Tajdid Carabiyya
تجديد العربية: بحيث تصبح وافية بمطالب العلوم والفنون
Genres
إسماعيل مظهر
حاضر اللغة العربية
تربط اللغة العربية في العصر الحاضر بين شعوب تعد بعشرات الملايين؛ فهي من حيث ذلك عامل قوي عظيم؛ ذلك بأنها قوام الثقافة المشتركة التي تصل أنحاء ذلك العالم الكبير الذي نسميه «العالم العربي»؛ لهذا نرى الشعوب العربية على اختلاف نزعاتها وملابساتها الأجيالية والجغرافية تعمل مجمعة على إحيائها وبعثها من ذلك الركود الذي انتابها نيفا وعشرة قرون، لتلاحق - بما فيها من قوة الحياة - غيرها من اللغات الحية التي يتكلمها شعوب المدنية الحديثة.
وقد نرى أن أهل العلم في هذا الزمان يشعرون شعورا عميقا بما لها من أثر في خلق التصورات الحديثة الملائمة لثقافتهم، والتعبير عن تلك العواطف التي تجيش في صدورهم، والآمال التي تمتلئ بها تصوراتهم، والخلجات التي تهتز لها مشاعرهم، فنراهم وقد فزعوا - كل في الناحية التي يتصل بها - إلى نبش كل ما يتصل بحياة اللغة؛ ليستخلصوا من آثار الماضي المجيد قواعد يتخذونها أساسا لبناء مستقبل أعظم من الماضي وأمجد.
ولقد نجد فوق ذلك أن الناطقين بالضاد منقسمين قسمين: قسما يرى أن القواعد التي وضعها اللغويون واعتبرت المقياس الذي لا ينبغي أن تخرج عليه اللغة، هو الحد الذي يجب أن يقف عنده اجتهادنا، وقسما يرى أن هذه القواعد إن صلحت أن تكون حدا ينتهي عنده اجتهاد أهل اللغة في العصور الأولى، فإن حاجات هذا العصر تحملنا على الرجوع إلى ما وضع أحرار الفكر من اللغويين لنأخذ منها ما يلائم حاجات العصر الذي نعيش فيه، فنوسع من أقيسة اللغة، ونجعلها قادرة على مجاراة اللغات الحديثة من حيث القدرة على الوضع والابتكار.
والبحث يدلنا على أن أئمة اللغويين قد استطاعوا أن يستخلصوا من كلام العرب الأصلاء قواعد انتحوها في وضع مفردات اللغة، منها التعريب والنحت والاشتقاق والزيادة، أي زيادة الحروف على بنية الأصول، والاقتياس: وهو مبحث جديد استخلصته في اللغة، وآمل أن يصلح أن يكون أساسا جديدا ينتحى في وضع الأسماء الاصطلاحية.
وقد يحسن بنا في بداءة هذا البحث أن نشير إلى حقيقة أساء الكثيرون تفسيرها؛ ذلك بأن فئة من الباحثين يقولون: إن القواعد اللغوية التي خلفها السلف من اللغويين قد لابستها حالة من القداسة، أو أنها ألبست ذلك الثوب عمدا؛ اتقاء حالات قامت في عصور مدنيتنا الأولى. والحقيقة أن سلفنا لم يلجئوا إلى تلك القواعد ولم يقرروها إلا لحاجة غلبت على عصورهم، فأرادوا بها رد عادية الرطانة والعجمة عن اللغة. ولقد استطاعوا بكدهم وجدهم وصفاء قرائحهم أن يضعوا للغة سوارا أشد من الصلب مرة، بحيث تقصر عنها هجمات الشعوبيين وأهل العجمة، فحفظوا بذلك هيكل اللغة صافيا وموردها عذبا غير مدنس بأكدار الدخيل من لغات الشعوب التي اختلطت بالعرب بعد القرن الثالث الهجري.
فلقد نظلم سلفنا إذا نحن رميناهم بالجمود أو نسبنا إليهم ظلامية العقل والتفكير، وحكمنا على القواعد التي وضعوها بمقياس حاجتنا في العصر الحاضر، من غير أن نلم بالحالات التي قامت في عصورهم، ولو أننا رجعنا إلى الحالات التي شهدها أهل العربية في أوائل القرن الرابع الهجري ودخول أقوام بعيدين عن العروبة في جسم العالم العربي يستعملون لغة القرآن فيفسدون من كيانها، ويهدمون من بنيتها، حتى لقد طغى على العربية في ذلك العصر مد من العجمة، لرأينا أن السلف الصالح لم يجد من سلاح يقاوم به ذلك الطغيان إلا تلك القواعد التي سور بها اللغة واتخذها حصنا لها حصينا، إذن يكون المذهب القديم - أي مذهب المحافظين من القدماء - ضرورة اقتضتها حالات اجتماعية وسياسية واقتصادية قامت في تلك الأزمان، فهي ليست من طبيعة اللغة العربية كما عرفها العرب وكما استعملها أهل البادية؛ فإنهم في الواقع كانوا أحرارا إلى أبعد حدود الحرية. وما القيود التي اخترعها اللغويون إلا وسائل تذرعوا بها إلى حفظ كيان اللغة، ولا شك في أن الوسائل تتغير بتغير الأزمان.
مشكلات اللغة العربية
من المشكلات الكبرى التي تواجهها اللغة العربية في هذا العصر مشكلة قلما انتبه إليها المشتغلون باللغة؛ ذلك بأنها تتعلق بموضوع غير ذي علاقة بشئون الحياة العامة، تلك الشئون التي يوجه لها الناس جل اهتمامهم، ويصرفون فيها أكثر مجهودهم، ويوجهون نحوها أخص عنايتهم. ولا أقصد بذلك مسألة التعبير عن المصطلحات التي تدل على معان؛ فإن اللغة العربية من حيث هذا كاملة القدرة تامة العدة، بل أقصد مسألة وضع أسماء عربية لأفراد الحيوان والنبات تعين الأشخاص والطبقات المختلفة بما فيها من الفصائل والعشائر والمراتب والأجناس والأنواع، فلقد كثر الجدل في هذا الموضوع، ولم يستقر الرأي فيه على شيء يصح الأخذ به؛ فإن لكل رأي من الآراء رأيا يناقضه، ولكل أسلوب من الأساليب التي قيل بها أسلوبا ينابذه، والأمر فوضى لا ضوابط له ولا حدود ينتحيها المترجم أو واضع الاصطلاح حتى يأمن أن يخرج له ناقد برأي جديد يسفه ما ذهب إليه. وكل ما لا حدود له لا علم فيه؛ فإن العلم أول شيء حدود وضوابط هي أشبه بالمنطق عند القدماء. ومنطق العلم من شأنه البيان والتعيين، فما بالك بمسألة علمية - كالتي نحن بصددها - لم يتفق باحثان على قاعدة واحدة يمكن أن تتخذ أساسا للنظر فيها؟
Unknown page