ـ[التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»]ـ
المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: ١٣٩٣هـ)
الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس
سنة النشر: ١٩٨٤ هـ
عدد الأجزاء: ٣٠ (والجزء رقم ٨ في قسمين)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي، وضمن خدمة مقارنة التفاسير]
بَين يَدي الْكتاب (*) _________ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: مبَاحث هَذَا الْبَاب وَهِي (ترجمتان لِابْنِ عاشور، ومبحث عَن تَفْسِيره) لَيست فِي المطبوع وَإِنَّمَا نسختها هُنَا للفائدة
[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم مصطفى عاشور:] (*) (مُحَمَّد الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور التّونسِيّ) كَانَ جَامع الزيتونة مصنعا لرجال أفذاذ قادوا حَيَاة شعوبهم قبل أَن يقودوا حياتهم، فِي وَقت اضْطَرَبَتْ فِيهِ معالم الْحَيَاة، فَكَانُوا منارات للهدى وعلامات لطريق السداد. و«مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور» هُوَ أحد أَعْلَام هَذَا الْجَامِع، وَمن عظمائهم المجددين. حَيَاته المديدة الَّتِي زَادَت على ٩٠ عَاما كَانَت جهادًا فِي طلب الْعلم، وجهادا فِي كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد الَّتِي قيدت الْعقل الْمُسلم عَن التفاعل مَعَ الْقُرْآن الْكَرِيم والحياة المعاصرة. أحدثت آراؤه نهضة فِي عُلُوم الشَّرِيعَة وَالتَّفْسِير والتربية والتعليم والإصلاح، وَكَانَ لَهَا أَثَرهَا الْبَالِغ فِي اسْتِمْرَار «الزيتونة» فِي الْعَطاء والريادة. وَإِذا كَانَ من عَادَة الشرق عدم احتفاظه بكنوزه، فَهُوَ غَالِبا مَا ينسى عمالقته ورواده الَّذين كَانُوا ملْء السّمع وَالْبَصَر، ويتطلع إِلَى أفكار مستوردة وتجارب سَابِقَة التَّجْهِيز، وينسى مصلحيه ومجدديه، وَنبت بيئته وغرس مبادئه!! لم يلق الطَّاهِر تَمام حَقه من الاهتمام بِهِ وباجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وَرُبمَا رَجَعَ ذَلِك لِأَن اجتهاداته تحارب الجمود الْعقلِيّ والتقليد من نَاحيَة، وتصطدم بالاستبداد من نَاحيَة أُخْرَى، كَمَا أَن أفكاره تسْعَى للنهوض والتقدم وفْق مَنْهَج عَقْلِي إسلامي، وَلَعَلَّ هَذَا يبين لنا سَبَب نِسْيَان الشرق فِي هَذِه الفترة لرواده وعمالقته!! من هُوَ؟ ولد مُحَمَّد الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس فِي (١٢٩٦هـ = ١٨٧٩م) فِي أسرة علمية عريقة تمتد أُصُولهَا إِلَى بِلَاد الأندلس. وَقد اسْتَقَرَّتْ هَذِه الأسرة فِي تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش الَّتِي تعرض لَهَا مسلمو الأندلس. وَقد نبغ من هَذِه الأسرة عدد من الْعلمَاء الَّذين تعلمُوا بِجَامِع الزيتونة، تِلْكَ المؤسسة العلمية الدِّينِيَّة العريقة الَّتِي كَانَت مَنَارَة للْعلم وَالْهِدَايَة فِي الشمَال الأفريقي، كَانَ مِنْهُم مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور، وَابْنه الَّذِي مَاتَ فِي حَيَاته: الْفَاضِل بن عاشور. وَجَاء مولد الطَّاهِر فِي عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية الَّتِي تُرِيدُ الْخُرُوج بِالدّينِ وعلومه من حيّز الجمود والتقليد إِلَى التَّجْدِيد والإصلاح، وَالْخُرُوج بالوطن من مستنقع التَّخَلُّف والاستعمار إِلَى ساحة التَّقَدُّم وَالْحريَّة والاستقلال، فَكَانَت لأفكار جمال الدَّين الأفغاني وَمُحَمّد عَبده وَمُحَمّد رشيد رضَا صداها المدوي فِي تونس وَفِي جَامعهَا العريق، حَتَّى إِن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من النَّاحِيَة التعليمية قبل الْجَامِع الْأَزْهَر، مِمَّا أثار إعجاب الإِمَام مُحَمَّد عَبده الَّذِي قَالَ: «إِن مُسْلِمِي الزيتونة سبقُونَا إِلَى إصْلَاح التَّعْلِيم، حَتَّى كَانَ مَا يجرونَ عَلَيْهِ فِي جَامع الزيتونة خيرا مِمَّا عَلَيْهِ أهل الْأَزْهَر» . وأثمرت جهود التَّجْدِيد والإصلاح فِي تونس الَّتِي قَامَت فِي الأساس على الاهتمام بالتعليم وتطويره عَن إنْشَاء مدرستين كَانَ لَهما أكبر الْأَثر فِي النهضة الفكرية فِي تونس، وهما: الْمدرسَة الصادقية الَّتِي أَنْشَأَهَا الْوَزير النابهة خير الدَّين التّونسِيّ سنة (١٢٩١هـ = ١٨٧٤م) وَالَّتِي احتوت على مَنْهَج متطور امتزجت فِيهِ الْعُلُوم الْعَرَبيَّة باللغات الْأَجْنَبِيَّة، إِضَافَة إِلَى تَعْلِيم الرياضيات والطبيعة والعلوم الاجتماعية. وَقد أُقِيمَت هَذِه الْمدرسَة على أَن تكون تعضيدًا وتكميلًا للزيتونة. أما الْمدرسَة الْأُخْرَى فَهِيَ الْمدرسَة الخلدونية الَّتِي تأسست سنة (١٣١٤هـ = ١٨٩٦م) وَالَّتِي كَانَت مدرسة علمية تهتم بتكميل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ دارسو الْعُلُوم الإسلامية من عُلُوم لم تدرج فِي برامجهم التعليمية، أَو أدرجت وَلَكِن لم يهتم بهَا وبمزاولتها فآلت إِلَى الإهمال. وتواكبت هَذِه النهضة الإصلاحية التعليمية مَعَ دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فَكَانَت أطروحات تِلْكَ الحقبة من التَّارِيخ ذَات صبغة إصلاحية تجديدة شَامِلَة تَنْطَلِق من الدَّين نَحْو إصْلَاح الوطن والمجتمع، وَهُوَ مَا انعكس على تفكير ومنهج رواد الْإِصْلَاح فِي تِلْكَ الفترة الَّتِي تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف الَّتِي خلقت منَاخًا ثقافيًا وفكريًا كَبِيرا ينبض بِالْحَيَاةِ والوعي وَالرَّغْبَة فِي التحرر والتقدم. حفظ الطَّاهِر الْقُرْآن الْكَرِيم، وَتعلم اللُّغَة الفرنسية، والتحق بِجَامِع الزيتونة سنة (١٣١٠هـ = ١٨٩٢م) وَهُوَ فِي الـ١٤ من عمره، فدرس عُلُوم الزيتونة ونبغ فِيهَا، وَأظْهر همة عالية فِي التَّحْصِيل، وساعده على ذَلِك ذكاؤه النَّادِر والبيئة العلمية الدِّينِيَّة الَّتِي نَشأ فِيهَا، وشيوخه الْعِظَام فِي الزيتونة الَّذين كَانَ لَهُم بَاعَ كَبِير فِي النهضة العلمية والفكرية فِي تونس، وَملك هاجس الْإِصْلَاح نُفُوسهم وعقولهم فبثوا هَذِه الرّوح الخلاقة التجديدية فِي نفس الطَّاهِر، وَكَانَ منهجهم أَن الْإِسْلَام دين فكر وحضارة وَعلم ومدنية. سفير الدعْوَة تخرج الطَّاهِر فِي الزيتونة عَام (١٣١٧هـ = ١٨٩٦م)، والتحق بسلك التدريس فِي هَذَا الْجَامِع العريق، وَلم تمض إِلَّا سنوات قَليلَة حَتَّى عين مدرسًا من الطَّبَقَة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (١٣٢٤هـ = ١٩٠٣م) . وَكَانَ الطَّاهِر قد اختير للتدريس فِي الْمدرسَة الصادقية سنة (١٣٢١هـ = ١٩٠٠م)، وَكَانَ لهَذِهِ التجربة المبكرة فِي التدريس بَين الزيتونة -ذَات الْمنْهَج التقليدي- والصادقية -ذَات التَّعْلِيم العصري المتطور- أَثَرهَا فِي حَيَاته، إِذْ فتحت وعيه على ضَرُورَة ردم الهوة بَين تيارين فكريين مَا زَالا