طارق من السماء
طارق من السماء
طارق من السماء
طارق من السماء
تأليف
ثروت أباظة
طارق من السماء
1
كانت ولادة لم يشهد التاريخ لها مثيلا، القلوب واجفة، والنفوس هالعة، والعيون زائغة، والأم تكتم صرخات الوالدات التي تطلقها كل أم تلد لتعلن إلى العالم قدوم إنسان جديد إلى الحياة. وعملية الولادة تقوم بها جدة الطفل القادم، فمجيء القابلة إعلان، وهم يحرصون على الكتمان غاية الكتمان.
الصمت يضرب بخيامه على المنزل جميعا؛ فالحديث همس، والخطى تلمس الأرض لمسا، ولا تجرؤ أن تطأها وطئا.
Unknown page
وحول البيت رجال شداد غلاظ يتسمعون ويراقبون، فهم يعلمون أن موعد الولادة قد حان، فإن يكن أهل بيت الوليد يتكتمون في يوم مولده خبر الولادة، فإن مقدمات الولادة هيهات لها أن تتخفى في قرية كل نبأ فيها معلن، وكل همسة صيحة، وكل حركة خبرها ذائع شائع. فكيف لأم حامل أن تخفي حملها؟!
إنها قرية نائية عن الدنيا، وتكاد تبتعد عن الزمان، من قرى الصعيد القاصية من أرض مصر، أسماها الذين نزلوا بها في أول نشأتها بني عمران، وليس فيها من العمران شيء، جهلها التقدم الذي عرفه العالم، وظلت على حالها من يوم نشأتها منذ قبل الميلاد إلى يوم ميلاد الطفل الجديد، تكاد لإغراقها في الجمود إذا الأرض دارت بها لم تدر.
أما الطفل الذي يجيء اليوم فأبوه إبراهيم آدم، نال أبوه ثأر ابنه وهدان الذي قتلته أسرة حمدان لتثأر هي أيضا لقتيل لها اتهموا فيه وهدان، واضطر آدم أن يقتل سليم حمدان ليرفع رأسه في القرية، وما كاد يرفعه حتى قتلته أسرة وهدان، ولم يستطع إبراهيم أن يسكت عن ثأر أبيه فسارع إلى زعيم أسرة حمدان فقتله.
وقبل أن تقتل أسرة حمدان إبراهيم عاجلته السماء بموت رباني فوت على أسرة حمدان ثأرها، فأقسم رجال الأسرة أن يقتلوا وليد إبراهيم المنتظر إن كان رجلا، وهكذا تحلق رجال أسرة حمدان حول بيت إبراهيم ينتظرون الولادة بآذان مرهفة، وعيون طلعة تكاد تخترق الجدران اختراقا.
فكان لا بد لأسرة إبراهيم أن تعيش الأيام السابقة على الولادة منعزلة عن العالم تجهز لليوم الموعود سرا.
وكان لا بد للولادة نفسها أن تتم في هذا الصمت المطبق الذي تمت به. وقد كانت كل خشيتهم أن يعلن المولود الجديد ما تجاهد أمه في كتمانه، وما تبذله من ألم يفوق طاقة البشر في سبيل هذا الكتمان.
وولد الطفل، وقبل أن يطلق الصرخات التي يلقيها كل طفل في وجه الحياة، سارعت أخته عزيزة، ووضعت يدها على فمه، فحرمته أن يعلن الحياة بقدومه.
تمت الولادة في صمت كما أراد لها بيت إبراهيم آدم، ولكنهم كانوا يعرفون أن ما يسترونه اليوم، وما قد يخفونه يومين آخرين أو ثلاثة لا بد أن ينكشف، ولكنهم كانوا قد أعدوا للأمر عدته. •••
في الموهن الأخير من الليل خرجت عزيزة تحمل أخاها، وهي تضع يدا لها على فمه، وتلفه باليد الأخرى بخمارها الذي يغطي رأسها، ويغطي أخاها في آن معا.
وركبت عزيزة مركبا صغيرا أعدته منذ أيام، وأخفته في الأحراش الكثيفة التي تحيط بترعة الرادين. وجرت المركب في الماء مجرى وانيا هامسا، كأنه وشوشة أمواج لشاطئ؛ فقد كانت عزيزة تلمس الماء بمجدافيها لمسا هينا لا يعلو لها صوت، حتى إذا بلغت مشارف قرية التمرة أرسلت مركبها، وتلفتت حواليها في حذر وخشية، ونزلت إلى الشاطئ. وفي الخص الذي أقامته في الصباح وجدت الحمار حيث تركته، فركبته وهي تحتضن أخاها في حدب حريصة دائما ألا يصدر عنه بكاء يفضح هربها به.
Unknown page
الليل ستار، والناس بعد نيام، فلا بأس عليها أن تخترق شوارع القرية، وهي آمنة بعض الأمن، وكان بيت العمدة في جوف القرية والطريق إليه يخترق الكثير من الدروب. وكلما أوغلت في الطريق اقتربت من الأمن، حتى بلغت بيت العمدة، وقلبها يوشك أن يقف من الخوف.
وطرقت الباب طرقا رقيقا، فكأنها طارق من السماء مرة واثنتين وثلاثا، ثم انفتح الباب، واستقبلها العمدة. - هل أتيت به؟ حسنا! - هل أدخل؟ - بل انتظري. - ماذا؟ - إن زوجتي سافرت إلى أسوان عند أختي منذ اتفقنا بعد أن أعلنت هنا أنها حامل. - إذن. - إذن لا بد أن نسافر بالطفل إلى أسوان لتعود به زوجتي، ونعلن أمره إلى الناس. - ولكن الطفل يحتاج إلى رضاعة. - ادخلي فأرضعيه، هل معك ما ترضعينه به؟ - نعم. - إذن فأرضعيه، وأسرعي حتى أنادي سائق السيارة ونسافر.
وسرعان ما أخذت السيارة طريقها إلى أسوان، وكان الفجر يرسل أشعته الأولى إلى الطريق.
وصلت السيارة إلى أسوان، والنهار يملأ الدنيا، وقال العمدة لعزيزة: ابقي حيث أنت. - لماذا؟ - لآتي بزوجتي ونعود. - ألا تعرف أختها بالأمر؟ - بل تعرف. - فما لي لا أنزل بالطفل حتى أرضعه وأريحه بعض الشيء، ونعود به وقتما تشاء، فلم يعد في الأمر عجلة. - معك حق .. انزلي.
وجاءت الأم المزيفة، واستقبلت ركب ابنها الذي لم تلده، ورفعت عن وجهه الدثار، وأشرق وجهها بابتسامة عريضة. - بسم الله ما شاء الله! حلو هو كالقمر ... وقال العمدة: أريني ابني هذا الذي لم أنجبه ... سبحان الخلاق العظيم في وجهه سمو! وسارعت زوجته قائلة: واسمه سامي، إن شاء الله!
ثم نظرت إلى أخته. - هل ستبقين معه؟ - إذا أردت. - حسنا، ولكن هل سبق لك أن رعيت طفلا؟ - الحقيقة لا. - إذن؟! - هل تريدين له من ترضعه؟ - يا ليت. - أعرف في بني عمران أما فقدت رضيعها، وهي فقيرة، وأستطيع أن آتي بها لترعاه وترضعه. - على بركة الله، ولكنني أحببتك لماذا لا تبقين مع المرضعة وتساعدينها في رعاية سامي. - وأنا والله أحببتك يا ست هانم منذ رأيتك أول مرة حين اتفقنا على إحضار الطفل لك. وما أحب إلي أن أبقى في بيتك. فنحن لم يعد لنا في بني عمران شيء يستحق أن نبقى إلى جانبه. الفدانان سيزرعهما خالي ... المهم أنني أحب أن أبقى معك ومع المحروس سامي.
وعاد الركب الذي خرج متخفيا من التمرة في باكر الصباح، وبلغ بيت العمدة قبل أن تغرب الشمس، وأعلن عن عودته بالزغاريد وبالدفوف وبالمزمار.
لقد أنجب العمدة ولدا بعد أن ظل عشر سنوات محروما من النسل.
وكما استطاعت عزيزة أن تهرب بالطفل، استطاعت أن تدبر لأمها مهربا، ولكن بطريقة مختلفة كل الاختلاف. فقد أدركت أن أمها بعد الولادة التي لم يعرف بأمرها أحد أصبحت هيئتها غير تلك التي يعرفها عنها المترصدون لها. وإمعانا في التنكر ألبست أمها ملابس خالها، وخرجت بها بعد غروب الشمس بقليل، حتى ليرى الرائي فيها جسما، ولا يستطيع أن يتبين وجها. وجازت الحيلة، وبلغت الأم مأمنها لترضع وليدها الذي أصبح ابن العمدة، أصبح اسمه سامي زين الرفاعي، فاسم العمدة زين، واسم أسرته الرفاعي.
ولكن الأم تعلم أن الذي ترضعه هو وليدها، وهي بهذا قريرة العين هانئة، وليكن اسم أبيه بعد ذلك ما يكون، ما دام قد نجا من أعداء أبيه، وكتبت له الحياة.
Unknown page
2
عاشت رتيبة أم سامي عيشة هانئة في بيت العمدة قريبة غاية القرب من زوجته حميدة، وكانت عزيزة في البيت هي مديرته التي تقوم بكل شأنه. وسرعان ما أصحبت الأم وابنتها صديقتين لأهل القرية جميعا، وقد اتفقت الأم وابنتها أن ينتسبا إلى قرية المهاجرة، التي تدخل في إطار محافظة المنيا البعيدة كل البعد عن محافظة أسوان. ولم يحاول أحد من نساء القرية ولا من رجالها أن يستقصي أمرهما، فما دار بذهن أحد أنهما تكذبان. واستقر الحال على هذا ومضت الأيام رخاء. رتيبة ترضع وليدها، وحميدة ربة البيت تقربها إليها في حب وحدب وعطف، وهما تقضيان وقتهما في أحاديث لا تنفد، وتمدهما سيدات القرية بمدد من أسباب الحديث لا ينقطع.
والعمدة أصبح لا يرى زوجته إلا وفي رفقتها رتيبة، ولم تستطع رتيبة أن تغفل النظرات الراغبة التي كانت تطل في إصرار من عيني العمدة زين الرفاعي. وكان كيانها يضطرب أشد الاضطراب حين تلح عليها هذه النظرات، فقد كانت تخشى كل الخشية أن يتجاوز العمدة النظرات التي تصدر عنه على رغم أنفه إلى محاولات أخرى تفسد عليها هذه الحياة الهانئة التي تحياها، والتي لم تكن تتمنى خيرا منها. وماذا يمكن أن تأمل أم ابنها مهدد بالثأر أكثر من هذه الحياة التي تحياها مع ابنها وابنتها في ظلال كريمة من عطف الست حميدة. وقد كانت رتيبة تحمل لها مع الاعتراف بالفضل حبا لا ينتهي مداه، فقد كانت أخلاق حميدة رضية سلسلة لا عنف بها ولا كبر. وكانت طيبة عن سجية مواتية في غير افتعال ولا من. وقد أحبت سامي حب أم لوليدها حقا، وكانت رتيبة من الذكاء والفطنة بحيث لم تذكرها قط بأن سامي ربيبها وليس وليدها. ولم يجر هذا على لسانها، حتى ولو كانتا في مأمن كامل من العيون والآذان.
