الأزمنة أيضا، عن روح العرق أحسن من سواه.
ولكن طبيعة هذه العناصر، إذ كانت تختلف بين أمة وأمة وبين دور ودور، لا نجد منها عنصرا واحدا يصلح أن يكون مقياسا عاما لتقدير مستوى مختلف الحضارات.
ومن المستحيل، أيضا، أن نصنف هذه العناصر تصنيفا مرتبا؛ وذلك لأن أهمية هذه العناصر إذ كانت تختلف باختلاف الأدوار فإن التصنيف يختلف بين قرن وقرن.
وإذا ما قدرت عناصر الحضارة المختلفة من حيث المنفعة الصرفة أمكننا أن نقول إن أهم عناصر الحضارة هو الذي يؤدي إلى تعبيد أمة للأمم الأخرى؛ أي إن أهم عناصر الحضارة هو النظام الحربي، ولكنه يجب إذ ذاك أن نضع مرتبة الأغارقة المتفننين والفلاسفة والأدباء تحت كتائب رومة الشديدة الوطأة، وأن نضع مرتبة المصريين الحكماء والعلماء تحت شباه البرابرة الفرس، وأن نضع مرتبة الهندوس تحت أنصاف البرابرة المغول.
ولا يكترث التاريخ لتلك التقسيمات أبدا، ولا يخر التاريخ راكعا إلا أمام المزية الحربية وحدها، غير أن المزية الحربية لا تصاحب مزية مقابلة لها في عناصر الحضارة الأخرى إلا نادرا، أو أنها لا تدع هذه المزية بجانبها لطويل زمن، ومن المؤسف أن كانت المزية الحربية لا تضعف لدى أمة من غير أن يقضى على هذه الأمة بالزوال في أقرب وقت، والأمم حينما تصل إلى ذروة حضارتها تترك مكانها، دائما، لمن هم دونها ذكاء من البرابرة، ولكن مع حيازة هؤلاء البرابرة لما تؤدي الحضارات الرفيعة إلى تقويضه من بعض الصفات الخلقية والقيمة الحربية.
إذن، لا بد من الانتهاء إلى النتيجة المحزنة القائلة إن ما في الحضارات من العناصر الدنيا فلسفيا هو أهم العناصر اجتماعيا، وإذا كانت سنن الماضي سننا للمستقبل أمكننا أن نقول إن أسوأ حال تصاب بها أمة هو أن تبلغ هذه الأمة درجة عالية من الذكاء والثقافة، فالأمم تهلك عندما تأخذ الصفات الخلقية التي هي لحمة روحها في الفساد، وهذه الصفات تفسد عندما تسمو حضارة هذه الأمة وذكاؤها.
الفصل الثاني
كيف تتحول النظم والديانات واللغات
بينا في مكان آخر أنه يستحيل على العروق العليا أن تفرض حضارتها على العروق المتأخرة أو تحمل هذه العروق على اعتناق تلك الحضارة، ونحن حينما تناولنا أقوى ما لدى الأوربيين من وسائل التأثير، كالتربية والنظم والمعتقدات، أثبتنا عدم كفاية هذه الوسائل لتغيير الحال الاجتماعية في الأمم المتأخرة، ومما حاولنا صنعه هو بياننا أن جميع عناصر إحدى الحضارات تلائم مزاجا نفسيا معينا نشأ عن وراثة طويلة فغدا من المتعذر تغيير هذه العناصر من غير أن يغير المزاج النفسي الذي تشتق منه، والقرون وحدها، لا الفاتحون، هي التي تستطيع إنجاز مثل هذا العمل. ومما بيناه أيضا أن إحدى الأمم تصعد في سلم الحضارة ببطء وعلى سلسلة من المراحل كالتي جاوزها هادمو الحضارة اليونانية الرومانية من البرابرة، ومن يحاول بالتربية أن يجنب الأمة هذه المراحل فإنما يربك مزاجها النفسي ويسوقها في نهاية الأمر إلى مستوى أدنى من المستوى الذي كانت تصل إليه لو تركت وشأنها.
وهذه البرهنة التي تطبق على العروق الدنيا تطبق على العروق العليا أيضا، وإذا كانت المبادئ المعروضة في هذا الكتاب صحيحة علمنا أن العروق العليا لا تستطيع كذلك أن تحول حضارتها بغتة، بل لا بد من مرور زمن طويل ومجاوزة مراحل كثيرة لبلوغ ذلك، وإذا ما ظهر اعتناق أمم عالية في بعض الأحيان لمعتقدات ونظم ولغات وفنون تختلف عما عند أجدادها لم يكن ذلك بالحقيقة إلا بعد تحويل هذه العناصر تحويلا بطيئا عميقا ملائما لمزاج تلك الأمم النفسي.
ويلوح أن التاريخ في كل صفحة من صفحاته يناقض ما عرضناه آنفا، وما أكثر ما ترى في التاريخ من أمم تغير عناصر حضارتها وتعتنق أديانا جديدة وتنتحل لغات جديدة وتتخذ نظما جديدة، وفي التاريخ أمم تترك معتقداتها المتأصلة لتعتنق النصرانية أو البدهية (البوذية) أو الإسلام، وفي التاريخ أمم تغير نظمها وفنونها تغييرا أساسيا، وفي التاريخ يبدو أن فاتحا أو رسولا أو هوسا يكفي لإتيان مثل تلك التحويلات بسهولة.
غير أن التاريخ حينما يعرض علينا قصة تلك الثورة المفاجئة لا يصنع سوى إنجاز عمل من أعماله المعتادة، وهو اختلاق الأغاليط ونشرها، ونحن حينما ندرس تلك التحولات عن كثب لا نعتم أن نرى أن أسماء الأشياء هي التي تتغير، على حين نبصر أن الحقائق التي تستتر خلف الألفاظ تداوم على الحياة ولا تتحول إلا بأقصى البطوء.
ونحن، لكي نثبت ذلك، ولكي نبين في الوقت نفسه كيف يتم تطور الأمم البطيء، نرى أن ندرس عناصر كل حضارة لدى مختلف الأمم؛ أي أن نجدد تاريخ هذه الأمم، وقد حاولت هذا العمل الشاق في عدة مجلدات، فلا أفكر في العودة إليه هنا، وإنني حينما أغضي عن العناصر الكثيرة التي تتألف منها إحدى الحضارات أختار أحدها مثالا؛ أي أختار الفنون.
وقبل أن أبدأ في فصل خاص بدراسة التطور الذي يعتور الفنون عند انتقالها من أمة إلى أخرى أقول بضع كلمات عن التحولات التي يعانيها مختلف عناصر الحضارة؛ وذلك لأثبت أن السنن التي تطبق على عنصر من هذه العناصر تطبق على جميعها، وأن فنون الأمم إذا كانت ذات نسب بمزاج هذه الأمم النفسي فإن اللغات والنظم والمعتقدات وما إليها ذات نسب بهذا المزاج أيضا؛ أي إنها لا تتغير ولا تنتقل من أمة إلى أخرى من فورها.
1
وقد تظهر هذه النظرية غريبة في أمر المعتقدات الدينية على الخصوص، وفي تاريخ المعتقدات تجد أحسن الأمثلة لإثباتنا أنه يتعذر على الأمة أن تغير عناصر حضارتها فجأة كما يتعذر على الشخص أن يغير قامته أو لون عيونه.
أجل، لا رجل يجهل أن جميع الديانات العظيمة؛ كالبرهمية والبدهية والنصرانية والإسلام، أسفرت عن دخول الناس أفواجا فيما يلوح أنه اعتنقها من عروق بأسرها، ولكن المرء إذا ما أوغل قليلا في دراسة ذلك لم يلبث أن يبصر أن الذي غيرته الأمم على الخصوص هو اسم دينها القديم نفسه، وفي الحقيقة أن المعتقدات المنتحلة عانت من التحولات الضرورية ما تكون به ذات صلة بالمعتقدات القديمة التي حلت محلها والتي لم تكن غير إدامة لها.
وما تخضع له المعتقدات من تحول عند انتقالها من أمة إلى أخرى هو من الشدة في الغالب ما يكون به الدين المنتحل حديثا غير ذي نسب واضح بالمعتقد الذي احتفظ باسمه، ولنا أحسن مثال بالبدهية التي صارت دينا مشوها بعد انتقالها إلى الصين فإلى اليابان، والحق أن العلماء عدوا البدهية دينا مستقلا أول وهلة فلم يعترفوا، إلا بعد زمن طويل، بأنها دين حوله العرق الذي اعتنقه، والحق أن البدهية الصينية ليست بدهية الهند، وأن بدهية الهند نفسها تختلف عن بدهية نيپال، وأن بدهية نيپال تبتعد عن بدهية سيلان، ولم تكن البدهية في الهند سوى دين منفصل عن البرهمية التي ظهرت قبلها والتي لا تختلف عنها إلا قليلا، ولم تكن البدهية في الصين أيضا سوى دين منفصل عن المعتقدات السابقة التي تتصل بها اتصالا وثيقا.
وذلك المبدأ الثابت في أمر البدهية ثابت في أمر البرهمية أيضا، وبيان ذلك: أن عروق الهند إذا كانت شديدة الاختلاف فإن من السهل أن يفترض لها وجود معتقدات دينية شديدة الاختلاف مسماة بأسماء واحدة، وأن جميع الأمم البرهمية تعد وشنو وشيوا أهم آلهتها، كما تعد الويدا كتبها المقدسة، وأن هذين الإلهين الرئيسين لم يتركا في الديانة سوى اسميهما، وأن تلك الكتب المقدسة لم تترك سوى نصوصها، وأنك تجد بجانب ذلك ما لا يحصيه عد من العبادات التي تنم على أشد المعتقدات اختلافا؛ كالتوحيد والإشراك والوثنية ووحدة الوجود وعبادة الأجداد والعفاريت والحيوانات إلخ، وأنك إذا لم تحكم في أمر عبادات الهند بغير ما جاء في كتب الويدا لم يكن لديك أقل فكر عن الآلهة التي تسود شبه جزيرة الهند الواسعة وعن معتقداتها. نعم، إن جميع البراهمة يقدسون عنوان الكتب المقدسة، بيد أنه لم يبق على العموم شيء من الديانة التي تقول بها هذه الكتب.
وعلى ما في التوحيد الإسلامي من بساطة لم يشذ الإسلام عن هذه السنة، فترى فرقا بعيدا بين الإسلام في بلاد الفرس، وبينه في جزيرة العرب، وبينه في الهند، وقد وجدت بلاد الإشراك، الهند، وسيلة في جعلها أكثر المعتقدات توحيدا معتقد إشراك، فعاد محمد وأولياء الإسلام يكونون آلهة جديدة مضافة إلى ألف إله آخرين؛ حتى إن الإسلام في الهند لم يوفق للمساواة بين جميع الناس مع أن المساواة كانت من أسباب فوزه في أماكن أخرى، فترى المسلمين في الهند يطبقون نظام الطبقات كما يصنع الهندوس، وقد بلغ الإسلام بين الدراويد في الدكن من التشويه درجة لا يمكن تمييزه بها من البرهمية مطلقا، وهو لا يميز منها بغير اسم محمد والمسجد الذي يعبد فيه هذا النبي بعد أن أله.
ولا ضرورة إلى الذهاب حتى بلاد الهند لاستجلاء التحولات العميقة التي عاناها الإسلام بانتقاله من عرق إلى عرق، ولننظر فقط إلى الجزائر التي هي ممتلكتنا الكبيرة لنبصر فيها عرقين شديدي الاختلاف، لنبصر فيها العرب والبربر الذين هم مسلمون أيضا؛ لنبصر فيها أن الإسلام بين أولئك غيره بين هؤلاء؛ لنبصر فيها أن مبدأ تعدد الزوجات في القرآن تحول إلى مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة لدى البربر، وليس الدين عند البربر غير مزيج من الإسلام والوثنية القديمة التي زاولوها منذ العصور البعيدة حين كان السلطان لقرطاجة.
ولم تتفلت ديانات أوربة نفسها من السنة العامة القائلة بتحول الأديان وفق روح العروق التي تعتنقها، وكما في الهند ترى في أوربة أن حرفية العقائد التي أثبتتها النصوص قد ظلت ثابتة، غير أن هذه النصوص صيغ لاغية يفسرها كل عرق على شاكلته. وفي أوربة ترى اسم النصارى الواحد يشتمل على وثنيين حقيقيين؛ كابن بريتانية الدنيا الذي يعبد الأصنام، وكالإسپاني الذي يعبد التمائم، وترى ذلك الاسم يشتمل على مشركين؛ كالإيطالي الذي يقدس صور العذراء في كل قرية كما يقدس مختلف الآلهة. ونحن إذا ما أوغلنا في البحث سهل علينا أن نثبت أن الانفصال العظيم الذي أسفرت عنه ثورة الإصلاح الديني كان نتيجة لازمة لتفسير كتاب ديني واحد من قبل عروق مختلفة، فكانت شعوب الشمال تهدف إلى المحاجة في عقائدها وتنظيم شؤون حياتها بنفسها، وكانت شعوب الجنوب تميل إلى البقاء متأخرة من ناحية الحرية والروح الفلسفية ، فلا مثال أدعى إلى الإقناع من ذلك.
ولكن شرح هذه الأمور يسير بنا إلى بعيد، ولذلك ترانا مضطرين إلى قول كلمة عابرة عن عنصرين أساسيين من عناصر الحضارة؛ أي كلمة خاطفة عن النظم واللغات التي يجاوز البحث في جزئياتهما الفنية حدود هذا الكتاب.
إن ما صح عن المعتقدات يصح عن النظم أيضا، والنظم لا تنتقل من أمة إلى أخرى من غير أن تتحول، وإذ إنني راغب عن الإكثار من الأمثلة فإنني أرجو من القارئ أن يبصر فقط درجة تغير النظم الواحدة التي تفرضها القوة أو الإقناع بحسب العروق مع بقائها مسماة بأسماء واحدة، وسأبين ذلك في فصل آت عند الكلام عن مختلف البلدان الأمريكية.
وفي الحقيقة أن النظم نتيجة ضرورات لا تؤثر فيها عزيمة جيل واحد من الناس، ولكل عرق ولكل وجه من وجوه تطور هذا العرق أحوال عيش ومشاعر وأفكار وآراء ومؤثرات موروثة تستلزم نظما خاصة دون سواها، ولا كبير أهمية لاسم الحكومة في ذلك، ولم يقيض لأمة أن تختار من النظم ما يلوح أنه أصلحها، وإذا وقع من المصادفات النادرة ما يؤدي إلى اختيار الأمة نظما صالحة فإن هذه الأمة لا تستطيع أن تحفظ هذه النظم، وتتألف من الثورات الكثيرة، ومن تغيير الدساتير تغييرا متعاقبا منذ قرن، تجربة يجب أن يستقر بها رأي أولياء الأمور عند ذلك الحد، ثم إنني أرى أن عقل الجماعات المعوج، وفكر بعض المتعصبين الضيق هما اللذان لا يزالان يحتفظان بالرأي القائل إن التغييرات الاجتماعية المهمة تتم بقوة المراسيم، والشأن المفيد الوحيد للنظم هو منحها تأييدا قانونيا للتغييرات التي رضيت بها الطبائع وقبلها الرأي العام في نهاية الأمر، والنظم تتبع تلك التغييرات ولكنها لا تتقدمها، وليس بالنظم ما تتغير الأخلاق ولا أفكار الناس، وليس بالنظم ما تجعل الأمة متدينة أو ملحدة، وليست النظم هي التي تعلم الأمة قيادة نفسها بنفسها بدلا من أن تطالب الدولة بأن تصنع لها قيودا على الدوام.
ولا أسهب في الكلام عن اللغات بأكثر مما أسهبت في النظم، وإنما أقتصر على القول بأن اللغة تتحول بحكم الضرورة عند انتقالها من أمة إلى أخرى، ولو أثبتت كتابة، وهذا ما يجعل الفكر القائل بلغة عامة أمرا عقيما. أجل، إن الغوليين، مع كثرة عددهم، قد انتحلوا اللغة اللاتينية في أقل من قرنين بعد الفتح الروماني، غير أن الغوليين لم يلبثوا أن حولوا هذه اللغة على حسب احتياجاتهم، ووفق منطق روحهم الخاص، ومن هذه التحولات خرجت لغتنا الفرنسية الحاضرة في آخر الأمر.
ولم يكن مختلف العروق ليتكلم بلغة واحدة طويل زمن، وقد تؤدي مصادفات الفتوح أو مصالح الشعب التجارية إلى انتحال هذا الشعب لغة غير لغته الأصلية لا ريب، ولكن هذه اللغة الجديدة تتحول في أجيال قليلة تحولا تاما، ويزيد هذا التحول عمقا كلما كان الذي استعار تلك اللغة مختلفا عن العرق المعير لها.
ومن المحقق، على الدوام، أن نبصر لغات مختلفة في بلدان مشتملة على عروق مختلفة، ولنا بالهند مثال رائع على ذلك، فشبه جزيرة الهند العظمى؛ إذ إنها معمورة بعروق كثيرة مختلفة، ليس من العجيب أن يجد العلماء فيها 240 لغة، عدا احتوائها نحو ثلاثمئة لهجة، وأكثر هذه اللغات انتشارا حديثة جدا ما دام زمن ظهورها لا يزيد على ثلاثمئة سنة، وهذه اللغة، التي تعرف بالهندوستانية، مزيج من الفارسية والعربية اللتين كان يتكلم بها الفاتحون المسلمون، ومن الهندية التي كانت أكثر اللغات انتشارا في البقاع التي استولى عليها أولئك الفاتحون، ولم ينشب الغالبون والمغلوبون في الهند أن نسوا لغاتهم الأصلية ليستعملوا هذه اللغة الحديثة الملائمة لاحتياجات العرق الجديد الذي هو نتيجة توالد أمم مختلفة متواجهة.
ولا أزيد في الإسهاب، بل أكتفي بالدلالة على الأفكار الأساسية، ولو استطعت أن ألتزم جانب التفصيل الضروري لذهبت بعيدا فقلت إن الأمم إذا ما اختلفت دلت الكلمات المتقابلة عندها على طرز تفكير وشعور تبلغ من التباعد ما تبدو لغاتها معه عاطلة من المترادفات فتستحيل الترجمة من إحداها إلى الأخرى. وظاهرة مثل هذه مما يدرك أمره عند النظر إلى أن الكلمة الواحدة في البلد الواحد ولدى العرق الواحد تدل بعد بضعة قرون على أفكار مختلفة أشد الاختلاف عما كان لها قبل ذلك.
والكلمات القديمة وحدها هي التي تدل على أفكار الناس فيما مضى، والكلمات القديمة، بعد أن كانت في الأصل إشارات لأشياء حقيقية، لم يعتم معناها أن تشوه بفعل تبدل الأفكار والطبائع والعادات. نعم، يداوم الناس على البرهنة بتلك الإشارات المستعملة التي يصعب تغييرها، ولكنك لا تجد أية صلة بين مدلولها الماضي ومدلولها الحاضر، وأنت، إذا ما رجعت البصر إلى أمم بعيدة منا كل البعد منتسبة إلى حضارات لا شبه بينها وبين حضارتنا، وجدت الترجمة من لغاتها لا تسفر عن سوى ألفاظ مجردة من المعنى الحقيقي، وتثير هذه الألفاظ في نفوسنا، إذن، أفكارا لا صلة بينها وبين الأفكار التي كانت تثيرها في الماضي، وهذه الظاهرة تستوقف النظر، ولا سيما عند البحث في لغات الهند، وفي الهند؛ حيث الأفكار مذبذبة، وحيث المنطق لا يشابه منطقنا مطلقا، لم يكن للألفاظ ذلك المعنى الدقيق المقرر الذي اتفق له في أوربة بفعل القرون وبفعل مزاجنا النفسي في نهاية الأمر. وفي الهند تجد كتبا كالويدا قد تعذرت ترجمتها وذهبت كل محاولة في هذا السبيل أدراج الرياح،
2
ومن الصعب جدا أن ننفذ في فكر من نعيش معهم من الأفراد الذين نفترق عنهم سنا وجنسا وتربية، ومن المتعذر على أي عالم أن ينفذ في أفكار العروق التي اشتدت عليها وطأة أعفار العصور، ولا ينفع كل علم مكتسب لغير إثبات عقم مثل هذه المحاولات.
وعلى ما في الأمثلة السابقة من اختصار وقلة شرح نراها تكفي لإثبات عمق ما تحدثه الأمم من تحول فيما تقتبسه من عناصر الحضارة، وهذا الاقتباس يبدو عظيما في الغالب لتغير الأسماء فجأة في بعض الأحيان، مع أن هذا الاقتباس ضئيل جدا على الدوام، ولا يلبث العنصر المستعار أن يختلف في نهاية الأمر عن العنصر الذي قام مقامه، وذلك مع القرون وبعمل الأجيال البطيء، وبما يعتوره من إضافات متعاقبة. والتاريخ، إذ يبالي بالظواهر على الخصوص، لا يأبه لتلك التغيرات المتعاقبة أبدا، ونحن، حين يقول لنا التاريخ، مثلا، إن أمة اعتنقت ديانة جديدة ، نتمثل من فورنا الديانة التي نعرفها اليوم، لا المعتقدات التي كانت قد اعتنقت في الحقيقة، ولا بد من استبار غور تلك المطابقات البطيئة لإدراك تكوينها ولمعرفة الفروق الفاصلة بين الألفاظ والحقائق.
وهكذا يتألف تاريخ الحضارات من مطابقات متعاقبة وتحولات صغيرة متراكمة، وإذا بدت هذه التحولات لنا فجائية عظيمة فذلك لأننا، كما في علم الأرض، نغض البصر عن التقلبات المتوسطة لنبصر التقلبات القصوى.
وفي الحقيقة أن الأمة مهما بلغت من الذكاء والمواهب فإن قدرتها على هضم عنصر جديد من عناصر الحضارة تكون في كل وقت محدودة جدا.
وما كانت خليات الدماغ لتهضم في يوم واحد ما يجب لتمامه مرور عدة قرون، وما كانت لتهضم في يوم واحد ما يلائم المشاعر وما يلائم احتياجات مختلف الأمزجة، وهضم كهذا لا يكون إلا بمتراكمات وراثية دائمة بطيئة، ونحن، عندما نبحث في تطور الفنون لدى الأغارقة الذين هم أذكى أمم القرون القديمة، نرى أن هذه الأمة تطلبت قرونا كثيرة لتخرج من نقل نماذج آشور ومصر نقلا غليظا فتصل بالتدريج إلى صنع ما لا تزال البشرية تعجب به من الآثار النفيسة.