فِي طور التكوين، ويقبلان أَن يَكُونَا خطوط انقسام ثقافي وفكري فِي الْمُجْتَمع التّونسِيّ، وهما: تيار الْأَصَالَة الممثل فِي الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل فِي الصادقية، وَدون آراءه هَذِه فِي كِتَابه النفيس «أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب؟» من خلال الرُّؤْيَة الحضارية التاريخية الشاملة الَّتِي تدْرك التحولات العميقة الَّتِي يمر بهَا الْمُجْتَمع الإسلامي والعالمي. وَفِي سنة (١٣٢١ هـ = ١٩٠٣ م) قَامَ الإِمَام مُحَمَّد عَبده مفتي الديار المصرية بزيارته الثَّانِيَة لتونس الَّتِي كَانَت حَدثا ثقافيا دينيا كَبِيرا فِي الأوساط التونسية، والتقاه فِي تِلْكَ الزِّيَارَة الطَّاهِر بن عاشور فتوطدت العلاقة بَينهمَا، وَسَماهُ مُحَمَّد عَبده بـ «سفير الدعْوَة» فِي جَامع الزيتونة؛ إِذْ وجدت بَين الشَّيْخَيْنِ صِفَات مُشْتَركَة، أبرزها ميلهما إِلَى الْإِصْلَاح التربوي والاجتماعي الَّذِي صاغ ابْن عاشور أهم ملامحه بعد ذَلِك فِي كِتَابه «أصُول النظام الاجتماعي فِي الْإِسْلَام» . وَقد توطدت العلاقة بَينه وَبَين رشيد رضَا، وَكتب ابْن عاشور فِي مجلة الْمنَار. آراء ومناصب عين الطَّاهِر بن عاشور نَائِبا أول لَدَى النظارة العلمية بِجَامِع الزيتونة سنة (١٣٢٥ هـ = ١٩٠٧م)؛ فَبَدَأَ فِي تطبيق رُؤْيَته الإصلاحية العلمية والتربوية، وَأدْخل بعض الإصلاحات على النَّاحِيَة التعليمية، وحرر لائحة فِي إصْلَاح التَّعْلِيم وعرضها على الْحُكُومَة فنفذت بعض مَا فِيهَا، وسعى إِلَى إحْيَاء بعض الْعُلُوم الْعَرَبيَّة؛ فَأكْثر من دروس الصّرْف فِي مراحل التَّعْلِيم وَكَذَلِكَ دروس أدب اللُّغَة، ودرس بِنَفسِهِ شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام. وَأدْركَ صاحبنا أَن الْإِصْلَاح التعليمي يجب أَن ينْصَرف بطاقته القصوى نَحْو إصْلَاح الْعُلُوم ذَاتهَا؛ على اعْتِبَار أَن الْمعلم مهما بلغ بِهِ الجمود فَلَا يُمكنهُ أَن يحول بَين الأفهام وَمَا فِي التآليف؛ فَإِن الْحق سُلْطَان!! وَرَأى أَن تَغْيِير نظام الْحَيَاة فِي أَي من أنحاء الْعَالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم الْعَقْلِيَّة، ويستدعي تَغْيِير أساليب التَّعْلِيم. وَقد سعى الطَّاهِر إِلَى إِيجَاد تَعْلِيم ابتدائي إسلامي فِي المدن الْكَبِيرَة فِي تونس على غرار مَا يفعل الْأَزْهَر فِي مصر، وَلكنه قوبل بعراقيل كَبِيرَة. أما سَبَب الْخلَل وَالْفساد اللَّذين أصابا التَّعْلِيم الإسلامي فترجع فِي نظره إِلَى فَسَاد الْمعلم، وَفَسَاد التآليف، وَفَسَاد النظام الْعَام؛ وَأعْطى أَوْلَوِيَّة لإِصْلَاح الْعُلُوم والتآليف. اختير ابْن عاشور فِي لجنة إصْلَاح التَّعْلِيم الأولى بالزيتونة فِي (صفر ١٣٢٨ هـ = ١٩١٠م)، وَكَذَلِكَ فِي لجنة الْإِصْلَاح الثَّانِيَة (١٣٤٢ هـ = ١٩٢٤م)، ثمَّ اختير شَيخا لجامع الزيتونة فِي (١٣٥١ هـ = ١٩٣٢م)، كَمَا كَانَ شيخ الْإِسْلَام الْمَالِكِي؛ فَكَانَ أول شُيُوخ الزيتونة الَّذين جمعُوا بَين هذَيْن المنصبين، وَلكنه لم يلبث أَن استقال من المشيخة بعد سنة وَنصف بِسَبَب العراقيل الَّتِي وضعت أَمَام خططه لإِصْلَاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه بِبَعْض الشُّيُوخ عِنْدَمَا عزم على إصْلَاح التَّعْلِيم فِي الزيتونة. أُعِيد تعينه شَيخا لجامع الزيتونة سنة (١٣٦٤ هـ = ١٩٤٥م)، وَفِي هَذِه الْمرة أَدخل إصلاحات كَبِيرَة فِي نظام التَّعْلِيم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد الْمعَاهد التعليمية. وشملت عناية الطَّاهِر بن عاشور إصْلَاح الْكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التَّعْلِيم؛ فاستبدل كثيرا من الْكتب الْقَدِيمَة الَّتِي كَانَت تدرس وصبغ عَلَيْهَا الزَّمَان صبغة القداسة بِدُونِ مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كَمَا رَاعى فِي المرحلة التعليمية الْعَالِيَة التبحر فِي أَقسَام التخصص، وَبَدَأَ التفكير فِي إِدْخَال الْوَسَائِل التعليمية المتنوعة. وحرص على أَن يصطبغ التَّعْلِيم الزيتوني بالصبغة الشَّرْعِيَّة والعربية، حَيْثُ يدرس الطَّالِب الزيتوني الْكتب الَّتِي تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص فِي الْمعَانِي؛ لذَلِك دَعَا إِلَى التقليل من الْإِلْقَاء والتلقين، وَإِلَى الْإِكْثَار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الْفَهم الَّتِي يَسْتَطِيع من خلالها الطَّالِب أَن يعْتَمد على نَفسه فِي تَحْصِيل الْعلم. ولدى اسْتِقْلَال تونس أسندت إِلَيْهِ رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (١٣٧٤ هـ = ١٩٥٦م) . التَّحْرِير والتنوير كَانَ الطَّاهِر بن عاشور عَالما مصلحا مجددا، لَا يَسْتَطِيع الباحث فِي شخصيته وَعلمه أَن يقف على جَانب وَاحِد فَقَط، إِلَّا أَن الْقَضِيَّة الجامعة فِي حَيَاته وَعلمه ومؤلفاته هِيَ التَّجْدِيد والإصلاح من خلال الْإِسْلَام وَلَيْسَ بَعيدا عَنهُ، وَمن ثمَّ جَاءَت آراؤه وكتاباته ثورة على التَّقْلِيد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري. يعد الطَّاهِر بن عاشور من كبار مفسري الْقُرْآن الْكَرِيم فِي الْعَصْر الحَدِيث، وَلَقَد احتوى تَفْسِيره «التَّحْرِير والتنوير» على خُلَاصَة آرائه الاجتهادية والتجديدية؛ إِذْ اسْتمرّ فِي هَذَا التَّفْسِير مَا يقرب من ٥٠ عَاما، وَأَشَارَ فِي بدايته إِلَى أَن منهجه هُوَ أَن يقف موقف الحكم بَين طوائف الْمُفَسّرين، تَارَة لَهَا وَأُخْرَى عَلَيْهَا؛ «فالاقتصار على الحَدِيث الْمعَاد فِي التَّفْسِير هُوَ تَعْطِيل لفيض الْقُرْآن الْكَرِيم الَّذِي مَا لَهُ من نفاد»، وَوصف تَفْسِيره بِأَنَّهُ «احتوى أحسن مَا فِي التفاسير، وَأَن فِيهِ أحسن مِمَّا فِي التفاسير» . وَتَفْسِير التَّحْرِير والتنوير فِي حَقِيقَته تَفْسِير بلاغي، اهتم فِيهِ بدقائق البلاغة فِي كل آيَة من آيَاته، وَأورد فِيهِ بعض الْحَقَائِق العلمية وَلَكِن باعتدال وَدون توسع أَو إغراق فِي تفريعاتها ومسائلها. وَقد نقد ابْن عاشور كثيرا من التفاسير والمفسرين، وَنقد فهم النَّاس للتفسير، وَرَأى أَن أحد أَسبَاب تَأَخّر علم التَّفْسِير هُوَ الولع بالتوقف عِنْد النَّقْل حَتَّى وَإِن كَانَ ضَعِيفا أَو فِيهِ كذب، وَكَذَلِكَ اتقاء الرَّأْي وَلَو كَانَ صَوَابا حَقِيقِيًّا، وَقَالَ: «لأَنهم توهموا أَن مَا خَالف النَّقْل عَن السَّابِقين إِخْرَاج لِلْقُرْآنِ عَمَّا أَرَادَ الله بِهِ»؛ فَأَصْبَحت كتب التَّفْسِير عَالَة على كَلَام الأقدمين، وَلَا همّ للمفسر إِلَّا جمع الْأَقْوَال، وبهذه النظرة أصبح التَّفْسِير «تسجيلا يقيَّد بِهِ فهم الْقُرْآن ويضيَّق بِهِ مَعْنَاهُ» . وَلَعَلَّ نظرة التَّجْدِيد الإصلاحية فِي التَّفْسِير تتفق مَعَ الْمدرسَة