وكانت رتيبة تحرص دائما أن تضع الطفل في حجر أمه في غير أوقات الرضاع، آملة أن يعمق احتضان حميدة له مشاعر الأمومة الفطرية التي لم تعرفها حميدة؛ فهي لم تكن له أما. فلا هي حملته، ولا ولدته، ولا أرضعته، وهي مع ذلك هي أمام العالم أجمع أمه.
ومع الأيام أوشكت حميدة أن تنسى أنها ليست أمه، بل وأوشك زين الرفاعي أن ينسى أنه ليس أباه. لم يكن ينغص حياة رتيبة إلا هذه النظرات الهاربة من عيني العمدة، والتي كانت تتقيها بالتجاهل التام. وكان ينغصها أيضا ما تقوله لها النسوة إذا جلسن إليها بعيدا عن حميدة؛ فقد عرفت رتيبة أن العمدة ظالم جبار، جشع غاية الجشع في معاملته للناس، نهاز للفرص في جمع المال. وكانت رتيبة تدهش مما يفعله العمدة. أيكون جميع المال غاية في ذاته؟! لمن يجمعه؟! لطفل هو يعلم حق العلم أنه ليس ابنه، ولا هو أباه؟ كاذب ذلك الذي يقول إن الإنسان يحرص على المال من أجل أبنائه. إنما هو النهم في جمع المال، مرض قائم بذاته يصيب الإنسان فيخرب نفسه، حتى وإن لم يكن له ولد. وما الولد عند هؤلاء إلا حجة منهارة لا صحة لها. وإن جازت هذه الكذبة على الناس الذي يشهدون سعادة زين الرفاعي في جمع المال، فما كانت هذه الكذبة لتجوز على رتيبة التي ولدت سامي، والتي تعرف من سره ما لا يعرفه في القرية أحد. •••
كانت حجرة رتيبة في جناح من البيت قصي، وكانت عزيزة تبيت معها فيها. وما كان أحد يعرف أن عزيزة ابنتها، وهكذا قضى الله على رتيبة أن تكون أمومتها - وهي أمومة شرعية - مستورة مستترة عن الجميع، لا يعرفها أحد من البيت الذي تعيش فيه، أو من القرية التي تحتوي هذا البيت.
وفي يوم بينما كانت الشمس ترسل شواظا من نار على القرية، وفي فترة الظهيرة التي لا يطيق أحد فيها أن يترك السقف الذي يحميه من سعير الحر، وكانت رتيبة وابنتها عزيزة تنالان قسطا من الراحة في فترة القيلولة، وكان العمدة في حجرته مع زوجته. وكان سامي في سريره بالغرفة المجاورة لهما.
بلغ أذن رتيبة صوت طرق واهن على شباك حجرتها، وتعجبت؛ فهي لم تتعود أن يطرق أحد شباكها. بل ولم تتصور أن أحدا يجرؤ أن يطرق شباكا في بيت العمدة بهذه الطريقة الهامسة. صمتت حينا فتوالى الطرق. أيقظت عزيزة، وساد الصمت لحظات، ثم عاد الطرق وسمعتاه معا ... ما هذا؟ - من؟
قالتاها معا وجاءهما صوت مرتعد. - أنا؟ - أنت من؟ - أنا صميدة.
وقالت رتيبة وصوتها في طريقه إلى الارتفاع: صميدة؟! صميدة من؟ - أنا في عرضك، اخفضي صوتك ... أنا صميدة الدلهوني. - ماذا تريد؟ - أنا واقع في عرضك يا ست رتيبة. - من أين تعرفني أيها الرجل؟ - من سيرتك في البلدة، الجميع يمتدحك. وأنت أقرب واحدة من الست حرم العمدة. - ماذا تريد؟ - أختي. - ما لها أختك؟ - يريد العمدة أن يزوجها غصبا عنها. - والعمدة ما شأنه بأختك؟ - الرجل الذي يريد الزواج منها دفع له مبلغا كبيرا. - مبلغا كبيرا! من هذا الرجل. - الشيخ دهشور الملواني، سمعنا أنه دفع له ثلاثمائة جنيه. - وأختك لا تريده؟ - إنه رجل عجوز تخطى السبعين من عمره وأختي في السادسة عشرة من عمرها. وابن عمها خطيبها منذ هما أطفال. أختي ستموت مني يا ست رتيبة، أنا في عرضك. - وماذا يستطيع العمدة أن يعمل؟ زوجها لابن عمها، ولن يستطيع العمدة أن يصنع شيئا. - ست رتيبة! ألا تعرفين ماذا يستطيع العمدة أن يعمل؟
Unknown page
وجدت رتيبة الفرصة مواتية لتتأكد مما يرويه لها النسوة عن العمدة. - ومن أين لي أن أدري؟ - لك الآن معنا فترة ليست قصيرة ولا تدرين. - أنت تعرف أنني لا أترك بيت العمدة ، ولا أزور أحدا من نسوان البلد. - ولكن نسوان البلد جميعا يزرن بيت العمدة، ويأنسن إليك، ولا بد أنهن قلن لك ماذا يستطيع العمدة أن يعمل! - كلام نسوان لا أصدقه. - إن لم أزوج أختي من دهشور الملواني، فمعنى هذا أن تقتل أختي صبيحة، ويقتل ابن عمها شملول القط، ثم أقتل أنا. - ماذا تقول؟ - ما سمعت يا ست رتيبة. - هل يعقل هذا؟ - أتريدينني أن أفهم أن الست حميدة وأنت لا تعرفان شيئا عن رجال العمدة القتلة؟ - أتتصور أننا نعرف؟ - أما أنت فنعم، يخيل إلي أنك تعرفين. - وافرض، فهل أجرؤ أن أقول هذا لزوجته؟ - طبعا لا. - إذن ففيم مجيئك إلي؟ - كلمي العمدة نفسه. - هل أجرؤ؟ - إنك مرضعة ولده. وهو يعلم أن الست حميدة تحبك كل الحب، وقد يخشى أن تكشفي للست حميدة ما يحاول أن يستره عليها. - أنا أكلم العمدة؟! - حياة أختي بين يديك يا ست رتيبة. - نحاول يا صميدة، امش أنت الآن، واترك لي الموضوع. - أمرك.
قالت لها عزيزة: ماذا تنوين أن تفعلي؟ - والله لا أدري يا بنتي. - الرجل وضع أمله فيك. - سأرى. •••
صحا العمدة من نومه، وذهب إلى حجرة ولده يتناول قهوته هناك، وترك زوجته في سريرها بين نائمة ومتيقظة. كانت رتيبة جالسة على الأريكة، وسامي في حضنها يحرك أطرافه في جذل بعد أن رضع وارتوى. رنا زين الرفاعي إلى جمال رتيبة، كان يرى في وجهها نورا وإشراقا، ورأى في عينيها وهي تنظر إلى سامي نظرات ساجية هانئة، ووجد نفسه ينظر إليها كامرأة بعد أن كانت عنده مرضعة سامي. طويلة القامة، موفورة الجسم في غير استرخاء هادئة السمات تشعر من يراها بالطمأنينة.
نظر إليها لحظات، ثم قال لها: هل رضع؟
وقالت في سعادة: ألا ترى سعادته؟ - أعطيه لي. - تفضل.
وحمل سامي وقامت هي واقفة، فقال لها: بل اجلسي مكانك يا ست رتيبة.
وجلست وراح هو يناغي سامي، ويداعب وجهه، وانتهزت هي الفرصة. - سيدي العمدة. - نعم يا ست رتيبة. - قصدتني امرأة برجاء عندك. - من هي؟ - طلبت إلي ألا أذكر اسمها عندك. - وماذا تريد؟ - أن تتزوج صبيحة من ابن عمها شملول القط.
وانقلب وجهه الضاحك إلى أنواء عاتية من الغضب والسخط، وصاح دون أن يرتفع صوته: من تلك التي طلبت منك هذا؟ - لا تغضب يا سيدي العمدة، كأني لم أقل شيئا. - هل عرفت حميدة شيئا عن هذا الموضوع؟ - لا وشرفك. - إذا عرفت فستكونين أنت التي قلت لها. - لن تعرف. - ولا أسمع شيئا عن هذا الزواج منك. - أمرك. - خذي الولد. - أمرك.
وأعطاها الولد، وخرج دون أن يشرب قهوته. •••
مشاعر شتى متباينة داخلت قلب رتيبة. هذه النظرات الجائحة أرهبت جوانبها. وهذا الوجه الحديدي الملامح الذي ارتمى على جبين العمدة. وهذه الأنياب المكشرة ... ما هذا؟ أيمكن للإنسان أن يكون عدة آدميين في كيان واحد. ألقت إلى وجه ابنها نظرات فارغة ساهمة تحمل في طواياها حيرة ورعبا من المستقبل. وما لبثت أن فكرت في ابنها هذا الذي يبتسم في سعادة غامرة، ماذا يحمل لك الغد مع أب هذه سماته، تنقلب إلى خوالج ذئب، وهذه خلته ينشب في أرواح الآدميين في قريته يدا فراسة تعتصر دماءهم في غير رحمة ولا مهادنة.
Unknown page
تائهة هي حائرة خائفة، يثقل على قلبها أن رجاءها في شأن صبيحة قد خاب. ما لهذه الدنيا تجور على أبنائها، وما لقوم كأن أكبادهم من فولاذ جامد.
وقبل أن تفيق سمعت في البيت ضجيجا وأصواتا متسارعة، وانقضت عليها ابنتها عزيزة. - أمي.
وذعرت رتيبة في هلع آخذ، وقد أخطأت ابنتها في ندائها، وأوشكت أن تكشف المستور من علاقتها بها، ولم تملك نفسها أن صاحت بها في غير وعي. - اخرسي.
وفي لمحة تنبهت عزيزة إلى خطئها، وتلفتت حولها، وعادت تقول في بهرها لا تزال: الحقي يا أمة رتيبة. - هل جننت؟ - جاءت سليمة، لم يسمع أحد، أسرعي إلى الست حميدة إنها في حالة سيئة.
وهمت رتيبة في جد. - ما لها ألف سلامة لها، ماذا بها؟
كانت حميدة شاحبة اللون لاهثة تصيح: هواء ... هواء.