وإذا عدوت بعض الأمم العريقة في القدم كالمصريين والكلدانيين وجدت جميع الأمم التي تعاقبت في التاريخ لم تفعل غير هضم عناصر الحضارة التي يتألف منها تراث الماضي محولة هذه العناصر وفق مزاجها النفسي، ولو لم تسطع الأمم أن تستفيد من تطور الحضارات الذي تم سابقا لكان تقدم الحضارات أبطأ مما هو عليه بمراحل، ولوجب أن يبدأ تاريخ مختلف الأمم بما بدئ به من قبل. وانظر إلى الحضارات التي أوجدتها مصر وكلدة منذ سبعة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة تجدها قد أسفرت عن ينبوع موضوعات استقت منه جميع الأمم بالتتابع، وانظر إلى فنون اليونان تجدها قد نشأت عن الفنون التي ظهرت على ضفاف دجلة والنيل، وانظر إلى الطراز اليوناني تجد الطراز الروماني قد صدر عنه، ثم اختلط الطراز الروماني هذا بمؤثرات شرقية فاشتق منه الطراز البزنطي والطراز الرومني والطراز القوطي؛ أي اشتقت منه طرز مختلفة باختلاف عبقرية الأمم التي نشأت فيها، وعلى حسب عمر هذه الأمم، ولكن مع وجود أصل واحد لهذه الطرز.
وأقول مكررا: إن ما بيناه آنفا عن الفنون يطبق على جميع عناصر الحضارة من نظم ولغات ومعتقدات؛ ومن ذلك أن اللغات الأوربية تشتق من لغة أصلية كان يتكلم بها في هضبة آسية الوسطى، ومن ذلك أن فقهنا وليد الفقه الروماني، وأن الفقه الروماني وليد فقه سابق له، ومن ذلك أن الديانة اليهودية صدرت رأسا عن المعتقدات الكلدانية، وأن الديانة اليهودية اختلطت بعد ذلك بمعتقدات آرية فصارت هذه الديانة العظيمة التي تسيطر على أمم الغرب منذ ألفي سنة، ولم تكن علومنا نفسها لتبلغ ما بلغته اليوم لولا عمل القرون البطيء، وتبصر أعاظم مؤسسي علم الفلك الحديث، مثل كوپرنيك وكپلر ونيوتن، مرتبطين في بطليموس الذي كان يرجع إلى كتبه حتى القرن الخامس عشر، وتبصر بطليموس هذا يرتبط في المصريين والكلدانيين من طريق مدرسة الإسكندرية، وهكذا نبصر، على الرغم من الفراغ الهائل الذي نراه في تاريخ الحضارة، تطورا بطيئا في معارفنا نرجع به من خلال العصور والدول إلى فجر تلك الحضارات القديمة التي يحاول العلم الحديث في الوقت الحاضر ربطها بالأزمنة الأولى حين لم يكن للبشرية تاريخ، بيد أن الينبوع إذا كان واحدا فإن ما تحدثه كل أمة بحسب مزاجها النفسي من التحولات في العناصر المستعارة إقبالا وإدبارا مختلف إلى الغاية، ومن هذه التحولات يتألف تاريخ الحضارات.
وفيما تقدم بينا أن العناصر الأساسية التي تتألف منها حضارة أمة ما خاصة بهذه الأمة، وأن هذه العناصر نتيجة مزاجها النفسي وعنوان هذا المزاج، وأنها لا تنتقل من عرق إلى آخر من غير أن تخضع لتحولات عميقة جدا، ومما رأيناه أيضا أن الذي يحجب مدى هذه التحولات هو، من ناحية، الضرورة اللغوية التي تحملنا على تعيين أمور مختلفة بألفاظ واحدة، وهو، من ناحية أخرى، الضرورة التاريخية التي لا تؤدي إلى غير البصر بأقصى وجوه الحضارة، لا إلى وجوهها المتوسطة، ونحن حين ندرس في الفصل الآتي السنن العامة لتطور الفنون يمكننا أن نثبت، بما هو أدق من ذلك، تعاقب التحولات التي تعتور عناصر الحضارة الأساسية عند انتقال هذه العناصر من أمة إلى أخرى.
هوامش
الفصل الثالث
كيف تتحول الفنون
بحثت في الصلات التي تصل بين مزاج الأمة النفسي ونظمها ومعتقداتها ولغتها فاقتصرت على بيانات موجزة في ذلك؛ وذلك لما يتطلبه إيضاح مثل هذه الموضوعات من مجلدات.
وأهون من ذلك أن نأتي بشرح بين للفنون، وأما النظام أو المعتقد فأمر مشكوك في تعريفه، ذو غموض في تفسيره، ولا بد من أن يبحث في الحقائق المتغيرة في كل دور والمستترة وراء التعابير الميتة، وأن يؤتى بعمل مضن من البرهنة والنقد، وصولا إلى نتائج مختلف فيها من حيث النتيجة.
وبالعكس ترى الآثار الفنية، ولا سيما المباني، بينة الحد سهلة التفسير، والكتب الحجرية هي أوضح الكتب، وهي التي لا تكذب مطلقا، وهي التي خصصت لها مكانا فائقا في كتبي عن تاريخ حضارات الشرق لهذا السبب، ولقد كنت شديد الحذر من الوثائق الأدبية لما تنطوي عليه من تضليل في الغالب ومن فائدة في النادر، والمباني لا تخدع أبدا، وهي تعلم دائما، والمباني هي التي تحفظ أحسن من سواها فكر الأمم الغابرة، ومما يرثى له عمى قلوب المتخصصين الذين لا يبحثون في المباني عن غير الكتابات.
والآن لندرس، إذن، كيف تعبر الفنون عن مزاج الأمة النفسي، وكيف تتحول بانتقالها من حضارة إلى أخرى.
وسأقتصر في هذا البحث على الفنون الشرقية وحدها؛ وذلك لأن بيان تطور الفنون لدى مختلف العروق يتطلب دخولا في جزئيات لا يحتملها صدر هذا الكتاب، وإن كان تكوين الفنون الأوربية وتحولها خاضعين لسنن واحدة.
ولنبدأ بفنون مصر لنبصر الحال التي كانت عليها بانتقالها انتقالا متتابعا إلى عروق ثلاثة مختلفة؛ وهي: زنوج إثيوبية، والأغارقة، والفرس.
لا ترى بين الحضارات التي ازدهرت على وجه الأرض حضارة كالحضارة المصرية عبر عنها بفنونها، وقد بلغ تعبير فنون تلك الحضارة عنها من القوة والوضوح ما لم تستطع معه المثل الفنية التي ظهرت على ضفاف النيل غير ملاءمة تلك الحضارة وما لم تنتحلها الأمم الأخرى معه إلا بعد خضوعها لتحولات عظيمة.
خرجت الفنون المصرية، ولا سيما فن البناء المصري، من مثل عال خاص ظل شغل الأمة الدائم خمسين قرنا، وكانت مصر تحلم بأن تبتدع للإنسان مسكنا خالدا تجاه حياته الفانية، واحتقر العرق المصري الحياة وتملق الموت، وكان أول ما يبالي به هذا العرق هو تلك الموميا الصامتة التي تتأمل تأملا أبديا بعينيها المينائيتين المرصعتين في وجهها الذهبي، وذلك من أعماق منزلها الأسود، تلك الخطوط الهيروغليفية الحافلة بالأسرار، وهذه الموميا، وهي في حمى من كل تدنيس في منزلها المأتمي الواسع كالقصر، كانت تجد كل ما يفتنها في حياتها الدنيوية القصيرة مصورا ومنقوشا على جدر الدهاليز التي لا نهاية لها.
وفن البناء المصري هو، على الخصوص، فن بناء مأتمي وديني غايته الموميا والآلهة، وفي سبيل الموميا والآلهة كانت تنحت السراديب وترفع المسلات والأساطين والأهرام، وفي سبيل الموميا كانت تقام التماثيل الكبيرة المفكرة على عروشها الحجرية فتعلوها سيما الحلم والجلال.
وكل شيء في ذلك الفن المعماري ثابت متين ما دام الخلود غايته، ولو كان المصريون الأمة الوحيدة التي عرفناها من أمم القرون القديمة لأمكننا أن نقول إن الفن هو بالحقيقة أصدق دليل على روح العرق الذي أوجده.
ثم ظهرت أمم مختلفة أشد الاختلاف، ومنها أمم متأخرة؛ كالإثيوبيين، وأمم عالية؛ كالأغارقة والفرس، قد اقتبست فنونها من مصر وحدها أو من مصر وآشور، ولننظر إلى ما آلت إليه هذه الفنون بين أيدي تلك الأمم.
ولنرجع البصر، أولا، إلى أحط الأمم المذكورة؛ أي الإثيوبيين.
نعلم في دور متقدم من التاريخ المصري؛ أي في عهد الأسرة الرابعة والعشرين، أن أمم السودان اغتنمت فرصة فوضى مصر وانحطاطها فاستولت على بعض ولاياتها فأقامت مملكة كانت عاصمتها نباتة، ثم مروا محافظة على استقلالها عدة قرون.
وقد بهرت حضارة المغلوبين هذه المملكة، فحاولت هذه المملكة نسخ مباني تلك الحضارة وفنونها، ولكن هذا النقل الذي نحوز نماذج له ليس إلا نقلا غليظا في الغالب، وعلة ذلك أن أولئك الزنوج كانوا من البرابرة المحكوم عليهم بألا يخرجوا من البربرية لانحطاطهم الدماغي، وهم لم يخرجوا من البربرية قط على ما كان من عمل المصريين على تمدينهم في عدة قرون، ولا تجد في التاريخ القديم أو الحديث مثالا على ارتقاء أمة زنجية إلى مستوى الحضارة، وفي كل مرة تقع فيها حضارة راقية بين أيدي العرق الزنجي اتفاقا لا تعتم هذه الحضارة أن تعود إلى أطوار منحطة؛ وذلك كما حدث بإثيوبية في القرون القديمة وبهايتي في أيامنا.
وهنالك عرق آخر كان من البرابرة أيضا، هنالك عرق الأغارقة المقيم بعرض آخر، ولكن من البيض، فاقتبس من مصر وآشور نماذج فنونه الأولى، وفي البداءة اقتصر على نقل ممسوخ أيضا، وهو قد انتهت إليه نتائج فنون تينك الحضارتين العظيمتين بواسطة الفنيقيين الذين كانوا سادة الطرق البحرية بين شواطئ البحر المتوسط وبواسطة أمم آسية الصغرى التي كانت سادة الطرق البرية المؤدية إلى نينوى وبابل.
وكل يعلم درجة تفوق الأغارقة على أساتذتهم، غير أن الاكتشافات الأثرية الحديثة أثبتت أيضا غلظة آثارهم الأولى، ودلت على ضرورة انقضاء زمن حتى إنتاجهم نفيس الآثار التي كتب بها الخلود لهم، وقد مضى الأغارقة نحو سبعة قرون في ذلك الجهد الثقيل كي يبتدعوا فنا خاصا راقيا مستعينين بفن أجنبي، ولكن ما حققوه من المبتكرات في القرن الأخير هو أعظم مما وصلوا إليه في جميع العصور السابقة، والحق أن أطول جهد تبذله الأمة لا يكون في مجاوزة أعلى مراحل الحضارة، بل في مجاوزة مراحلها الدنيا، وتدل أقدم منتجات الفن الإغريقي؛ أي نتائج كنز ميسين في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، على عمل ابتدائي وتقليد مشوه لأنصاب الشرق، ثم مضت ستة قرون وما فتئ الفن الإغريقي يكون شرقيا، فتجد بين أپولون في تينيه وأپولون في أورخومين وبين التماثيل المصرية شبها يقضي بالعجب، بيد أن التقدم يسير قدما، فلم ينقض قرن حتى انتهينا إلى فيدياس وتماثيل الپارتنون العجيبة؛ أي إلى فن تخلص من أصوله الشرقية وفاق النماذج التي استوحاها زمنا طويلا.
وقل مثل هذا عن فن البناء ، وإن كان تعيين مراحل تطوره أصعب من ذلك، ونحن نجهل ما يمكن أن تكون قصور أبطال أوميرس حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، ولكن ما يحدثنا عنه هذا الشاعر من الجدر النحاسية والمشارف اللامعة الألوان والحيوانات الذهبية والفضية الحافظة للأبواب يذكرنا في الحال بقصور الآشوريين المكسوة بصفائح برونز وبآجر مطلي بالميناء والتي يحرسها ثيران منحوتة، ومهما يكن من أمر فإن مثال أقدم الأعمدة الدورية الإغريقية التي يبدو أنها ترجع إلى القرن السابع مما نجده في الكرنك وبني حسن، وإن في العمود اليوني عدة أجزاء مقتبسة من آشور، بيد أننا نعلم أيضا أن هذه العناصر الأجنبية المنضدة قليلا في البداءة والممزوجة بعد ذلك، والمتحولة في نهاية الأمر، مما نشأ عن أعمدة جديدة مختلفة عن نماذجها الأولى اختلافا كثيرا.
وتعرض علينا فارس في طرف آخر من العالم القديم انتحالا مماثلا وتطورا مشابها لذلك، غير أن هذا التطور لم يبلغ غايته لما كان من وقف الفتح الأجنبي له بغتة، ولم تقيض لفارس سبعة قرون كما قيض للإغريق، بل تسنى لفارس قرنان فقط لإبداع فن. والعرب وحدهم هم الأمة الوحيدة التي وفقت، حتى الآن، لإبراز فن خاص في مثل ذلك الزمن القصير.
ولم يبدأ تاريخ فارس قط إلا بكورش وخلفائه الذين استطاعوا أن يستولوا على بابل ومصر قبل الميلاد بخمسة قرون؛ أي على مركزي الحضارة اللذين كان مجدهما ينير العالم الشرقي في ذلك الحين، ولم يكن أمر الأغارقة الذين خبئ لهم أن يسيطروا على العالم ذات يوم ليخطر على البال آنئذ، فغدت الإمبراطورية الفارسية مركزا للحضارة إلى الزمن الذي قضي عليها فيه قبل الميلاد بثلاثة قرون من قبل الإسكندر الذي حول بذلك مركز الحضارة ذلك دفعة واحدة.
وإذا لما يكن للفرس، بعد استيلائهم على مصر وبابل، فن خاص فإنهم استعاروا من هذين البلدين نماذج ومتفننين، وإذا لم يدم سلطان الفرس غير قرنين لم يكن عندهم من الوقت ما يحولون به هذه الفنون تحويلا أساسيا، ولكن الفرس حين انهاروا كانوا قد بدأوا بتحويل تلك الفنون، ولنا في أطلال برسپوليس (إصطخر) التي لا تزال ماثلة خبر عن تكوين تلك التحولات. أجل، إننا نجد خلطا هنالك لا ريب، وإن شئت فقل نجد تنضد فنون مصر وآشور الممزوجة ببعض العناصر الإغريقية، غير أن عناصر جديدة تبدو هنالك، يبدو هنالك، على الخصوص، العمود الإصطخري العالي الذي له تيجان ذات رأسين والذي نبصر من تيجانه هذه أن الزمان لو أمهل الفرس لأبدع هذه العرق الرفيع فنا خاصا، ولو لم يبلغ ما بلغه فن الأغارقة من السمو.
ولدينا دليل على ذلك فيما نلاقيه من مباني الفرس التي شيدت بعد عشرة قرون، وبيان الأمر أن الأسرة الكينية التي أسقطها الإسكندر قد خلفتها الأسرة السلوقية فالأسرة الأشكانية فالأسرة الساسانية التي قضى عليها العرب، وبالعرب اكتسب الفرس فن بناء جديد، وما يشيده الفرس من مبان على أثر ذلك فذو طابع إبداع ثابت ناشئ عن مزج الفن العربي بفن بناء الكينيين القديم المعدل بخلط مع فن الأشكانيين ذي المسحة اليونانية كالأبواب الشاهقة التي تبلغ ذروة وجهة البناء، وكالآجر المطلي بالميناء، وكالأقواس ذات الزاوية في أعلاها إلخ، وهذا الفن الجديد هو الفن الذي نقله المغول إلى الهند محولا بعد ذلك.
وتدلنا الأمثلة السابقة على ما قد تحدثه الأمة من التحولات في فنون أمة أخرى، وذلك بحسب العرق وبحسب الزمن الذي يدوم فيه نفوذها.
ويرجع الفن المستعار - كما رأينا - إلى طور منحط لدى عرق متأخر كالإثيوبيين يحمل وراءه قرونا مع اتصاف بقدرة دماغية ناقصة، وقد رأينا لدى الأغارقة؛ أي لدى العرق الرفيع وذي المجهود في عدة قرون، تحول الفن القديم إلى فن جديد أعلى منه تحولا تاما، ولم نجد لدى عرق آخر؛ أي لدى الفرس الذين هم دون الأغارقة سموا، والذين لم يمهلهم الزمن، غير حذق كبير في التركيب وبدء بالتحويل.
ولكننا إذا عدونا تلك الأمثلة التي يرجع معظمها إلى زمن بعيد وجدنا من الأمثلة ما هو أحدث من تلك كثيرا، وجدنا من نماذج هذه الأمثلة ما لا يزال قائما وما يدل على عظم التحولات التي يضطر العرق إلى إحداثها فيما يقتبسه من الفنون، وتلك الأمثلة تزيد بروزا عند النظر إلى أمم تدين بديانة واحدة مع اختلاف أصولها، وأقصد بذلك المسلمين.
فلما استولى العرب في القرن السابع على معظم العالم اليوناني الروماني القديم وأقاموا إمبراطوريتهم العظمى التي لم تلبث أن امتدت من إسپانية إلى أواسط آسية مارة بجميع شمال إفريقية وجدوا أنفسهم أمام فن بناء واضح المعالم، وجدوا أنفسهم أمام فن البناء البزنطي، فانتحلوه على علاته في بدء الأمر، سواء أفي إسپانية أم في مصر أم في سورية، وذلك في شيد مساجدهم، ولدينا برهان على ذلك الانتحال في مسجد عمر بالقدس، ومسجد عمرو بالقاهرة، وفي غيرهما من المباني التي لا تزال قائمة، ولكن ذلك الانتحال لم يدم طويلا؛ فقد رئي أن المباني تتحول بين قطر وقطر وبين قرن وقرن بسرعة، وفي كتابنا «حضارة العرب» درسنا أمر هذه التحولات، فوجدناها بلغت من الاتساع ما لا تبصر معه أدنى شبه بين بناء أقيم في بدء الفتح كمسجد عمرو بالقاهرة (724) وبناء أقيم في آخر العهد العربي كمسجد قايتباي (1468)، ومما أظهرناه بشروحنا وصورنا في ذلك السفر أن المباني القائمة في مختلف البلدان التي دانت لشريعة الإسلام بلغت من الاختلاف ما يتعذر معه جمعها تحت اسم واحد؛ وذلك خلافا لما يمكن فعله، مثلا، في أمر المباني القوطية البادية التشابه مع تنوعها.
ولا يمكن عزو تلك الفروق الأساسية في فن بناء البلدان الإسلامية إلى اختلاف المعتقدات ما دام الدين واحدا، بل يعزى إلى اختلاف العروق الذي يؤثر في تطور الفنون ومصاير الدول تأثيرا عميقا.
وإذا صح ذلك القول وجب علينا أن ننتظر اطلاعنا في البلد الواحد الذي تسكنه عروق مختلفة على مبان متباينة أشد التباين، على الرغم من وحدة المعتقدات ووحدة السلطان السياسي، وهذا ما يشاهد في الهند بالضبط. وفي الهند يسهل أن تجد من الأمثلة ما يؤيد المبادئ العامة المعروضة في هذا الكتاب، فتراني أعود إليها على الدوام، ولنا في شبه جزيرة الهند الكبرى أكثر كتب التاريخ إغراء وحكمة، واليوم تمثل الهند، في الحقيقة، القطر الوحيد الذي يمكن بانتقال بسيط بين البقاع أن يطاف به كما يراد في غضون الزمان، وأن ترى فيه ماثلة سلسلة المراحل المتعاقبة التي اضطرت البشرية إلى مجاوزتها للوصول إلى مستوى الحضارة العالي، وفي الهند تشاهد جميع وجوه التطور، تشاهد فيه العصر الحجري كما تشاهد فيه عصر الكهرباء والبخار، ولا تجد في مكان ما تجده في الهند من العوامل العظيمة التي تهيمن على تكوين الحضارات وتطورها.
وقد حاولت، مطبقا المبادئ المشروحة في هذا الكتاب، أن أحل مسألة بحث عنها منذ زمن طويل، حاولت اكتناه أصل فنون الهند، وهذا الموضوع إذ كان معروفا قليلا إلى الغاية، وإذ كان ينطوي على تحقيق طريف لأفكارنا في روح العروق، نرى تلخيص أهم خطوطه هنا.
1
لم تظهر الهند من ناحية الفنون إلا في زمن متأخر جدا من التاريخ، ولا يكاد أقدم آثارها؛ كأعمدة أشوكا ومعابد كارلي وبهارت وسانچي إلخ، يعود إلى ما هو أقدم من التاريخ الميلادي بقرنين، وعندما أقيمت تلك الآثار كان معظم حضارات العالم القديم المسنة؛ كحضارات مصر وفارس وآشور، قد أتمت دورها فأوغلت في ليل الانحطاط، وكانت حضارة رومة وحدها تحل محل الحضارات الأخرى، وكان العالم لا يعرف غير رومة سيدا.
واستطاعت الهند التي برزت من ظل التاريخ في زمن متأخر أن تقتبس، إذن، بعض العناصر من الحضارات السابقة، غير أن العزلة العميقة التي قيل إن الهند كانت تعيش فيها على الدوام، وأن ما في آثارها من إبداع عجيب لا قرابة ظاهرة بينه وبين جميع الآثار التي ظهرت قبلها، مما أبعد، لطويل زمن، كل افتراض لأي اقتباس أجنبي فيها.
وبجانب ما في آثار الهند الأولى من إبداع لا جدال فيه نرى هذه الآثار تنم أيضا على تفوق في الصنع لم يجاوز في القرون التالية. نعم، لا بد من أن تكون الآثار المذكورة البالغة تلك الدرجة من الكمال قد سبقها تحسس طويل في الظلام، بيد أنك لا تجد أي رسم أو أي أثر منحط ينم على ذلك التحسس.
وما حدث في بعض البقاع النائية الواقعة في شمال شبه جزيرة الهند الغربي من اكتشاف جديد لبقايا من التماثيل والمباني التي تنم على المؤثرات اليونانية الظاهرة حمل العلماء المشتغلين بأمور الهند على القول بأن الهند استعارت فنونها من الأغارقة.
وما كان من تطبيق للمبادئ المعروضة آنفا، ومن البحث العميق في معظم المباني التي لا تزال قائمة في الهند، يسير بنا إلى حل معاكس لذلك معاكسة تامة، فعلى ما كان للهند من صلة عابرة بالحضارة اليونانية نرى أن الهند لم تقتبس أي فن من فنونها، وأن الهند لم تكن قادرة على استعارة ذلك، فالعرقان المتواجهان إذ كانا متباينين كثيرا، وكانت أفكارهما مختلفة اختلافا كبيرا، وكانت عبقريتهما الفنية متنافية تنافيا شديدا، لم يكن أحدهما ليؤثر في الآخر.