الإصلاحية الَّتِي كَانَ من روادها الإِمَام مُحَمَّد عَبده الَّذِي رأى أَن أفضل مُفَسّر لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم هُوَ الزَّمن، وَهُوَ مَا يُشِير إِلَى معَان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص فِي مَعَاني الْقُرْآن. وَكَانَ لتفاعل الطَّاهِر بن عاشور الإيجابي مَعَ الْقُرْآن الْكَرِيم أَثَره الْبَالِغ فِي عقل الشَّيْخ الَّذِي اتسعت آفاقه فَأدْرك مَقَاصِد الْكتاب الْحَكِيم وألم بأهدافه وأغراضه، مِمَّا كَانَ سَببا فِي فهمه لمقاصد الشَّرِيعَة الإسلامية الَّتِي وضع فِيهَا أهم كتبه بعد التَّحْرِير والتنوير وَهُوَ كتاب «مَقَاصِد الشَّرِيعَة» . مَقَاصِد الشَّرِيعَة كَانَ الطَّاهِر بن عاشور فَقِيها مجددا، يرفض مَا يردده بعض أدعياء الْفِقْه من أَن بَاب الِاجْتِهَاد قد أغلق فِي أعقاب الْقرن الْخَامِس الهجري، وَلَا سَبِيل لفتحه مرّة ثَانِيَة، وَكَانَ يرى أَن ارتهان الْمُسلمين لهَذِهِ النظرة الجامدة المقلدة سَيُصِيبُهُمْ بالتكاسل وسيعطل إِعْمَال الْعقل لإيجاد الْحُلُول لقضاياهم الَّتِي تَجِد فِي حياتهم. وَإِذا كَانَ علم أصُول الْفِقْه هُوَ الْمنْهَج الضَّابِط لعملية الِاجْتِهَاد فِي فهم نُصُوص الْقُرْآن الْكَرِيم واستنباط الْأَحْكَام مِنْهُ فَإِن الاختلال فِي هَذَا الْعلم هُوَ السَّبَب فِي تخلي الْعلمَاء عَن الِاجْتِهَاد. وَرَأى أَن هَذَا الاختلال يرجع إِلَى توسيع الْعلم بِإِدْخَال مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُجْتَهد، وَأَن قَوَاعِد الْأُصُول دونت بعد أَن دون الْفِقْه، لذَلِك كَانَ هُنَاكَ بعض التَّعَارُض بَين الْقَوَاعِد وَالْفُرُوع فِي الْفِقْه، كَذَلِك الْغَفْلَة عَن مَقَاصِد الشَّرِيعَة؛ إِذْ لم يدون مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل، وَكَانَ الأولى أَن تكون الأَصْل الأول لِلْأُصُولِ لِأَن بهَا يرْتَفع خلاف كَبِير. وَيعْتَبر كتاب «مَقَاصِد الشَّرِيعَة» من أفضل مَا كتب فِي هَذَا الْفَنّ وضوحا فِي الْفِكر ودقة فِي التَّعْبِير وسلامة فِي الْمنْهَج واستقصاء للموضوع. محنة التَّجْنِيس لم يكن الطَّاهِر بن عاشور بَعيدا عَن سِهَام الاستعمار والحاقدين عَلَيْهِ والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشَّيْخ لمحنة قاسية استمرت ٣ عُقُود عرفت بمحنة التَّجْنِيس، وملخصها أَن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا فِي (شَوَّال ١٣٢٨ هـ = ١٩١٠م) عرف بقانون التَّجْنِيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهَذَا القانون وَمنعُوا المتجنسين من الدّفن فِي الْمَقَابِر الإسلامية؛ مِمَّا أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إِلَى الْحِيلَة لاستصدار فَتْوَى تضمن للمتجنسين التَّوْبَة من خلال صِيغَة سُؤال عَامَّة لَا تتَعَلَّق بالحالة التونسية توجه إِلَى الْمجْلس الشَّرْعِيّ. وَكَانَ الطَّاهِر يتَوَلَّى فِي ذَلِك الْوَقْت سنة (١٣٥٢ هـ = ١٩٣٣م) رئاسة الْمجْلس الشَّرْعِيّ لعلماء الْمَالِكِيَّة فَأفْتى الْمجْلس صَرَاحَة بِأَنَّهُ يتَعَيَّن على المتجنس عِنْد حُضُوره لَدَى القَاضِي أَن ينْطق بِالشَّهَادَتَيْنِ ويتخلى فِي نفس الْوَقْت عَن جنسيته الَّتِي اعتنقها، لَكِن الاستعمار حجب هَذِه الْفَتْوَى، وبدأت حَملَة لتلويث سمعة هَذَا الْعَالم الْجَلِيل، وتكررت هَذِه الحملة الآثمة عدَّة مَرَّات على الشَّيْخ، وَهُوَ صابر محتسب. صدق الله وَكذب بورقيبة وَمن المواقف الْمَشْهُورَة للطاهر بن عاشور رفضه الْقَاطِع استصدار فَتْوَى تبيح الْفطر فِي رَمَضَان، وَكَانَ ذَلِك عَام (١٣٨١ هـ = ١٩٦١م) عِنْدَمَا دَعَا «الحبيبُ بورقيبة» الرئيسُ التّونسِيّ السَّابِق العمالَ إِلَى الْفطر فِي رَمَضَان بِدَعْوَى زِيَادَة الإنتاج، وَطلب من الشَّيْخ أَن يُفْتِي فِي الإذاعة بِمَا يُوَافق هَذَا، لَكِن الشَّيْخ صرح فِي الإذاعة بِمَا يُريدهُ الله تَعَالَى، بعد أَن قَرَأَ آيَة الصّيام، وَقَالَ بعْدهَا: «صدق الله وَكذب بورقيبة»، فخمد هَذَا التطاول المقيت وَهَذِه الدعْوَة الْبَاطِلَة بِفضل مقولة ابْن عاشور. وَفَاته وَقد توفّي الطَّاهِر بن عاشور فِي (١٣ رَجَب ١٣٩٣ هـ = ١٢ أغسطس ١٩٧٣م) بعد حَيَاة حافلة بِالْعلمِ والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي. _________ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: هَذَا المبحث لَيْسَ فِي المطبوع وَإِنَّمَا نسخته هُنَا للفائدة
[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم الْمهْدي بن حميدة] (*) (مُحَمَّد الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور التّونسِيّ) ١- آل عاشور أصل هَذِه الشَّجَرَة الزكية الأول هُوَ مُحَمَّد بن عاشور، ولد بِمَدِينَة سلا من الْمغرب الْأَقْصَى بعد خُرُوج وَالِده من الأندلس فَارًّا بِدِينِهِ من الْقَهْر والتنصير. توفّي سنة ١١١٠هـ وَقد سَطَعَ نجم آخر وَهُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور وَهُوَ جد مترجمنا، ولد سنة ١٢٣٠هـ وَقد تقلد مناصب هَامة كالقضاء والإفتاء والتدريس والإشراف على الْأَوْقَاف الْخَيْرِيَّة والنظارة على بَيت المَال والعضوية بِمَجْلِس الشورى. وَمن أشهر تلاميذه الشَّيْخ مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور وَالشَّيْخ يُوسُف جعيط وَالشَّيْخ أَحْمد بن الخوجة. وَالشَّيْخ سَالم بوحاجب وَالشَّيْخ مَحْمُود بن الخوجة وَالشَّيْخ مُحَمَّد بيرم. وَمن سلالة آل عاشور وَالِد شَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن عاشور وَقد تولى رئاسة مجْلِس إدارة جمعية الْأَوْقَاف ثمَّ خَلفه عَلَيْهَا "أَبُو النخبة المثقفة" مُحَمَّد البشير صفر حَيْثُ عينته الدولة نَائِبا عَنْهَا فِي تِلْكَ المؤسسة وَقد تدعمت الصِّلَة وتمتنت بَين الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور الْجد وتلميذه مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور الْوَزير نتج عَنْهَا زيجة شَرْعِيَّة لابنَة الثَّانِي - مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور - على ابْن الأول - الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور الْجد - وَهَكَذَا تمت أواصر هَذِه العائلة بالعائلات التونسية [١] وَأخذت مَكَانهَا وارتبطت صلَاتهَا فَكَانَت شَجَرَة طيبَة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء تؤتي أكلهَا كل حِين بِإِذن رَبهَا. ٢- مولده ونشأته (١٨٧٩/١٩٧٣) بشّرت هَذِه العائلة الشَّرِيفَة بِوِلَادَة الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بالمرسى ضاحية من ضواحي العاصمة التونسية فِي جُمَادَى الأولى سنة ١٢٩٦ هـ الْمُوَافق لشهر سبتمبر ١٨٧٩م [٢] . نَشأ الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور فِي بيئة علمية لجده للْأَب قَاضِي قُضَاة الْحَاضِرَة التونسية وجده للْأُم الشَّيْخ مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور. فَفِي مثل هَذَا الْوسط العلمي والسياسي والإصلاحي شب مترجمنا فحفظ الْقُرْآن الْكَرِيم حفظا متقنا مُنْذُ صغر سنه وَحفظ الْمُتُون العلمية كَسَائِر أَبنَاء عصره من التلاميذ ثمَّ تعلم مَا تيَسّر لَهُ من اللُّغَة الفرنسية [٣] . ارتحل إِلَى الْمشرق الْعَرَبِيّ وأوروبا وشارك فِي عدَّة ملتقيات إسلامية. كَانَ عضوا مراسلا لمجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٩٥٦م، وبالمجمع العلمي الْعَرَبِيّ بِدِمَشْق سنة ١٩٥٥م. اشْتهر بِالصبرِ والاعتزاز بِالنَّفسِ والصمود أَمَام الكوارث، والترفع عَن الدُّنْيَا، حاول أقْصَى جهده إنقاذ التَّعْلِيم الزيتوني وتصدى لَهُ بمعارفه ويقينه وَلَكِن أَيدي الأعادي تسلطت على هَذِه المنارة العلمية فألغتها سنة ١٩٦١م فَتَوَلّى الْعلم بتونس وانزوى حَتَّى توفّي الإِمَام الشَّيْخ ﵀ يَوْم الْأَحَد ١٢ أوت ١٩٧٣م وَدفن بمقبرة الزلاج بِمَدِينَة تونس رَحمَه الله تَعَالَى وَجَعَلنَا خير خلف لخير سلف [٤] . ٣- مسيرته الدراسية والعلمية الْتحق الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بِجَامِع الزيتونة فِي سنة ١٣٠٣هـ/ ١٨٨٦ م وثابر على تَعْلِيمه بِهِ حَتَّى أحرز على شَهَادَة التطويع سنة ١٣١٧هـ/١٨٩٩م وَسمي عدلا مبرزا. ابْتِدَاء من سنة ١٩٠٠ م إِلَى سنة ١٩٣٢ أقبل على التدريس بِجَامِع الزيتونة والمدرسة الصادقية مدرسا من الدرجَة الثَّانِيَة فمدرسا من الدرجَة الأولى سنة ١٩٠٥م، ثمَّ عضوا مؤسسا للجنة إصْلَاح التَّعْلِيم بِجَامِع الزيتونة سنة ١٩١٠م. الْتحق الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بِالْقضَاءِ سنة ١٩١١م فَكَانَ عضوا بالمحكمة العقارية وقاضيا مالكيا ثمَّ مفتيا مالكيا سنة ١٩٢٣م فكبير الْمُفْتِينَ سنة ١٩٢٤م فَشَيْخ الْإِسْلَام للْمَذْهَب الْمَالِكِي سنة ١٩٣٢م، وَقد بَاشر ﵀ كل هَذِه المهام بمهارة ودقة علمية نادرة وبنزاهة وَحسن نظر فَكَانَ حجَّة ومرجعا فِي مَا يقْضِي بِهِ. سمي شيخ جَامع الزيتونة وفروعه لأوّل مرّة فِي سبتمبر سنة ١٩٣٢م بعد أَن اشْترك فِي إدارة الْكُلية الزيتونية، وَلكنه استقال من مشيخة جَامع الزيتونة بعد سنة (سبتمبر سنة ١٩٣٣م) ثمَّ سمي من جَدِيد شَيخا لجامع الزيتونة فِي سنة ١٩٤٥م. وَفِي سنة ١٩٥٦م شَيخا عميدا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدَّين حَتَّى سنة ١٩٦٠م حَيْثُ أُحِيل إِلَى الرَّاحَة بِسَبَب موقفه تجاه الحملة الَّتِي شنها بورقيبة يَوْمئِذٍ ضد فَرِيضَة الصّيام فِي رَمَضَان [٥] . كَانَ مُقبلا على الْكِتَابَة وَالتَّحْقِيق والتأليف، فقد شَارك فِي إنْشَاء مجلة السَّعَادَة الْعُظْمَى سنة ١٩٥٢م وَهِي أول مجلة تونسية مَعَ صديقه الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْخضر حُسَيْن ﵀. وَنشر بحوثا عديدة خُصُوصا فِي الْمجلة الزيتونية ومجلات مشرقية مثل هدى الْإِسْلَام والمنار وَالْهِدَايَة الإسلامية وَنور الْإِسْلَام ومجلة مجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ. كَمَا نشرت لَهُ مجلة الْمجمع العلمي بِدِمَشْق. شَارك فِي الموسوعة الْفِقْهِيَّة الَّتِي تشرف عَلَيْهَا وزارة الْأَوْقَاف والشئون الإسلامية بالكويت بمبحث قيم [٦] . ٤- شُيُوخه اكْتسب الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور ثقافة وَاسِعَة شملت التَّفْسِير والْحَدِيث والقراءات ومصطلح الحَدِيث وَالْبَيَان واللغة والتاريخ والمنطق وَعلم الْعرُوض وأعمل فكره فِيمَا حصله وَتوسع فِي ذَلِك وحلله. فقد تخرج على أَيدي ثلة من عُلَمَاء عصره امتازوا بثقافة موسوعية فِي عُلُوم الدَّين وقواعد اللُّغَة الْعَرَبيَّة وبلاغتها وبيانها وبديعها إِلَى جَانب قدرَة على التَّبْلِيغ وَمَعْرِفَة بطرق التدريس والتركيز على تربية الملكات فِي الْعُلُوم وَمن أشهرهم الشَّيْخ مُحَمَّد النجار وَالشَّيْخ سَالم بوحاجب وَالشَّيْخ مُحَمَّد النخلي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن يُوسُف وَالشَّيْخ عمر بن عاشور وَالشَّيْخ صَالح الشريف رَحِمهم الله تَعَالَى جَمِيعًا. وَإِذا تصفحنا حَيَاة هَؤُلَاءِ الْأَعْلَام وجدناها حَيَاة علمية زاخرة حافلة بجلائل الْأَعْمَال قد أعْطوا الْحَيَاة التونسية عَطاء جزيلا فِي الدَّين والاجتماع وَالْأَدب والسياسة وَهَؤُلَاء النبغاء وَإِن لم يتْركُوا مؤلفات ضخمة إِلَّا أَنهم تركُوا تلاميذ شهدُوا لَهُم بطول الباع فِي نقد الْآثَار والمناهج وتتبع الهنات اللُّغَوِيَّة، وَقد كَانَ الشَّيْخ بوحاجب أخصائيا فِي عُلُوم اللُّغَة والنحو والبلاغة وَالْأَدب. والأستاذ عمر بن الشَّيْخ ماهر فِي الْفِقْه والمنطق وَالْكَلَام والفلسفة. وَالشَّيْخ مُحَمَّد النجار كَانَ جَامعا لشتى الْعُلُوم الَّتِي تدرس بِجَامِع الزتونة. [٧] وَهَؤُلَاء الْعلمَاء الَّذين تتلمذ عَلَيْهِم الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور كَانُوا ثَمَرَة لمصلحين أسهموا الْحَيَاة التونسية إسهاما جَلِيلًا على شَتَّى المستويات الأدبية والاجتماعية أَمْثَال الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الريَاحي وَإِسْمَاعِيل التَّمِيمِي والوزير خير الدَّين باشا صَاحب أقوم المسالك وَالشَّيْخ مَحْمُود قبادو. وَلَقَد كَانَ هَؤُلَاءِ الْعلمَاء زعماء الْمدرسَة الإصلاحية التونسية، وَكَانَت فرعا مهما للمدارس الإصلاحية الَّتِي نشرت فِي الْعَالم الإسلامي كالمدرسة الدهلوية والمدرسة الوهابية والمدرسة الأفغانية - نِسْبَة إِلَى جمال الدَّين الأفغاني - وَهَذِه الْمدرسَة إِلَى جَانب الْمدرسَة المغربية تتفق مَعَ مدارس الْعَالم الإسلامي فِي الأسس والمبادئ وتختلف عَنْهَا فِي الأساليب والطرائق. بيد أَنَّهَا تلتقي جَمِيعًا حول هدف موحد هُوَ مقاومة التَّخَلُّف المزري الَّذِي تردى فِيهِ الْمُسلمُونَ بالرغم من أَن دينهم دين الْفِكر والحضارة وَالْعلم والمدنية [٨] . ٥- تأثره بمفكري عصره لقد كَانَ للحركة الإصلاحية الَّتِي تزعمها السَّيِّد جمال الدَّين الأفغاني وتابعها تِلْمِيذه الشَّيْخ مُحَمَّد عَبده صداها الْبعيد فِي الْعَالم الإسلامي، فقد فتحت بصائر النَّاس وحركتهم عَن طَرِيق مجلة العروة الوثقى والزيارات المتتابعة للبلدان الإسلامية من قبل الشَّيْخَيْنِ الأفغاني وَمُحَمّد عَبده. وَفِي هَذَا النطاق تتدرج زيارتي الشَّيْخ مُحَمَّد عَبده إِلَى تونس الأولى كَانَت سنة ١٨٨٥م وَكَانَ عمر الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور ثَمَانِي سنوات. والأرجح أَن مترجمنا لم يتطلع إِلَى هَذِه الآراء الإصلاحية بعد نظرا لصِغَر سنه. أما الزِّيَارَة الثَّانِيَة لمفتي