وقالت لها رتيبة: ألف سلامة يا ست حميدة. - صدري يا رتيبة، كأن يدا تقطع فيه بسكاكين حادة . - بعد الشر عنك، العمدة ... أين العمدة؟
وما لبث العمدة أن دخل وقبل أن يسمع شيئا صاحت به رتيبة: نريد طبيبا من البندر فورا ... فورا يا حضرة العمدة. •••
وجاء الطبيب وأعلن: إنها أزمة قلبية.
3
Unknown page
الليالي الحالمة والأيام المشرقة المعطرة بأريج الحب منذ هما طفلان في مرح الصبا الغض، ويدها في يده، وهو يذهب بها إلى كتاب القرية ثم إلى مدرستها، وكانت تعطيه يدها في بلاهة الطفولة ونصاعتها، ومع مرور السنين أحست أن يده بدأت تضغط على يدها، ثم تواتر الضغط، وأحست يدها أن جديدا لا تدريه يشب بين يدها ويده. شيئا ثالثا استشعرت له في قلبها وجيبا غريبا على القلب البريء، ثم سمعت من لقاء يدها بيده حديثا حلوا ونغما ذا أغاريد، ومعاني كلها عذب، فهي نشيد وكلها طروب، فهي رقص ودفوف وناي وعود.
وفجأة قال أخوها صميدة: منذ الغد لا مدرسة لك يا صبيحة.
وانعقد لسانها ... أيكون قد سمع همس يده إلى يدها؟! أتكون الأناشيد العذاب قد بلغت أذنيه؟! لم تجادل، فقد خشيت أن تطالعها من أخيها الحقيقة. انطوت على أسى، وصمتت على قلب واله، وأطرقت رأسها في تخاشع، وإن كانت في نفسها ثورة عارمة. وفي الصباح جاء شملول ليصحبها إلى المدرسة وفاجأه أخوها. - كفى ما تعلمت.
وقال شملول وكأنما مسته جمرة: كيف؟! - أنا أخوها. - وأنا ابن عمها. - أنا صاحب الولاية عليها. - لم أقل شيئا، ولكنها ما زالت صغيرة، ماذا تعمل في البيت؟ - كما تعمل بنات القرية، تساعد في عمل البيت. - إنها ما زالت في الرابعة عشرة. - كان يجب أن تبقى في البيت منذ سنتين. - صميدة. - نعم يا شملول. - أنا أخطب إليك أختك. - أجننت، إنك قلت منذ لحظة إنها في الرابعة عشرة. - أتزوجها عندما تبلغ السادسة عشرة. - أسألها.
ورأى صميدة في عينيها السعادة أعلى صوتا من الحديث.
وقال صميدة لشملول: أوافق.
وقال صميدة: نقرأ الفاتحة غدا في جمع من الرجال. •••
وحين بلغت السادسة عشرة انقض عليهم دهشور بسنواته السبعين وأمواله وأفدنته العشرة، وقدرته على رشوة العمدة. وحاول صميدة محاولته تلك ، وبدلا من أن يعود إلى رتيبة يسألها عن شفاعتها بلغته الأنباء عن مرض حميدة، وبينما هو جالس إلى أخته التي أصبحت كعود جف عنه الماء. وهي مطرقة تحاذر أن يرى أخوها ما علا وجهها من قترة وعبوس. دق الباب وقامت صبيحة إليه تمشي، وكأن بالأرض أشواكا أو جمرات، وفتحت الباب، ودخل محمود القط وراءه أخوه الأصغر شملول. ولم يلق أحد منهما السلام، وإنما صاح محمود في همس: صميدة. - أهلا يا محمود ... أهلا يا شملول.
وأكمل محمود: اسمع يا صميدة! ماذا لك في هذا البلد؟ - ألا تعرف؟ - أرضك؟ - حياتي. - أشتريها منك. - ماذا تقول؟ - أشتري أرضك وخذ أختك وأخي واذهبوا إلى مصر، وأرض الله واسعة، ولا الذل الذي نحن فيه.
وبهت صميدة لحظات، وأعمل ما سمعه في ذهنه، وكأنما يريد أن ينال مزيدا من الوقت ليفكر، وجد نفسه يقول في صوت ذاهل: ماذا تقول؟ - إن لك ولأختك أربعة أفدنة وعشرين قيراطا، ولكما هذا البيت، وكلها ثمنها معروف. هذا هو، واجمعوا ملابسكم، وتوكلوا على الله. كان الإشراق يعود إلى وجه صبيحة طوال الفترة التي تسمع فيها هذا الحديث، وكأنه صعود الشمس إلى سمتها في السماء. وأطرق صميدة هنيهات، ثم رفع رأسه إلى محمود. - أتظن العمدة سيسكت عنك؟ - بل لن يسكت، لقد بعت أرضي أنا أيضا بما فيها أرضك، بعتها كلها. - لمن؟ - ألا تدري لمن؟ - لعوض أبو عوف؟ - طبعا، إنه يكره دهشور الملواني ويكره العمدة. - إذن؟ - سافروا أنتم الليلة إلى مصر وهو مشغول بمرض زوجته. - وأنت؟! - سأبقى يومين أو ثلاثة حتى أبيع بيتكم وبيتنا. - والله لا بأس. - وقع هذه العقود ... الأرض باسم عوض أبو عوف، والبيت باسمي حتى أتصرف فيه.
Unknown page
ووقع صميدة وصاح محمود: ألف مبروك، هيا لا تضيعوا وقتا، اسمع يا صميدة، خذ هذا ثمن أرضي، أبقه معك. - لماذا؟ - لو حاول العمدة أن يرغمني على دفع مبلغ له يجدني لا أملك شيئا. - معقول ... هات المبلغ، ولكن لا تتأخر. إذا لم تبع البيتين في يوم أو يومين دعهما، ولهما عودة. - توكلوا على الله، انزلوا على بيت مسعود الصاحب، أو اجعلوه يعرف عنوانكم. مع السلامة! •••
ورأت حقول التمرة ثلاثة نفر يشقون ظلمات الليل، وكأنهم قطعة منه يتركون وراءهم ذكريات أعمارهم، وماضي أيامهم، وملاعب طفولتهم، ورفات آبائهم وأجدادهم، ومع دمعة في عيونهم كانت تتراءى لهم في ظلمات الليل أضواء أمل في الغد. وإشراقات مستقبل يرجون الله أن يكون هانئا سعيدا.
4
أطال المرض مكوثه في قلب حميدة. وكان البيت جميعه مشغولا بها، حتى العمدة لم يكن يجلس مع الناس في السلاملك إلا ساعة أو بعض الساعة، ثم يرتد إلى داخل بيته يراقب حميدة. فمهما يكن جبارا صلب المشاعر، إلا أنه مع ذلك يظل إنسانا.
وبينما زين الرفاعي جالس بالخارج مع بعض زواره من أعيان التمرة قدم إليه خطاب، وفي محياه جهامة لا تخطئها العين، وعلى شاربيه الكثيفين غضبه. - أريدك في كلمتين يا حضرة العمدة.
وكان الجالسون جميعا يعلمون ما صنعه شملول وصميدة ومحمود، ولكنهم كانوا يحاذرون أن يعرضوا لهذا الحديث حتى لا يثيروا من العمدة ثائرا الله وحده يعلم ماذا هو مدمر في اشتعاله.
وقام العمدة وأدرك الجالسون ما سيلقيه خطاب إلى أذن العمدة، فقام بعضهم يلوذ بالفرار من الإعصار المنتظر، وأقام بعض آخرون وقد تغلب حب الاستطلاع في نفوسهم على الخشية.
وعاد العمدة وهو كظيم يحاول أن يضع على وجهه قناعا من الجمود، فتخونه عروق نافرة، ونأمات نابضة، ونظرات ملتهبة. ولا يقول العمدة شيئا. •••
كان محمود جالسا في بيته متنمرا؛ فقد كان لا ينام الليل متربصا بما قد يصنعه العمدة، حتى إذا لاحت تباشير الصباح كان يختبئ من القرية في مكان مستور وينام.
كان في ليلته تلك جالسا يصنع لنفسه كوب شاي يعينه على السهر، فإذا هو يسمع حفيف ثوب يحاول أن يتخافت، فتحصن وتطلع وانتظر. وفجأة فتح الباب، وانطلق الرصاص، فسارع محمود يجيب الرصاص برصاص، واحتدمت المعركة. وأدرك رجال العمدة أنهم لو استمروا في المعركة، فإنها قد تدور عليهم دوائرها، فأمرهم خطاب أن يتوقفوا، واستداروا قافلين إلى حيث جاءوا. وانتظر محمود حتى أشرقت الشمس، وقام إلى ملابسه جميعها، فوضعها في جوال، وأخذ سمته إلى القاهرة. فليذهب بيته وبيت ابن عمه بددا، ولينج هو بحياته.
Unknown page
لم يحاول حتى أن يمر بعوض أبو عوف ليبيعه البيتين، أو يوكله في بيعهما.
انتظر القطار، وركبه إلى القاهرة، وليدبرها كريم قيوم على عباده.
بلغ صوت الرصاص آذان حميدة وجزعت، وأدرك زين أن أوامره تنفذ، فأجابها حين سألت: لا بد أنهم الخفراء يريدون أن أعرف أنهم ساهرون على الأمن. - الخفراء يطلقون رصاصة أو اثنتين. - لعل أحدهم قد أخذه الحماس.
وصمتت حميدة غير راغبة في اتصال الحوار. •••
عرف العمدة أن المهمة التي كلف بها خطاب لم تنجح، فأصدر أوامره أن يصبح البيتان مخزنين لمحاصيله، حتى لا يفكر أحد في شرائهما.
5
لم يمض طويل وقت حتى لاقت حميدة ربها، وأصبحت رتيبة مشرفة على البيت. وسارت الأيام في طريقها على عادتها، فما تعنى الأيام بمن يموت ومن يقيم، وإنما هي تمضي في طريقها. وقليلا ما تمضي حتى وجدت رتيبة نفسها في مواجهة توقعتها منذ وقت طويل، وأعدت لها عدتها. - يا ست رتيبة أنت الآن مسئولة عن سامي، ولا يستطيع أحد أن يحل مكانك. - أعرف ذلك. - وأنا رجل أحتاج إلى زوجة وأخشى إن أتيت بأخرى أن تضيق بالولد أو تضيقي أنت بها. - لا بأس أن تجرب. - ولماذا لا تتزوجينني؟ - الحقيقة أنني لا أفكر في الزواج مطلقا. - هل أنت على استعداد أن تتركي سامي.
ودون أن تفكر فزعت قائلة: لا ... إلا هذا.
وفي دهشة باغتته لحظة ثم ... - نعم أعرف أنك تحبين الولد، ولكن لم أتصور أنك تحبينه إلى هذا الحد.
وعادت رتيبة إلى ثباتها. - لقد حملته أكثر مما حملته أمه وأرضعته ولا أعرف لنفسي الآن عملا آخر، إلا أن أكون المسئولة عنه.
Unknown page
وصمت زين قليلا، ثم قال وقد أدرك أنه أصبح يملك الموقف: فإذا جاءت سيدة أخرى، فإنني لا أستطيع أن أحميك منها أو أحمي سامي.