ثم إن دراسة الآثار المنثورة في الهند تدل من فورها على عدم وجود أي نسب بين فنونها وبين فنون الأغارقة، وبينما ترى جميع آثارنا الأوربية مشبعة من العناصر المقتبسة من الفن الإغريقي لا تجد في عناصر فنون الهند أي عنصر من ذلك الفن، ويثبت أبسط المباحث أننا تجاه عروق مختلفة إلى الغاية، وأنه لم يوجد من العبقريات ما هو متباين، ولا متنافر، كتباين العبقرية الإغريقية والعبقرية الهندوسية وتنافرهما.
وكلما أوغلنا في دراسة مباني الهند وروح الأمم التي أوجدتها زادت تلك المعرفة جلاء، ونحن لا نعتم أن نرى أن العبقرية الهندوسية ذاتية كثيرا، فلا تتأثر بمؤثر أجنبي بعيد من فكرها. أجل، يمكن هذا المؤثر الأجنبي أن يفرض فرضا، بيد أنه يظل سطحيا موقتا مهما طال أمده، والذي يظهر هو أن بين مزاج مختلف عروق الهند النفسي ومزاج الأمم الأخرى حواجز عالية علو الحواجز الهائلة التي جعلتها الطبيعة بين شبه جزيرة الهند الكبرى وبقاع العالم الأخرى، وقد بلغت العبقرية الهندوسية من الاستقلال ما تحول به في الحال كل أمر تقضي الضرورة عليها بتقليده فتجعله هندوسيا. حتى في فن البناء - حيث يصعب إخفاء ما هو مستعار - تجد ذاتية العبقرية الهندوسية الغريبة وملكتها في التغيير سافرتين، ومن الممكن أن يقلد المهندس المعماري عمودا إغريقيا، ولكن ذلك لا يحول دون تحويله إياه بسرعة إلى عمود يبدو عند أبسط الأبحاث أنه هندوسي، ومن الواقع أن مثل هذه التحويلات يشاهد اليوم في الهند حيث بلغ النفوذ الأوربي الغاية في الزمن الحاضر، وأعطوا أحد متفنني الهندوس أي نموذج أوربي لينقله تجدوه منتحلا لشكله العام، ولكن مع مبالغة في صنع بعض أجزائه، ومع زيادة وتبديل في دقائق زخارفه، وهذا النموذج إذا ما نقل مرة ثانية أو مرة ثالثة جرد من كل مسحة غريبة ليغدو هندوسيا خالصا.
وظاهرة فن البناء الهندوسي الأساسية، وهي ظاهرة تبدو في الآداب القريبة من فن البناء لهذا السبب، هي الإفراط في المبالغة والغلو في الجزئيات والتعقيد الذي يعاكس على خط مستقيم بساطة الفن الإغريقي البادية الباردة، ونطلع بدراسة فنون الهند، على الخصوص، على درجة ما بين آثار العرق الماثلة ومزاجه النفسي من صلة، وعلى تكون أوضح اللغات منها لمن يعرف أن يفسرها، ولو كان الهندوس قد غابوا عن التاريخ غيابا تاما كما غاب الآشوريون لكان في نقوش معابدهم البارزة وفي تماثيلهم ومبانيهم ما فيه الكفاية لاكتشاف ماضيهم، وكانت هذه الآثار تخبرنا على الخصوص أن روح الأغارقة الجلية المنظمة لم تسطع أن تؤثر تأثيرا دائما في خيال الهندوس الفياض العاطل من الترتيب، وكانت هذه الآثار توضح لنا السبب في أن تأثير الأغارقة في الهند لم يبد غير عابر مقتصر على البقعة التي بسط عليها سلطانه بسطا موقتا.
حتى إن الدراسة الأثرية لمباني الهند تجعلنا نوكد، بوثائق دقيقة، ما تنم عليه معارف الهند العامة وروح الهندوس في الحال، وقد أدت تلك الدراسة إلى تحقيقنا الأمر الطريف القائل إن ملوك الهندوس ذوي الصلات بملوك فارس الأشكانية، وقد كانت حضارة فارس متأثرة بالطابع اليوناني، أرادوا إدخال الفن الإغريقي إلى الهند في مرات كثيرة، ولا سيما في القرنين الأولين من الميلاد، فلم يوفقوا لإبقائه في الهند.
ولم يلبث ذلك الفن المستعار الرسمي وغير الملائم لفكر الشعب الذي أدخل إليه أن زال بزوال المؤثرات السياسية التي أوجبت ظهوره، ثم إن العبقرية الهندوسية كانت تكره ذلك الفن المستعار، فلم يكن ذا أثر في فن الهند القومي حتى في الزمن الذي فرض فيه، والحق أنك لا تجد أثرا إغريقيا في المباني الهندوسية المعاصرة لذلك الحين أو التي شيدت بعده كالمعابد المنحوتة تحت الأرض مثلا، وهذا إلى أن من السهل تمييز الأثر الإغريقي فلا يمكن إنكاره، فإذا عدوت المجموع البادي الإبداع على الدوام وجدت في الحال أن بعض الجزئيات الفنية، كعمل النسج، قد صنع بيد متفنن إغريقي.
وكان زوال الفن الإغريقي عن الهند مفاجئا كظهوره فيها، وتثبت هذه المفاجأة أمر فن صار استيراده وفرضه رسميا من غير أن تكون بينه وبين الأمة التي حملت على انتحاله أية قرابة، والفنون لا تمحي على ذلك الوجه أبدا، بل تتحول فيستعير الفن الجديد من الفن الذي ورثه شيئا على الدوام. والفن الإغريقي؛ إذ جيء به إلى الهند بغتة على أثر المغازي، زال من الهند بغتة، وهو لم يتفق له غير تأثير ضعيف ضعف تأثير المباني الأوربية التي يشيدها الإنكليز في الهند منذ قرنين.
وما كان من عدم تأثير الفنون الأوربية العتيد في الهند، مع مرور أكثر من مئة عام على ذلك السلطان المطلق، يمكن تشبيهه بقلة تأثير الفنون الإغريقية منذ ثمانية عشر قرنا، ولا إنكار لما هنالك من تنافر بين مشاعر الفريقين الفنية، والدليل على ذلك ما حدث من تقليد الفنون الإسلامية في جميع أنحاء شبه جزيرة الهند، مع أنها غريبة عن الهند غرب الفنون الأوربية عنها، ومن النادر ألا تجد شيئا من الزخرف العربي حتى في أي معبد من معابد أجزاء الهند التي لم يكن للمسلمين أي سلطان فيها. نعم، إننا نرى اليوم في الهند راجوات مثل راجه غواليار أغوتهم سيطرة الأجانب، كما في عهد الملك كنيشكا البعيد، فأنشأوا قصورا أوربية على الطراز اليوناني اللاتيني، غير أن هذا الفن الرسمي المنضد على الفن الأهلي، كما في زمن كنيشكا، هو غير ذي تأثير في هذا الفن الأهلي.
ومما تقدم ترى أن الفن الإغريقي وجد بجانب الفن الهندوسي في الماضي كما ترى الفن الأوربي بجانب الفن الهندوسي في الوقت الحاضر، وذلك من غير أن يؤثر أحدهما في الآخر، ولا تجد بين مباني الهند الحقيقية واحدا يمكنك أن تقول إنه يشتمل في مجموعه أو في جزئياته على أي شبه قريب أو بعيد بأي واحد من مباني الأغارقة.
وعجز الفن الإغريقي عن الرسوخ في الهند أمر يستوقف النظر، ويجب عزوه إلى ذلك التنافر الذي ذكرنا وجوده بين روحي ذينك العرقين، لا إلى عجز الهند الفطري عن هضم الفنون الأجنبية ما دامت الهند قد عرفت كيف تهضم الفنون الملائمة لمزاجها النفسي وكيف تحولها.
وما استطعنا جمعه من الوثائق الأثرية يثبت في الحقيقة كيف أن فارس حبت الهند بمصدر فنونها، وليست فارس هذه هي فارس التي تأثرت بشيء من الفن اليوناني في عهد الأشكانيين، بل فارس التي ورثت حضارتي آشور ومصر القديمتين، ومما نعلم أن الإسكندر عندما أسقط أسرة الملوك الكينية قبل الميلاد بثلاثمئة سنة كان الفرس حائزين لحضارة ساطعة منذ قرنين، والفرس هؤلاء لم يكونوا قد انتهوا إلى طراز جديد في الفنون لا ريب، غير أن مزجهم للفنون المصرية والآشورية التي ورثوها أدى إلى إنتاجهم آثارا ممتازة، وذلك كما يعلم من أطلال برسپوليس (إصطخر) التي لا تزال شاخصة، فهنالك ترى أن الأبواب المصرية الشاهقة وثيران آشور المجنحة وبعض العناصر اليونانية دالة على تقابل جميع فنون الحضارات السابقة الكبرى في تلك البقعة الآسيوية الصغيرة.
وفارس هي التي استوحتها الهند، ولكن الهند لم تستق في الحقيقة سوى فنون كلدة ومصر التي كانت فارس قد اقتصرت على تقليدها.
وتنم دراسة مباني الهند على ما استعارته الهند في الأصل، بيد أن تحقيق هذه الاستعارات يتطلب بحثا في أقدم تلك المباني، ومن صفات الروح الهندوسية أن تخضع الاقتباسات عندها لتحولات تغدو بها غير معروفة الأصل؛ وذلك لتلائم مدارك تلك الروح.
وما السبب في أن الهند التي بدت عاجزة عن اقتباس شيء من اليونان استعارت من فارس بسهولة ما عن لها؟ يرجع سبب ذلك إلى أن فنون فارس ملائمة لمزاجها النفسي لا ريب، على حين ترى فنون الأغارقة لا تلائم تلك الروح مطلقا، ويرجع سبب ذلك إلى أن ما في المباني الإغريقية من أشكال بسيطة ووجهات قليلة الزخرف لا يناسب الروح الهندوسية، على حين ترى الأشكال المركبة وفرط الزينة وغنى الزخرف في مباني فارس تغوي تلك الروح.
على أن تأثير فارس بفنونها في الهند، وذلك حين تمثيل فارس لمصر وآشور، لم يقتصر على ذلك الدور البعيد الذي هو أقدم من التاريخ الميلادي، فلما ظهر المسلمون بعد ذلك بقرون كثيرة في شبه جزيرة الهند أشبعت حضارتهم في أثناء قطعها لفارس من العناصر الفارسية، فكان ما جاءت به تلك الحضارة إلى الهند فارسيا مشربا بأثر التقاليد الآشورية القديمة التي أدامها الملوك الكينيون فعدت أبواب المساجد الهائلة وما يستر هذه الأبواب من الآجر المطلي بالميناء من بقايا الحضارة الكلدانية الآشورية، وقد عرفت الهند أن تهضم هذه الفنون أيضا لملاءمتها عبقرية عرقها، مع أن الفن الإغريقي في الماضي والفن الأوربي في الحاضر منافيان لشعورها وتفكيرها، فظلا غير مؤثرين فيها على الدوام.
إذن، ترتبط الهند في مصر وآشور من طريق فارس كما نرى، لا في الإغريق كما يذهب إليه بعض علماء الآثار، ولم تأخذ الهند من الإغريق شيئا، ولكن الهند والإغريق قد استقتا من ينابيع واحدة، من كنز واحد هو أساس جميع الحضارات التي أنضجتها شعوب مصر وكلدة في قرون كثيرة، وقد اقتبست الإغريق ذلك الكنز بواسطة الفنيقيين وأمم آسية الصغرى، وقد اقتبسته الهند بواسطة فارس، وهكذا ترى أن حضارتي الإغريق والهند تردان إلى ينبوع واحد، مع العلم بأن المجريين اللذين تفرعا من هذا الينبوع لم يلبثا أن اختلفا في كلا البلدين اختلافا كليا وفق عبقرية كل من عرقيهما.
بيد أن الفن إذا كان ذا علاقة وثيقة بمزاج العرق النفسي كما قلنا، وإذا كان الفن الذي تقتبسه عروق مختلفة يكتسب وجوها متباينة لذلك السبب، فإنه يجب علينا أن ننتظر حيازة الهند التي تسكنها عروق مختلفة أشد الاختلاف فنونا متباينة وطرز بناء غير متشابهة على الرغم من وحدة العقائد.
ويؤيد البحث في مباني مختلف بقاع الهند ذلك المبدأ، وما بين مباني الهند من فروق بلغ من بعد الغور ما نقسمها معه بحسب البقاع؛ أي بحسب العرق، لا بحسب دين الشعوب التي شادتها، وإنا لا نجد أي شبه بين مباني شمال الهند ومباني جنوبها التي أقيمت في دور واحد من قبل أمم تدين بدين متماثل على الخصوص، حتى في أيام سلطان الإسلام، في ذلك الدور الذي بلغت الوحدة السياسية فيه حدها، والذي وصلت السلطة المركزية فيه إلى غايتها، تبصر اختلاف المباني الإسلامية الصرفة بين بقعة وبقعة اختلافا كبيرا، فلا ترى بين مساجد أحمد آباد ولاهور وأغره وبيجاپور سوى نسب ضعيف، سوى نسب أقل مما بين عمارة أقيمت في عصر النهضة ومباني العصر القوطي مع أن تلك المساجد خاصة بدين واحد.
وليس فن البناء وحده هو الذي يختلف في الهند بين عرق وعرق، بل تجد صنع التماثيل يختلف في مختلف بقاعها أيضا؛ لا من حيث الأمثلة التي تعرض وحدها؛ بل من حيث الوجه الذي تعمل به أيضا، فقابلوا تماثيل سانچي أو نقوشها البارزة بما في بهارت تجدوا الفرق واضحا، مع أن ما فيهما صنع في زمن واحد تقريبا، ويشتد هذا الفرق عند المقابلة بين تماثيل ولاية أوريسة ونقوشها وبين ما في بنديل كهند، أو عند المقابلة بين تماثيل ميسور وما في المعابد الكبرى بجنوب الهند، وهنالك يبدو تأثير العرق في كل مكان، ثم هو يبدو في أقل الأدوات الفنية، ولا أحد يجهل درجة اختلاف هذه الأدوات بين ناحية وناحية من أنحاء الهند، ولا احتياج إلى كبير خبرة للتفريق بين صندوق صغير مصنوع من الخشب المحفور في ميسور وصندوق صغير مصنوع من الخشب المحفور في الكجرات، كما أنه لا احتياج إلى كبير خبرة للتفريق بين حلية صنعت في ساحل أوريسة وحلية صنعت في ساحل بمبي.
أجل، إن فن بناء الهند فن ديني على الخصوص كفن بناء جميع الشرقيين، ولكن مهما كان المؤثر الديني كبيرا في الشرق خاصة تجد التأثير العرقي أعظم منه بدرجات.
وروح العرق التي تسير مصير الأمم توجه معتقداتها ونظمها وفنونها إذن، ومهما يكن عنصر الحضارة الذي نبحث عنه نجد فيه تلك الروح على الدوام، وتلك الروح هي القدرة الوحيدة التي لا تغلبها قدرة، وهي تمثل وطأة الأجيال وخلاصة أفكارها.
هوامش
الباب الثالث
اشتقاق تاريخ الأمم من أخلاقها
الفصل الأول
كيف تشتق النظم من روح الأمة
يمكن عد التاريخ عرضا بسيطا للنتائج الصادرة عن مزاج العروق النفسي، ويشتق التاريخ من ذلك المزاج كما تشتق أعضاء التنفس في الأسماك من حياتها المائية، ويغدو تطور التاريخ، بغير سابق معرفة لمزاج الأمة النفسي، خلطا من الحوادث التي لا سيد لها سوى المصادفة، وعندما نعلم روح الأمة تبدو حياتها بالعكس نتيجة منتظمة مقدرة لصفاتها النفسية، ونجد في جميع مظاهر العيش لدى الأمة دائما روح العرق الثابتة الناسجة لمصيره الخاص دائما.
ويبدو سلطان روح العرق القاهر واضحا في النظم السياسية على الخصوص، ومن السهل إثبات ذلك ببعض الأمثلة.
ولننظر إلى فرنسة قبل كل شيء، لننظر إلى هذا البلد الذي خضع لأعمق الانقلابات، هذا البلد الذي يلوح أن النظم السياسية تغيرت فيه تغيرا أساسيا في سنين قليلة، هذا البلد الذي تبدو الأحزاب السياسية فيه مختلفة أشد الاختلاف، ولو نظرنا من الناحية النفسية إلى تلك الآراء البادية التناقض، وإلى تلك الأحزاب المتناحرة، لعلمنا أنها في الحقيقة أساس مشترك فيه متماثل ممثل لهدف عرقنا الأعلى تمثيلا كاملا، ولا غرو، فالمتشددون والجذريون والملكيون والاشتراكيون عندنا، وإن شئت فقل: جميع المناضلين عن أشد المذاهب تباينا عندنا، يتعقبون غاية واحدة بعناوين متباينة، وتلك الغاية هي ابتلاع الدولة للفرد، وكل ما يرغب فيه الجميع بحرارة واحدة هو النظام المركزي القيصري القديم؛ أي الدولة الموجهة لكل شيء، والمنسقة لكل شيء، والمستغرقة لكل شيء، والمنظمة لحياة أبناء الوطن في أدق جزئياتها معفية إياهم عن إبداء أي بصيص من التأمل والمبادرة، وسواء أدعي السلطان الذي يكون على رأس الدولة ملكا أم قيصرا أم رئيسا أم غير ذلك، وذلك السلطان مهما كان أمره، يمثل مثلا واحدا بحكم الضرورة، يمثل ذلك المثل الذي يعبر عن مشاعر روح العرق، والعرق لا يطيق مثلا سواه.
وإذا كانت شدة انفعالنا، وملامتنا المتصلة ضد الحقائق الحاضرة، وفكرتنا في أن تغيير الحكومة يجعلنا أوفر حظا، أمورا تحفزنا إلى تبديل نظمنا على الدوام، فإن إرادة الأموات التي تقودنا تقضي علينا بألا نغير غير الألفاظ والظواهر، وقد بلغ ما في روح العرق من قدرة لا شاعرة مبلغا لا نبصر به حتى الوهم الذي نذهب ضحيته.
ولا جرم أننا إذا لم ننظر إلى غير الظواهر لم نجد ما هو أكثر اختلافا بين النظام القديم والنظام الذي أسفرت عنه ثورتنا الكبرى، وهذه الثورة لم تصنع مع ذلك غير إدامة التقاليد الملكية من غير قصد متمة لنظام المركزية الذي بدئ به في العهد الملكي منذ بضعة قرون، ولو بعث لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر من قبريهما ليحكما فيما صنعته الثورة الفرنسية لأنحيا باللائمة - لا ريب - على القسوة التي اتخذت في سبيل تحقيقه، ولكن مع عدهما إياه ملائما لتقاليدهما وبرنامجهما ومع اعترافهما بأنهما لو فوضا إلى وزير تنفيذ هذا البرنامج ما كتب له نجاح أحسن مما وقع، وقد كانا يبينان كيف أن أقل الحكومات التي عرفتها فرنسة ثورة هي حكومة الثورة الفرنسية، وقد كانا يحققان، فضلا عن ذلك، أنه لا نظام من النظم التي تداولت فرنسة منذ قرن حاول مس ذلك العمل ما دام ثمرة تطور منظم وإدامة للمثل الملكي الأعلى وعنوانا لعبقرية العرق، ومما لا مراء فيه أن ذينك الطيفين الشهيرين يبديان؛ إذ ذاك، شيئا من النقد بسبب تجربتهما العظيمة، فيلاحظان، على ما يحتمل، أن إقامة الطائفة الإدارية مقام الطائفة الأريستوقراطية الحكومية يعني إحداثا في الدولة لسلطة لا شخصية مرهوبة أكثر من طبقة الأشراف القديمة لحيازتها، وهي تتفلت من التغييرات السياسية، تقاليد وروحا طائفية وعدم تبعة وديمومة؛ أي سلسلة من الأحوال التي تؤدي إلى جعلها السيد الوحيد، وأعتقد أنهما لا يصران على هذا الاعتراض مع ذلك عادين الأمم اللاتينية - وهي قليلة المبالاة بالحرية، كثيرة الطمع في المساواة - أنها تحتمل بسهولة ضروب الاستبداد على أن يكون الاستبداد بأنواعه غير شخصي، وقد يجدان أيضا شيئا من الإفراط والطغيان في الأنظمة التي لا يحصيها عد، وفي ألوف القيود التي تحيط اليوم بأدق شؤون الحياة، ومما قد يذكرانه أن الدولة إذا ما ابتلعت كل شيء، ونظمت كل شيء، وجردت أبناء الوطن من كل مبادرة، أصبحنا في سواء الاشتراكية من تلقاء أنفسنا ومن غير احتياج إلى ثورة جديدة، ولكنهما يبصران بالنور الإلهي الذي يضيء الملوك، أو يبصران عند عدم هذا النور بالنور الرياضي القائل: إن المعلولات تزيد على نسبة هندسية عند وجود العلل ذاتها، أن الاشتراكية ليست سوى آخر تعبير للفكرة الملكية التي لم تكن الثورة الفرنسية غير طور معجل لها.
وهكذا نجد في نظم الأمة الأحوال العرضية - التي ذكرناها في أول هذا الكتاب - والسنن الدائمة التي حاولنا تحديدها، والأحوال العرضية تولد الظواهر على الخصوص، والسنن الأساسية المشتقة من أخلاق الشعوب تولد مصير الأمم.
ويمكننا أن نضيف إلى المثال السابق مثال عرق آخر، مثال العرق الإنكليزي الذي يختلف بمزاجه النفسي أشد الاختلاف عن عرقنا، وبهذا الأمر وحده تبتعد نظمه ابتعادا أساسيا عن نظمنا.