الديار المصرية فَكَانَت سنة ١٩٠٣م/١٣٢١هـ وَكَانَ عمر الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور ثَلَاث وَعشْرين سنة وَهُوَ يشغل خطة مدرس من الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَقد نجح فِي هَذِه الخطة فِي نفس هَذِه السّنة [٩] . فَهُوَ فِي مقتبل الْعُمر وَقد نَضِجَتْ أفكاره وتشبع وَقَرَأَ كثيرا من آرائه، وتشوفت نَفسه للقاء هَذَا المصلح الْكَبِير. وَتحقّق لَهُ ذَلِك فقد حل مُحَمَّد عَبده ضيفا بالمرسى عِنْد الْوَزير خَلِيل أَبُو حَاجِب بقصره الْمَعْرُوف [١٠] . وَقد عقدت مجَالِس علمية بَين الشبخ مُحَمَّد عَبده وَبَين مفكري الْبِلَاد التونسيين. وَكَانَ الشَّيْخ الْأُسْتَاذ ابْن عاشور لَا يتَخَلَّف عَنْهَا وَكَانَ من بَين الَّذين تقدمُوا للأستاذ الإِمَام باقتراح يطْلبُونَ فِيهِ مِنْهُ بِأَن يلقِي درسا بالجمعية الخلدونية وَكَانَ عضوا بمجلسها الإداري، وَقد كَانَ لَهُ ذَلِك وَأُلْقِي الدَّرْس فِي جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ١٣٢١هـ/ سبتمبر ١٩٠٣م [١١] . وَلم يقْتَصر الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور على اجتماعه بمصلحي الشرق فَحسب بل اجْتمع بمفكري الْعَالم الغربي من ذَلِك اجتماعه بالمستشرق اوبنهايم الْمَعْرُوف بمناهجه الفلسفية والدينية ومقارنة الْأَدْيَان والمذاهب وأصولها ومبادئها. وَله فِي هَذَا المجال بَاعَ وَلَقَد فاجئني فِي كِتَابه» أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب «بإشاراته الباهرة إِلَى مفكري الغرب ونظرته لأفكارهم بِعَين النَّقْد، يوحي إِلَيْك من خلالها أَنه مُتَمَكن من اللُّغَة الفرنسية على أقل شَيْء [١٢] . ٦- إصلاحاته ورؤيته للإصلاح بَدَأَ الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور بمساعدة ثلة من الْأَنْصَار الأوفياء فِي تخطيط مراحل الْإِصْلَاح وتطبيق النّظم الَّتِي يَرَاهَا كفيلة بتحقيق الهدف الَّذِي يصبو إِلَيْهِ لِلْخُرُوجِ بِهَذَا المعهد الْعَظِيم من كبوته [١٣] بعد أَن تكلم عَن أساليب التَّعْلِيم "الزيتوني" ومناهجه بِلِسَان النَّقْد فِي كِتَابه» أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب «الَّذِي أَلفه سنة ١٩٠٧م - ١٣٢١هـ وَالَّذِي ضمنه رُؤْيَته للإصلاح وحدد فِيهِ أَسبَاب تخلف الْعُلُوم مصنفا كل علم على حِدة وَاعْتبر أَن إصْلَاح حَال الْأمة لَا يكون إِلَّا بإصلاح مناهج التَّعْلِيم وَالْقِيَام على هَذَا الْجَانِب، كتب كِتَابه هَذَا وعمره لم يتَجَاوَز الْخَمْسَة وَعشْرين سنة مِمَّا يدل على أَن هَذَا الشَّيْخ الْجَلِيل كرس حَيَاته للنهوض بالجامع الْأَعْظَم وبالتالي على مكمن الدَّاء فِي تخلف الْأمة، وَلَئِن أحس الشَّيْخ بجسامة المهمة والبون الشاسع بَين وَاقع الْمُسلمين وَمَا وصلت إِلَيْهِ الْأُمَم الغربية من امتلاك أَسبَاب النهضة والرقي إِلَّا أَنه لم يدّخر جهدا وَلم يثن عزما فِي السّير فِي هَذَا الطَّرِيق المليء بالأشواك. لقد شملت عناية الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور إصْلَاح الْكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التَّعْلِيم. وَقد اهتمت لجان من شُيُوخ الزيتونة بتشجيع مِنْهُ بِهَذَا الْغَرَض. وَنظرت فِي الْكتب الدراسية على مُخْتَلف مستوياتها وَعمل الشَّيْخ على استبدال كتب كَثِيرَة كَانَت مُنْذُ عصور مَاضِيَة تدرّس وصبغ عَلَيْهَا قدم الزَّمَان صبغة احترام وقداسة موهومة. لقد حرص الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور على خاصتي التَّعْلِيم الزيتوني: الصبغة الشَّرْعِيَّة واللغة الْعَرَبيَّة وللوصول إِلَى هَذَا الهدف لابد من تَخْصِيص كتب دراسية شهد لَهَا الْعلمَاء بغزارة الْعلم وإحكام الصَّنْعَة وتنمية الملكات فِي التَّحْرِير ليتخرج من "الزيتونة" الْعَالم المقتدر على الْخَوْض فِيمَا درس من الْمسَائِل وتمحيصها ونقدها. ولتحقيق هَذِه الأهداف دَعَا الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور المدرسين إِلَى التقليل من الْإِلْقَاء والإكثار من الأشغال التطبيقية. حَتَّى تتربى للطَّالِب ملكة بهَا يسْتَقلّ فِي الْفَهم. ويعول على نَفسه فِي التَّحْصِيل على ثقافته الْعَامَّة والخاصة. وَقد حث المدرسين على نقد الأساليب والمناهج الدراسية وَاخْتِيَار أحْسنهَا أثْنَاء الدَّرْس ومراعاة تربية الملكة، بدل شحن الْعقل بمعلومات كَثِيرَة قد لَا يحسن الطَّالِب التَّصَرُّف فِيهَا. فَكَانَت دَعوته للإصلاح ذَات بعدِي التنظير والتطبيق الميداني. _________ [١] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٢] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧، جَاءَ فِيهَا: الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور أصيل قَرْيَة بني خِيَار الْمَشْهُورَة بِكَثْرَة حفاظ الْقُرْآن وجودة حفظهم وَكَذَلِكَ نشِير إِلَى اشتهار مَدِينَة قربَة بِكَثْرَة الْحفظَة. [٣] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٤] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧. [٥] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١٢٥ [٦] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧. [٧] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٨] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٩] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [١٠] كَانَ هَذَا الْوَزير زوجا لأميرة مصرية فَكَانَ ذَلِك سَببا لنزوله ضيفا بالمرسى [١١] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [١٢] انْظُر إشاراته على سَبِيل الذّكر لَا الْحصْر الصفحة ١١٧، كتاب "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" [١٣] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١٢١ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: هَذَا المبحث لَيْسَ فِي المطبوع وَإِنَّمَا نسخته هُنَا للفائدة