وأطرقت وقد أوشكت على الهزيمة. - إنك العمدة ... ولست مثل أي عمدة، إنك تحكم بلدك بيد من حديد، أتعجز عن أن تحكم امرأة في بيتك.
وفهم زين كل ما ترمي إليه، ولكنه قال: إنني عمدة في خارج بيتي، ولكنني في البيت زوج، ولا يستطيع زوج مهما يكن عمدة أن يفرض مرضعة على زوجته في بيته. - ولماذا لا تحسن الاختيار؟ - قد تكون قبل الزواج هادئة حليمة، ثم تنقلب بعد الزواج جبارة طاغية، وأنت تعرفين المرأة إذا وجدت ابن غيرها هو موضع الرعاية في بيتها، حينئذ ستعمل أول ما تعمل أن تخرجك أنت من البيت؛ لأنك تؤثرين الطفل عليها، ثم هي بعد ذلك تنفرد ...
وقاطعته رتيبة: نعم ... نعم أعرف. - إذن؟
وأطرقت، لقد تركت بيتها وبلدتها من أجل ابنها هذا، وهي لا تحب هذا الرجل، وهي تكره خلقه كل الكراهية. فالظلم هو الذي قتل زوجها، وشتت شملها، وأخرجها من بين أهلها وذويها ليرمي بها إلى قوم غير قومها، وناس غير ناسها.
إنها كامرأة تدرك أن حياتها لم تصبح شيئا إلا أن تكون أما لهذا الطفل. وقد ضحت من أجله بكل حياتها الماضية، فهل ترى كتب عليها أن تضحي أيضا بحياتها الآتية؟ وأي مصير يمكن أن تنتظرها به الأيام؟ فإذا ولدت لهذا الرجل وليدا آخر، وصاحت دون أن تدري: لا.
وصاح زين: هذا جوابك؟
ورجعت إلى نفسها وأطرقت: ألا تترك لي فرصة للتفكير؟ - أنا لم أتعود أن أفعل ذلك، ولكن من أجل خاطرك سأقبل.
وفكرت، ولم تجد لنفسها مهربا، إنها الآن إذا رفضت فسيطردها هو من بيته دون أن ينتظر زوجته المقبلة لتطردها. فإذا كان يرى في مطلبه أن ينظرها انتقاصا له، فهيهات أن يرضى من أجيرته أن ترفضه زوجا، وهو بعد لن يكون حريصا على مستقبل طفل ليس ولده أكثر من حرصه على كبريائه.
إنما طلبت منه فرصة للتفكير، حتى لا تتداعى أمامه في نفس الجلسة التي طلب إليها فيها الزواج.
Unknown page
لم يكن هناك خيار لرتيبة، فهي بين اثنين لا ثالث لهما؛ إما أن تترك وليدها نهبا لمستقبل لا يعلمه إلا الله، وإما أن تقبل الزواج من زين الرفاعي الذي قدر الله أن يحمل وليدها اسمه، فأصبح أبا لابنها الذي ليس له بعد الله غيره.
وتزوجت رتيبة من زين بعد أن مر على وفاة حميدة ثلاثة أشهر، وحملت رتيبة في الشهر الثاني من زواجها، وما لبثت أن ولدت ولدا أسماه مأمون، وكانت رتيبة في رعب أن يحل الابن الحقيقي عند زين مكان الابن المصطنع، ولكنها أخفت رعبها ولم يناقشها زين في الأمر، فهو واثق أنها لم تعلم من أمر سامي شيئا، فهو متصور أن سامي عندها هو ابنه وابن زوجته المتوفاة حميدة.
وقد خشي أن تبوح عزيزة بالسر الدفين، فانتهز فرصة خلت به وبعزيزة غرفة. - عزيزة لا أحد الآن يعرف سر سامي إلا أنت. - نعم يا حضرة العمدة. - أخت حميدة التي كانت تعرف السر ماتت، ولم يبق الآن إلا أنت، فإذا عرف السر فجزاؤك سيكون رهيبا. - أعرف يا حضرة العمدة. - لا تلومي غير نفسك. - أتتصور يا حضرة العمدة أن أعرض نفسي لغضبك وأعرض أخي للتشريد؟ - رتيبة لا تعرف شيئا؟ - ومن أين لها أن تعرف؟ لقد أتيت بها يوم أتيت بها لترضع ابن عمدة التمرة بعد أن مات وليدها. - فليظل الأمر كذلك. - سيظل كذلك يا حضرة العمدة، ولا يمكن إلا أن يظل كذلك. •••
وحين تأكدت عزيزة أنها في خلوة بعيدة بأمها نقلت إليها هذا الحديث، ففرحت رتيبة به، وقرت به عينا، وزايلها - أو كاد - رعبها الذي داخلها أن يفوز مأمون بالأمن، وينتهي دور سامي كابن لزين، ذلك الدور الذي فرضته عليه الأقدار دون أن يكون له أي رأي في قبوله أو رفضه.
وهكذا كان البيت مكونا تكوينا عجيبا، أم تعلم أنها أم الابنين والفتاة التي تقوم بشأنهما أيضا. وأب ليس له في الثلاثة إلا ولد واحد، والأب يخفي سر ابنه المتبنى، والأم تخفي سر ابنها وابنتها.
وهكذا يستطيع الظلم والجبروت أن يطمس معالم الحياة، ويخلط نتائج الأرحام، ويخسف عن حياة الناس الشموس التي لا معنى للحياة بغير إشراقها.
وكان أمر زين أمام رتيبة عجبا، فهو في خارج بيته ذلك الجبار القاسي، يقتل وينهب الأموال في يسر وطبيعة مواتية، وهو في البيت أنيس لين العريكة، دمث الحديث، شديد الحدب على ولديه، لا يفضل واحدا منهما على الآخر. وتعجبت رتيبة ... إن تكن غريزة الأب ترغمه على حب مأمون، فأي نبضة في قلبه تجعله يرعى سامي بهذا البر، وذلك الحب والحنان، سبحانه، لا يملك أحد أن يجعل قلب هذا الرجل يلين لغير ابنه إلا الله وحده، وإن له في ذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو، إن له لغاية يطويها سبحانه في خفايا السنين.
6
بدأ سامي يذهب إلى الكتاب، ولم يمض سوى عام وبعض العام حتى لحق به مأمون.
وقليلا ما مكثا في الكتاب، فما ذهبا إليه إلا تنفيذا لرغبة أنشبت براثنها في نفسه أن يتعلم ولداه القرآن، وازداد عجب رتيبة وإن كان صدرها قد انشرح لتمكن هذه الرغبة من زوجها، وازداد يقينها أن الله يهيئ الابنين لقدر بعيد كل البعد عما يسير فيه أبوهما.
Unknown page
وعجب زين الرفاعي من سرعة حفظ سامي ومأمون للقرآن، واستجابة كل منهما استجابة نورانية لآيات القرآن الكريم. وكان سامي يمتاز بشيء لم يشهد له زين ولا أحد من أبناء القرية مثيلا.
فقد كان يحلو لأبيه أن يطلب إليه أن يرتل شيئا من الذكر الحكيم، وكان سامي يسارع إلى الاستجابة. وكان الأب يجد نفسه يحس في صوت ربيبه خشوعا تحف به أجواء إلهية سامقة، ولا يملك ذلك الجبار السفاح دموعه، فإذا هي تتبادر مترسلة من عينيه.
وقد كان زين يحسب أن هذه الدموع لا تطفر إلا من عينيه، وهو يرى ربيبه قد كبر، وأصبح يقرأ القرآن، إلا أنه في يوم كان يجلس بالدوار، وكان الديوان مليئا بالزوار، مكتظا بالقادمين إليه للتحية أو للسمر، أو لحاجة لهم عند العمدة. وقدم إليهم سامي ومأمون يشاركان الجمع الجلسة، ويستمعان إلى ما يدور من حديث.
وفجأة وجد زين نفسه يقول دون أن يملك زمام تفكيره أو عنان لسانه. - سامي، اقرأ لنا عشرا مما حفظته.
وعجب الجالسون أن يعرف زين الله أو يهفو إلى سماع كلماته. وتهيأ جميعهم للنفاق يعلقون به على تلاوة سامي.
وبدأ سامي يقرأ ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
اقتربت الساعة وانشق القمر ، ومضى في قراءته مرتعش الصوت بإيمان عميق عربي اللسان بين الحروف ينطقها في حب وخشوع وإخبات، يحسب سامعه أن صوته يسجد بالقراءة لمالك الملك. والصوت خفيض، ولكن الصمت حوله مرهوب يكاد كل سامع منهم يمسك أنفاسه، لا يعلو منه شهيق أو زفير. لحظات ربانية هومت على الجمع، ويمضي سامي في القراءة، فإذا القلوب كلها وجيب، والنفوس متعلقة بالسموات العلا بعيدة غاية البعد عن الأرض وما فيها، والدموع من الجمع سواجم هاملات، لا يطيق فرد منهم أن يمسكها لا تهمى، بل إن أحدا لا يحاول أن يذودها ... لقد كانت كل دمعة تسبيحة مرفوعة إلى رب العرش، وأحس الجمع إحساسا واحدا أنهم جميعا أصبحوا عند سدرة المنتهى قريبين غاية القرب من العرش، وسامي يقرأ لا يلتفت أمر الجمع حوله أنه هو في الملكوت الأعلى هناك عند الملك القدوس في الساحة العلوية التي لا يبلغها إلا ذو حظ عظيم.
وحين قال سامي: صدق الله العظيم، شمل الصمت الذاهل المكان، وتملكت الرهبة قلوب الحاضرين، فهزهم هزا، ثم علا فجأة نحيب مأمون، واندفع إلى أخيه يقبله ويحتضنه، وصحا الجمع من البهر الذي لفهم، وراحوا يحيطون بسامي تتعالى أصواتهم: ما هذا بصوت بشر، سبحان من أعطاك! ما هذا الذي ترتله؟! كأننا نسمع القرآن لأول مرة، وتوالت التعليقات، والتفت سامي إلى أخيه مأمون. - مأمون اقرأ. - بعدك؟ - نعم. - هيهات. - بل تقرأ. - أمرك.
وجلس مأمون جلسة القارئ، وبدأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .
Unknown page
ومضى في القراءة، سبحان الوهاب، إذا كان صوت سامي سجودا، فصوت مأمون ركوعا ورجاء ودعاء. وصوت كليهما إيمان أو فناء في حروف الكلمة الربانية التي يرتلانها، وكأن كلا منهما أصبح حرفا من الكلمة، أو كلمة من الجملة، أو جملة من الآية، أو آية من السورة.
7
كانت رتيبة تراقب ولديها، وتشهد بقلب الأم وعين البشر هذه المعالم العجيبة التي ينفردان بها عن سائر من عرفت من البشر.