وسواء أكان على رأس الإنكليز ملك كما في إنكلترة، أم رئيس كما في الولايات المتحدة، تتصف حكومتهم، دائما، بالمميزات الأساسية الآتية؛ وهي: تقليل عمل الدولة إلى أقصى حد، وزيادة عمل الأفراد إلى أبعد غاية؛ أي عكس المثل اللاتيني الأعلى، فتنشأ المرافئ والقنوات والخطوط الحديدية ودور التعليم إلخ، وتدار بمبادرة الأفراد، لا بمبادرة الدولة،
1
وما كانت الثورات أو الدساتير أو الطغاة لتمنح الأمة ما لا تملكه، أو تنزع منها ما تملكه، من الصفات الخلقية التي تشتق نظمها منها، ومما كرر غير مرة أن الأمم تعطى الحكومات التي تستحقها، وهل لنا أن نتصور للأمم حكومات أخرى؟
وسنبين بمختلف الأمثلة أن الأمة لا تتفلت من نتائج مزاجها النفسي، وأنها إذا ما تفلتت منها كان ذلك لوقت قصير، وذلك كالرمل الذي تثيره الزوبعة فيبدو فراره من سنن الجاذبية ذات حين، ومن الوهم الخطر أن يعتقد أن الحكومات والدساتير ذات تأثير في مصير الأمة، ومصير الأمة في يدها، لا في الأحوال الخارجة عنها بالحقيقة، وكل ما يمكن الحكومة أن تسأل عنه هو أن تعبر عن مشاعر الأمة التي تدعى إلى الهيمنة عليها وعن أفكار هذه الأمة. والحكومة هي صورة الأمة على العموم، ولا يقال عن أية حكومة، ولا عن أي نظام: إنهما طيبان أو فاسدان مطلقا، ومن المحتمل أن كانت حكومة ملك الداهومي صالحة للأمة التي كانت تسوسها، وقد يكون أحكم الدساتير الأوربية سيئا لهذه الأمة، ومن المؤسف أن يجهل رجال الدولة ذلك فيرون أن الحكومة سلعة للتصدير، وأن من الممكن حكم المستعمرات بنظم أم الوطن، وهذا يعدل محاولة إقناع السمك بالعيش في الهواء بحجة أن التنفس الهوائي هو تنفس جميع الحيوانات العليا.
والأمم المختلفة لاختلاف مزاجها النفسي وحده لا تبقى تحت نظام واحد لطويل زمن، وما كان الإيرلندي والإنكليزي، أو السلافي والمجري، أو العربي والفرنسي، ليخضعا لقوانين واحدة إلا بأقصى الصعوبات ومتصل الثورات، ولم تكن الإمبراطوريات الكبري المشتملة على أمم مختلفة لتعيش إلا عيشا موقتا على الدوام، وإذا ما كتب لتلك الإمبراطوريات الكبرى بقاء طويل، كما كتب لإمبراطورية المغول ثم لإمبراطورية الإنكليز في الهند؛ فذلك لأن العروق المتقابلة هي من الكثرة والتباين والتنافس بحيث لا تفكر في الاتحاد ضد الأجنبي؛ وذلك لأن سادتها الأجانب لهم من الغرائز السياسية الصادقة ما يحترمون به عادات الأمم المغلوبة ويدعونها تعيش به خاضعة لشرائعها الخاصة.
ولو أريد بيان جميع النتائج الصادرة عن مزاج الأمم النفسي لكتبت عدة مجلدات ولجدد التاريخ بأسره، ويجب أن يكون البحث العميق في ذلك المزاج النفسي أساس السياسة والتربية، ولو كانت الأمم تستطيع أن تتفلت من مقادير عرقها، ولو كان صوت الأموات المتجبر غير خانق لصوت العقل، لصان الأمم ذلك البحث من أغاليط كثيرة وانقلابات غير قليلة.
هوامش
الفصل الثاني
تطبيق المبادئ السابقة على البحث المقارن في تطور
الولايات المتحدة بأمريكة والجمهوريات الإسبانية الأمريكية
تثبت الملاحظات المختصرة السابقة أن نظم الأمة تعبر عن روحها، وأن الأمة إذا سهل عليها أن تغير شكل هذه النظم لا تقدر على تغيير أساسها، والآن نبين بأمثلة واضحة درجة سيطرة روح الأمة على مصيرها، كما نبين الشأن الضئيل الذي تمثله النظم في ذلك المصير.
1
وإنني آخذ هذه الأمثلة من بلد تعيش فيه جنبا لجنب؛ وذلك في بيئة ذات أحوال قليلة الاختلاف، عروق أوربية متماثلة في الحضارة والذكاء، غير مختلفة في سوى الأخلاق؛ أي آخذها من أمريكة. وتؤلف أمريكة من قارتين يجمعهما برزخ، وتتساوى تانك القارتان مساحة تقريبا، وتتشابهان ترابا تشابها كبيرا، والعرق الإنكليزي كان قد استولى على إحداهما، والعرق الإسپاني كان قد استولى على الأخرى، وكلا العرقين ذو دساتير متشابهة ما دامت جمهوريات أمريكة الجنوبية قد نقلت دساتيرها من دستور الولايات المتحدة، وهنالك لا ترى، إذن، غير اختلاف عروق متقابل نستعين به على إيضاح مختلف مصاير تلك الأمم، وإليك نتائج هذا الاختلاف:
لنبدأ بتلخيص أخلاق العرق الأنغلوسكسوني الذي عمر الولايات المتحدة، وذلك في بضع كلمات، وفي العالم لا تجد عرقا أكثر تجانسا منه مع اختلاف أصله، وفي العالم قد لا تجد عرقا ذا مزاج نفسي أسهل تعريفا من مزاجه في خطوطه الكبرى.
ومن الناحية الخلقية يمتاز ذاك المزاج النفسي بإرادة قلما اتفقت لأمة خلا الرومان، وبهمة لا تقهر، وبقوة مبادرة نامية إلى الغاية، وبضبط نفس وباستقلال يخرج عن حد الأنس، وبنشاط قوي وبشعور ديني شديد، وبأدب ثابت وبمعرفة جلية للواجب.
ومن الناحية الذهينة لا نجد ما يسهل بيانه من الصفات الخاصة؛ أي من العناصر الخاصة التي لا يشاهد مثلها لدى الأمم المتمدنة الأخرى، ولا نرى غير ذكر ذلك التمييز الصادق الذي تدرك به ناحية الأمور العملية الإيجابية، ولا يضل به في المباحث الوهمية، وغير ذكر ذلك الذوق الممتاز للوقائع وذلك التذوق الهزيل للمبادئ العامة، وغير ذكر ذلك البصر الضيق الذي يحول دون تبين ما في المعتقدات الدينية من نواح ضعيفة، والذي يجعل هذه المعتقدات في حمى من الجدل.
وإلى تلك الصفات العامة تضاف صفة التفاؤل التام التي تبدو بها طريق الرجل في الحياة ممهدة فلا يفترض أنه يقدر على اختيار ما هو أحسن منها، وهو يعلم، دائما، ما يطلب منه وطنه وأسرته وآلهته. ويبلغ هذا التفاؤل من الشدة درجة يعد بها كل عنصر أجنبي محتقرا، والحق أن احتقار الأجنبي وعاداته يجاوز في إنكلترة الحد الذي كان الرومان في إبان عظمتهم يحتقرون البرابرة به، ولهذا الاحتقار تبصر زوال كل مقياس أدبي تجاه الأجنبي، واحتقار الأجنبي هذا ينم على شعور متأخر من الناحية الفلسفية لا ريب، غير أنه بالغ الفائدة في تقدم الأمم، ومن الإصابة قول القائد الإنكليزي ولسلي: إن ذلك الاحتقار من عوامل قوة إنكلترة، ومن الإصابة أن قيل: إن الإنكليز يعنون كالصينيين بمنع تسرب أي نفوذ أجنبي فيهم؛ وذلك بسبب رفضهم الصائب إنشاء نفق تحت المانش تسهل العلائق بينهم وبين القارة به.
وتجد الأخلاق المذكورة فيما تقدم في مختلف الطبقات الاجتماعية، ولا تبصر عنصرا من عناصر الحضارة الإنكليزية إلا وعليه طابع قوي من تلك الأخلاق، وتلك الأخلاق تقف نظر الأجنبي الذي يزور إنكلترة ولو لبضعة أيام. ومما يراه هذا الأجنبي ذلك الاحتياج إلى الحياة المستقلة في كوخ أدنى مستخدم، وهذا الكوخ منزل ضيق لا ريب، ولكنه في حمى من كل ضغط، وفي منتأى من كل جوار، ويرى الأجنبي ذلك الاحتياج إلى الاستقلال في المحطات المطروقة حيث يطوف الجمهور في كل ساعة من غير أن يزرب كقطيع من الغنم الطيع خلف حاجز يحرسه موظف كما لو وجب عليه حفظ سلامة الناس الذين لا يجدون في أنفسهم من الانتباه الضروري ما يصونون به أنفسهم من الدوس، ويطلع ذلك الأجنبي على نشاط ذلك العرق في عمل العامل القاسي كما يطلع عليه في عمل الطالب الذي وضع حبله على غاربه منذ صباه فيتعلم السير وحده عالما أنه لا أحد غيره يعنى بمصيره، ويطلع ذلك الأجنبي على نشاط ذلك العرق لدى الأساتذة الذين يكتفون بقليل تعليم ويبالون بكثير أخلاق، عادين الخلق من أقوى العوامل المحركة في العالم،
2
وإذا ما رجع ذلك الأجنبي بصره إلى حياة المواطن العامة أبصر أنه يعتمد، دائما، على قوة المبادرة الفردية لا على الدولة، لا فرق في ذلك بين إصلاح ينبوع قرية وإنشاء مرفأ بحري، ومد خط حديدي، وحين يتابع ذلك الأجنبي بحثه لا يلبث أن يعترف بأن تلك الأمة هي الأمة الحرة الوحيدة حقا على الرغم من معايبها التي تجعلها في نظر الأجنبي أكثر الأمم جفاء؛ وذلك لأنها وحدها هي التي استطاعت أن تعرف كيف تسير طليقة فلا تترك لحكومتها غير أدنى حد من العمل، وإذا ما تصفح الباحث تاريخ تلك الأمة وجد أنها أول من عرف أن يتخلص من كل سيطرة للكنيسة أو للملوك، وكان الفقيه فورتسكو يعارض في القرن الخامس عشر «القانون الروماني - الذي هو تراث الأمم اللاتينية - بالقانون الإنكليزي؛ فيقول: إن الأول هو من صنع الأمراء المطلقين فيعمل على التضحية بالفرد، وإن الثاني هو من عمل الجميع فيعمل على حماية الفرد».
وإذا ما هاجرت أمة تلك هي حالها إلى أية بقعة من بقاع الدنيا لم تعتم أن تصير ذات شوكة وأن تؤسس دولا قوية، وإذا كان العرق الذي تغزوه على جانب كبير من الضعف فلا ينتفع به، كأصحاب الجلود الحمر (الپوروج) بأمريكة مثلا، أبادته بانتظام، وإذا كان العرق المقهور كثير العدد وكان يمكن استغلاله، كأهل الهند، أكره على العمل في سبيل سادته، واستثمر بمهارة مع تركه حرا في عاداته ونظمه.
ويجب، في بلد جديد كأمريكة، تتبع التقدم العجيب المدين لمزاج العرق الإنكليزي النفسي، ولا أحد يجهل ماذا أصبح هذا العرق، وهو المعتمد على نفسه، فيما نقل إليه من تلك البقاع العاطلة من الفلاحة والتي لم يكد يسكنها بعض المتوحشين؛ فقد كفاه قرن واحد لينال إحدى المراتب الأولى بين دول العالم العظمى حتى قل من يقدر على مكافحته في الوقت الحاضر، وتراني أوصي بقراءة كتب مسيو روزيه عن الولايات المتحدة أولئك الذين يرغبون في الوقوف على مقدار المبادرة العظيمة والنشاط الفردي اللذين يبذلهما أبناء تلك الجمهورية القوية، فهنالك يبصرون استعداد الناس إلى أقصى حد لإدارة أنفسهم بأنفسهم وللاشتراك في إنشاء المشاريع الكبيرة وبناء المدن وشيد المدارس والمرافئ والخطوط الحديدية إلخ، وهنالك يبصرون عمل الدولة إلى أدنى حد حتى يمكن القول بعدم وجود سلطات عامة تقريبا، وما يكون نفع تلك السلطات فيما خلا الشرطة والجيش والتمثيل الدبلمي.
ثم إنه لا يكتب في الولايات المتحدة فلاح إلا لمن هو حائز للصفات الخلقية المذكورة سابقا، ولذلك ترى المهاجرات الأجنبية لا تغير روح العرق العامة أبدا، ومن شروط الحياة هنالك أن الذي يكون عاطلا من تلك الصفات يغدو محكوما عليه بالزوال السريع، والأنغلوسكسوني وحده هو الذي يقدر على العيش في ذلك الوسط المشبع من الاستقلال والإقدام، وأما الإيطالي فيموت فيه جوعا، وأما الإيرلندي والزنجي فيعيشان في الخدم الدنيا.
وتمثل تلك الجمهورية الكبرى أرض الحرية لا ريب، وهي ليست أرض المساواة والإخاء، ذينك الوهمين اللاتينيين اللذين لا تعرفهما سنة التقدم، ولا تجد في العالم مثل ذلك القطر قطرا أنشب الانتخاب الطبيعي فيه أظفاره. نعم، يبدو ذلك الانتخاب الطبيعي فاقد الرحمة هنالك، وهو، لعطله من الرحمة، حافظ العرق الذي أوجب تكوينه على قوته وإقدامه، ولا مكان في الولايات المتحدة للضعفاء ومتوسطي الحال والقاصرين. ولعامل الانحطاط وحده تجد الأشخاص المنحطين معرضين للهلاك هنالك، شعوبا ومنفردين، وأصحاب الجلود الحمر أبيدوا برصاص البنادق أو بالموت جوعا لعدم نفعهم، وسيكون للعمال الصينيين الذين تشتد وطأة مزاحمتهم مثل ذلك النصيب في نهاية الأمر، ولم ينفذ القانون الذي سن لطردهم جملة بسبب ما يقتضيه من النفقات العظيمة.
3
ومن المحتمل أن يستبدل به استئصال منظم كالذي بدئ به في كثير من المديريات ذات المناجم. ومما سن حديثا قوانين لحظر دخول البلاد الأمريكية على المهاجرين الفقراء، وأما الزنوج الذين اتخذوا حجة لحرب الانفصال (وهي الحرب التي اشتعلت بين الأمريكيين الذين يملكون عبيدا، والأمريكيين الذين أرادو منع أولئك من اقتناء العبيد لعجزهم عن أن يملكوا مثلهم) فلم ينظر إليهم بعين التسامح تقريبا إلا لاقتصارهم على خدم منحطة يعرض عنها أي أمريكي كان، وللزنوج هؤلاء جميع الحقوق نظريا، والزنوج هؤلاء يعاملون عمليا كحيوانات ذات نفع فيتخلص منهم إذا ما أضحوا خطرين، وقد وجدت الكفاية في الأساليب الحاسمة التي تقول بها طريقة لنش على العموم، فيعدم بها الزنوج رميا بالرصاص، أو شنقا عند أول جرم مزعج يقترفونه.
وتلك هي النواحي السود في الصورة لا ريب، وما في هذه الصورة من بهاء يحمل على احتمالها، وإذا ما وجب تعريف الفرق بين أوربة البرية والولايات المتحدة بكلمة واحدة أمكننا أن نقول إن أوربة البرية تمثل الحد الأقصى لما يمكن أن يؤدي إليه التنظيم الرسمي الذي يقوم مقام المبادرة الفردية، وإن الولايات المتحدة تمثل الحد الأقصى لما يمكن أن تؤدي إليه المبادرة الفردية المستقلة عن كل تنظيم رسمي، وفروق أساسية كهذه هي من نتائج الخلق وحده، ولا حظ للاشتراكية الأوربية في التأصل في أرض تلك الجمهورية الصلد، والاشتراكية الأوربية؛ إذ كانت آخر عنوان لطغيان الدولة، لا تزدهر إلا عند العروق المسنة الخاضعة منذ قرون لنظام نزع منها كل استعداد لحكم نفسها بنفسها.
4
وفيما تقدم رأينا ماذا أحدثه في قسم من أمريكة شعب حائز لمزاج نفسي تغلب عليه الثبات والإقدام والعزم، فبقي علينا أن نبين ماذا آل إليه بلد مماثل لذلك تقريبا على أيدي عرق آخر ذكي على الخصوص، ولكن مع عطل من الصفات الخلقية التي قررت نتائجها.
حقا إن أمريكة الجنوبية هي من أغنى بقاع الدنيا في حاصلاتها الطبيعية، وأمريكة الجنوبية هذه هي أكبر من أوربة مرتين، وأقل منها سكانا عشر مرات، وهي لا تعوزها الأرض، وهي لمن يثيرها إذن. وأهلوها السائدون هم من أصل إسپاني، ويقسمون إلى عدة جمهوريات، ومن هذه الجمهوريات: الأرجنتين والبرازيل والشيلي والپيرو إلخ، وجميعها قد انتحل دستور الولايات المتحدة السياسي، وله قوانين تماثل قوانينها لهذا السبب، والآن، وقد ظهر عرق تلك الجمهوريات مختلفا عن العرق الذي يعمر الولايات المتحدة عاطلا من صفاته، فإن هذه الجمهوريات كلها تبدو طعمة للفوضى الدامية على الدوام، وهي، مع كنوز أرضها العجيبة، تراها غارقة في ضروب التبذير، غارقة في الإفلاس والطغيان.
وتجد أسباب ذلك الانحطاط كلها في المزاج النفسي لعرق من المولدين عاطل من الإقدام والعزم والأدب، وفقدان الأدب على الخصوص يجاوز جميع ما نعرفه من قبائح في أوربة، وقد أوردت. شيلد مدينة بوينوس إيريس، التي هي إحدى المدن المهمة، مثالا، فصرح بأنها لا تصلح لسكنى من هو على شيء من رقة الشعور ومن الأدب، وقصد ذلك الكاتب جمهورية الأرجنتين التي هي من أقل تلك الجمهوريات انحطاطا بقوله: «ليدرس الباحث تلك الجمهورية من الناحية التجارية؛ حتى يظل مبهوتا من عدم الذمة البادي في كل مكان منها.»
ولا ترى مثالا أحسن من ذلك دلالة على كون النظم وليدة العرق وعلى استحالة نقل هذه النظم من أمة إلى أخرى، ومن الطريف أن يعلم ما تصير إليه نظم الولايات المتحدة الحرة بانتقالها إلى عرق متأخر، قال مسيو شيلد محدثا إيانا عن الجمهوريات الإسپانية الأمريكية: «يقبض على زمام تلك البلاد رؤساء لا يقلون استبدادا عن قيصر روسية، بل هم أشد إطلاقا منه؛ لبعدهم من مزعجات الرقابة الأوربية ونفوذها، وما الموظفون الإداريون إلا من صنائعهم ... ويصوت المواطنون كما يرون، ولكن من غير أن يلتفت إلى أصواتهم، وليست الأرجنتين جمهورية إلا بالاسم، والحقيقة أنها حكومة أناس يجعلون من السياسة تجارة.»
والبرازيل هي البلد الوحيد الذي كان قد نجا من ذلك الانحطاط العميق؛ وذلك بفضل نظام ملكي كان يضع السلطة في مأمن من المنافسات، وإذ كان هذا النظام من الحرية كثيرا على عروق فاقدة الإقدام والإرادة فإنه لم يلبث أن انهار، فغدا ذلك البلد فريسة الفوضى التامة، ولم يمض غير قليل سنوات حتى بلغ أولياء الأمور من تبديد أموال بيت المال ما قضت الضرورة معه بزيادة الضرائب على نسب عظيمة.
ومن الطبيعي ألا يتجلى انحطاط العرق اللاتيني الذي يعمر جنوب أمريكة في السياسة وحدها، بل يتجلى في جميع عناصر الحضارة، وتلك الجمهوريات التعيسة إذا ما تركت هي وشأنها عادت إلى الهمجية الصرفة؛ ولذلك أصبحت الصناعة والتجارة فيها قبضة الأجانب من إنكليز وأمريكيين وألمان، فصارت ڨالپاريزو مدينة إنكليزية، ولولا الأجانب ما بقي شيء للشيلي، وبفضل الأجانب وحدهم تحافظ تلك البقاع على طلاء خارجي للحضارة لا يزال يخدع أوربة.
وإذا ما قيس هذا الانحطاط الهائل الذي يبدو في أولئك السكان، المولدين من العرق الإسپاني وأهل البلاد الأصليين، برقي العرق الإنكليزي المقيم ببلد مجاور ظهر من أكثر التجارب سوادا وإثارة للحسرة، وكان من أمتع التجارب التي يستشهد بها لتأييد السنن التي عرضتها.
هوامش
الفصل الثالث
كيف يؤدي تغيير روح العروق إلى تغيير تطور
الأمم التاريخي
تدل الأمثلة التي ذكرناها على أن تاريخ الأمة يرجع إلى خلقها؛ أي إلى عرقها، لا إلى نظمها، ونحن حين بحثنا في تكوين العروق التاريخية رأينا أن انحلال هذه العروق يتم بالتوالد، وأن الأمم التي حافظت على وحدتها وقوتها؛ كالآريين في الهند قديما وكالإنكليز في مختلف مستعمراتهم، هي التي ابتعدت بعناية عن كل اختلاط بالأجانب، ووجود الأجانب، وإن قلوا، يكفي لتغيير روح الأمة، ووجود الأجانب يفقد الأمة أهليتها للدفاع عن أخلاق عرقها وعن آثار تاريخها وعن أعمال أجدادها.
وتلك النتيجة صادرة عما تقدم، وإذا ما وجب عد عناصر الحضارة مظهرا خارجيا لروح الأمة كان من البديهي أن تتغير حضارة الأمة بتغير روحها.
ولنا في تاريخ الماضي أدلة لا جدال فيها، وسيكون لنا في تاريخ المستقبل أدلة أخرى أيضا.
تحول الحضارة الرومانية التدريجي هو من أبرز الأمثلة التي يمكن الاستناد إليها، وعلى العموم يظهر المؤرخون لنا هذا الحادث نتيجة لما قام به البرابرة من غارات مخربة، غير أن البحث الدقيق في الوقائع يثبت من جهة أن الغارات التي أوجبت سقوط الإمبراطورية الرومانية كانت سلمية لا حربية، وهو يثبت من جهة أخرى أن البرابرة كانوا يحترمون هذه الإمبراطورية احترام إعجاب على الدوام، وأنهم لم يألوا جهدا في انتحالها وإدامتها، والبرابرة هؤلاء قد حاولوا اعتناق لغة تلك الإمبراطورية ونظمها وفنونها، والبرابرة هؤلاء قد عملوا حتى أواخر عهد الميروڤنجيين على إدامة الحضارة القوية التي ورثوها، وترى جميع أعمال الإمبراطور العظيم ، شارلمان، مشبعة من هذه الفكرة.
ولكننا نعلم أن عملا كهذا مما يتعذر تحقيقه على الدوام؛ فقد تطلب تكوين البرابرة لعرق متجانس بعض التجانس مرور قرون قضوها في التوالد المكرر وفي أحوال عيش متماثلة، وذلك العرق عندما تكون حاز بسبب تكونه وحده فنونا جديدة ولغة جديدة ونظما جديدة وحضارة جديدة من حيث النتيجة، وما انفكت ذكرى رومة تشتد على هذه الحضارة، وما بذل من جهود كثيرة في سبيل إحيائها ذهب أدراج الرياح، ومن العبث أن حاولت (النهضة) بعث فنون رومة وأن جدت الثورة الفرنسية في إعادة نظمها.