- تطور الْعُلُوم يَقُول الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور فِي كِتَابه "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" - إِيذَانًا مِنْهُ بِقرب النَّصْر واستعادة الْأمة مجدها وتخلصها من المستعمر الفرنسي الَّذِي باغتها فِي عقل دارها-:" رَأَيْت الَّذِي يطْمع فِي الْبَحْث عَن مُوجبَات تدلي الْعُلُوم يَرْمِي بِنَفسِهِ إِلَى متسع رُبمَا لَا يجد مِنْهُ مخرجا فِي أمد غَيره طَوِيل، وأيقنت أَن لأسباب تَأَخّر الْمُسلمين عُمُوما رابطة وَثِيقَة بِأَسْبَاب تَأَخّر الْعُلُوم" [١٤] . أحس الشَّيْخ ابْن عاشور بِقِيمَة الْعلم فِي سَبِيل نهوض الْأمة وحاول من خلال كِتَابه الْمَذْكُور أَن يقدم بديلا لما سَاد فِي أوساط الْجَامِع الْمَعْمُور من مناهج لتدريس الطّلبَة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة الَّتِي توارثها الأجيال أَبَا عَن جد دون نظر وإعمال للرأي ومكنت الغرب بالتالي من استحكام سيطرته على الْعَالم الإسلامي والقطر التّونسِيّ جُزْء مِنْهُ. وَقبل أَن يسْرد سببين رئيسيين لتأخر الْعُلُوم وَيزِيد عَلَيْهِمَا خَمْسَة عشر سَببا فرعيا، قدم نظرته إِلَى الْعُلُوم ورسم منهجه فِي التَّعَامُل مَعَ الْعلم وأطواره، فقسم الْعُلُوم قسمَيْنِ من جِهَة ثَمَرَتهَا: ١- مَا تنشأ عَنْهَا ثَمَرَة هِيَ من نوع مَوْضُوعَات مسَائِله، كعلم النَّحْو فثمرته تجتنى مِنْهُ وَهِي ثَمَرَة لفظية مَحْضَة. ٢- مَا يبْحَث عَن أَشْيَاء لَا لذاتها بل لاستنتاج نتائج عَنْهَا مثل علم التَّارِيخ والفلسفة والهندسة النظرية وأصول الْفِقْه وَغَيرهَا، فبالتاريخ يَسْتَعِين مزاوله على عقل التجارب وتجنب مضار الحضارات والأخطاء الَّتِي وَقعت فِيهَا الْأُمَم السَّابِقَة، والفلسفة تنير الْعقل وتدربه على فتح أَبْوَاب الْحَقَائِق وهاته الْأَشْيَاء لَا تقْرَأ فِي الفلسفة وَإِنَّمَا يتعودها الذِّهْن فِي ضمن ممارساته وَمثل ذَلِك علم البلاغة وَجَمِيع الْعُلُوم البرهانية النظرية، وأصول الْفِقْه فِي فلسفة الاستنباط. يضيف فِي كِتَابه "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" ليقول كَلمته الحاسمة فِي التَّعَامُل مَعَ الْعُلُوم بمنطق النَّقْد والتطوير دون الْخُرُوج عَن أدب الِالْتِزَام بمناهج القدماء من سلف الْأمة، فَيَقُول:" وَإِن أطوار الْعُلُوم فِي الْأمة تشبه أطوارها فِي الْأَفْرَاد ذَلِك أَن الْعلم فِي الْأمة كَمَا هُوَ فِي الْفَرد لَهُ أَرْبَعَة أطوار: ١- طور الْحِفْظ والتقليد وَالْقَبُول للمسائل كَمَا هِيَ من غير انتساب بَعْضهَا من بعض وَلَا تفكر فِي غايتها بل لقصد الْعَمَل. ٢- طور انتساب بَعْضهَا من بعض وتنويعها وَالِانْتِفَاع بِبَعْضِهَا فِي بعض. ٣- طور الْبَحْث فِي عللها وأسرارها وغاياتها. ٤- الحكم عَلَيْهَا بِاعْتِبَار تِلْكَ الْعِلَل بالتصحيح والنقد وَهُوَ طور التضلع والتحرير. - المسيرة النضالية عُزز موقف الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور بتسميته شَيخا لِلْإِسْلَامِ الْمَالِكِي سنة ١٩٣٢م ثمَّ بتكليفه فِي شهر سبتمبر من نفس السّنة ١٩٣٢م بمهام شيخ مدير الْجَامِع الْأَعْظَم وفروعه فتيسر لَهُ الشُّرُوع فِي تطبيق آرائه الإصلاحية الَّتِي كَانَت شغله الشاغل [١٥] إِلَّا أَن الدسائس والمؤامرات الَّتِي كَانَت تحاك ضِدّه من طرف معارضيه "الزيتونيين" من المتحفظين على خطواته الإصلاحية من جِهَة وأعدائه وخصومه السياسيين "زعماء الحزب الْحر الدستوري الْجَدِيد" الَّذين شعروا بنفوذه وقبوله من طرف كل المحيطين بِهِ والدور الَّذِي يُمكن أَن يلعبه فِي سحب الْبسَاط من تَحت أَرجُلهم [١٦] من جِهَة ثَانِيَة جعلته يقدم استقالته فِي سبتمبر السّنة الموالية ١٩٣٣م. وَفِي سنة ١٣٦٤هـ -١٩٤٥م عيّن مرّة ثَانِيَة شَيخا للجامع الْأَعْظَم وفروعه وقوبلت عودة الشَّيْخ بحماس فياض من طرف الأوساط الزيتونية والرأي التّونسِيّ بِصفة عَامَّة واهتز المعهد الزيتوني وفروعه سُرُورًا فانتظمت عدَّة تظاهرات تكريما وارتياحا لعودة الشَّيْخ بالعاصمة وَمِنْهَا الِاسْتِقْبَال الْحَار الَّذِي خصته بِهِ فروع سوسة والقيروان وصفاقس بمناسبة الزِّيَارَة التفقدية الَّتِي قَامَ بهَا الشَّيْخ ابْن عاشور فِي ماي ١٩٤٥م فَور تَسْمِيَته من جَدِيد على رَأس إدارة التَّعْلِيم الزيتوني فَانْطَلَقت أَلْسِنَة الأدباء وَالشعرَاء بالقصائد الحماسية والأناشيد [١٧] . واستأنف الشَّيْخ تطبيق برنامجه الإصلاحي فَجعل الْفُرُوع الزيتونية تَحت مراقبة إدارة مشيخة الْجَامِع رَأْسا بَعْدَمَا كَانَت ترجع شؤونها بِالنّظرِ إِلَى السلط الشَّرْعِيَّة الجهوية. كَمَا زَاد الشَّيْخ ابْن عاشور فِي عدد الْفُرُوع الزيتونية الَّذِي ارْتقى فِي مُدَّة سبع سنوات (١٩٤٩ - ١٩٥٦م) من ثَمَانِيَة إِلَى خمس وَعشْرين (مِنْهَا اثْنَان للفتيات فِي تونس وصفاقس) وَصَارَ عدد تلامذة الزيتونة وفروعها يناهز الْعشْرين ألف تلميذ فِي حُدُود ١٩٥٦م [١٨] . كَمَا امتدت شبكة فروع الزيتونة إِلَى الْقطر الجزائري بإنشاء فرعين فِي مَدِينَة قسنطينة [١٩] . وحرص الشَّيْخ ابْن عاشور على أَن يحسن من أوضاع الطّلبَة المعيشية والاجتماعية لَهُم لما لَهُ قيمَة فِي رفع معنويات الطّلبَة الزيتونيين إزاء إخْوَانهمْ الميسرين، وأمام الضغوط من حَولهمْ على الْقَضَاء على التَّعْلِيم الزيتوني [٢٠] والحيرة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أغلب أَبنَاء الزيتونة والآفاق الَّتِي يُمكن أَن يرسموها لمستقبلهم، فأنشئت مطابخ بِبَعْض الْمدَارِس مكنت الطّلبَة من تنَاول الطَّعَام ثَلَاث مَرَّات فِي الْيَوْم بأسعار زهيدة. إِلَّا أَن ذَلِك لم يكن شَيْئا يذكر أَمَام البنايات الْقَدِيمَة وَضعف مَالِيَّة إدارة المشيخة وَهِي حَقِيقَة عاشها كل الزيتونيين. تجدر الْإِشَارَة إِلَى أَن سلطات الحماية حاولت تَعْطِيل إنجاز برنامج الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بطرق متنوعة مِنْهَا مقاومة إنْشَاء الْفُرُوع ...وَقد زَاد تفاقم الْوَضع الظروف السياسية فِي الْبِلَاد وانعكاسها على الأوساط الزيتونية انعكاسا تسبب فِي اضْطِرَاب دَاخل الْجَامِع. وبسبب تمسك الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بمبدأ عدم الاستجابة لرغبة الْأَحْزَاب السياسية فَاشْتَدَّ الْخلاف بَينه وَبَين الوزارة فِي سنة ١٩٥٠م [٢١]، خُصُوصا إِثْر رفض الشَّيْخ ابْن عاشور لطلب تِلْكَ الوزارة بطرد بعض الطّلبَة أَعْضَاء صَوت الطَّالِب الزيتوني [٢٢] المناهض للحزب. وَقد قررت السلطة إبعاد الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور عَن مُبَاشرَة وظيفته مَعَ إبقائه فِي خطته وتكليف كاهيته الشَّيْخ عَليّ النيفر بإدارة المشيخة. وَفِي سِتَّة ١٩٥٦م عَاد الشَّيْخ ابْن عاشور إِلَى مُبَاشرَة شؤون التَّعْلِيم الزيتوني بعنوان شيخ عميد للجامعة الزيتونية من سنة ١٩٥٦ إِلَى ١٩٦٠م تَارِيخ الْقَضَاء على الزيتونة والتعليم الزيتوني. ٧- كتاباته ومؤلفاته كَانَ أول من حَاضر بِالْعَرَبِيَّةِ بتونس فِي هَذَا الْقرن، أما كتبه ومؤلفاته فقد وصلت إِلَى الْأَرْبَعين هِيَ غَايَة فِي الدقة العلمية. وتدل على تبحر الشَّيْخ فِي شَتَّى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَالْأَدب. وَمن أجلّها كِتَابه فِي التَّفْسِير "التَّحْرِير والتنوير" مَوْضُوع بحثنا. وَكتابه الثمين والفريد من نَوعه "فِي مَقَاصِد الشَّرِيعَة الإسلامية"، وَكتابه حَاشِيَة التَّنْقِيح للقرافي، و"أصُول الْعلم الاجتماعي فِي الْإِسْلَام"، وَالْوَقْف وآثاره فِي الْإِسْلَام، وَنقد علمي لكتاب أصُول الحكم، وكشف المعطر فِي أَحَادِيث