وكلما شبا ازدادت هذه المعالم قوة ووضوحا. كان سامي هادئ السمات، مطمئن القسمات، واثقا في تصرفاته وفي خطواته، خاشعا في غير مذلة، هادئا في غير ضعف. وكان مأمون دائما مأخوذا بأخيه، معجبا به، يطيعه طاعة أب لا أخ لا يكبره بأكثر من سنتين. وشيء آخر كان يذهل الأم هو تلك القوة الجسدية التي يتمتع بها سامي، تلك القوة التي بهرتها في طفولته الباكرة. فقد مشى قبل السن التي يمشي فيها أترابه، وليست تنسى يوم كانت جالسة تريد أن تقوم إلى المكواة الحديدية الثقيلة. وكان سامي جالسا بجوارها، ورآها وهي تمد عينيها إلى المكواة، ولاحظ أنها أوقدت نار وابور الجاز، ووضعت عليه تلك القطعة من الصفيح التي تضعها عادة تحت المكواة، وفوجئت رتيبة بالطفل الصغير يقوم من جلسته، وقد أدرك ما تريد من نظرتها، ومما أوقدت من نار. قام الفتى وحمل المكواة، وقفزت مشفقة أن يقع الطفل من ثقل الحديد، ويأخذها الدهش البالغ أن الطفل حمل المكواة، وكأنه يحمل لعبة من لعب الأطفال، ويقدمها إلى أمه، ويجلس إلى جوارها وكأنه ما صنع شيئا.
وكان مما تلاحظه أنه لم يحاول أن يتفاخر بهذه القوة مطلقا، وكأنه لا يعرفها في نفسه.
وكان الأطفال في ملعبهم إذا تعاركوا ابتعد عنهم، وكأنه يخشاهم، إلا مرة واحدة، وكان أخوه مأمون يلعب مع أصحابه، فإذا بأحدهم يعدو عليه ويضربه ويوقع به، وسامي متباعد لا يحاول أن يتدخل، حتى إذا أمعن الصديق في عدوانه، وارتمى فوق مأمون، وراح يكيل له الضربات، تقدم سامي في هدوء وفي ثقة، وقد فرغ صبره الطويل، وفوجئ الأطفال جميعا بسامي يرفع الطفل، وكأنه يرفع قطعة من القماش المتهرئ، ويلقي به بعيدا، ثم يحمل أخاه إلى البيت. ومنذ ذلك اليوم لم يحاول أي طفل أن يعارض سامي أو مأمون، والأطفال في الملعب لا يخشون الآباء، فكلهم في مراحل الطفولة سواسية، لا تقف مناصب الآباء أمام أعينهم، فهم لا يدرون عن هذه المناصب شيئا، وهي لا تعنيهم في قليل أو كثير. •••
كبر الأخوان وانتظما في سلك الدراسة الابتدائية، وكان بالقرية مدرسة ابتدائية. وكان كلاهما نابغة في فصله، وكان كلاهما حبيبا إلى المدرسين والتلاميذ معا، ولكن سامي مع السنين لاحظ أن شيئا ما في عيون التلاميذ والمدرسين جميعا غير الحب. لم يدركه سامي أول الأمر، ثم شعر كأنما هو طائف من خوف، ولم يدر سامي مأتى هذا الطائف ولا مبعثه، حتى كان يوما جالسا بالفصل وحده، وسمع اثنين من المدرسين يتحدثان من خارج الحجرة وهما لا يعلمان أنه بها. - عجيب شأن سامي ومأمون. - تقصد ابني العمدة. - ألا تعجب معي؟ - كأنهما ابنا قطب من أقطاب الله الصالحين. - كلاهما مثال نادر في الأدب والهدوء مع ذكاء غير طبيعي. - أتراهما يعرفان ماذا يفعل أبوهما؟ - مطلقا. - لا بد أنهما لا يعرفان، لا يمكن أن يكونا على علم بما يصنعه أبوهما بأهل القرية من رعب وقهر وظلم وجبروت. - على فكرة، هل عرفت أنه رفع الإتاوة؟ - حقا؟! - وحاول فرهود أن يحتج فأحرق له قمحه، وهدده أن يفقد بهائمه. - وبعد؟ - رضخ طبعا وقدم الإتاوة كما قررها العمدة. - طيب اسكت وحياة والدك لا يسمعنا أحدهما، وينقل إلى أبيه حديثنا. - أعوذ بالله لا قدر الله! إن أطفالي ما زالوا صغارا إذا قتلت أنا لن يجدوا أحدا بعدي.
وأدرك سامي في مكمنه الهول الراعد الذي سيدخله إلى نفس الأستاذين إذا هما علما أنه سمع ما سمع، فاختفى تحت الدرج، وحين سمع أصوات الطلبة القادمين تظاهر لزملائه، وكأنه يبحث عن قلم سقط منه، حتى إذا دخل المدرس وجده جالسا في مكانه، وهجس في نفس الأستاذ هاجس. - سامي. - نعم يا أستاذ. - لم أرك تدخل الفصل مع إخوانك. - بل كنت معهم. - حسنا.
واطمأن الأستاذ إلى ما في صوت سامي من نبرة طبيعية. •••
تأكد سامي أن المكان خال به وبأخيه، وقص عليه ما سمع من الأستاذين، وقال مأمون: وبعد؟ - ما رأيك؟ - ما رأيك أنت؟ - الآن عرفت سر هذه النظرات في عيون الزملاء والمدرسين. - وماذا نفعل؟ - أنا وأنت لم نسئ إلى أحد، فلماذا نحتمل كراهية الناس لنا؟ - إنه أبونا. - ألا نخبر أمنا؟
Unknown page
وقال سامي بعد ريث تفكير: واحدة من اثنتين، إما أنها تعرف ولا تستطيع أن تصنع شيئا، وإما أنها لا تعرف، وحينئذ لن تستطيع أن تصنع شيئا أيضا. - أنت محق، فماذا ترى؟ - أرى أن نصبر حتى تتم هذا العام الدراسة في المدرسة الابتدائية، ونطلب إلى أبينا الذهاب إلى المركز للدراسة في الإعدادية. - وأنا ... ما زال أمامي عامان. - سأطلب من أبي أن نذهب أنا وأنت، فما دام سيفتح بيتا هناك، فمن الطبيعي أن يذهب كلانا. - معقول.
8
رحب مسعود الصاحب بأبناء بلدته، وأنزلهم أهلا، وحين تداولوا أمرهم معه أفسح لهم من الآمال ما لم يخطر لهم على بال. - توكلوا على الله، الصعيدي منا ينزل مصر لا يملك إلا صحته، ويعيش أحسن عيشة فكيف وأنتم تحملون ما تحملون من مال؟ - اسمع يا مسعود نحن لم نخرج من بلدتنا إلا هذه المرة. - أعرف ذلك. - ونحن نترك لك الأمر كله. - لنبدأ أولا بزواج صبيحة وشملول. - أترى هذا؟ - حتى يتاح لهما أن يعيشا معا، وزواجهما فرصة أن يعرفا أبناء بلدتهما، وتقول صبيحة: وكيف أتزوج قبل أن أعد المنزل؟
ويقول مسعود: سأترككم فترة صغيرة من الزمن لأهيئ لك ولزوجك المنزل.
ويقول صميدة: هل الأمر ميسور إلى هذا الحد؟
ويقول مسعود: هو أمر في غاية الصعوبة على جميع الناس إلا علينا نحن أبناء الصعيد، فنحن بيننا معاملات قوية، ومشكلة الفرد منا مشكلة الجميع. فاترك الأمر لي أدبره، ألا يكفيك حجرة بمنافعها؟
ويقول شملول: يا عم مسعود، إننا نبدأ حياة جديدة، والله وحده يعلم كم من الوقت سنقيم في هذا البيت، وأنت تعلم أننا إذا كنا اليوم نجد عطفا من أصدقائك، فسرعان ما نصبح منكم ونهتم معكم بمشاكل الآخرين، ويستعصي علينا أن نجد من يهتم بمشاكلنا، فكلما كان البيت متسعا كلما كان هذا أنسب، حجرة لا تصلح طبعا. وخاصة ومعنا الآن صميدة، ونحن ننتظر أخي محمود أيضا. - يا ابني كلامك معقول، ولكنني قدرت طبعا أن صميدة ومحمود سيعيشان في بيت آخر، إنما علينا أن نهيئ مكانا لأبنائكما، دع الأمر لي، سلام عليكم.
وحين عاد مسعود بعد ساعتين كان قد وطأ لهم كل العقبات، ووجد في روض الفرج شقتين. وما أن سمع ضيوفه هذا حتى شملهم الفرح والعجب معا، ولكن عجبهما زال حين عرفا أن العمارة لسليم الخشت، وهو من قرية الدميرة المجاورة لقريتهم، أثرى في العمل في سوق الفاكهة، وظل شديد الانتماء لقريته، والقرى المجاورة لها.
وانتقل الركب إلى البيتين الجديدين، وبدأ الجميع في الصباح يشترون الأثاث بصحبة مسعود، الذي كان على صلة وطيدة بكل متجر دخلوا إليه.
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى كان البيتان صالحين للإقامة غاية الصلاحية، ولم يجد محمود صعوبة في الوصول إليهم.
Unknown page
وبات محمود ليلته مع شملول، وباتت صبيحة مع أخيها صميدة، ودعا محروس إلى الفرح بعد أسبوع من مجيء محمود، ولم يكلفهم هذا الفرح شيئا، فقد تعاون أبناء الصعيد بروض الفرج في إقامة الفرح، وعرف الجميع العروسين الجديدين، وعرف العروسان أبناء الصعيد في المنطقة.
ومر أسبوع آخر ترك فيه محروس العروسين يستمتعان بعرسهما، ثم ... - وبعد يا شملول. - نعم. - نفكر فيما نحن مقبلون عليه.
وقال صميدة: أنت رئيسنا هنا. - اسمعوا نحن قيمتنا هنا بعملنا. - طبعا. - الفلوس تذهب الآن إلى البنك ونودعها. - كلها؟! - تقريبا. - وبعد؟ - أعددت لكل منكم عملا. - لكل منا؟ - شملول سيعمل في محل سليم الخشت لبيع الفاكهة بالزمالك، حتى يتعلم هذه الحرفة.
ويقول محمود: ونعم العمل! خاصة وهو يجيد القراءة والكتابة.
ويقول محروس: وأنت يا محمود وأنت يا صميدة ستعملان معي في المقاولات. فأنا لن أجد أحدا أطمئن إليه مثلكما. وبعد وقت قليل سأجعل كلا منكما يتولى مقاولاته الخاصة به.
وهكذا استقر المقام بالقادمين، وعرف كل منهم طريقه الواضح في الحياة.