إذن، لم يفكر البرابرة الذين أغاروا بالتدريج على الإمبراطورية منذ القرن الأول من الميلاد، والذين ابتلعوها مؤخرا، في هدم حضارة هذه الإمبراطورية، بل كانوا يفكرون في إدامتها فقط، حتى إن مجرى التاريخ ما كان ليتغير لو لم يحارب البرابرة رومة ويقتصروا على الاختلاط بالرومان شيئا فشيئا ويقل عدد الرومان بذلك يوما فيوما؛ أي إن اختلاط الفريقين كان كافيا لتقويض الروح الرومانية وإن لم يخرب البرابرة رومة، ولذلك يمكن القول بأن الحضارة الرومانية لم تدمر قط، بل أديمت بتحويلها في غضون القرون؛ وذلك لوقوعها في أيدي عروق مختلفة.
وإن أقل نظرة إلى التاريخ غارات البرابرة يؤيد ذلك تأييدا كبيرا.
وقد دلت مباحث علماء العصر الحاضر، ولا سيما مباحث فوستل دوكلانج، على أن غارات البرابرة السلمية هي التي أدت إلى اضمحلال الدولة الرومانية بالتدريج، لا الغزوات العدوانية التي ردها مرتزقة الإمبراطورية في أكثر الأحايين، وكان من العادات التي اتخذت منذ عهد الأباطرة الأولين هو استخدام البرابرة في الجيوش، وكانت هذه العادة تستفحل كلما زاد الرومان ثراء وزهدا في الخدمة العسكرية، فلما انقضت بضعة قرون عاد لا يكون في الجيش سوى أناس من الغرباء كما في الإدارة، «وكان القوط والبورغون والفرنج جنودا مؤتلفين في خدمة القيصر الروماني.»
وعندما أصبحت رومة لا تملك جنودا من غير البرابرة، وعندما صارت الولايات الرومانية لا تدار بسوى رؤساء من البرابرة، غدا من البديهي أن يميل هؤلاء الرؤساء إلى الاستقلال، والواقع هو أنهم وفقوا لذلك، بيد أن رومة كانت تتمتع بنفوذ بالغ لم يفكر معه أحد من هؤلاء في هدم الإمبراطورية الرومانية، وذلك مع وقوع رومة في سلطانه، وحينما استولى ملك الهيرول، أدواكر، التابع للقيصر على رومة في سنة 476 لم يلبث أن التمس من القيصر المقيم بالقسطنطينية آنئذ أن يسمح له بأن يتولى أمر إيطالية حاملا لقب بطريق،
1
ولم يسر أحد من أولئك الرؤساء على غير هذه السنة، وأولئك الرؤساء كانوا يديرون شؤون الولايات باسم رومة على الدوام، وهم لم يفكروا قط في التصرف في الأرض أو في مس النظم، وكان كلوڨيس يعد نفسه موظفا رومانيا، وكان فخورا بنيله من القيصر لقب قنصل، ومضت ثلاثون سنة بعد موته ولم ينفك خلفاؤه في أثنائها يمتثلون ما يمليه القياصرة من الأحكام ملزمين أنفسهم بمراعاتها، ولم يجرؤ رؤساء برابرة الغول على ضرب النقود الحاملة لصورهم إلا في أوائل القرن السابع، وهذه النقود لم تحمل غير صور الأباطرة حتى ذلك الحين، وبعد هذا التاريخ فقط صار الغوليون لا يعدون القيصر رئيسا لهم، ولذلك ترى المؤرخين يبدءون بتاريخ فرنسة قبل الواقع بمئتي سنة، ويضيفون بضعة عشر ملكا إلى سلسلة ملوكنا.
ولا شيء أقل شبها بالفتح من غزوات البرابرة ما دام الأهلون قد حافظوا على أراضيهم ولغتهم وقوانينهم، وما دام هذا لا يقع في الفتوحات الحقيقية كفتح النورمان لإنكلترة.
ومن المحتمل أن زالت الدولة الرومانية بالتدريج من غير أن يشعر المعاصرون بذلك، وبيان ذلك أن الولايات كانت قد تعودت منذ قرون وجود رؤساء يديرون شؤونها باسم الأباطرة، ثم تدرج أولئك الرؤساء إلى السير على حساب أنفسهم فلم يغير شيء لهذا السبب، وقد عمل بهذا النظام تحت سادة جدد طيلة العهد الميروفنجي.
2
وإنما التغيير الحقيقي الوحيد، وهو الذي أضحى عميقا مع الزمن، هو ظهور عرق جديد وظهور حضارة جديدة كنتيجة لازمة له؛ وذلك وفق السنن التي عرضناها.
وبتكرار الأمور الأبدي، الذي يبدو أنه أقوى سنن التاريخ، ترانا اليوم مدعوين على الأرجح إلى مثل تلك الغزوات السلمية التي أدت إلى تحويل الحضارة الرومانية، وقد يدعو انتشار الحضارة الحديثة العام إلى الاعتقاد بأنه لا برابرة اليوم، أو أن البرابرة التائهين في سواء آسية وإفريقية هم من البعد منا بحيث لا نخشى غزواتهم، وليس لدينا ما نخاف به مغازيهم لا ريب، وأنهم لن يصبحوا خطرين علينا إلا بمزاحمتهم الاقتصادية التي سيوجهونها إلى أوربة ذات يوم كما بينت في كتاب آخر، وليس أولئك هم الذين نقصدهم هنا إذن. والبرابرة قريبون في الحقيقة وإن بدوا بعيدين، وهم أقرب جدا مما كانوا أيام أباطرة الرومان؛ وذلك لوجودهم في صميم الأمم المتمدنة بالواقع، وترى كل أمة تشتمل على عدد كبير من العناصر الدنيا العاجزة عن ملاءمة حضارة تفوق مستواها كثيرا لما تكلمت عنه من تعقد حضارتنا الحديثة ومن تفاوت الأفراد بالتدريج، وهكذا يتكون سقط كبير لا ينفك يزيد فيكون عمله هائلا في الأمم التي تبتلى به.
واليوم يتجه أولئك البرابرة الجدد نحو الولايات المتحدة بأمريكة كما لو كانوا مجمعين على ذلك، واليوم ترى أولئك البرابرة يهددون حضارة تلك الأمة العظيمة تهديدا جديا، ويكون الهضم سهلا نافعا ما دامت هجرة الأجانب إلى ذلك البلد نادرة، وما دامت مؤلفة من عناصر إنكليزية على الخصوص، وهجرة كهذه أوجبت عظمة أمريكة، واليوم تخضع الولايات المتحدة لغزو هائل من عناصر منحطة لا ترغب في هضمها ولا تقدر على امتصاصها، وقد دخل الولايات المتحدة نحو ستة ملايين مهاجر من أدنياء العمال المنتسبين إلى جميع الأصول بين سنة 1880 وسنة 1890، ولا تجد اليوم بين أهالي شيكاغو البالغ عددهم 1100000 شخص غير الربع من الأمريكيين، وتشتمل هذه المدينة على 400000 ألماني و220000 إيرلندي و50000 بولوني و5500 شيكي إلخ، ولا تبصر أي امتزاج بين هؤلاء المهاجرين والأمريكيين، ولا يبالي أولئك المهاجرون بتعلم لغة وطنهم الجديد، وفي وطنهم الجديد هذا ينشئون مستعمرات بسيطة ذات أعمال زهيدة الأرباح، وأولئك هم من الساخطين إذن، وأولئك هم من الأعداء إذن، وكاد أولئك يحرقون مدينة شيكاغو حين إضراب عمال الخطوط الحديدية الكبير، فقضت الضرورة بضربهم بالمدافع الرشاشة بلا رحمة، ومن أولئك وحدهم يجمع أشياع الاشتراكية المسوية الثقيلة التي قد تحقق في أوربة المنهوكة، والتي هي منافية لخلق الأمريكيين الحقيقيين منافاة تامة، وما قد تسفر عنه هذه الاشتراكية من المنازعات فوق أرض تلك الجمهورية العظمى سيكون، بالحقيقة، منازعات عروق بلغت من التطور درجات مختلفة.
ومما يلوح واضحا أن النصر لا يكتب للبرابرة في الحرب الأهلية التي تعد بين أمريكة الأمريكيين وأمريكة الأجانب، ولا ريب في أن هذه الحرب الضروس ستنتهي بملحمة تقع بمقياس واسع على غرار ملحمة ماريوس حين استأصل شأفة السنبر استئصالا كاملا، وإذا ما تأخر النزاع قليلا، وإذا ما استمر الغزو، لم يكن الحل إبادة تامة، بل يصيب الولايات المتحدة مثل ما أصاب الإمبراطورية الرومانية على الأرجح، بل ينفصل بعض ولايات الجمهورية الحاضرة عن بعض فتقوم دول مستقلة منقسمة متحاربة بلا انقطاع كما يقع في أوربة وفي أمريكة الإسپانية.
وليست أمريكة وحدها هي المهددة بمثل تلك الغارات، فقل مثل ذلك عن فرنسة أيضا، وفرنسة بلد غني لا يزيد عدد سكانه، وفرنسة محاطة ببلدان فقيرة يزيد عدد سكانها باستمرار، وهجرة هؤلاء الجيران إلينا أمر محتوم، وهو يزيد حتما كلما أوجبت مطاليب عمالنا المتصاعدة تلك الهجرة قضاء لاحتياجات زراعتنا وصناعتنا، وما يجده هؤلاء المهاجرون فوق أرضنا من الفوائد أمر واضح، وتتجلى هذه الفوائد في عدم خضوعهم لنظامنا العسكري وفي دفعهم قليل ضرائب أو في عدم دفعهم ضرائب؛ لأنهم من الغرباء المتنقلين، وفي قيامهم بأعمال أسهل مما يقومون به في بلادهم وأجزل أجرا مما ينالونه في ديارهم، ولا يقصد أولئك المهاجرون بلادنا لغناها العظيم وحده، بل يقصدونها أيضا لأن معظم البلدان الأخرى يضع كل يوم من التدابير ما يؤدي إلى دحرهم.
والذي يزيد في خطر غارة الأجانب هو أنها تقوم بحكم الطبيعة على عناصر منحطة؛ أي على أناس تعذر عليهم أن يعيشوا في وطنهم الذي يهجرونه، وإن من مقتضيات مبادئنا الإنسانية أن يقضى علينا بمعاناة غزو من الأجانب زائد، وإن عدد هؤلاء كان 400000 شخص منذ أربعين عاما فغدا اليوم 1200000 شخص، ونرى صفوفهم تتراصف كل يوم أكثر من قبل، ولو لم ننظر إلى غير الطلاينة الذين تشتمل عليهم مرسيلية لوجدنا هذه المدينة مستعمرة إيطالية، وإذا لم تقف تلك الغارات فإنه لا يمضي غير وقت قصير حتى يكون ثلث سكان فرنسة من الألمان، وثلث آخر من الطليان. وما تكون وحدة أمة، وما تكون حياة أمة هذه هي أحوالها؟ ألا إن أسوأ المصائب في ميادين القتال أخف هولا من مثل تلك الغارات، ألا إن من الغرائز الصادقة أن كانت الأمم الغابرة تخشى الأجانب، ألا إن هذه الأمم كانت تعرف جيدا أن قيمة البلد لا تقاس بعدد سكانه، بل بالأصليين من أبنائه.
وفيما تقدم نرى مسألة العروق المحتومة أساسا لجميع المعضلات التاريخية والاجتماعية على الدوام، وتلك المسألة هي التي تهيمن على سواها.
هوامش
الباب الرابع
كيف تتغير أخلاق العروق النفسية
الفصل الأول
شأن الأفكار في حياة الأمم
بعد أن بينا أن الأخلاق النفسية للعروق ذات ثبات عظيم، وأن تاريخ الأمم يشتق من هذه الأخلاق، وأوضحنا كيف يمكن العناصر النفسية أن تتحول مع الزمن بتراكمات وراثية بطيئة كما تتحول العناصر التشريحية للأنواع، وعلى مثل هذه التحولات يتوقف تطور الحضارات إلى أبعد حد.
والعوامل التي تؤدي إلى إحداث تغيرات نفسية متنوعة، فترى للاحتياجات وللمنافسة الحيوية ولبعض البيئات ولتقدم العلوم والفنون وللتربية وللمعتقدات وغيرها عملها، وقد خصصنا مجلدا واحدا
1
لدراسة شأن كل واحد من هذه العوامل فلا نرى تفصيلها هنا، وإذا ما عدنا إليها في هذا الفصل وفي الفصول الآتية فلكي نثبت وجه عملها باختيارنا بعض العوامل الجوهرية.
وتثبت دراسة مختلف الحضارات التي تعاقبت منذ بدء العالم أن هذه الحضارات مسيرة في نشوئها بعدد قليل من المبادئ الأساسية، ولو رد تاريخ الأمم إلى مبادئ هذه الأمم ما بدا طويلا أبدا، وإذا ما وفقت الحضارة في قرن واحد لإحداث مبدأين أو ثلاثة مبادئ أساسية موجهة في ميدان الفنون أو العلوم أو الآداب أو الفلسفة أمكن عدها ذات نضارة استثنائية.
ولا تكون المبادئ ذات عمل حقيقي في روح الأمم إلا إذا هبطت بنضج بطيء جدا من مناطق الفكر المتحولة إلى المنطقة الثابتة اللاتنبهية للمشاعر حيث تنضج عوامل سيرنا ، وهنالك تغدو تلك المبادئ عناصر أخلاق فتقدر على التأثير في السير، والأخلاق تتكون من بعض الوجوه من تنضد المبادئ اللاشاعرة.
وإذا ما نضجت المبادئ نضجا بطيئا عظم سلطانها لما لا يبقى للعقل من سيطرة عليها، ولا يؤثر في المؤمن، الذي يستحوذ عليه مبدأ ديني أو غير ديني، أي معقول مهما كان الذكاء الذي يفترض له، وكل ما يمكن أن يحاوله هذا المؤمن، وهو لا يحاوله في الغالب، هو أن يدخل بحيل فكرية وبتشويهات كبيرة في الغالب المبدأ الذي يعارض به إلى منطقة المبادئ المسيطرة عليه.
وإذا ثبت أن المبادئ لا تكون مؤثرة إلا بعد هبوطها من دوائر الشعور إلى دوائر اللاشعور أدركنا السبب في أنها لا تتحول إلا ببطء كبير، وفي أن المبادئ الموجهة للحضارة قليلة العدد إلى الغاية، وفي أنها تتطور في زمن طويل، ولنا أن نهنئ أنفسنا بأن الأمر كذلك، وإلا لم تسطع الحضارات أن تكون ذات ثبات، ومن حسن الحظ أيضا أن المبادئ الجديدة تنتحل مع الوقت، ولو كانت المبادئ القديمة ثابتة ثباتا مطلقا لم تحقق الحضارات أي تقدم كان، ولما عليه تحولاتنا النفسية من بطوء وجب انقضاء عدة أجيال ليتم الفوز للمبادئ الجديدة، ووجب انقضاء عدة أجيال أيضا حتى تزول هذه المبادئ. وأشد الأمم تمدنا هي الأمم التي تجلت فيها الأفكار الناظمة على مقياس واحد من التحول والثبات، والتاريخ حافل ببقايا الأمم التي لم تقدر على حفظ هذا التوازن.
وليست كثرة المبادئ وجدتها هما اللتان تقفان النظر عند البحث في تطور الأمم، بل الذي يقف النظر هو قلة تلك المبادئ المتناهية وبطء تحولاتها والسلطان الذي تزاوله، وتنشأ الحضارات عن بعض المبادئ الأساسية، وإذا ما أقبلت هذه المبادئ على التغير غدت الحضارات مقضيا عليها بالتحول، وقد قامت القرون الوسطى على مبدأين رئيسين: المبدأ الديني والمبدأ الإقطاعي، وعن هذين المبدأين صدرت فنون تلك القرون وآدابها وطراز نظرها إلى الحياة كلها، ثم حل عصر النهضة فطرأ على ذينك المبدأين بعض التغيير؛ فقد فرض المثل الأعلى للعالم الإغريقي اللاتيني سلطانه على أوربة، فلم تعتم أن صرت تبصر تحولا في وجه النظر إلى الحياة، وتحولا في الفنون والفلسفة والآداب، ثم تزعزع سلطان التقاليد فقامت الحقائق العلمية مقام الحقيقة المنزلة بالتدريج، فأخذت الحضارة تتحول مجددا. واليوم يظهر أن المبادئ الدينية القديمة فقدت شيئا من سلطانها فصارت تلوح بوادر انهيار النظم الاجتماعية التي تستند إليها.
ولا يمكن أن يتجلى تاريخ تكوين المبادئ وسلطانها واضمحلالها وتحولاتها وزوالها إلا إذا استند إلى عدة أمثلة، وإذا ما دخلنا دائرة الجزئيات ثبت لنا أن كل عنصر من عناصر الحضارة - من فلسفة ومعتقدات وفنون وآداب إلخ - خاضع لعدد قليل من المبادئ الناظمة التي تتحول ببطء شديد على العموم، ولا تشذ العلوم نفسها عن هذه القاعدة، واليوم يشتق جميع علم الفيزياء من مبدأ عدم فناء الطاقة، ويشتق جميع علم الحياة من مبدأ تحول الأنواع، ويشتق علم الطب من مبدأ أصغر ما يكون، ويثبت تاريخ هذه المبادئ أنها لم تستقر إلا مقدارا فمقدارا وبصعوبة مع أنها لم توجه إلى غير ذوي البصائر، ولا يتطلب استقرار مبدأ علمي أساسي أقل من خمس وعشرين سنة في هذا العصر الذي يسير فيه كل شيء بسرعة، وذلك في نطاق من المباحث التي لا تؤثر فيها الشهوات والمآرب، ولم يقتض زمنا أصغر من هذا استقرار أوضح المبادئ العلمية وأسهلها إثباتا وأقلها احتياجا إلى الجدل كمبدأ الدورة الدموية.
ويتم انتشار جميع المبادئ على نمط واحد في كل وقت سواء أكان المبدأ علميا أم فنيا أم فلسفيا أم دينيا أم أي مبدأ آخر، ويجب اعتناق المبدأ في بدء الأمر من قبل عدد قليل من الرسل الذين ينالون نفوذا كبيرا بشدة إيمانهم أو منزلتهم. ويؤثر الرسل؛ إذ ذاك، بالتلقين أكثر مما بالبرهان، ولا يجب أن يبحث في قيمة البرهان عن عناصر الإقناع الجوهرية، والمتكلم يفرض أفكاره بنفوذه الشخصي أو بمخاطبته الأهواء، والمتكلم لا يمارس أي نفوذ بمخاطبته العقل وحده، والجماعات لا تقنع بالأدلة أبدا ، بل بضروب التوكيد، ويتوقف سلطان هذا التوكيد على نفوذ الشخص الذي يصدر عنه.
وإذا ما وفق الرسل لإقناع عدد قليل من الأشياع فكثر عددهم بذلك أخذ المبدأ يدخل منطقة الجدل، فيثير المبدأ في بدء الأمر اعتراضا عاما لما يصدمه من أمور كثيرة قديمة مقررة بحكم الضرورة، ومن الطبيعي أن يثير هذا الاعتراض من يدافع عن المبدأ من الرسل فلا يسفر عن غير اقتناع هؤلاء الرسل بأفضليتهم على بقية الناس، فيناضلون عن المبدأ الجديد بحماسة؛ لا لأن هذا المبدأ صواب، وهم في الغالب لا يعرفون عنه شيئا، بل لأنهم اعتنقوه فقط، وهنالك يغدو المبدأ الجديد موضع مناظرة مشتدة؛ أي إنه ينتحل بالحقيقة جملة واحدة من قبل فريق، ويرفض جملة واحدة من قبل فريق آخر، وكلا الفريقين يتبادل النفي والتوكيد، وهما قلما يتبادلان البراهين؛ وذلك لأن أسباب قبول المبدأ الواحد أو رفضه ترجع لدى معظم الناس إلى المشاعر، والمشاعر لا يؤثر فيها بالمعقول أبدا.
وينمو المبدأ رويدا رويدا بفعل تلك المجادلات المحتدمة على الدوام، وتميل الناشئة الجديدة التي تجده مناقشا فيه إلى اعتناقه؛ لأنه نوقش فيه، والناشئة، وهي ولوع بالاستقلال في كل وقت، تتصف اتصافا كليا بمعارضتها دفعة واحدة للمبادئ التي سار الناس عليها.
والمبدأ يداوم، إذن، على النمو، والمبدأ لا يعتم أن يستغني عن أية دعامة كانت، والمبدأ ينتشر إذ ذاك بفعل التقليد من طريق العدوى، والتقليد هو الملكة التي يتصف بها الناس إلى أبعد درجة على العموم كما تتصف بها القردة الكبيرة التي يذهب العلم الحديث إلى أنها أجداد الناس.
وإذا ما تناول المبدأ عامل العدوى فأخذ ينتشر دخل الدور المؤدي إلى النجاح بحكم الضرورة، ولسرعان ما يقبله الرأي العام، وهنالك يكتسب قوة نفاذة دقيقة ينتشر بها في جميع الأدمغة بالتدريج محدثا جوا خاصا، وإن شئت فقل نمطا عاما للتفكير، وهو ينساب في جميع مدارك العصر وجميع إنتاجاته كالغبار الدقيق الذي ينفذ من الطرق في كل مكان، وهنالك يكون المبدأ ونتائجه جزءا من الموروثات الكثيفة العادية التي تفرضها التربية علينا ، وبذلك يتم النصر للمبدأ ويدخل في منطقة المشاعر فيكون في مأمن من كل اعتداء زمنا طويلا.
وترى من مختلف المبادئ التي تسير إحدى الحضارات ما هو خاص بالفنون والفلسفة مثلا فيظل ملازما لطبقات الشعب العليا، ومن تلك المبادئ ما هو خاص بالأفكار الدينية والسياسية على الخصوص فيهبط إلى أعماق الجماعات، وهو يصل إلى هنالك مشوها إلى الغاية، غير أن ما يمارسه إذ ذاك من سلطان على النفوس الساذجة العاجزة عن المناظرة عظيم، ويمثل المبدأ أمورا لا تقاوم، وتنتشر نتائجه بقوة السيل الذي لا سبيل إلى رده بسد، ومن السهل أن تجد في الأمة، دائما، مئة ألف رجل مستعدين للتضحية بأنفسهم دفاعا عن مبدأ إذا ما تمكن هذا المبدأ منهم، وتظهر عندئذ تلك الحوادث العظيمة التي تقلب التاريخ والتي لا يقدر على إنجازها غير الجماعات، ولم تقم بالمثقفين والمتفننين والفلاسفة تلك الديانات التي سادت العالم، ولا تلك الإمبراطوريات الواسعة التي امتدت من أقصى الدنيا إلى أقصاها، ولا تلك الثورات الدينية والسياسية التي قلبت أوربة رأسا على عقب، بل قامت بأميين استحوذ عليهم أحد المبادئ فاستعدوا للتضحية بأنفسهم في سبيل نشره، وبتلك البضاعة المزجاة نظريا والقوية عمليا استطاع بدويو صحاري جزيرة العرب أن يفتحوا قسما من العالم اليوناني الروماني القديم، وأن يشيدوا إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ. وبمثل تلك البضاعة الأدبية، وهي هيمنة أحد المبادئ، استطاع جنود العهد الشجعان أن يقفوا في وجه أوربة المدججة بالسلاح.