الْمُوَطَّأ، والتوضيح والتصحيح فِي أصُول الْفِقْه، وموجز البلاغة، وَكتاب الْإِنْشَاء والخطابة، شرح ديوَان بشار وديوان النَّابِغَة ... إِلَخ. وَلَا تزَال العديد من مؤلفات الشَّيْخ مخطوطة مِنْهَا: مَجْمُوع الْفَتَاوَى، وَكتاب فِي السِّيرَة، ورسائل فقهية كَثِيرَة [٢٣] . وَقد قسمت مؤلفاته إِلَى قسمَيْنِ مِنْهَا مؤلفات فِي الْعُلُوم الإسلامية، وَأُخْرَى فِي الْعَرَبيَّة وآدابها [٢٤]: · الْعُلُوم الإسلامية: ١- التَّحْرِير والتنوير ٢- مَقَاصِد الشَّرِيعَة الإسلامية ٣- أصُول النظام الاجتماعي فِي الْإِسْلَام ٤- أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب ٥- الْوَقْف وآثاره فِي الْإِسْلَام ٦- كشف الْمُعْطى من الْمعَانِي والألفاظ الْوَاقِعَة فِي الْمُوَطَّأ ٧- قصَّة المولد ٨- حَوَاشِي على التَّنْقِيح لشهاب الدَّين الْقَرَافِيّ فِي أصُول الْفِقْه ٩- رد على كتاب الْإِسْلَام وأصول الحكم تأليف على عبد الرازق ١٠- فَتَاوَى ورسائل فقهية ١١- التَّوْضِيح والتصحيح فِي أصُول الْفِقْه ١٢- النّظر الفسيح عِنْد مضايق الأنظار فِي الْجَامِع الصَّحِيح ١٣- تَعْلِيق وَتَحْقِيق على شرح حَدِيث أم زرع ١٤- قضايا شَرْعِيَّة وَأَحْكَام فقهية وآراء اجتهادية ومسائل علمية ١٥- آمال على مُخْتَصر خَلِيل ١٦- تعاليق على العلول وحاشية السياكوتي ١٧- آمال على دَلَائِل الإعجاز ١٨- أصُول التَّقَدُّم فِي الْإِسْلَام ١٩- مراجعات تتَعَلَّق بكتابي: معجز أَحْمد واللامع للعزيزي · اللُّغَة الْعَرَبيَّة وآدابها: ١- أصُول الْإِنْشَاء والخطابة ٢- موجز البلاغة ٣- شرح قصيدة الْأَعْشَى ٤- تَحْقِيق ديوَان بشار ٥- الْوَاضِح فِي مشكلات المتنبي ٦- سرقات المتنبي ٧- شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام ٨- تَحْقِيق فَوَائِد العقيان لِلْفَتْحِ ابْن خاقَان مَعَ شرح ابْن زاكور ٩- ديوَان النَّابِغَة الذَّهَبِيّ ١٠- تَحْقِيق "مُقَدّمَة فِي النَّحْو" لخلف الْأَحْمَر ١١- تراجم لبَعض الْأَعْلَام ١٢- تَحْقِيق كتاب "الاقتضاب" للبطليوسي مَعَ شرح كتاب أدب الْكَاتِب ١٣- جمع وَشرح ديوَان سحيم ١٤- شرح معلقَة امْرِئ الْقَيْس ١٥- تَحْقِيق لشرح الْقرشِي على ديوَان المتنبي ١٦- غرائب الِاسْتِعْمَال ١٧- تَصْحِيح وَتَعْلِيق على كتاب "النتصار" لِجَالِينُوسَ للحكيم ابْن زهر. وَقد عدد الدكتور مُحَمَّد الحبيب بن الخوجة المجلات العلمية الَّتِي أسْهم فِيهَا الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور، نذْكر مِنْهَا: - السَّعَادَة الْعُظْمَى - الْمجلة الزيتونية وَمن الصُّحُف والمجلات الشرقية: - هدى الْإِسْلَام - نور الْإِسْلَام - مِصْبَاح الشرق - مجلة الْمنَار - مجلة الْهِدَايَة الإسلامية - مجلة مجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ - مجلة الْمجمع العلمي بِدِمَشْق. وَقد شغل مهمة عُضْو مراسل لمجمعي اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ ودمشق مُنْذُ سنة ١٩٥٥م. _________ [١٤] أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب ص ١٧٥ [١٥] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١١٥ [١٦] حاكوا لَهُ الدسائس بِسَبَب مَوَاقِف اتهمَ بَاطِلا باتخاذها فِيمَا يُسمى بقضية التَّجْنِيس - انْظُر الْمصدر السَّابِق [١٧] أنْشد تلاميذه أناشيد مُؤثرَة مِنْهَا مَا أنْشدهُ صغَار تلامذة فروع سوسة: - أَيهَا الطَّاهِر أَهلا بِابْن عاشور وسهلا- قد حللت الصفو حلا - وَجرى دمع السرُور - أَنْت للعين ضِيَاء - فِي اهتداء وارتياء - يَا وريث الْأَنْبِيَاء، أَنْت للمعمور نور (...) [١٨] فِي هَذِه السّنة حصلت تونس على استقلالها، وَأصْبح بورقيبة والحزب الدستوري يباشرون الحكم، مِمَّا سيخيف هَذَا الْأَخير الْمَدّ الزيتوني الَّذِي أحدثه الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور. [١٩] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١٢٣ [٢٠] صرح مارسال ماشوال الممثل الفرنسي على النهوض بالتعليم فِي تونس قَائِلا أَمَام لجنة التفكير فِي إصْلَاح التَّعْلِيم:» Cette «connaissance machinale d'ailleurs، du livre sacré، de quoi leur sert-elle dans ce monde؟ De rien du tout انْظُر دراسة مَشْرُوع مارشوال - كراسات تونسية سنة ١٩٨٦ - مُخْتَار عياشي [٢١] وَهِي يَوْمئِذٍ بَين يَدي زعماء الحزب الْحر الدستوري الْجَدِيد وبخاصة كَاتبه الْعَام صَالح بن يُوسُف وَزِير الْعدْل - جَامع الزيتونة المعلَم وَرِجَاله ص ١٢٤ [٢٢] منظمة طلابية نقابية أسست سنة ١٩٥٠م لَهَا تَارِيخ عريق فِي التصدي لأعداء الزيتونة وَعرف مُحَمَّد البدوي كأهم الْوُجُوه لَهَا. [٢٣] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧. [٢٤] نقلتها مجلة جَوْهَر الْإِسْلَام عدد ٣ -٤ السّنة الْعَاشِرَة. ١٩٧٨م (فِي عدد خَاص بالشيخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور) .
[مَبْحَث عَن التَّحْرِير والتنوير] (*) - ٧٣٧ - التَّعْرِيف بالتفسير: وَتَفْسِيره الْمُسَمّى بالتحرير والتنوير اسْمه الْأَصْلِيّ: "تَحْرِير الْمَعْنى السديد وتنوير الْعقل الْجَدِيد وَتَفْسِير الْكتاب الْمجِيد". وَالْكتاب لَهُ طبعتان: طبعة على هَيْئَة أَجزَاء مُتَفَرِّقَة نشرتها الدَّار التونسية للنشر، وطبعة فِي خمس مجلدات، وطبعة قديمَة سنة ١٣٨٤هـ بمطبعة عِيسَى البابي الْحلَبِي لم أَقف مِنْهَا على غير الْجُزْء الأول فَقَط. قدم لَهُ الْمُؤلف بتمهيد واف ذكر فِيهِ مُرَاده من هَذَا التَّفْسِير وَقَالَ: فَجعلت حَقًا عَليّ أَن أبدي فِي تَفْسِير الْقُرْآن نكتا لم أر من سبقني إِلَيْهَا، وَأَن أَقف موقف الحكم بَين طوائف الْمُفَسّرين تَارَة لَهَا وآونة عَلَيْهَا، فَإِن الِاقْتِصَار على الحَدِيث الْمعَاد، تَعْطِيل لفيض الْقُرْآن الَّذِي مَاله من نفاد، وَلَقَد رَأَيْت النَّاس حول كَلَام الأقدمين أحد رجلَيْنِ: رجل معتكف فِيمَا شاده الأقدمون، وَآخر آخذ بمعولة فِي هدم مَا مَضَت عَلَيْهِ الْقُرُون وَفِي تِلْكَ الْحَالَتَيْنِ ضرّ كثير، وهنالك حَالَة أُخْرَى ينجبر بهَا الْجنَاح الكسير، وَهِي أَن نعمد إِلَى مَا أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده وحاشا أَن ننقضه أَو نبيده، علما بِأَن غمص فَضلهمْ كفران للنعمة، وَجحد مزايا سلفها لَيْسَ من حميد خِصَال الْأمة. _________ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: هَذَا المبحث لَيْسَ فِي المطبوع، وَهُوَ مَنْقُول من كتاب (التَّفْسِير والمفسرون فِي غرب إفريقيا) للشَّيْخ مُحَمَّد بن رزق الطرهوني - وأصل الْكتاب أطروحة الدكتوراة للشَّيْخ من جَامِعَة الْأَزْهَر فأثبتُّ هَذَا المبحث من الْكتاب هُنَا للفائدة، وترقيم صفحاته مُوَافق للمطبوع (ط - دَار ابْن الْجَوْزِيّ - الطبعة الأولى ١٤٢٦ هـ) وتجد الأرقام أَعلَى الصفحات
