113

Al-Taḥrīr waʾl-Tanwīr

التحرير والتنوير

Publisher

الدار التونسية للنشر

Publisher Location

تونس

مِنْهُ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فِي التَّشْرِيعِ وَالْآدَابِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِهِ: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمرَان: ٧] هَذَا مِنْ حَيْثُ مَا لِمَعَانِيهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَلِ وَالْمَقَاصِدِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْ أَسَالِيبِهِ مَا أُسَمِّيهِ بِالتَّفَنُّنِ وَهُوَ بَدَاعَةُ تَنَقُّلَاتِهِ مِنْ فَنٍّ إِلَى فَنٍّ بِطَرَائِقِ الِاعْتِرَاض والتنظير والتذليل وَالْإِتْيَانِ بِالْمُتَرَادِفَاتِ عِنْدَ التَّكْرِيرِ تَجَنُّبًا لِثِقَلِ تَكْرِيرِ الْكَلِمِ، وَكَذَلِكَ الْإِكْثَارُ مِنْ أُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمَعْدُودِ مِنْ أَعْظَمِ أَسَالِيبِ التَّفَنُّنِ عِنْدَ بُلَغَاءِ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَقْصُودِ فَيَكُونُ السَّامِعُونَ فِي نَشَاطٍ مُتَجَدِّدٍ بِسَمَاعِهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَبْدَعِ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْبَقَرَة: ١٧- ٢٠] بِحَيْثُ كَانَ أَكْثَرُ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْبَدِيعَةِ الْعَزِيزِ مِثْلِهَا فِي شِعْرِ الْعَرَبِ وَفِي نَثْرِ بُلَغَائِهِمْ مِنَ الخطباء وَأَصْحَاب بدائه الْأَجْوِبَةِ. وَفِي هَذَا التَّفَنُّنِ وَالتَّنَقُّلِ مُنَاسَبَاتٌ بَيْنَ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ وَالْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ هِيَ فِي مُنْتَهَى الرِّقَّةِ وَالْبَدَاعَةِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ سَامِعُهُ وَقَارِئُهُ بِانْتِقَالِهِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِهِ. وَذَلِكَ التَّفَنُّنُ مِمَّا يُعِينُ عَلَى اسْتِمَاعِ السَّامِعِينَ وَيَدْفَعُ سَآمَةَ الْإِطَالَةِ عَنْهُمْ، فَإِنَّ مِنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ اسْتِكْثَارَ أَزْمَانِ قِرَاءَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] فَقَوْلُهُ مَا تَيَسَّرَ يَقْتَضِي الِاسْتِكْثَارَ بِقَدْرِ التَّيَسُّرِ، وَفِي تَنَاسُبِ أَقْوَالِهِ وَتَفَنُّنِ أَغْرَاضِهِ مَجْلَبَةٌ لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ وَعَوْنٌ عَلَى التَّكْثِيرِ.
نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ «سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ»: «ارْتِبَاطُ آيِ الْقُرْآنِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ حَتَّى تَكُونَ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَة متّسعة الْمعَانِي مُنْتَظِمَةِ الْمَبَانِي، عِلْمٌ عَظِيمٌ» وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: «الْمُنَاسَبَةُ عِلْمٌ حَسَنٌ وَيُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ أَنْ يَقَعَ فِي أَمْرٍ مُتَّحِدٍ مُرْتَبِطٍ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ فَإِنْ وَقَعَ عَلَى أَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَقَعْ فِيهِ ارْتِبَاطٌ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ شُرِعَتْ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى ربط بعضه بعض» .

1 / 116