وتبلغ العقيدة القوية من المنعة ما لا تستطيع أن تكافحها معه كفاح المنتصر غير عقيدة مماثلة، وليس للإيمان عدو يخشاه سوى الإيمان، ولا بد من انتصار الإيمان عندما تكون القوة المادية التي تصوب إليه مؤيدة لمشاعر ضعيفة ومعتقدات متداعية، بيد أن ذلك الإيمان إذا ما قابله إيمان قوي مثله اشتد الصراع وصار الفوز رهين أحوال ثانوية، أدبية في الغالب، كروح النظام والتفوق في التنظيم، ونحن إذا ما درسنا تاريخ العرب عن كثب، وقد ألمعنا إليه آنفا، وجدنا العرب في فتوحهم الأولى - والفتوح الأولى هي أصعب الفتوح وأهمها على الدوام - قد لاقوا أعداء ضعفاء إلى الغاية من الناحية الأدبية مع ما كان عليه هؤلاء الأعداء من تنظيم عسكري محكم، ولم يجد العرب في سورية، التي كانت أول بلد حملوا إليه سلاحهم، غير جيوش بزنطية مؤلفة من مرتزقة قليلي الاستعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل قضية ما، فشتتوا - لما كان يغلي في صدورهم من إيمان تزيد به قوتهم عشرة أمثالها - شمل تلك الكتائب العاطلة من مثل عال، وذلك بسهولة كالتي شتت بها فيما مضى لفيف من الأغارقة الذين كان يمسكهم حب المدينة جنود سرخس الكثيرين إلى الغاية، وكان الصراع ينتهي بغير ذلك لو اصطدم العرب بكتائب رومة قبل ذلك ببضعة قرون.
وإذا كانت القوى الأدبية المتقابلة متماثلة في الشدة كان الفوز لأحسنها تنظيما، فمما لا ريب فيه أنه كان لأهل ڨانده إيمان حار واعتقاد متين، غير أنه كان لدى جنود العهد أيضا اعتقاد قوي إلى الغاية، وجنود العهد هؤلاء إذ كانوا أحسن انتظاما كتب النصر لهم.
وفي الدين، كما في السياسة، يكون النصر، دائما، للمؤمنين لا للملحدين، واليوم إذا بدا المستقبل للاشتراكيين مع ما في مبادئهم من فساد فلأنك لا ترى في الميدان مؤمنين حقيقيين سواهم، واليوم خسرت الطبقات القابضة على زمام الأمور إيمانها بأي شيء كان، وهي عادت لا تعتقد أمرا، وهي لا تعتقد إمكان الدفاع تجاه طوفان البرابرة المتوعد الذي يحيط بها من كل جانب.
وإذا ما اكتسب المبدأ شكلا نهائيا بعد دور طويل من التحسس والتعديل والتشويه والمناقشة والدعاية فدخل روح الجماعات، غدا عقيدة؛ أي إحدى تلك الحقائق المطلقة التي لا تحتمل الجدل، ويكون المبدأ إذ ذاك قسما من تلك المعتقدات العامة التي يقوم عليها كيان الأمم، وما يكتسبه المبدأ من صفة الشمول يوجب تمثيله دورا مهما، ولم تكن أدوار التاريخ الكبرى، كعصر أغسطس وعصر لويس الرابع عشر، إلا تلك الأدوار التي تستقر فيها المبادئ وتهيمن فيها على أفكار الناس بعد خروجها من أدوار التحسس والجدل، وهنالك تتألف من تلك المبادئ مناور ساطعة، فيصطبغ كل شيء تنيره بصبغة متماثلة.
وإذا ما تم النصر للمبدأ الجديد طبع أدق عناصر الحضارة بطابعه، ولا بد للمبدأ الجديد، لكي يعطي جميع نتائجه، من أن ينفذ روح الجماعات، ويهبط المبدأ من الذرى الذهينة التي نبت فيها إلى الطبقة التي تليها فإلى التي ما بعدها، مشوها معدلا بلا انقطاع، إلى أن يكتسب شكلا يلائم الروح الشعبية التي ستنصره، وهنالك يبدو المبدأ متجمعا في كلمات قليلة، وفي كلمة واحدة أحيانا، مثيرا صورا قوية مغرية أو هائلة، ومن ثم مؤثرة على الدوام، ومن تلك الكلمات: الجنة والنار في القرون الوسطى، ذانك المقطعان القصيران المحتويان قدرة سحرية على الإجابة عن كل شيء، وعلى تفسير كل شيء عند ذوي النفوس الساذجة. ومن تلك الكلمات: كلمة الاشتراكية، التي تمثل عند العامل المعاصر إحدى تلك الصيغ الساحرة الجامعة القادرة على قهر النفوس، وكلمة الاشتراكية هذه تثير بحسب الجماعات التي تنفذ فيها صورا متنوعة قوية على ما تنطوي عليه من تذبذب وعدم استقرار.
وتثير كلمة الاشتراكية في الفرنسي النظري صورة جنة يصبح الناس متساوين فيها، فينعمون بسعادة مثالية تحت إشراف الدولة المتصل؛ وتثير كلمة الاشتراكية في العامل الألماني صورة حانة دخنة تقدم فيها الحكومة لكل قادم أهراما عظيمة من الأمعاء المحشوة لحما، ومن الكرنب المخمر، ومما لا يحصيه عد من دنان الجعة مجانا. ومن المعلوم أن حالم الكرنب هذا أو حالم المساواة ذلك لم يشغل ذهنه بمعرفة المقدار الحقيقي للأشياء التي تتقسم ولا بعدد المقتسمين، فمن خواص المبدأ أن يفرض على النفوس بقوة مطلقة لا يؤثر فيها أي اعتراض كان.
وإذا ما تحول المبدأ إلى مشاعر وغدا عقيدة دام فوزه زمنا طويلا، وذهب كل عمل يأتيه العقل في سبيل زعزعته أدراج الرياح. ومما لا مراء فيه أن المبدأ الجديد يعاني أيضا ما عاناه المبدأ الذي حل محله، فيهرم ويميل إلى الزوال، غير أنه لا بد من أن يعاني قبل اندثاره التام أدوارا من المسخ والتحريف في عدة أجيال، ولكبير وقت يظل المبدأ قبل أن يموت بأسره جزءا من المبادئ الموروثة المسنة التي نصفها بالأوهام، ولكن مع الاحترام، وعلى ما لا يعود به المبدأ القديم غير كلمة أو صوت أو سراب تراه حائزا لقدرة سحرية يستمر بها على إخضاعنا لحكمه.
وهكذا يبقى تراث ما نرضاه بتقوى من مبادئ قديمة وآراء وعهود، ولا يقف أمام أي برهان إذا ما أردنا الجدال فيه مدة ثانية. ولكن ما عدد الرجال القادرين على الجدال في آرائهم الخاصة؟ ما أقل تلك الآراء التي تظل قائمة بعد بحث سطحي!
والخير في عدم الإقدام على ذلك البحث المخيف، ومن حسن الحظ أن كنا غير معرضين له، وإذا كانت روح النقد ملكة عالية نادرة إلى الغاية، وكانت روح التقليد ملكة منتشرة جدا يقبل معظم الأدمغة غير مجادل جميع ما يسفر عنه الرأي وما تنقله التربية من المبادئ المقررة.
وهكذا ترى للناس في كل جيل وعرق طائفة من الأفكار المتوسطة التي يتشابهون بها تشابها عجيبا بفعل الوراثة والتربية والبيئة والعدوى والرأي، تشابها تعرف به الدور الذي عاشوا فيه بإنتاجهم الفني والفلسفي والأدبي بعد أن تثقل وطأة القرون عليهم. أجل، لا يمكننا أن نقول إن بعضهم كان ينقل من بعض نقلا مطلقا، ولكن الذي كان مشتركا بينهم هو تماثلهم في طرز الإحساس والتفكير تماثلا يؤدي إلى إنتاجات متقاربة إلى الغاية بحكم الضرورة.
ولنا أن نفرح بذلك؛ وذلك لأن روح الأمة تتألف من شبكة التقاليد والمبادئ والمشاعر والمعتقدات وطرز التفكير، وقد أبصرنا أن متانة هذه الروح تكون بنسبة قوة تلك الشبكة، وتلك الشبكة وحدها بالحقيقة، ووحدها فقط، هي التي تمسك الأمم، وتلك الشبكة لا تنفك من غير أن يؤدي ذلك إلى انحلال هذه الأمم في الحال، وتلك الشبكة هي قوة الأمة الحقيقية وهي مولاها الحقيقي، ومما يعرض في بعض الأحيان كون الملوك الآسيويين طغاة أدلاؤهم أهواؤهم، وهذه الأهواء في الشرق هي بالعكس محصورة ضمن حدود ضيقة ضيقا عجيبا؛ ففي الشرق ترى شبكة التقاليد أقوى مما في أي بلد آخر، وفي الشرق تبصر أن المعتقدات الدينية المزعزعة كثيرا عندنا محافظة على سلطانها، وفي الشرق تجد أشد المستبدين جبروتا لا يصدم التقاليد والرأي لما يعرفة فيهما من قوة أشد من قوته.
ويجد الرجل المتمدن العصري الحديث نفسه في دور من أدوار التاريخ النادرة الخطرة التي يخسر فيها سلطانه ما هو أصل حضارته من المبادئ القديمة، وذلك من غير أن تتكون فيه مبادئ جديدة، فيباح الجدل فيه لهذا السبب، ولا بد من رجوع الباحث إلى أدوار الحضارات القديمة، أو الرجوع إلى الوراء قرنين أو ثلاثة قرون ليتبين ماذا كان نير العادة والرأي، وليعرف الثمن الذي كان على المبدع الجريء أن يؤديه إذا ما هاجم هاتين القوتين. وكان الأغارقة، الذين يعدهم بعض الجهلاء المتفيهقين من الأحرار، خاضعين لنير الرأي والعادة خضوعا وثيقا، وكان كل إغريقي محاطا بسور من المعتقدات التي لا تمس أبدا، وكان كل إغريقي لا يفكر في الجدل حول الأفكار المقررة معانيا إياها غير ثائر، ولم يعرف العالم الإغريقي الحرية الدينية ولا حرية الحياة الخاصة، ولا أي نوع من أنواع الحرية، حتى إن القانون الأثني لم يكن ليسمح للمواطن بأن يعيش بعيدا من المجالس، أو بألا يحتفل بأي عيد قومي احتفالا دينيا، وما كانت حرية العالم القديم المزعومة إلا وجها تاما غير شعوري لانقياد المواطن لمبادئ المدينة، وما كان لمجتمع يتمتع أفراده بحرية الفكر والسير أن يدوم يوما واحدا في حال نزاع عامة كالتي كانت تعيش فيها تلك الأمم، وتبصر في كل زمن أن ابتداء عصر انحطاط الآلهة والنظم والعقائد هو اليوم الذي تحتمل الجدال فيه.
وفي الحضارات الحديثة، حيث تجد المبادئ القديمة التي كانت أساسا للعادة والرأي قد تهدمت تقريبا، تبصر سلطانها على النفوس قد أصبح ضعيفا إلى الغاية، وهذه المبادئ انتهت إلى دور من البلى ما تغدو به من الأوهام، وتظل الفوضى سائدة للنفوس ما لم يحل مبدأ جديد محل تلك المبادئ، ولهذه الفوضى وحدها يسمح بالجدل، وما على الكتاب والمفكرين والفلاسفة إلا أن يشكروا للدور الحاضر، وأن يسرعوا إلى الاستفادة منه؛ لأنهم لن يروا عودته ثانية. نعم، إنه دور انحطاط على ما يحتمل، ولكنه من أزمنة التاريخ النادرة التي يكون التعبير عن الأفكار حرا فيها، ولا يدوم هذا الدور طويلا؛ فأحوال الحضارة الحديثة تسوق الأمم الأوربية إلى حال اجتماعية لا تحتمل الجدل ولا الحرية، والحق أن العقائد الجديدة التي يلوح ظهورها لا تستقر إلا بعدم قبولها أي نوع من أنواع الجدل، وببلوغها من عدم التسامح ما بلغته العقائد التي سبقتها.
ولا يزال الرجل المعاصر يبحث عن المبادئ التي تصلح أساسا للحالة الاجتماعية القادمة، وهنالك الخطر الذي يحيق بها، وبيان الأمر أن تحولات المبادئ الأساسية هي العناصر المهمة في تاريخ الأمم والقادرة على تغيير مصيرها، لا الثورات والحروب التي يمحي ما تؤدي إليه من تخريب بسرعة، وتلك التحولات لا تتم من غير أن يؤدي ذلك إلى تحول جميع عناصر الحضارة دفعة واحدة، فالثورات الحقيقية، وهي أخطر الثورات على حياة الأمة، هي التي تحدث في أفكارها.
وليس انتحال أمة لمبدأ حديث خطرا بذاته، بل الخطر فيما تقوم به الأمة من تجربة لمبادئ متعاقبة قبل أن تجد منها ما تستطيع أن تقيم عليه بناء اجتماعيا جديدا يقوم مقام البناء الاجتماعي القديم، وليس خطأ المبدأ هو الذي يجعله خطرا، وقد رأينا أن المبادئ الدينية التي عشنا عليها حتى الآن خاطئة إلى الغاية، بل لأنه لا بد من القيام بتجارب تكرر لطويل زمن حتى تعرف ملاءمة المبادئ الحديثة لاحتياجات المجتمعات التي تعتنقها، ولا يقدر مدى نفع هذه المبادئ للجماعات إلا بالتجربة. نعم، لا احتياج إلى أن يكون الباحث عالما نفسيا كبيرا أو عالما اقتصاديا عظيما حتى يخبرنا بأن تطبيق المبادئ الاشتراكية الحاضرة يسوق الأمم التي تقول بها إلى انحطاط حقير واستبداد مرير، ولكن كيف تمنع الجماعات التي تستهويها تلك المبادئ من اعتناق الإنجيل الجديد الذي بشرت به؟
ويدلنا التاريخ كثيرا على ما تكلفه من ثمن تجربة المبادئ غير الملائمة لدور ما، ولكن الإنسان لا يستنبط دروسه من التاريخ، ومن العبث أن حاول شارلمان تجديد الإمبراطورية الرومانية؛ فقد كان تحقيق مبدأ الوحدة متعذرا في ذلك الحين، فمات عمله بموته كما مات عمل ناپليون، ومن العبث أن استنفد فليپ الثاني عبقريته وسلطان إسپانية ذات الصولة إذ ذاك في مكافحة روح البحث الحر التي كانت تنتشر في أوربة باسم الپروتستانية، ولم تسفر مساعيه كلها في مناهضة المبدأ الجديد عن سوى إلقاء إسپانية في حال من الخراب والانحطاط لم تنهض منها قط، وفي فرنسة أدت مبادئ متهوس متوج مشبع من شعور أمته الدولي المصنوع الفاسد المستعصي إلى تسهيل الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية، فكلفنا ذلك ولايتين كما كلفنا السلم إلى أمد طويل، وفي أوربة أوجب المبدأ القائل: إن القوة في العدد، سترها بجنود مدججين بالسلاح وسوقها إلى إفلاس محتوم، وستأتي مبادئ الاشتراكيين في العمل ورأس المال وجعل الملك الخاص ملكا للدولة إلخ، على الأمم التي كانت تحفظها الجيوش الضرورية الدائمة.
ويمكن ذكر مبدأ القوميات أيضا بين المبادئ الموجهة التي يجب الخضوع لنفوذها الخطر، وسوف يسوق تحقيقه أوربة إلى أشد الحروب ضررا، وسوف يجر بالتتابع كثيرا من الدول الحديثة إلى الخراب والفوضى.
ولكن لم يعط الرجال قدرة على وقف سير المبادئ إذا ما نفذت في النفوس، وهنالك يجب أن يتم تطورها، ويبدو المدافعون عنها في الغالب أولئك الذين يكونون ضحاياها الأولى، وليست الغنم وحدها هي التي تتبع دليلها طائعة إلى المسلخ، فلنركع أمام سلطان المبدأ، والمبدأ إذا ما بلغ دورا من تطوره لم يوجد برهان ولا بيان يتغلب عليه، والأمم لكي تتخلص من ربقة أحد المبادئ تستلزم قرونا كثيرة أو ثورات عنيفة، أو كليهما في بعض الأحيان، ولا شيء أكثر من الأوهام التي ابتدعتها البشرية فذهبت ضحيتها بالتتابع.
هوامش
الفصل الثاني
شأن المعتقدات الدينية في تطور الحضارات
مثلت المبادئ الدينية دورا أساسيا عظيما بين مختلف المبادئ التي تسير الأمم، والتي هي مناور للتاريخ وقطوب للحضارة، فترانا نفرد لها فصلا خاصا.
وتكون من المعتقدات الدينية في كل وقت أهم عنصر في حياة الأمم، ومن ثم في تاريخها، وكان ظهور الآلهة وموتها أعظم الحوادث التاريخية، وتولد مع كل مبدأ ديني جديد حضارة جديدة، وما انفكت المسائل الدينية تكون من المسائل الأساسية في قديم الأجيال وحديثها، ولو حدث أن أضاعت البشرية آلهتها لكان مثل هذا الحادث في نتائجه أهم الحوادث التي تمت على وجه الأرض منذ فجر الحضارات الأولى.
ولا يغب عن البال أن جميع النظم السياسية والاجتماعية منذ بدء الأزمنة التاريخية قامت على معتقدات دينية، وأن الآلهة مثلت الدور الأول على مسرح العالم في كل زمن، وإذا عدوت الحب، الذي هو دين قوي أيضا ولكنه شخصي موقت، وجدت المعتقدات الدينية وحدها تؤثر في الأخلاق تأثيرا سريعا، ولك أن تتبين حال أمة نومتها أوهامها من خلال فتوح العرب والحروب الصليبية وإسپانية في زمن محاكم التفتيش وإنكلترة في الدور الپيوريتاني وفرنسة في ملحمة سان بارتلمي وحروب الثورة الفرنسية. وللأوهام تأثير دائم يبلغ من الشدة ما يتحول به كل مزاج نفسي تحولا عميقا، ولا مراء في أن الإنسان هو الذي يخلق آلهته، ولكنه إذا ما خلقها استعبدته من فوره، وليست الآلهة وليدة الخوف كما زعم لوكريس، بل هي وليدة الأمل، ولذلك تبقى ذات نفوذ أبدي.
والذي أنعمت الآلهة به على الإنسان حتى الآن - والآلهة وحدها هي التي استطاعت أن تنعم به - هو الحال النفسية التي تنطوي على السعادة، ولا تجد فلسفة استطاعت أن تحقق مثل هذا العمل.
والنتيجة - إن لم تكن الغاية - لكل حضارة ولكل فلسفة ولكل ديانة هي إحداث بعض الأحوال النفسية، ومن هذه الأحوال ما يتضمن السعادة ومنها ما لا يتضمنها، وتتوقف سعادتنا على أحوال خارجية لا ريب، ولكنها ترجع إلى حالتنا الروحية على الخصوص، فمن المحتمل أن كان الشهداء يعتقدون وهم على المواقد أنهم أكثر سعادة من جلاديهم، ومن المحتمل أن كان مرمم الطرق وهو يقضم كسرة الخبز المفروكة بالثوم أشد قناعة بمراحل من صاحب الملايين الذي تساوره الهموم.
ومن دواعي الأسف أن كان تطور الحضارات يحدث في الإنسان الحاضر طائفة من الاحتياجات من غير أن يمن عليه بوسائل قضائها فيوجب بذلك سخطا عاما في النفوس. أجل، إن التطور أصل التقدم ، ولكنه أصل الاشتراكية والفوضى أيضا؛ أي أصل ذينك التعبيرين المرهوبين اللذين ينمان على قنوط جماعات لا تستند إلى معتقد. قابلوا بين الأوربي القلق الهائج الساخط على حظه والشرقي الراضي بمصيره، تروا أنهما يختلفان في حالهما الروحية، والأمة تتحول إذا ما تحول طراز تصورها ومن ثم تفكيرها وسيرها.
وأول ما يجب أن يبحث عنه المجتمع هو إيجاد حال نفسية تجعل الإنسان سعيدا، وإن لم يفعل المجتمع ذلك لم يكتب له طويل بقاء، وقد استندت جميع المجتمعات التي قامت حتى الآن إلى مثل عال قادر على إخضاع النفوس، وهذه المجتمعات قد اضمحلت بعد أن عاد ذلك المثل الأعلى لا يخضعها.
ومن أكبر أغاليط العصر الحاضر أن يعتقد وجود السعادة في الأمور الخارجية وحدها، فالسعادة تقيم بنا، وهي مما نوجده، وهي لا تكون خارجة عنا تقريبا؛ ونحن بعد أن حطمنا مثل الأجيال القديمة العليا نبصر اليوم صعوبة العيش بدونها، ويجب أن نجد سر استبدال غيرها بها خشية الزوال.
والمحسنون الحقيقيون لبني الإنسان، وهم الذين يستحقون أن تقيم لهم الأمم الشاكرة تماثيل فخمة من الذهب، هم أولئك السحرة الأقوياء المبدعون للمثل العليا الذين تنجب بهم البشرية أحيانا ولكن نادرا، هم أولئك الذين يحدثون فوق سيل الظواهر الباطلة، وهي كل ما نقدر على معرفته من الحقائق، وفوق دولاب الدنيا المسنن الصلب الجامد - أوهاما قوية مهدئة مخفية عن الإنسان ما في مصيره من نواح قاتمة، هم أولئك الذين يقيمون للإنسان منازل عامرة بالآمال والأحلام.
ونحن إذا ما نظرنا إلى الأمر من الناحية السياسية وحدها وجدنا تأثير المعتقدات الدينية عظيما أيضا، وتقوم قوة المعتقدات التي لا تقاوم على أنها العامل الوحيد الذي يستطيع أن ينعم على الأمة بوحدة مطلقة من المنافع والمشاعر والأفكار حينا من الزمن، وهكذا تقوم الروح الدينية دفعة واحدة مقام تلك المتراكمات البطيئة الموروثة الضرورية لتكوين روح الأمة. أجل، إن الأمة التي يهيمن عليها المعتقد لا تغير مزاجها النفسي، غير أن جميع ملكاتها تتوجه بذلك إلى غرض واحد، تتوجه إلى نصر معتقدها، فتصبح قوتها هائلة لهذا السبب. وفي أدوار الإيمان التي تتحول ذات حين تقوم الأمم بتلك الجهود العجيبة ، تقوم بشيد الدول التي تدهش التاريخ، ومن ذلك أن بعض القبائل العربية التي اتحدت بفعل فكرة محمد قهرت في سنين قليلة أمما كانت لا تعرف منها حتى الأسماء، فأقامت إمبراطورية واسعة.
