وتقصد إلى الباب المواجه لباب الدخول، وتدخل ثم تردد لسامي: تفضل.
ويسمع سامي الأب وهو يقول: من؟
وقبل أن تجيب رشيدة تضمهم جميعا غرفة مكتب يجلس في صدرها رجل واضح الطيبة، زكي الطلعة، يلبس نظارة سميكة، تدل دلالة واضحة على مقدار ما يعاني من ضعف البصر. وتقول رشيدة: أبي هذا سامي زين الرفاعي.
ويقول الأب ذاهلا: أهلا وسهلا يا ابني، تفضل، اقعد.
وقعد وتقول رشيدة: أنقذني يا أبي من هلاك محقق، كنت في طريقي إلى المكتب بعد أن سلمت أوراقا كتبتها على الآلة في شارع رستم، فإذا ثلاثة رجال ...
وراحت رشيدة تقص على أبيها في أمانة وفي إسهاب كل ما وقع لها في ليلتها تلك، وسامي يرقب وجه الأب الذي بدا له، وكأنه صفحة نقية يرتسم عليها كل ما يعتمل في نفس الأب من خوف ومن غيظ ومن إعجاب ومن سعادة. حين انتهت رشيدة من قصتها التفت الأب إلى سامي. - شكر الله لك يا بني، وكافأك أحسن ما تكون المكافأة.
وتقول رشيدة وكأنها تستدرك: يا سامي، أبي الدكتور مسعود النبوي أستاذ تاريخ بكلية الآداب. - أهلا يا أستاذنا ... أهلا وسهلا. - أهلا بك يا ابني.
ثم التفت إلى ابنته: أما زلت مصرة على العمل في مكتب الآلة الكاتبة هذا؟ - إذا لم تمنعني يا أبي، فأنا أحب أن أعمل، ولكنني أعدك أنني لن أذهب بعد اليوم إلى أحد بأوراقه. - وهل تذهبين عادة؟ - لهذا الزبون فقط فهو مقعد، وأنا أشفق عليه، وهو يعيش مما يكتبه للإذاعة، ومرتبط بمواعيد، ولكن هذا جميعه لن يجعلني أسير في الشوارع المظلمة وحدي بعد الليلة أبدا.
والتفت الدكتور إلى سامي: يا ابني لا تعجب، فأنا أعمل أستاذا متفرغا كما يقولون، وهي من أسماء الأضداد، فقد خرجت على المعاش من سنة تقريبا، ولا أحاضر إلا ثلاث محاضرات في الأسبوع، وأنا أحاول أن أكتب كتابا عن تاريخ التحضر في الشرق الأوسط، فأنا منصرف إليه. ودخلنا لا يكفي أدويتي ومراجعي ونفقاتنا، ولهذا رأت رشيدة أن تستعين على الحياة وتعينني. - أنعم بكما وأكرم، أب عظيم وابنة عظيمة. - أكرمك الله يا ابني، وأنت من أين؟ - أنا ... أنا من الصعيد، وجئت إلى مصر، وذهبت إلى سيناء، وقدمت منها الليلة بأمل البقاء هنا، وكنت في طريقي إلى شقة للطلبة سمعت عنها في شارع رستم.
وأدرك الدكتور الذكي أن هذا فقط ما يريد محدثه أن يقوله عن نفسه، فلم يسأل سؤالا واحدا يجعله يقول ما لا يريد، وإنما قال له: وهل سكنت في هذه الشقة التي تقول عنها قبل اليوم؟ - أنا لم أحضر إلى القاهرة قبل هذه المرة.
Unknown page