9
حين حصل سامي على الابتدائية جلس إلى أبيه جلسة عرف بها الأب أن في نفس ربيبه أمرا يريد أن ينفضه على مسامعه. ولم يعجب الأب من تلك النظرة التي اتسمت بها عينا سامي منذ فترة؛ فقد تعود عليها. كان سامي إذا جلس إلى أبيه نظر إلى السماء حذرا أن تلتقي عيناه بعيني أبيه، ولم يعد الأب يعجب، ولكنه لما يزل جاهلا ما تعنيه هذه النظرة، ولا يجد لها سببا.
منذ عرف سامي ما عرف من أمر أبيه انشطرت نفسه شطرين، فهو ابن يكن لأبيه، أو لمن يظن أنه أبوه، كل العواطف التي تجيش في نفس ابن قبل أبيه من حب وشكر وولاء. وهو كإنسان تعلقت روحه بأسباب السماء، وأحب الله حتى تفانى في هذا الحب، يرى أن ما يصنعه أبوه بالناس إجراما واعتداء على حقوق الله، وعلى إنسانية الإنسان الذي جعله الله أكرم مخلوقاته. وكان في نفسه يتساءل لماذا يمتحنه ربه هذا الامتحان العسير؟ ويمزق مشاعره هذا التمزق، والله هو العدالة المطلقة؟ وهو سبحانه المطلع على القلوب، وهو سبحانه يعلم كم يفنى سامي في حب الله اللطيف الرحمن!
وفي هذه الحيرة كان سامي يتحرى دائما إذا جلس إلى أبيه ألا ينظر إليه عينا بعين؛ فقد كان يمثل في نظره تناقضا غير منسجم مع طبيعة الأمور، كيف يكون أبا حانيا، وزوجا بارا في بيته؟! وكيف يدمر حياة الناس الذين هم مثله آباء وأزواج وأخوة وأبناء؟!
Unknown page
قال زين لابنه: أراك تريد أن تقول شيئا؟
وقال سامي ونظرته معلقة بالسماء لم تزل: نعم يا أبت. - فقل. - أريد أن أتلقى تعليمي الإعدادي بالمركز. - ولماذا؟ - إنني أعد نفسي لأكون صاحب شهادة عالية، وأريد منذ هذه المرحلة التي أنا فيها أن أتلقى تعليمي على أحسن المصادر المتاحة. - وترى أن المدرسة الإعدادية هنا لا تصلح لذلك؟ - إنني هناك سأكون متفرغا للدراسة، كما أنني سأكون قريبا من المكتبة، وأستطيع أن أحصل على ما أشاء من كتب، والمركز قريب على أية حال! - ولكنك بهذا ستكون وحدك! - إذا سمحت لي صحبت معي أخي مأمون، فكلانا لا يترك صاحبه، وهو أيضا هناك سيكون تعليمه خيرا من هنا. - ومعنى ذلك أن تصحبك أمك؟ - هذا إليك. - أتريد أن تتركني وحدي؟ - يا أبي أنت مشغول بعملك. - أليس من حقي أن يكون لي بيت؟ - إنك لا يمر عليك أسبوع دون أن تذهب إلى المركز مرة أو مرتين، والتليفون موجود تستطيع أن تطلبنا وقتما تشاء. - هل أنت مصمم؟ - أما أنا فمصمم، نعم، ولكن الأمر الأخير لك.
عجيبة تلك المشاعر التي كانت تداخل نفس زين من ربيبه سامي، إنه كان يحس نوعا من الرهبة، وهو يتحدث إليه، أهي رهبة المخطئ أمام النقاء، أم أن في سامي هذا سرا خفيا يفرض الإجلال على من يتحدث إليه حتى ولو كان هذا المتحدث أباه الذي إن لم يكن قد ولده، فهو الذي تلقفه وليدا وشمله برعايته، حتى أصبح هذا الفتى المهيب في هدوء، الجليل في تواضع، كان زين واثقا أنه لن يستطيع أن يرفض طلب ولده، وكل ما استطاع أن يفعله. - إذن أرسل معكما خادمة ترعى شأنكما وتتركان أمكما لي. - هذا إليك. - ولكن والدتك لن تقبل. - أحسب هذا. - فلنسألها. •••
وذهبت الأم وابناها إلى بيت استأجره لهما زين، واستقرت بهما الحياة هناك، وصحب الجميع فواز الشيمي الذي ظل يرافق سامي إلى المدرسة منذ اليوم الأول لدراسته، والذي يحبه سامي ويرعاه، حتى أصبح معروفا في بيت العمدة أنه مخصص لسامي ثم لمأمون كليهما. وقد ارتأت رتيبة أن وجود فواز معهم هام، حتى يشتري لهم مطالب البيت، وصحبت معها طبعا ابنتها عزيزة، واستقر بهم البيت الجديد في المركز، وركب لهم التليفون أيضا ففي المراكز مشكلة التليفون ليست في عسرها بالبنادر والمدن. واستطاع سامي أن يحصل على ما يشاء من كتب، وجعل أخاه مأمون يقرأ معه، فأصبح كل منهما نسيجا وحده بين التلامذة. وأحس التلاميذ أن سامي وأخاه مأمون من صنف آخر غيرهم، وساد بينهم هذا الشعور الذي يختلط فيه الإعجاب والإكبار بالغيرة والحسد والشعور بالتنقص، ولكن التلاميذ على كل حال لم يكن يبدر منهم إلا الود، وإن طفر الحقد على وجه بعضهم، فما يلبث أن يمحى ويعود أدراجه إلى خفايا الضمائر، ويستتر هناك لا يعلم أمره إلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
حصل سامي على الإعدادية بتفوق ، وانتقل إلى المرحلة الثانوية، وحاله تجاه أبيه على ما هي عليه، وحيرته من العذاب الذي ألقاه أبوه إليه كما هي، يسأل ربه كل حين: لماذا يا إلهي هذا العذاب الذي أنا فيه؟ يسأل ربه كل حين، أنت تدري يا إلهي كم أحبك، وكم أطيعك، وكم أفنى في حبي، فلماذا؟!
وفي ليلة أخذه النعاس، وهو في هذه الحال من التهجد والمساءلة، فرأى في منامه عجبا.
رأى شيخا مهيبا وجهه كله صلاح وتقوى ونور يركب البحر، ولكن مركبه فيه ليس سفينة ولا هو قارب، وإنما حوت ضخم يشق به العباب، ويأتمر بأمره، ولم يكن حين يأمره يحدثه، وإنما كان الحوت يدري ما يريد سيده، فيأتمر بأمره بصورة تلقائية لا يعرف الناس لها مثيلا.
ويظل الشيخ النوراني سائرا في البحر، وسامي معه يصاحبه، وقد اطمأنت نفسه، وأصبح في سعادة سماوية لا يحسها إلا حين يقرأ القرآن، وبينما الشيخ النوراني على حوته يشق الماء شقا. عرضت له سفينة ضخمة، فإذا هو يخطو خطوة فيصبح فوق السفينة والحوت يسير بجانبها، ولا ينظر ركاب السفينة إلى الشيخ، وكأنه ما شاركهم مركبهم، بل هم حتى لا يرون الحوت، ولا يحسون من أمره شيئا. وإذا الشيخ النوراني يصنع صنيعا يذهل له سامي ذهولا مفجعا. إن الشيخ الرباني يخرق السفينة ويتلفها، وحينئذ فقط يتنبه الركاب إلى ما حدث بمركبهم دون أن يروا الشيخ أو يشعروا به.
ويصيح به سامي: أتخرق السفينة لتغرق أهلها؟ أهذا عدل؟ أيعقل أن شخصا في عظمتك يصنع هذا الصنيع؟
وينظر إليه الرجل الرباني ولا يكلمه، وإن كان يبدو عليه أنه سمعه، ويلح سامي في استنكار ما رأى. - إنك رجل نوراني ... إنك رجل رباني ... أمعقول هذا الذي تفعله؟ وكان الشيخ قد استقر على الحوت، فنظر إلى سامي نظرة هادئة مطمئنة، وابتسم له، فكأنما أشرق عن فمه ضياء فجر، ومشى به الحوت وسامي معه لا يدري كيف يتسنى له أن يكون في رفقته.
Unknown page
ورسا الحوت إلى أرض مدينة، وخرج الشيخ النوراني، ومضى في طريق بين بيوت، وإذا بغلام مقبل عليه حتى إذا اقترب منه وأصبح بين يديه إذا به يضربه ضربة صاعقة فيقتله، ويحيط الهول الآخذ بسامي ويتملكه الذهول، وتكاد الدهشة أن تعقد لسانه، ولكنه جاهدها، حتى استطاع أن يصيح بالشيخ في استنكار شديد: أتقتل نفسا زكية بغير نفس؟ أهذا عمل يرضاه الله؟ أهذا معقول؟ لقد كنت أحسبك ربانيا!
ولم ينظر إليه الشيخ، وكأنه ما سمعه وصاح سامي ثانية وثالثة ورابعة. فنظر إليه الشيخ وابتسم تلك الابتسامة المشرقة بالنور، وصمت سامي.
وركب الشيخ حوته، ومضى طريقه حتى بلغا قرية نزل بها الشيخ واختفى الحوت. ورأى الشيخ جماعة كبيرة من الناس فاقترب منها، وقال في مسألة وفي اعتزاز لم يزل يحتفظ به: ألا أجد عندكم طعاما؛ فقد مسني التعب ولا أجد هنا طعاما.
فأشاح عنه الناس، وكأنهم ما سمعوا مسألته.
وانصرف الشيخ عنهم ومضى طريقه من القرية في هدوء من يعرف مقصده. وبلغ الشيخ جدارا يهم بالسقوط، فراح يصلح شأنه ويقومه، حتى أصبح ثابتا قويا.
فقال سامي: هذه أول حسنة أراك تصنعها، ولكنها أيضا عجيبة أيرفض أهل القرية إطعامك، فتصلح لهم حائطا يوشك أن ينقض؟ ألم يكن يجدر بك أن تطلب منهم أجرا جزاء ما صنعت.
ونظر إليه الرجل وابتسم، ثم رجع إلى الحوت فركبه، وبلغ صخرة رسا عندها الحوت، فنزل الرجل النوراني، وجلس عليها، وأشار إلى سامي فقدم إليه والذهول لا يزال يحيط به، وأومأ إليه الرجل، فجلس سامي، وأراد سامي أن يعود إلى استنكاره، ولكن الرجل النوراني سارع قائلا: اسمع حتى يطمئن قلبك؛ أما السفينة فهي لقوم مساكين لا حياة لهم إلا بالعمل في البحر. - أوهذا سبب يجعلك تخرقها وتغرقها؟ - بل إني أنقذها. - لا أحسب أن مع الخرق إنقاذا! - بل هو الحق، فإني أردت أن أعيبها عن عمد؛ لأن ملكا ظالما كان قادما من خلف السفينة بأسطوله، وكان يستولي على كل سفينة يجدها غصبا. وأمرني الله أن أخرق هذه السفينة، حتى يراها الملك الطاغية وكأنها ستغرق فيتركها لأصحابها المساكين. - وهل سلمت السفينة؟ - ولم يأخذها الملك اللص .
