Tamhid Tarikh Falsafa Islamiyya
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
Genres
ورتب الشافعي بعد ذلك مراتب الأصول وأنزلها منازلها بما نصه: «نحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بسنة رويت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع، ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود.»
مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة
ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقا مقررا في ذهن مؤلفها، قد يختل اطراده أحيانا، ويخفى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المنظم في فن يجمع الشافعي لأول مرة عناصره الأولى.
وإذا كنا نلمح في «الرسالة» نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية؛ للعناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، وإن لم تغفل جانب الفقه؛ أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية؛ فإنا نلمح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى.
منها هذا الاتجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أولا، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم، وقد يعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها، وينتهي به التمحيص إلى تخير ما يرتضيه منها.
ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم، وحسن التصرف في الاستدلال، والنقض ومراعاة النظام المنطقي، حوارا فلسفيا على رغم اعتماده على النقل أولا وبالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة.
ومنها الإيماء إلى مباحث من علم الأصول تكاد تهجم على الإلهيات أو علم الكلام؛ كالبحث في العلم، وأن هناك حقا في الظاهر والباطن وحقا في الظاهر دون الباطن، وأن المجتهد مصيب أو مخطئ معذور، والفرق بين القرآن والسنة، وعلل الأحكام، وترتيب الأصول بحسب قوتها وضعفها، وقد استدل الشافعي على حجية السنة وما دونها من الأصول؛ فلفت الأذهان إلى حجية القرآن نفسه، وهي مسألة وثيقة الاتصال بأبحاث المتكلمين.
شراح الرسالة متكلمون وفقهاء
وقد أثارت رسالة الشافعي اهتمام العلماء يروونها، ويتناولونها بالشرح وبالنقد، فمن شرحها: محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي المتوفى سنة 330ه/932م. وفي ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» لابن السبكي: «الإمام الجليل الأصولي، أحد أصحاب الوجوه المسفرة عن فضله، والمقالات الدالة على جلالة قدره، وكان يقال إنه أعلم خلق الله - تعالى - بالأصول بعد الشافعي، ومن تصانيفه شرح الرسالة.» وذكر له صاحب «الفهرست» من الكتب في الأصول كتاب «البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام»، وكتاب «شرح رسالة الشافعي»، وقال صاحب «كشف الظنون»: «ومن شروحها - أي «الرسالة» - «دلائل الأعلام للصيرفي».» فجعل الكتاب الأول شرحا للرسالة، وذكر صاحب «الفهرست» من كتب الصيرفي: «كتاب نقض كتاب عبيد الله بن طالب الكاتب لرسالة الشافعي».
ومنهم حسان بن محمد القرشي الأموي أبو الوليد النيسابوري المتوفى سنة 349ه/960م. روى صاحب «الطبقات الشافعية الكبرى» عن الحاكم أنه قال: «كان إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم، وأكثرهم تقشفا ولزوما لمدرسته وبيته.» ولم يشر صاحب الطبقات إلى شرحه لرسالة الشافعي، لكن صاحب «كشف الظنون» ذكره فيمن شرح الرسالة، وذكر الزركشي في «البحر المحيط» شرحه للرسالة فيما عنده من كتب الفن ؛ أي فن الأصول.
Unknown page