ودرجة سيطرة المعتقدات على النفوس، لا صفتها، هي التي يجب أن يلتفت إليها، ولا فرق في ذلك بين دعوتك مولك أو أي إله آخر أشد قسوة، ويقوم نفوذ الإله على عدم تسامحه وعلى غلظته في بعض الأحيان، ولا تمن الآلهة الكثيرة التسامح والحلم على عبادها بالقوة، وقديما ساد أتباع محمد الصارم قسما كبيرا من العالم لطويل زمن، ولا يزال هؤلاء الأتباع مرهوبين، وأما أتباع بدهة (بوذا) الهادئ فلم يؤسسوا ما هو باق، فنسيهم التاريخ.
إذن، مثلت الروح الدينية دورا سياسيا مهما في حياة الأمم؛ وذلك لأنها كانت العامل الوحيد القادر، دائما، على التأثير في أخلاقها بسرعة، ومما لا شك فيه أن الآلهة ليست خالدة، غير أن الروح الدينية باقية. والروح الدينية، وإن كانت تغفو لحين، تصحو عند ابتداع ألوهية جديدة، والروح الدينية هي التي استطاعت أن تقف بها فرنسة منذ قرن ظافرة أمام أوربة المدججة بالسلاح، وبذلك قد رأى العالم مرة أخرى ما تقدر عليه الروح الدينية؛ وذلك لأن دينا جديدا كان يقوم آنئذ نافخا من روحه في أمة بأسرها. نعم، إن الآلهة التي برزت كانت من سرعة العطب بحيث لا تدوم، ولكنها كانت ذات سلطان مطلق مدة وجودها.
على أن ما في الأديان من قدرة على تحويل النفوس مؤقت، ومن النادر أن تدوم المعتقدات زمنا كافيا فتبلغ درجة من الاشتداد ما تتحول به الأخلاق تحولا تاما؛ فالحلم لا يلبث أن يذوي، والمنوم لا يلبث أن يصحو قليلا، فيبدو أساس الأخلاق القديم مرة أخرى.
ومع ما تكون عليه المعتقدات من قدرة عظيمة تلوح الأخلاق القومية، دائما، من خلال النمط الذي تنتحل به هذه المعتقدات ومن خلال المظاهر التي تؤدي إليها، وانظروا إلى المعتقد الواحد في إنكلترة وإسپانية وفرنسة تجدوا الفروق عظيمة جدا! وهل كان الإصلاح الديني ممكنا في إسپانية ؟ وهل كانت إنكلترة تخضع لنير محاكم التفتيش الهائل؟ أفلا ترى بسهولة لدى الأمم التي انتحلت الإصلاح الديني أخلاق العروق الأساسية التي حافظت، بالرغم من تنويم المعتقدات، على صفات مزاجها النفسي الخاصة كالاستقلال والإقدام وعادة التعقل وعدم الخنوع لسيد؟
ولا مراء في أن تاريخ الأمم السياسي والفني والأدبي وليد معتقداتها، بيد أن المعتقدات مع تأثيرها في الأخلاق تتأثر بالأخلاق تأثرا عظيما، وإذا سألت عن أخلاق الأمة ومعتقداتها وجدتهما مفاتيح مصيرها. والأخلاق، لما كان من عدم تغيرها في عناصرها الأساسية، ومن عدم تغيرها وحده، تجد التاريخ محافظا على شيء من الوحدة على الدوام. والمعتقدات، لما كان من تغيرها، ومن تغيرها وحده، تجد التاريخ حافلا بالانقلابات.
وأقل تغير في معتقدات الأمة يؤدي إلى سلسلة من التطورات في حياتها بحكم الضرورة، ومما رأيناه في غضون فصل سابق أن رجال القرن الثامن عشر بفرنسة كانوا يبدون مختلفين عن رجال القرن السابع عشر. وما مصدر هذا الاختلاف؟
تجد مصدره في انتقال النفس من اللاهوت إلى العلم بين قرن وقرن، وفي معارضة التقاليد بالعقل، ومعارضة الحقيقة المنزلة بالحقيقة المشاهدة، وفي تحول منظر العصر في النظر إلى الأمور بسبب هذا التغير، ونحن إذا ما درسنا نتائج هذا التغير أبصرنا أن ثورتنا الفرنسية الكبرى وما أسفرت عنه، وما لا تزال تسفر عنه، من الحوادث هما نتيجة تطور للمبادئ الدينية.
واليوم إذا كان المجتمع المسن يرتج فوق أسسه، وكانت جميع نظمه ترتجف ارتجافا عميقا، فلأنه يخسر بالتدريج ما قام عليه حتى الآن من المعتقدات القديمة، وهو إذا ما تم فقده لهذه المعتقدات حلت محله حضارة جديدة قائمة على إيمان جديد بحكم الضرورة، ومما يدل عليه التاريخ أن الأمم لا تعيش طويلا بعد تواري آلهتها، وأن الحضارات التي قامت بفعل هذه الآلهة تموت معها، فلا شيء أشد تخريبا من عفر الآلهة الميتة.
الفصل الثالث
شأن عظماء الرجال في تاريخ الأمم
عندما بحثنا في مراتب العروق وتفاوتها رأينا أن أعظم فارق بين الأوربيين والشرقيين هو ما لدى الأوربيين من صفوة رجال عالية ، ولنحاول أن نبين في بعض السطور حدود شأن هذه الصفوة.
يتألف من كتيبة أفاضل الرجال الصغيرة التي تشتمل عليها الأمة المتمدنة، والتي تكفي إزالتها في كل جيل لخفض مستوى هذه الأمة خفضا عظيما - تجسد قوى العرق، وإلى هذه الكتيبة يرجع الفضل فيما يتم من التقدم للعلوم والفنون والصناعة؛ أي لجميع فروع الحضارة.
ويثبت التاريخ أن كل تقدم مدين لتلك الصفوة القليلة العدد، والجماعة مع استفادتها من ذلك التقدم لا تحب أن يجاوز مستواها أبدا، والجماعة هي التي كان ضحاياها من عظماء المفكرين والمخترعين في الغالب، ومع ذلك ترى أن ازدهار جميع الأجيال وجميع ماضي العرق وقع بفعل تلك العبقريات الرائعة التي هي أزهار عجيبة لهما. ومن أصحاب العبقرية يتكون مجد الأمة الحقيقي، ولكل فرد، مهما كان وضيعا، أن يباهي بهم، ولا يظهر ذوو العبقرية اتفاقا ولا بمعجزة، بل يمثلون تاج ماض طويل، وهم خلاصة عظمة عصرهم وعرقهم، وكل مساعدة على تفتحهم وارتقائهم تعني مساعدة على التقدم الذي ينتفع به جميع البشر، وإذا ما تركنا أحلام المساواة العامة تعمي بصائرنا كنا أول ضحايا هذه المساواة. والمساواة لا تكون إلا في الانحطاط، والمساواة حلم ذوي المدارك الهزيلة الغامض الثقيل، والمساواة لم تتحقق في غير عصور الهمجية. ويجب، لكي تسود المساواة العالم، أن يخفض بالتدريج كل ما فيه قيمة العرق إلى أدنى مستوى في هذا العرق.
ولكن شأن ذوي النفوس العالية من الرجال إذا كان عاملا عظيما في تقدم الحضارة فإنه ليس كما يقال عنه على العموم مع ذلك، فتأثيرهم يقوم - كما ذكرت - على كونهم خلاصة مجهودات العرق، وترى اكتشافاتهم على الدوام نتيجة سلسلة طويلة من الاكتشافات السابقة، وتراهم يشيدون بناء من حجارة نحتها غيرهم رويدا رويدا. وقد اعتقد المؤرخون - والمؤرخون مبسطون إلى الغاية إجمالا - أنهم قادرون على قرن كل اختراع باسم رجل، مع أن كل واحد من الاختراعات العظيمة التي حولت الدنيا، كالطباعة والبارود والبخار والكهرباء، ليس وليد دماغ واحد، ونحن حين ندرس تكوين مثل هذه الاكتشافات نبصر أنها نشأت، دائما، عن سلسلة طويلة من الجهود التحضيرية، والحق أن الاختراع النهائي ليس إلا تتويجا لما تقدمه؛ ومن ذلك أن ملاحظة غليلو لتساوي المدة في تموجات المصباح المعلق مهد السبيل لاختراع مقياس الزمان الدقيق (كرونومتر) الذي أسفر لدى الملاح عن إمكان اهتدائه إلى طريقه في البحر المحيط، ومن ذلك أن نشأ بارود المدفع عن تحول النار اليونانية بالتدريج، ومن ذلك أن الآلة البخارية تمثل مجموعة اكتشافات تطلب كل واحد منها أعمالا عظيمة، وما كان ليوناني متصف بعبقرية تفوق عبقرية أرشميدس مئة مرة أن يكتشف القاطرة لما لا يكون لديه ما يساعده على تمثلها، وهو لكي ينتهي إلى صنعها لا بد له من أن ينتظر تحقيق الميكانيكا لمبتكرات تقتضي جهود ألفي سنة.
وليس شأن أعاظم رجال الدولة السياسي أقل كثيرا من شأن أكابر المخترعين في استقلاله الظاهر عن الماضي، وقد أعشى ما لمحركي الجماعات الأقوياء، الذين يحولون كيان الأمم السياسي، من سناء صارخ، أبصار بعض الكتاب ككوسان وكارليل وغيرهم، فأراد هؤلاء أن يجعلوا من أولئك أنصاف آلهة تغير بعبقريتها مصير الأمم، ومما لا ريب فيه أنه يمكن أولئك أن يكدروا صفو تطور أحد المجتمعات، غير أنهم لم يعطوا قدرة على تغيير مجراه، وما كان كرومويل أو ناپليون ليستطيع بعبقريته أن يقوم بمثل هذا العمل، وما كان نفوذ أعاظم رجال السياسة ليدوم إلا عندما يعرفون كقيصر وريشليو أن يوجهوا جهودهم إلى ما يلائم مقتضيات الوقت، وما كان سبب فوزهم الحقيقي إلا سابقا لهم على العموم، ولو ظهر قيصر قبل زمانه بقرنين أو ثلاثة قرون ما استطاع أن يخضع الجمهورية الرومانية لحكم سيد واحد، ولو ظهر ريشليو قبل زمانه بقرنين أو ثلاثة قرون لعجز عن تحقيق الوحدة الفرنسية، وفي ميدان السياسة يبصر رجال السياسة الحقيقيون ما سيولد من احتياجات وما أعده الماضي من الحوادث فيهدون إلى الطريق التي يجب أن تسلك، ومن المحتمل أن كان الناس لا يرون تلك الطريق، بيد أن مقادير التطور قضت بحفز الأمم إلى مصايرها التي تولى أولئك العباقرة أمرها حينا من الزمن، وأولئك العباقرة هم، كأكابر المخترعين، جماع نتائج عمل سابق طويل.
ومع ذلك يجب ألا يذهب إلى ما هو أبعد مما تقدم في تلك المقايسات بين صنوف عظماء الرجال؛ فالمخترعون، وإن كانوا يمثلون دورا مهما في تطور الحضارة المقبل، لا يملثون أي دور مباشر في تاريخ الأمم السياسي، ولم يكن لدى أكابر الرجال الذين تم بفضلهم أهم الاكتشافات المهمة، المترجحة بين المحراث والبرق والمؤلف منها تراث البشرية العام، من الصفات الخلقية ما يقيمون به ديانة أو يدوخون به دولة؛ أي ما يغيرون به وجه التاريخ تغييرا واضحا، والمفكر يبصر كثيرا ما في المعضلات من تعقيد فلا يكون ذا اعتقاد عميق، والمفكر لا يبدو له غير القليل من الأهداف السياسية التي تستحق شيئا من جهوده فلا يتتبع أي واحد منها، والمخترعون يستطيعون أن يغيروا الحضارة مع الزمن، والمتعصبون وحدهم، وهم من ذوي الذكاء المحدود، ولكن مع أخلاق فعالة وشهوات قوية، هم الذين يقدرون على تأسيس الأديان وإقامة الدول وقلب العالم، وقد لبت ملايين البشر نداء بطرس الناسك فانقضت على الشرق، وأسفرت كلمات متهوس كمحمد عن خلق قوة كفت للانتصار على العالم اليوناني الروماني القديم، وألقى راهب غامض الأمر كلوثر أوربة في النار والدم، ولا يكون لصوت كصوت غليلو أو نيوتن سوى صدى ضعيف بين الجماعات، فالحق أن عباقرة المخترعين يعجلون سير الحضارة، وأن المتعصبين والمتهوسين هم الذين يخلقون التاريخ.
ومن أي شيء يتألف التاريخ كما هو مسطور في الكتب إن لم يكن قصة طويلة لمنازعات قام بها الإنسان لابتداع مثل عال وعبادته ثم هدمه؟ وهل تجد أمام العلم الصرف لمثل هذه المثل العليا قيمة أعظم من السراب الباطل الذي يحدثه الضياء فوق الرمال المتنقلة في الصحراء؟
ومع ذلك ترى أن المتهوسين من موجدي مثل هذا السراب أو ناشريه هم الذين حولوا العالم تحويلا عميقا، وهم لا يزالون يحنون من أعماق قبورهم روح العروق تحت نير أفكارهم ويؤثرون في أخلاق الأمم ومصيرها، ولا نجهل أهمية شأنهم، ولكن لا يذهب عن بالنا أنهم لم يوفقوا في إنجاز عملهم إلا لأنهم تقمصوا مثل عرقهم وزمنهم الأعلى وعبروا عنه من حيث لا يشعرون، والأمة لا تقاد إلا بتقمص أحلامها، ومن ذلك أن موسى تمثل رغبة اليهود في الخلاص التي كانت تنطوي عليها جباههم المستعبدة أيام كانت تمزقها سياط المصريين، ومن ذلك أن بدهة (بوذا) وعيسى عرفا أن يستمعا لما في زمانهم من بؤس لا حد له وأن يعبرا بالدين عن ضرورة الإحسان والرحمة التي أخذت تلوح في العالم أيام الألم العام، ومن ذلك أن حقق محمد وحدة أمته السياسية بما بشر به من الوحدة الدينية بعد أن كانت أمته تلك منقسمة إلى ألوف من القبائل المتناجزة، ومن ذلك أن ناپليون تقمص المثل الأعلى في المجد الحربي والزهو والدعاية الثورية؛ أي تقمص مميزات ذلك الشعب الذي طاف به في أوربة مدة خمس عشرة سنة؛ سعيا وراء أشد المغامرات حماقة.
إذن، ترى أن الذي يقود العالم هو المبادئ، ومن ثم أولئك الذين يتقمصونها وينشرونها، والنصر يكتب لتلك المبادئ عندما تجد من المتهوسين والمؤمنين من يصغون إليها، ولا كبير أهمية في أن تكون تلك المبادئ صحيحة أو فاسدة، فالتاريخ قد أثبت لنا أن أشد المبادئ وهما هي التي فتنت الناس أحسن من سواها، على الدوام، فمثلت أهم الأدوار، وباسم أكثر الأوهام خدعا قلب العالم وانهارت حتى الآن حضارات كان يلوح خلودها وقامت حضارات أخرى، وليس ملكوت السماوات كما قال به الإنجيل هو الذي أعد لضعفاء العقل، بل ملكوت الأرض هو الذي أعد لهم على أن يكون عندهم من الإيمان الأعمى ما يقدرون به على رفع الجبال، وعلى الفلاسفة الذين خصصوا قرونا لهدم ما شاده المؤمنون في يوم واحد أن يركعوا أحيانا أمام هؤلاء المؤمنين، ومن المؤمنين يتألف قسم من القوى الخفية التي تهيمن على العالم، والمؤمنون هم الذين أوجبوا ظهور أهم الحوادث التي يسجل التاريخ مجراها.
أجل، إن المؤمنين لم ينشروا غير الأوهام لا ريب، بيد أن البشرية عاشت حتى الآن، وستعيش على الراجح، بتلك الأوهام المرهوبة المغرية الباطلة، وليست تلك الأوهام سوى ظلال، ويجب احترامها مع ذلك، فبفضلها عرف آباؤنا الأمل، وهم، بما كان من عدوهم الجريء الأهوج خلف تلك الظلال، قد أخرجونا من الهمجية الأولى وقادونا إلى ما نحن فيه اليوم، ومن المحتمل أن كانت الأوهام أقوى جميع العوامل في نشوء الحضارات، فالوهم هو الذي أوجب شيد الأهرام، وهو الذي أدى إلى ستر مصر بتماثيل حجرية ضخمة مدة خمسين قرنا، وبفعل الوهم شيدت كنائسنا الكبرى في القرون الوسطي، وبفعل الوهم انقض الغرب على الشرق للاستيلاء على أحد القبور، وأسفر اتباع طائفة من الأوهام عن تأسيس أديان أخضعت نصف البشر لشرائعها وعن إقامة أعظم الإمبراطوريات وهدمها. وفي سبيل الغواية، لا الحقيقة، بذلت البشرية معظم جهودها، وما كان للبشرية أن تبلغ الأهداف الوهمية التي تسعى إليها، ولكنها وهي تجد في أثرها حققت كل رقي لم تكن لتطلبه.
الباب الخامس
انحلال أخلاق العروق وانحطاطها
الفصل الأول
كيف تذوي الحضارات وتنطفئ
الأنواع النفسية في عدم الخلود كالأنواع التشريحية، ولا تظل أحوال البيئات التي يقوم عليها ثبات أخلاق الأنواع النفسية باقية على الدوام، وتلك البيئات إذا ما تغيرت لم يعتم ما تمسكه من عناصر المزاج النفسي أن يخضع لتحولات راجعة مؤدية إلى زواله، ولو نظرنا إلى السنن الفزيولوجية التي يجري حكمها على خليات الدماغ كما يجري على خليات الجسم الأخرى والتي تلاحظ لدى كل كائن لوجدنا أن زوال الأعضاء يتطلب من الزمن ما هو أقل جدا من الزمن الذي يقتضيه تكوينها، وكل عضو لا يقوم بوظيفته لا يلبث أن يعجز عن القيام بهذه الوظيفة من فوره، ومن ذلك أن عيون الأسماك التي تعيش في أهوار الكهوف تهزل مع الزمن فيصبح هذا الهزال وراثيا في نهاية الأمر، حتى إننا لو نظرنا إلى قصر حياة الفرد لوجدنا أن العضو الذي تطلب تكوينه ألوف القرون على ما يحتمل، وذلك بملاءمات بطيئة ومتراكمات وراثية، يهزل بسرعة عظيمة عندما ينقطع عن عمله.
وما كان مزاج الناس النفسي ليشذ عن هذه السنن الفزيولوجية، فالخلية الدماغية التي لا تمارس تقف، هي أيضا، عن القيام بوظيفتها، وقد تزول بسرعة قابليات النفس التي اقتضى تكوينها عدة قرون، ولا تنشب الشجاعة وقوة المبادرة والإقدام وروح المخاطرة وغيرها من الصفات الخلقية أن تمحي إذا لم يتح لها أن تمارس، وبذلك تفسر العلة في وجوب انقضاء زمن طويل على الأمة حتى ترتقي إلى درجة رفيعة من الثقافة وفي اقتضاء زمن قصير إلى الغاية حتى تسقط في هوة الانحطاط.
ونحن إذا ما بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وهي التي حفظ التاريخ لنا خبرها كالفرس والرومان وغيرهم، وجدنا أن العامل الأساسي في سقوطها هو تغير مزاجها النفسي تغيرا نشأ عن انحطاط أخلاقها، ولست أرى أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها.
ووجه الانحلال واحد في جميع الحضارات الغابرة، وهو من التشابه ما يسأل به مع أحد الشعراء عن كون التاريخ صفحة واحدة وإن اشتمل على عدة مجلدات، والأمة، بعد أن تبلغ تلك الدرجة من الحضارة والقوة حيث تطمئن إلى أنها لا تكون عرضة لهجوم جيرانها، تبدأ بالتمتع بنعم السلم والترف التي يمن الثراء بها عليها، فتذبل المزايا الحربية وتوجب زيادة الحضارة حدوث احتياجات جديدة وتنمو الأثرة. وأبناء الوطن إذ لا يبقى لهم بذلك من مثل عال غير التمتع السريع بالأموال التي تحصل على عجل يتركون للدولة أمر إدارة الشؤون العامة فلا يلبثون أن يفقدوا جميع الصفات التي كانت سبب عظمتها، وهنالك يغير على الأمة الكثيرة التمدن جيران من البرابرة أو من شباه البرابرة ذوو احتياجات ضعيفة إلى الغاية مع مثل عال قوي جدا، ثم يقيم هؤلاء حضارة جديدة بأنقاض الحضارة التي قلبوها رأسا على عقب، وعلى هذه الصورة هدم البرابرة إمبراطورية الرومان، وهدم العرب إمبراطورية الفرس؛ مع ما كان لدى تينك الإمبراطوريتين من تنظيم هائل. وليست صفات الذكاء هي التي كانت تعوز الأمم المقهورة لا ريب، وما كان بين الغالبين والمغلوبين من فرق في ذلك لا يحتمل القياس، وفي زمن كانت رومة تحمل فيه بذور الانحطاط القريب كانت رومة تشتمل على أروع الألباء والمتفننين والأدباء والعلماء، وإلى ذاك الدور من تاريخ رومة يرجع تقريبا جميع الآثار التي أوجبت عظمتها، ولكن رومة كانت قد خسرت العنصر الأساسي الذي لا يقوم مقامه أي نمو في الذكاء، كانت قد خسرت الأخلاق.
1
وكان لدى الرومان الأولين احتياجات ضعيفة جدا، وكان لديهم مثل عال قوي جدا، وكان هذا المثل الأعلى الذي هو عظمة رومة يستولي على النفوس فيستعد كل روماني للتضحية بأسرته وثروته وحياته في سبيله، ولما أضحت رومة قطب العالم وأغنى مدن الدنيا قصدها الغرباء من كل صوب وحدب، فنالوا حقوق الروماني منها في نهاية الأمر، ولم تمل نفوس هؤلاء الغرباء إلى غير التمتع بترف رومة فلم يبالوا بمجدها إلا قليلا، وهنالك غدت رومة فندقا واسعا، وهنالك عادت رومة لا تكون رومة، وهي، وإن لاحت ذات حياة إذ ذاك، لم تكن إلا ميتة منذ زمن طويل.