وهم سامي أن يفتح فمه، فإذا بالشيخ يقول: تريد أن تسأل عن الغلام؟ - أمعقول هذا؟! - إن أبويه مؤمنان قريبان إلى ربهما كل القرب. - أصبحت المصيبة أعظم. - بل انتظر ... إن هذا الابن كان سيرهقهما ويسيء إليهما، ويلاقيان منه الشقاء والعقوق والعدوان، فأردنا أن يهب لهما ربهما خيرا منه ابنا زكيا بارا يصل الرحم، ويكون لهما على الحياة عونا، ولا يكون عونا للحياة عليهما. - ولكن الأبوين سيحزنان لموت ابنهما فهما لا يدريان أنهما كانا سيجدان من ابنهما هذا عقوقا ونكرا. - إن حزن عام أو عامين خير من نكد الدهر كله، وما أدراني وما أدراك؟! لعل الله يكتب لهما مزيدا من الخير جزاء صبرهما على الجزع الذي أحاط بهما لموت الغلام! - أصبت و... - تريد أن تسأل عن الجدار؟ - نعم. - أتخيلت أنني أريد من الناس طعاما وأنا في حمى الله؟ - دهشت لهذا. - أنا أردت أن أمتحن كرم هؤلاء الناس، فكانوا عندما توقعت منهم بخلا وشحا. - والحائط الذي أقمته؟ - إنه لغلامين يتيمين في هذه المدينة، وإن تحته كنزا، وقد كان أبوهما رجلا صالحا، فشاء ربك في علياء سمائه أن يبلغ الفتيان أشدهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وإكراما لعباده المؤمنين. وأنا يا بني لا أفعل ما أفعل مختارا، فما صنعت شيئا مما صنعت عن أمري. - باركك الله أيها الشيخ الرباني! سلام عليك. - إلى أين؟ - أعود. - بل انتظر. - إذا أمرت. - فاجلس. - أمرك. - ألم تكن تسأل ربك لماذا جعلك شقيا بأبيك وأنت على ما أنت عليه من حب الله وطاعته؟ - لا أعجب الآن حين أجدك تعرف هواجس نفسي. - أعرفت الآن؟ - إن قلت نعم، عرفت أنت أنني لم أصدقك القول. - يا بني، إن عدالة السماء لا صلة لها بعدالة الأرض. إن الإنسان في دنياه هذه الضيقة لا يستطيع أن يصل إلى عدالة السماء، ولكن الإنسان حين يؤمن إيمانك يثق أن الله وهو العدالة المطلقة لا يريد بالناس إلا خيرا. وقد رأيت المركب قد خرقت، ولكن الله أنقذها من السلب. ورأيت الغلام قد مات، والموت ليس عقابا لمن مات ، وقد نقله الله إلى جواره قبل أن يسيء إلى والديه، وقبل أن يصبح جبارا شقيا، فموته إذن رحمة به وثواب لوالديه، أهذا النوع من العدالة المطلقة يعرفه البشر. والجدار حفظ به للأسرة المؤمنة كنزا أراد سبحانه أن يظهر في الوقت الذي قدر سبحانه أنه أحسن الأوقات لهما. فعدالة السماء يا بني هيهات لبشر أن يدركها، وإنما علينا فقط أن نؤمن بها، ونؤمن أنه الرحيم الرحمن اللطيف الخبير. هيه يا بني أوجدت جوابا لسؤالك؟
وصحا سامي من نومه وعيناه تفيضان بالدمع وتوضأ وصلى، ثم صلى، ثم صلى. يدعو ربه ويشكر آلاءه عليه. سبحانك ربي، فأنا إذن أثير عندك قريب منك. عبدك، أنا أعاهدك يا رب العالمين أن أكون حتى ألقاك العبد الشاكر العامل في طاعتك، أصحب أبي بمعروف، وأرد ظلمه عن الناس بكل ما أملك من الإيمان والقوة التي وهبت لي. اللهم أعني على اتباع أوامرك، وعلى رفع الظلم عن المظلوم. وعلى رد الحق إلى أصحابه إنك أنت العزيز ذو القوة المتين، اللهم لقد بلوتني لتختبرني بما يفعل أبي، اللهم أنت القائل:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، اللهم فاجعلني من أولئك الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، فقد قلت عنهم سبحانك:
Unknown page
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
10
ما لبثت صبيحة أن أنجبت لشملول ابنهما الأول فالثاني، وما لبث شملول أن أصبح صاحب متجر خاص به، فهو ذو ثراء عريض. ولم يمض كثير وقت حتى أصبح صميدة ومحمود من المقاولين الواسعي الثراء، وأصبحت الحياة بالنسبة للمهاجرين جميعا واضحة المعالم، بينة السمات.
ودخل ماهر ومختار ولدا شملول إلى المدرسة، وانتظما في السلك الدراسي، وسار خطواتهما الدراسية في توفيق. •••
وازداد سعار العمدة زين الرفاعي، وفشا رجاله في المنطقة جميعها يفرضون ما يشاء زين من أوامر. وكان زين ذكيا فهو يجزل العطاء لمعاونيه، ويعاملهم في كرم باذخ وإسماح .. لماذا هذا المال؟ .. لمن؟ .. لولدي سامي ومأمون .. ماذا؟ .. ماذا .. ما قلت؟ .. سامي؟! أتختلق الكذبة وتصدقها؟ وهل سامي ابنك؟ هكذا أثبته في شهادة الميلاد .. أتساوي إذن بينه وبين ابن دمك؟ .. وماذا بيدي أن أصنع؟ وكيف أفرق بينهما في المعاملة؟ .. لا أحد يعلم أن سامي ليس ابني إلا عزيزة، وقد حافظت على السر لم تخنه .. وهي تعلم سطوتي وجبروتي، ولن تفكر يوما أن تخون سري .. إذن كيف أستطيع أن أفرق في المعاملة بين سامي ومأمون؟ .. لا سبيل أمامي .. ومن أين كنت أعلم أنني سأرزق بطفل من رتيبة؟ وهل كنت أتصور حين جاءت رتيبة إلى بيتي لترضع سامي أنها ستصبح زوجتي وأم ابني الحقيقي؟ عجيب أمر رتيبة .. إنها تعامل سامي كما لو كان ابنها شأنه شأن مأمون، بل إنها أحيانا تفضل سامي في المعاملة بمقولة أنه الأكبر. إن شأن سامي هذا عجيب هو أيضا، أي سر فيه يجعلني وأنا لست أباه أشعر كأنني حقا أبوه، حتى إنني كثيرا ما أنسى أنني اصطنعته اصطناعا واستجلبته من حيث لا أدري محاولا أن أرضي غريزة الأمومة في زوجتي. وقد تلقفته طفلا في يومه الأول، ثم أنا بين يديه أحس رهبة، وتروعني من حوله هيبة لا تطالعني من أحد. وأنا رجل لم أعرف الخوف من أحد. لقيت من لقيت من كبار رجال المديرية، بل والدولة، فما استطاع أحد منهم أن يلقي في نفسي لمحة من رهبة. وأنا في منطقتي جميعا أنا الرهبة والخوف، يرتجف أشجع رجالها هلعا إذا سمع اسمي، فأي شيء في هذا الفتى الذي شهدته رضيعا وطفلا وصبيا يجعلني أخشى أن أواجهه؟ وأحاذر كل الحذر أن يعلم عني ما أشيعه من الهول والذعر في أنحاء الربوع التي تجاور بلدتي؟! وما له وهو أمامي وهو واثق كل الثقة أنني أبوه، وليس له من أب غيري. ما له لا يتولاه هو الرهب، ويتولاني أنا؟ وما له لا يخشاني، بينما أحس أنا أنني أخشاه؟ أيكون هذا لنقائه وعلمه وصدقه وثباته وإيمانه العميق بالله، ووثوقه بنفسه ثقة لا تتاح إلا لمن عرف الطريق وسار عليه؟!
كم من صادقين لقيتهم، ولكنهم لم ينالوا ما يناله سامي في نفسي من إجلال، بل إن مأمون أيضا ينال مني هذا الإجلال وهو ابن دمي، ولكنه لصيق بأخيه لا يكاد يفارقه، فهو يتشبه به في كل شيء، حتى في إشاراته ولفتاته، وحتى لقد اكتسى وجهه بهذا الوقار الذي يكسو وجه أخيه. وهو يقدس كل ما يفعله أخوه، فكأن الفارق بينهما عشر سنوات، وليس سنتين. ما شأن هذين الأخوين، وما لي أحس من كليهما رهبة تجعلهما غريبين عني؟! وأحدهما جزء مني والآخر ربيبي الذي لا يعرف لنفسه أبا غيري.
أيكون ما أصنعه من مال لأجلهما؟ .. لا .. ما أظن .. ربما خادعت نفسي، وقلت إنني أكون لولدي ثروة، ولكني أعلم في البعيد في نفسي أنني أصنع ما أصنع عن رغبة عاتية في السلطان والجبروت. والمال أساس خطير من أسس الجبروت، ونتيجة محتمة للسلطان إذا جاء من البطش والطغيان. وقد استطعت بقوتي أن أقتل في نفسي كل شفقة إلا على أهل بيتي. وما دمت قد تخلصت من ضعف الشفقة، فأنا قادر أن أصنع ما أريد لا يردني شيء.
إن رغبة السلطان الجارفة التي تموج بين أضالعي هي التي ترسلني كالإعصار في أرجاء الحياة، وليس ولدي.
أيقاوم الإنسان قدره؟ .. أيحارب الإنسان سجيته؟ .. هكذا أنا، وهكذا أحب أن أكون.
11
Unknown page
كان سامي قد بلغ نهاية المرحلة الثانوية، وأدى امتحان الشهادة، وفي يوم ظهور النتيجة ذهب مع مأمون ليتعرفا عليها. وكان فناء المدرسة حاشدا بالطلبة، والجلبة شديدة، والتلاميذ في حلقات منها المتسعة ومنها قليلة العدد. وسامي بين رفاق له يجري بينهم الحديث هينا وهو يسمع أكثر مما يتكلم. وفجأة رأى سامي حلقات تنضم، واثنين متماسكين في معركة عنيفة. وأنعم النظر، فإذا مأمون أحد المتعاركين وخصمه يكيل له الضربات ويهم سامي إلى أخيه، وقبل أن يصله يكون مأمون على الأرض، وقد ارتمى خصمه عليه يضربه في غير هوادة ولا رحمة، ويصل سامي إلى مكان المعركة، ولا يسأل ولا يفكر، وإنما يرفع ذلك الخصم في ثبات، ويحمله وكأنه يحمل ورقة، ويلقي به، وكأنما يلقي حصاة اعترضت طريقه، ومال على أخيه فأقامه، وهو يسأل في هدوء وكأنه لم يصنع ما جعل الطلبة متجمدين من الهول والذهول. - ماذا حدث؟
ويقول مأمون لاهثا: راح يذكر أبي بسوء دون أي سبب.