وعلل انحطاط كتلك تهدد حضاراتنا الرفيعة، وإلى تلك العلل تضاف علل أخرى صادرة عن تطور النفوس بفعل الاكتشافات العلمية الحديثة، والعلم قد جدد مبادئنا ونزع كل سلطان من مبادئنا الدينية والاجتماعية، والعلم قد أثبت للإنسان مكانه الضعيف في العالم وعدم اكتراث الطبيعة المطلق له. والإنسان قد رأى أن الذي يسميه حرية ليس إلا جهلا بالعلل التي تستعبده، وأن من مقتضى طبيعته أن يستعبد في شبكة من الضرورات، والإنسان قد أبصر أن الطبيعة تجهل ما نسميه بالرحمة، وأن كل تقدم نشأ عن الطبيعة تم بانتخاب شديد مؤد بلا انقطاع إلى سحق الضعفاء في سبيل الأقوياء.
وأوجبت جميع تلك المبادئ الجامدة الشديدة، المناقضة لما تقوله المعتقدات القديمة التي فتنت آباءنا، حدوث مصادمات مزعجة في النفوس، وأحدثت في بعض الأدمغة العادية من فوضى المبادئ ما يظهر أنه آية الإنسان في هذا الزمان، وأدت تلك المصادمات في الشبيبة المتفننة والمثقفة إلى ضرب من عدم المبالاة القاتمة الهادمة لكل عزيمة، وإلى عجز تام عن الولوع بأية قضية، وإلى عبادة مباشرة شخصية للمآرب دون سواها.
وفسر أحد وزراء المعارف العامة ملاحظة أحد الكتاب المعاصرين الصائبة القائلة : «إن الحس النسبي يهيمن على الفكر في هذا العصر»، فصرح مسرورا في خطبة له جاء فيها: «إن استبدال المبادئ النسبية بالمبادئ المجردة في مختلف المعارف البشرية هو أعظم فوز تم للعلم.» ونحن نقول: إن هذا الفتح الذي أعلنت جدته هو قديم في الحقيقة؛ فقد أتمته فلسفة الهند منذ قرون طويلة، ولا نرى ما يقتضي التهنئة على ذيوعه في الوقت الحاضر، فالخطر الحقيقي على المجتمعات الحديثة ينجم عن فقد الناس لكل ثقة بقيمة المبادئ التي تقوم عليها، ولا أعلم منذ بدء العالم أن أي تمدن أو أي نظام أو أي معتقد وفق للبقاء مستندا إلى مبادئ ليس لها غير قيمة نسبية، وإذا لاح أن المستقبل لتلك المبادئ الاشتراكية التي يرفضها العقل؛ فذلك لأن هذه المبادئ وحدها هي التي يتكلم الرسل عنها باسم الحقائق المطلقة، وتقبل الجماعات، دائما، على أولئك الذين يحدثونها عن الحقائق المطلقة، وتحتقر الجماعات ما سواها في كل وقت.
وعلى من يود أن يكون من رجال الدولة أن يعلم كيف ينفذ روح الجماعة ويدرك أحلامها ويترك المجردات الفلسفية، والأمور لا تتغير أبدا، وما يصنع من المبادئ عنها هو الذي قد يتغير كثيرا، وفي هذه المبادئ يجب أن يعرف كيف يؤثر.
ولا ريب في أننا لا نعلم من العالم الحقيقي سوى الظواهر، سوى أحوال وجدانية ذات قيمة نسبية كما هو واضح، بيد أننا إذا نظرنا إلى الأمر من الوجهة الاجتماعية أبصرنا للجيل المعين أو للمجتمع المعين من أحوال العيش ومن سنن الأخلاق ومن النظم ما هو ذو قيمة مطلقة ما دام ذلك المجتمع لا يقدر على البقاء بغيره، وإذا ما غدت قيمة هذه المقومات موضع جدل، وإذا ما ساور الشك النفوس، قضي على المجتمع بالهلاك.
هذه حقائق يمكن أن تعلم بإقدام، ولا تجد علما يقدر على إنكارها، ولا تؤدي مخالفتها إلا إلى نتائج مضرة، وما يبثه اليوم بعض ذوي الرأي من العدمية الفلسفية في أناس من ضعاف النفوس يجعل هؤلاء يستنبطون من فورهم كون نظامنا الاجتماعي ذا جور مطلق، وكون جميع المراتب مخالفة للصواب، ويوحي إليهم بحقد على الأمور الحاضرة، ويقودهم إلى الاشتراكية والفوضى توا.
ورجال الدولة المعاصرون شديدو الاعتقاد بتأثير النظم، ضعيفو الإيمان بتأثير المبادئ، والعلم يدلهم، مع ذلك، على أن النظم وليدة المبادئ، وأنها لا تستطيع البقاء من غير استناد إليها، فالمبادئ هي المحركات الباطنية للأمور، والمبادئ إذا ما زالت تقوضت أركان النظم والحضارات الخفية، ومن أحرج الساعات في حياة الأمة الساعة المرهوبة التي تهبط فيها مبادئها المسنة إلى ظلام المدفن حيث ترقد الآلهة الميتة.
وإذا ما طرحنا العلل جانبا وأوضحنا المعلولات وجدنا انحطاطا بينا يهدد تهديدا جديا حياة معظم الأمم الأوربية الكبرى، ولا سيما الأمم التي تعرف بالأمم اللاتينية، والتي هي لاتينية في الحقيقة بالتقاليد والتربية إن لم تكن بالدم، فهذه الأمم تخسر كل يوم قوة المبادرة والإقدام والإرادة والقدرة على السير، ويكاد قضاء احتياجاتها المادية الزائدة يصبح مثلها الأعلى الوحيد، وفيها تبصر انحلال الأسرة وتداعي المقومات الاجتماعية، وفيها ترى انتشار السخط والارتباك بين جميع الطبقات من غنيها إلى فقيرها، ويشبه الرجل المعاصر السفينة التي أضاعت بوصلتها فهامت على وجهها كما تشاء الرياح، فتراه تائها كما تهوى المصادفة في الفضاء الذي كان عامرا بالآلهة فجعله العلم غامرا، وتراه قد خسر الإيمان ففقد الأمل دفعة واحدة. ويلوح أن الجماعات، بعد أن أصبحت سريعة الانفعال شديدة التقلب، وبعد أن عاد لا يزجرها زاجر، مقضي عليها بأن تكون مذبذبة، بلا انقطاع، بين أشد ضروب الفوضى وأثقل ضروب الاستبداد. أجل، تثار الجماعات بالألفاظ، ولكن آلهتها في يوم لا تلبث أن تغدو ضحايا لها، والجماعات تبغي الحرية بحرارة في الظاهر، والجماعات ترفض الحرية على الدوام في الحقيقة، فتطلب من الدولة بثبات أن تصنع لها قيودا، والجماعات تطيع بعمى أكثر الطغاة غموضا وأضيق المستبدين نظرا، وأما المتفيهقون الذين يعتقدون قيادتهم للجماعات مع أنهم يسيرون وراءها على العموم فإنهم يخلطون ما يحفزها، دائما، إلى تبديل سيدها من النزق وعدم الصبر بروح الاستقلال الحقيقية التي تحول دون الخنوع لأي سيد كان.
ومهما يكن نظام الدولة السياسي الاسمي فإن الدولة تمثل الألوهية التي تتوجه إليها جميع الأحزاب، فمن الدولة يطلب ما تثقل وطأته كل يوم من التنظيم والحماية وما يتناول أدق شؤون الحياة من الشكليات البزنطية الجائرة. وتعدل الشبيبة بالتدريج عن الأعمال التي تتطلب تمييزا ومبادرة ونشاطا وجهودا شخصية وإرادة، وتفزع الشبيبة من أصغر التبعات، وتكتفي الشبيبة بأحقر مناصب الدولة ذات الرواتب، ويجهل التجار طرق المستعمرات ولا يعمر المستعمرات غير الموظفين.
2
وتبصر لدى رجال الدولة قيام المناقشات الشخصية الفارغة إلى الغاية مقام النشاط والعمل، وتبصر لدى الجموع قيام الحماسات أو الغضبات مقام النشاط والعمل، وتبصر لدى المثقفين قيام ضرب من الحنو الدامع العاجز الغامض وقيام المناقشات الكامدة حول بؤس الحياة مقام النشاط والعمل، وتبصر في كل مكان نمو أثرة لا حد لها، وعاد الفرد لا يبالي بغير نفسه، وتلقي الوجدانات سلاحها، وتهبط الآداب العامة وتنطفئ مقدارا فمقدارا، ويفقد الرجل كل سلطان على نفسه، وغدا الرجل جاهلا كيف يضبط نفسه، ومن لم يعرف أن يضبط نفسه لم يلبث أن يضبطه الآخرون.
ومن العسير تغيير تلك الحال العامة، ويجب للوصول إلى ذلك أن تحول تربيتنا اللاتينية المحزنة قبل كل شيء، فهذه التربية تجرد من كل مبادرة وكل نشاط أولئك الذين قد يتصفون بشيء منهما وراثة، وهي تطفئ كل بصيص من الاستقلال الذهني ما دامت لا تهب للشبيبة من المطامح غير الفوز في المسابقات الكريهة، وتلك المسابقات، وهي لا تتطلب غير جهود الذاكرة، تؤدي من حيث النتيجة إلى وضعها على رأس كل عمل أصحاب الأدمغة الذين أوجب استعدادهم المنحط للتقليد عجزهم عن الاستقلال الذاتي والجهد الشخصي. ومن قول أحد المربين الإنكليز لغيزو حين زيارة هذا الأخير لمدارس بريطانية العظمى: «إني أحاول أن أصب الحديد في روح الأولاد»، فأين ما يحقق به مثل ذلك الحلم لدى الأمم اللاتينية من المربين والبرامج؟ ومن المحتمل أن يؤدي النظام العسكري إلى تحقيق ذلك، والنظام العسكري وحده هو الذي يستطيع أن يكون مؤثرا في ذلك على كل حال، ومن أسباب النهوض الرئيسة عند الأمم التي يعتريها الوهن هو تنظيم الخدمة العسكرية العامة الشديدة فيها وكونها مهددة بحروب طاحنة دائما.
وبذلك الانحطاط الخلقي العام، وبعجز أبناء الوطن عن ضبط أنفسهم بأنفسهم، وبعدم اكتراثهم الذي ينم على الأثرة، تبدو الصعوبة لدى معظم الأمم اللاتينية في العيش تحت قوانين حرة بعيدة من الاستبداد والفوضى، ومن السهل أن ندرك كون تلك القوانين محببة بعض الشيء للجماعات ما دامت القيصرية تعد الجماعات بالمساواة في العبودية على الأقل إن لم تعدها بالحرية التي لا تبالي بها أبدا، وإنما الذي يعسر فهمه هو أن تبصر الطبقات المنورة ترضى النظم الجمهورية بأقصي الصعوبة، وذلك ما لم تنظر إلى ثقل المؤثرات الموروثة، أفلا تتاح بمثل هذه النظم لذوي الأفضلية، وذوي الذكاء على الخصوص، فرصة الظهور؟ إن عيب هذه النظم الحقيقي الوحيد لدى طلاب المساواة بأي ثمن هو أنها تؤدي إلى تكوين أريستوقراطيات ذهنية قوية، وبالعكس ترى أن أشد النظم ضيما من ناحية الخلق وناحية الذكاء هو النظام القيصري بأنواعه، والنظام القيصري ليس له من المزية إلا أنه يؤدي بسهولة إلى المساواة في النذالة والضراعة في المذلة، والنظام القيصري شديد الملاءمة لخسيس الاحتياجات في الأمم التي هي في دور الانحطاط والتي تميل إلى العودة إليه على الدوام. وتنجذب هذه الأمم إلى ريش خوذة أي قائد كان، فإذا كانت الأمة في ذلك الوضع جاءت ساعتها وانقضى زمنها.
ويعاني نظام الأجيال القديمة، الذي أبصر التاريخ ظهوره في الحضارات عند أقصى فجرها وأقصى انحطاطها، تطورا واضحا في الوقت الحاضر؛ فتراه اليوم يبعث باسم الاشتراكية، وسيكون هذا التعبير الجديد لاستبداد الدولة أقسى أطوار النظام القيصري لا ريب؛ وذلك لأنه - وهو غير شخصي - يتفلت من جميع دواعي الوجل التي تردع أقبح الطغاة.
وتبدو الاشتراكية في الوقت الحاضر أشد الأخطار التي تهدد الأمم الأوربية، فبها سيتم - لا ريب - ذلك الانحطاط الذي يعده كثير من العلل، وهي نذير خاتمة بعض حضارات الغرب على ما يحتمل.
ويجب ألا ينظر إلى التعاليم التي تنشرها الاشتراكية لتبين أخطار قوتها، بل إلى ما توحي به من الإخلاص، فالاشتراكية معتقد جديد لتلك الجماعة العظيمة من المحرومين طيب العيش، والذين توجب أحوال التمدن الحاضر الاقتصادية فيهم حياة قاسية إلى الغاية، وستكون الاشتراكية ذلك الدين الجديد الذي سيعمر السماوات الخاوية، وستقوم الاشتراكية عند جميع أولئك الذين لا يحتملون البؤس بلا وهم مقام الجنات الساطعة التي كانوا يبصرونها من زجاج نوافذ كنائسهم، ويرى ذلك الكيان الديني المقبل زيادة عدد المؤمنين به يوما فيوما، وهو سيكون له شهداء عما قليل، وهنالك يصبح من المعتقدات الدينية التي تثير الأمم والتي هي ذات سلطان مطلق على النفوس.
ومن الواضح أن تؤدي عقائد الاشتراكية إلى نظام منحط من العبودية قاتل لكل قوة مبادرة وكل استقلال في النفوس الخاضعة لسلطانه لا ريب، ولكن هذا الوضوح يبدو، فقط، لعلماء النفس المطلعين على أحوال عيش الناس، وبصائر مثل هذه مما يمتنع على الجماعات، وإقناع الجماعات يستلزم براهين أخرى، وهذه البراهين لم تقتبس من دائرة العقل قط.
ولا مراء في مخالفة العقائد التي تبصر ظهورها للذوق السليم، ولكن ألم تكن العقائد الدينية التي سيرتنا في قرون كثيرة مخالفة للذوق السيلم أيضا؟ وهل منعها ذلك من إخضاع أشد العباقرة بصيرة لأحكامها؟ ألا إن الإنسان في موضوع المعتقدات لا يصغي إلا إلى صوت مشاعره اللاتنبهية. ألا إن هذه المشاعر ميدان مبهم لا محل للعقل فيه مطلقا.
إذن، هنالك عدة أمم أوربية ستحمل على الخضوع لطور الاشتراكية المرهوب بفعل المزاج النفسي الذي أورثها إياه ماض طويل، وستكون الاشتراكية إحدى مراحل الانحطاط الأخيرة، والاشتراكية حين ترد حضارات كثيرة إلى وجوه منحطة من التطور تجعل الغارات المخربة التي تهددنا أمرا سهلا.
وإذا عدوت إنكلترة لم تجد في أوربة عرقا يحوز من الإقدام الكبير والمعتقدات الثابتة ومن الاستقلال الخلقي ما يكفي للخلاص من ذلك الدين الجديد الذي نبصر ظهوره، وإذا ما نظر إلى نجاح المذاهب الاشتراكية في سواء ألمانية رئي أن ألمانية ستذهب ضحية الاشتراكية، ومما لا شك فيه أن الاشتراكية التي ستفضي بها إلى الخراب ستضفو عليها صيغ علمية صارمة تصلح لمجتمع خيالي لا ينتجه البشر أبدا.
ومع ذلك ستكون الاشتراكية نظاما جائرا لا يكتب له دوام، وهي ستجعل الناس يأسفون على عهد طيبريوس وكاليغولا، وستعيد إليهم ذلك العهد، ومما يسأل في بعض الأحيان: كيف كان الرومان في زمن الأباطرة يطيقون بسهولة نزوات أمثال ذينك الجبارين القاسية؟ والجواب عن هذا هو أن الرومان أيضا عرفوا النفي والطرد بفعل المنازعات الاجتماعية والحروب الأهلية فخسروا أخلاقهم، فعدوا أولئك الطغاة آخر وسيلة للنجاة، وكان الرومان يصبرون على أولئك لعدم معرفتهم كيف يستبدلون غيرهم بهم، وهم لم يستبدلوا غيرهم بهم في الحقيقة؛ فقد جاء بعدهم دور الدوس الأخير تحت أقدام البرابرة، جاءت نهاية العالم، فعلى هذا المدار يدور التاريخ في كل زمان.
هوامش
الفصل الثاني
خلاصات عامة
ذكرنا في مقدمة هذا الكتاب أنه ليس سوى خلاصة قصيرة، سوى إجمال تركيبي للمجلدات التي خصصناها لتاريخ الحضارات، فمن الصعب، إذن، تكثيف الأفكار التي اشتمل عليها تكثيفا آخر، وتراني أحاول، مع ذلك، أن أعرض المبادئ الأساسية التي تنم على فلسفة هذا الكتاب في قضايا موجزة إلى الغاية:
لكل عرق صفات نفسية ثابتة ثبات الصفات الجثمانية تقريبا، والنوع النفسي كالنوع التشريحي، لا يتحول إلا ببطء عظيم.
يضاف إلى الصفات النفسية الثابتة الموروثة التي يتألف من اجتماعها مزاج العرق النفسي عناصر ثانوية ناشئة عن مختلف تغيرات البيئات، وذلك كما يحدث لدى جميع الأنواع التشريحية، وتتجدد تلك العناصر الثانوية بلا انقطاع؛ فيكون للعرق بذلك تغير ظاهر على شيء من الاتساع.
لا يمثل المزاج النفسي للعرق خلاصة أفراده الأحياء وحدهم، بل يمثل، على الخصوص، المزاج النفسي للأجداد الكثيرين الذين أعانوا على تكوينه. والأموات، لا الأحياء، هم الذين يمثلون أهم دور في كيان الأمة، والأموات هم موجدو أدب الأمة وعوامل سيرها اللاشعورية.
تلازم الفروق التشريحية العظيمة التي تفصل بين مختلف العروق البشرية الفروق النفسية التي لا تقل عنها أهمية، والعروق، إذا ما قابلنا بين ذوي المستوى المتوسط من أبنائها ، بدت الفروق النفسية بينها ضعيفة في الغالب، وتبدو هذه الفروق عظيمة عند المقابلة بين أعلى العناصر في تلك العروق، فهنالك يرى أن الذي يميز العروق العليا من العروق الدنيا على الخصوص هو اشتمال العروق العليا على ما لا تحتويه العروق الدنيا من ذوي الأدمغة النامية إلى الغاية.
تسود الأفراد الذين تتألف منهم العروق الدنيا مساواة واضحة، والعروق، كلما ارتقت في سلم الحضارة، اختلف أفرادها شيئا فشيئا، ويتجلى أثر الحضارة المحتوم في تفاوت الأفراد والعروق، فإلى التفاوت الزائد، لا إلى المساواة، تسير الأمم إذن.
حياة الأمة وجميع مظاهر حضارتها صدى لروحها، وهما دلائل منظورة لأمر حقيقي غير منظور، وما الحوادث الخارجية إلا صورة ظاهرة للحمة الخفية التي تعينها.
أخلاق الأمة على الخصوص، لا المصادفة ولا الأحوال الخارجية ولا النظم السياسية، هي التي تمثل الدور الأساسي في تاريخها.
بما أن عناصر حضارة الأمة دلائل خارجية على مزاجها النفسي وعنوان طرز لإحساسها وتفكيرها فإنها لا تنتقل، من غير تغيير، إلى أمم أخرى ذات أمزجة مختلفة عن مزاجها، والعناصر الوحيدة التي يمكن أن تنتقل هي الأشكال الخارجية السطحية التي لا أهمية لها.
تؤدي الفروق العميقة التي تفصل بين الأمزجة النفسية لمختلف الأمم إلى تبين هذه الأمم للعالم الخارجي على وجوه شديدة التباين، وينشأ عن هذا شدة اختلافها في طرز الشعور والتمييز والسير، ومن ثم اختلافها في جميع المسائل عند المصاقبة، وما معظم الحروب التي تملأ التاريخ إلا ناشئا عن تلك الاختلافات، وما حروب الفتوح والحروب الدينية وحروب الأسر المالكة في الحقيقة إلا حروب عروق على الدوام.
لا ينتهي جمع من الناس مؤلف من أصول مختلفة إلى تكوين عرق؛ أي إلى حيازة روح عامة، إلا إذا اكتسب، بتوالد مكرر في عدة قرون وبحياة متشابهة في بيئات متماثلة، مشاعر واحدة، ومصالح واحدة، ومعتقدات واحدة.
لا تجد لدى الأمم المتمدنة عروقا طبيعية، بل تجد عندها عروقا مصنوعة نشأت عن أحوال تاريخية.
لا يؤثر تغير البيئات تأثيرا عميقا في غير العروق الجديدة؛ أي عند اختلاط العروق القديمة التي أسفر توالدها عن انحلال أخلاقها الموروثة، فالوارثة وحدها هي التي تقدر على مكافحة الوراثة، ولا يؤدي تغير البيئة إلى غير التخريب في العروق التي لم يقض التوالد على ثبات أخلاقها، وأهون على العرق القديم أن يهلك من أن يخضع لتحولات تستلزمها ملاءمة بيئات جديدة.
تكون حيازة الأمة لروح جامعة متينة التركيب آية بلوغ هذه الأمة أوج عظمتها، ويكون انحلال هذه الروح نذير انحطاطها، ويكون دخول عناصر أجنبية في الأمة من أصح الوسائل لبلوغ مثل هذا الانحلال.
تخضع الأنواع النفسية لعوامل الزمن كما تخضع الأنواع التشريحية؛ فهي تهرم وتموت مثلها، وقد تزول تلك الأنواع بسرعة مع أنها تتكون ببطء كبير على الدوام، فيكفي أن يقع اضطراب عميق في قيام أعضائها حتى تعاني تحولات راجعة مؤدية إلى هلاك سريع في الغالب، فالأمم، وإن اقتضى اكتسابها لمزاج نفسي قرونا طويلة، تفقد هذا المزاج في وقت قصير أحيانا.
يجب أن توضع المبادئ بجانب الأخلاق كعامل رئيس في تطور الحضارة، ولا تؤثر هذه المبادئ إلا بعد أن تتحول بتطور بطيء إلى مشاعر فتصبح جزءا من الأخلاق، فهنالك تتفلت من تأثير الجدل، ولا تزول إلا بعد زمن طويل، وتشتق كل حضارة من عدد قليل من المبادئ الأساسية التي يجمع عليها.
تجد المبادئ الدينية بين أهم المبادئ التي توجه الحضارة، وعن مختلف المعتقدات الدينية نشأ، على وجه مباشر، معظم الحوادث التاريخية، وقد اقترن تاريخ البشرية بتاريخ آلهتها، وكان ظهور آلهة جديدة دليلا على فجر حضارة جديدة في كل وقت، والآلهة - وهي أبناء أحلامنا - تبلغ من السلطان ما يؤدي معه تغيير اسمها وحده إلى قلب العالم من فوره رأسا على عقب.
Unknown page