وقبل أن يجيب سامي يتصايح الطلبة: الحقوا ... أسرعوا ... منيب ... منيب.
ويلتفت سامي إلى الصائحين: من منيب؟
وتتكاثر الأصوات، وتتقاطع الكلمات، ويفهم سامي بصعوبة أن منيب هو اسم الفتى الذي ألقى به عن أخيه. - ما له؟ - مات. - ماذا؟ - مات.
ويؤخذ سامي على غرة ولا يتريث، بل سرعان ما يشق جموع الطلبة الزاحفة، وكأنه يزيح شخوصا من هباء، ويصل إلى باب المدرسة بين حيرة المشاهدين وذهولهم، ويخرج يجري في سرعة الومض حتى يصل إلى محطة السكك الحديدية، ويسأل سائق التاكسي الواقف في انتظار القادمين: ما أول قطار إلى مصر؟ - بعد دقيقتين. - لماذا لم يصل إذن إلى المحطة؟ - سلامتك يا أستاذ ها هو ذا واقف على ...
وقبل أن يكمل السائق جملته يكون سامي في القطار دون أن يشتري تذكرة، ودون أن يفكر إن كان ما في جيبه يكفي ثمنا للتذكرة أم أن ما معه لا يكفي، ويتحرك القطار. - إلى أين؟ ما هذا الذي فعلته؟ أقتل إنسانا وأهرب؟! كأني إذن أبي، ما الفارق بيني وبينه؟ لماذا نلوم الناس ونفعل فعلهم؟ ألم يكن الأجدر بي وأنا الذي أوثق أسبابي بالسماء، وأقرأ ما أقرأ أن أكون أكثر هدوءا وروية؟ نعم أعلم أنني لم أتمالك نفسي، وأنا أرى أخي يكاد يموت تحت هول الضربات، ولكن أي فارق بيني وبين الحيوان إذا أنا تركت مشاعري تتحكم في دون أن أحيطها بسياج التعقل والتفكير؟ أليس بالعقل وحده فضل الله الإنسان على سائر المخلوقات؟ فما فائدته إذن إذا لم يجعلنا نتروى عند غضب، ويعصمنا عند ثورة، ويدرأ عنا عادية المعاصي؟ وهل هناك أكبر من القتل؟ إنني كأنني قتلت الناس جميعا، ويل لي أي ويل، ويل لي من الله، فوحق الإله سبحانه إنني لا أخشى غير سخطه، وإنني وحق الإله سبحانه لا أخشى الموت، وإنما أخشى الله، فأنا كادح إليه فملاقيه سبحانه، وإنه ملق بي إلى حيث العصاة. - أكنت حين جريت وهربت عبدا ثائبا؟ - أنا لم أبدأ في إعمال العقل إلا حين تحرك القطار، أي إنسان أنا؟ بل إنني أنا الإنسان الذي قال عنه خالقه:
قتل الإنسان ما أكفره ، أنا الإنسان بكل شروره وطغواه وجبروته، إن صلاتي ونسكي وصيامي وحبي لربي، وعلمي وثقافتي، كل هذا لم يجعلني أتصرف كما ينبغي أن يتصرف العقلاء! غائب العقل كنت حين ألقيت بالفتى وغائب العقل حين جريت، وغائب العقل حين ركبت القطار. والآن ها أنا ذا أعود إلى عقلي ويعود إلي ... أفتراني أستطيع أن أنزل عند أول وقفة للقطار، وأقفل عائدا إلى حيث كنت؛ لأتحمل نصيبي من العقاب، ولأواجه آثار ما قدمت يداي. - هل أستطيع؟ - ولم لا؟ - وما لي لا أفعل؟ - إذن فهلم. - هلم.
ووقف وكان القطار سائرا، فقعد ينتظر وقوف القطار، وحين استقر به المقام ... إلى أين؟ وكيف أعود إلى قوم ثائرين؟ - وما لي لا أفعل؟ - ليس مع ثورتهم منطق. - وفيم تريد المنطق؟ - أوليس هو الحكم الطبيعي بيني وبينهم؟ - أي حكم؟ إنك قتلت وعقوبة القتل هي القتل، ففيم تريد المنطق؟ لا تخفيف في عقوبة القتل، لا تخفيف في عقوبة القتل؟ إذن أعود، وإذن أقتل .. وإذن ... وألقى عليه النوم بقوة لا قبل له بها، ولا يد له فيها. وتجلى له الشيخ النوراني صاحب الحوت. - لا تعد. - أليس من الطبيعي أن أواجه عقابي؟ - أي عقاب؟ - عقاب القاتل. - أقتلت عن عمد؟ - لا ... لا طبعا أعوذ بالله. - إذن فلست القاتل الذي يعاقب بالإعدام. - ولكنني أعلم أنني أملك قوة جسمانية خارقة وهبها الله لي، وكان ينبغي أن أتحسب حين أضطر إلى استعمالها. - هل كنت في تمام وعيك حين فعلت ما فعلت؟ - كان إنقاذ أخي هو كل ما أفكر فيه. - وقد تصرفت بما أنقذ أخاك؟ - نعم. - ولم تتصور أنك قد تقتل زميلك؟ - لا. - إذن فلا بد من مناقشة هذا جميعا قبل أن يقع بك العقاب. - مع من أناقشه؟ - مع كل الذين يسألونك. - صاحب الثأر لا يسأل. - إذن لا تعد. - ولكنني أنا أسائل نفسي. - هل كنت تريد قتله؟! - أعوذ بالله العلي العظيم . - إذن لا تعد إلا حين تعلم أنك تستطيع أن تجادل الذين سيواجهونك. - لا جدال معهم. - إذن لا تعد. - أظل هاربا؟ - وما تعلم نفس ماذا تكسب غدا. - ولكني قتلت. - عن غير عمد. - الموت شيء فظيع. - ليس كما تظن. - ألم يجعل الله منه قصاصا؟ - إن القصاص ليس في الموت نفسه، وإنما في العلم به. - إنه قصاص. - إن الساعات التي يعلم فيها القاتل أنه سيقتل جزاء ما فعل هي القصاص الحقيقي، أما الموت نفسه فشهيق لا يعقبه زفير، أو زفير لا يعقبه شهيق. إنما الموت لحظة، لمحة، ومضة لا أكثر ولا أقل. - وحزن الأهل. - أسف وتشوق، ولكنهم يعلمون أنهم جميعا لاحقون بعزيزهم. - ألا يطهرني القصاص من الخطيئة؟ ألا يجعلني احتمال العقوبة مغفورا لي عند ربي؟ - إنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وهو وحده من يعلم أين يضعها. قد يغفر لك دون أن يقع بك القصاص، وقد لا يغفر لك وإن وقع بك القصاص، وهو وحده الذي يغفر، وهو العدالة المطلقة.
12
Unknown page
بلغ سامي القاهرة، ونزل من القطار لا يعرف مقصدا ولا متجها، وإنما هو يسير على الرصيف، ويخرج به إلى الساحة، ويقف لحظات على سلم المحطة، وتتناوشه الأيدي والأكتاف وخطوات الآخرين الذي يعرف كل منهم طريقه ووجهته. ويزوغ منه البصر، ويعلو به وجيب قلبه، حتى ليطغى على السمع منه والبصر، وتتدافعه الأيدي في عنف يزداد في لحظة عن اللحظة السابقة، ويجد نفسه آخر الأمر قد نزل السلم، ويحاول الوقوف على الرصيف، ولكن حركة الركاب تجرفه، ويضطر آخر الأمر أن يفيق، وينتزع نفسه انتزاعا من مجرى الزحام، وينتحي من ساحة المحطة ناحية هادئة بعض الشيء.
ماذا أنا صانع؟ وإلى أين بي المسير في هذه القاهرة الضخمة، وكل علمي بها أن ساكنها ضائع فيها؟ فما خطبي أنا وأنا لم أرها إلا اليوم؟ وهل رأيت منها شيئا إلا دفاع أقدام ينتهبون الأرض بخطاهم كأن الإنسان منهم يجري وراء عمره، خاشيا أن يضيع منه في الزحام.
كل ما معي عشرون جنيها، ماذا أنا صانع بها؟ أتراني ضعت من الحياة؟ سبحان الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون
صدق الله العظيم.
إن معي إيماني بالله، ويقيني به يقيني، ومعي قوة الجسم، ومعي شجاعة القلب، ومعي ثقتي أن الله لا يضيع عباده المخلصين، وأي سلاح أقوى من هذه الأسلحة التي أتحصن بها؟!
وما لي لا أمشي في مناكبها، وأرى ماذا هي صانعة بي؟ وماذا أنا صانع فيها؟ هلم المسير.
ومشى وعبر الساحة، وخرج من الباب، وترك قدميه تختاران الطريق يتبعهما ولا يأمرهما، وقد أحس أن العقل لا عمل له الآن، وإنما النظرة وحدها هي التي تتحكم في كيانه .. وفي لحظة أحس أنه يتبع شيئا لا يدريه، وأن خطواته استقامت على طريق من الهدى لا يدري مأتاه. سارع في شارع إبراهيم، وكأن قوة عليا تحركه، والغريب في أمره أنه لم يحاول أن يتعرف معالم الطريق ولا الأسماء التي تحملها اللافتات على جانبي الشارع، إنما هو يمشي، وكأنما ولد بهذا الشارع، وكأنه يعرف كل خافية من خوافيه. وطال به الطريق وهو يحس طوله، ذاهل هو عن المكان والزمان، وإنما يمشي، ثم وقف.
ثم نظر.
لافتة كتب عليها شركة تعمير سيناء، صعد السلم، ودلف في شقة ذات بهو واسع عريض، يجلس في صدره على مكتب صغير رجل في أواسط العمر قصد إليه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام يا ابني ورحمة الله وبركاته. - أليست هذه شركة تعمير سينا؟ - نعم هي. - لا شك أنكم تريدون عمالا. - هو ما قلت. - فهل أصلح؟ - ماذا تريد أن تعمل؟ - أي عمل. - نحن لا نحتاج إلى أعمال مكاتب. - وأنا لم أقل أنني أريد عملا في مكتب. - أمعقول هذا يا بني. - ماذا تقصد؟ - إن هيئتك تدل على أنك متعلم، وعلى جانب من سعة العيش. - وحدسك صادق في النظرتين. - وتقبل أن تعمل في أعمال البناء الشاقة. - وأرحب بها. - يا ابني لن أناقشك، فلكل إنسان ظروفه، هل معك بطاقة؟ - ها هي ذي. - متى تريد أن تسافر؟ - إن كان هناك عمال سيسافرون اليوم، فما أحب إلي أن أسافر اليوم! - إذن، فأنت ستسافر اليوم. - أكرمك الله! - اقعد هنا، فأنت ستسافر بعد ساعة. •••
Unknown page