- ٧٣٨ - وَقد ذكر فِيهَا أهم التفاسير فِي نظره فبدأها بتفسير الْكَشَّاف ثمَّ الْمُحَرر الْوَجِيز ثمَّ مَفَاتِيح الْغَيْب وَتَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ والآلوسي وَذكر بعض الْحَوَاشِي على الْكَشَّاف والبيضاوي وَتَفْسِير أبي السُّعُود والقرطبي وَتَقْيِيد الأبي على ابْن عَرَفَة وَتَفْسِير ابْن جرير ودرة التَّنْزِيل. ثمَّ قَالَ: ولقصد الِاخْتِصَار أعرض عَن الْعزو إِلَيْهَا. فَكَأَنَّهَا مراجعه الأساسية. وَلَقَد أخر مَا حَقه التَّقْدِيم فَجعل أَولهَا كتاب الْكَشَّاف المعتزلي وَجعل فِي آخرهَا كتاب ابْن جرير أعظم الْمُفَسّرين وعمدة السَّابِقين واللاحقين مِمَّا يُعْطي الانطباع بِأَن مَنْهَج الشَّيْخ عقلاني أَكثر مِنْهُ أثري. ثمَّ قَالَ: وَقد ميزت مَا يفتح الله لي من فهم فِي مَعَاني كِتَابه وَمَا أجلبه من الْمسَائِل العلمية مِمَّا لَا يذكرهُ الْمُفَسِّرُونَ. كَمَا وضح أَن فن البلاغة لم يَخُصُّهُ أحد من الْمُفَسّرين بِكِتَاب كَمَا خصوا أفانين الْقُرْآن الْأُخْرَى وَمن أجل ذَلِك الْتزم أَن لَا يغْفل التَّنْبِيه على مَا يلوح لَهُ مِنْهُ كلما ألهمه. وأخيرًا فَهُوَ يمتدح كِتَابه بقوله: فَفِيهِ أحسن مَا فِي التفاسير، وَفِيه أحسن مِمَّا فِي التفاسير. وَقد أتبع كَلَامه عَن تَفْسِيره بِعشر مُقَدمَات: الأولى: فِي التَّفْسِير والتأويل وَتعرض فِيهِ لبَيَان أَن التَّفْسِير لَيْسَ علما إِلَّا على وَجه التسامح وناقش ذَلِك بمقدمات منطقية ترسم أبعادًا لمنهجه العقلاني الَّذِي يَتَّضِح من خلال مطالعة تَفْسِيره شَيْئا فَشَيْئًا. وَقد أثنى فِي تِلْكَ الْمُقدمَة على تفسيري الْكَشَّاف وَابْن عَطِيَّة وَقَالَ: وَكِلَاهُمَا عضادتا الْبَاب ومرجع من بعدهمَا من أولي الْأَلْبَاب. وسوف يَأْتِي ذكر بَقِيَّة الْمُقدمَات فِي غُضُون كلامنا عَن الْمنْهَج التفصيلي. الْمنْهَج الْعَام للتفسير: وَتَفْسِير التَّحْرِير والتنوير بعتير فِي الْجُمْلَة تَفْسِيرا بلاغيا بَيَانا لغويا عقلانيا
- ٧٣٩ - لَا يغْفل الْمَأْثُور ويهتم بالقراءات. وَطَرِيقَة مُؤَلفه فِيهِ أَن يذكر مقطعا من السُّورَة ثمَّ بشرع فِي تَفْسِيره مبتدئا بِذكر الْمُنَاسبَة ثمَّ لغويات المقطع ثمَّ التَّفْسِير الإجمالي ويتعرض فِيهِ للقراءات والفقهيات وَغَيرهَا. وَهُوَ يقدم عرضا تفصيليا لما فِي السُّورَة ويتحدث عَن ارتباط آياتها. الْمنْهَج التفصيلي للمؤلف: أَولا: أَسمَاء السُّور وَعدد الْآيَات وَالْوُقُوف وَبَيَان المناسبات: لقد أفرد ابْن عاشور الْمُقدمَة الثَّامِنَة من مقدماته وَجعلهَا فِي اسْم الْقُرْآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها. ثمَّ هُوَ يتَعَرَّض أثْنَاء التَّفْسِير لأسماء السُّور وَمن ذَلِك فِي سُورَة الْفَاتِحَة إِذْ يَقُول: سُورَة الْفَاتِحَة من السُّور ذَات الْأَسْمَاء الْكَثِيرَة. أنهاها صَاحب الإتقان إِلَى نَيف وَعشْرين بَين ألقاب وصفات وَجَرت على أَلْسِنَة الْقُرَّاء من عهد السّلف، وَلم يثبت فِي السّنة الصَّحِيحَة والمأثور من أسمائها إِلَّا فَاتِحَة الْكتاب، والسبع المثاني، وَأم الْقُرْآن، أَو أم الْكتاب، فلنقتصر على بَيَان هَذِه الْأَسْمَاء الثَّلَاثَة. وَمِمَّا قَالَه فِي تَقْدِيمه لكتابه: واهتممت أَيْضا بِبَيَان تناسب اتِّصَال الْآي بَعْضهَا بِبَعْض وَبَين أَن الْبَحْث عَن تناسب مواقع السُّور لَيْسَ حَقًا على الْمُفَسّر. ويتعرض لمكية السُّور ومدنيتها وترتيب نُزُولهَا كَمَا فِي الْفَاتِحَة وَالْبَقَرَة وَغَيرهمَا. وَفِي تَرْتِيب النُّزُول جَاءَ قَوْله: تحير الْمُفَسِّرُونَ فِي مَحل هاته الْحُرُوف الْوَاقِعَة فِي أول هاته السُّور، وَفِي فواتح سور أُخْرَى عدَّة جَمِيعهَا تسع وَعِشْرُونَ سُورَة ومعظمها فِي السُّور المكية، وَكَانَ بَعْضهَا فِي ثَانِي سُورَة نزلت وهى ﴿ن والقلم﴾ وأخلق بهَا أَن تكون مثار حيرة ومصدر أَقْوَال مُتعَدِّدَة وأبحاث كَثِيرَة. وَعند النّظر لأوّل وهلة يتَبَيَّن أَن تَحْدِيد المُصَنّف لتِلْك السُّورَة بِأَنَّهَا ثَانِي سُورَة نزلت لَيْسَ بِصَحِيح فَإِن أولى السُّور نزولا هِيَ العلق ثمَّ
- ٧٤٠ - المدثر وَالْخلاف مَحْصُور فيهمَا مَعَ الْفَاتِحَة، فسورة ن هِيَ الرَّابِعَة على أقل تَقْدِير. وَهُوَ يتَعَرَّض لعد الْآي وَمن ذَلِك قَوْله فِي سُورَة الْبَقَرَة: وَعدد آيها مِائَتَان وَخمْس وَثَمَانُونَ آيَة عِنْد أهل الْعدَد بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّة وَالشَّام، وست وَثَمَانُونَ عِنْد أهل الْعدَد بِالْكُوفَةِ، وَسبع وَثَمَانُونَ عِنْد أهل الْعدَد بِالْبَصْرَةِ. وَقد تعرض للْخلاف فِي عد الفواتح. ثَانِيًا: موقفه من العقيدة: وَهُوَ فِي العقيدة يسْلك مَسْلَك المؤولة: يَقُول: فوصف الله تَعَالَى بِصِفَات الرَّحْمَة فِي اللُّغَات نَاشِئ على مِقْدَار عقائد أَهلهَا فِي مَا يجوز على الله ويستحيل، وَكَانَ أَكثر الْأُمَم مجسمة، ثمَّ يَجِيء ذَلِك فِي لِسَان الشَّرَائِع تعبيرًا على الْمعَانِي الْعَالِيَة بأقصى مَا تسمح بِهِ اللُّغَات مَعَ اعْتِقَاد تَنْزِيه الله عَن أَعْرَاض الْمَخْلُوقَات بِالدَّلِيلِ الْعَام على التَّنْزِيه وَهُوَ مَضْمُون قَول الْقُرْآن ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ فَأهل الْإِيمَان إِذا سمعُوا أَو أطْلقُوا وصفي: الرَّحْمَن الرَّحِيم؛ لَا يفهمون مِنْهُ حُصُول ذَلِك الانفعال الملحوظ فِي حَقِيقَة الرَّحْمَة فِي مُتَعَارَف اللُّغَة الْعَرَبيَّة لسطوع أَدِلَّة تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن الْأَعْرَاض بل إِنَّه يُرَاد بِهَذَا الْوَصْف فِي جَانب الله تَعَالَى إِثْبَات الْغَرَض الأسمى من حَقِيقَة الرَّحْمَة وَهُوَ صُدُور آثَار الرَّحْمَة من الرِّفْق واللطف وَالْإِحْسَان والإعانة لِأَن ماعدا ذَلِك من الْقُيُود الملحوظة فِي مُسَمّى الرَّحْمَة فِي مُتَعَارَف النَّاس لَا أهمية لَهُ، لَوْلَا أَنه لَا يُمكن بِدُونِهِ حُصُول آثاره فيهم أَلا ترى أَن الْمَرْء قد يرحم أحدا وَلَا يملك لَهُ نفعا لعجز أَو نَحوه وَقد أَشَارَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى بقوله: الَّذِي يُرِيد قَضَاء حَاجَة الْمُحْتَاج وَلَا يَقْضِيهَا فَإِن كَانَ قَادِرًا على قَضَائهَا لم يسم رحِيما إِذْ لَو تمت الْإِرَادَة لوفى بهَا وَإِن كَانَ عَاجِزا فقد يُسمى رحِيما بِاعْتِبَار مَا اعْتَبرهُ من الرَّحْمَة والرقة وَلَكِن نَاقص. وَبِهَذَا تعلم أَن إِطْلَاق نَحْو هَذَا الْوَصْف على الله تَعَالَى لَيْسَ من الْمُتَشَابه
- ٧٤١ - لتبادر الْمَعْنى المُرَاد مِنْهُ بِكَثْرَة اسْتِعْمَاله وَتحقّق تنزه الله عَن لَوَازِم الْمَعْنى الْمَقْصُود فِي الْوَضع مِمَّا لَا يَلِيق بِجلَال الله، كَمَا نطلق الْعَلِيم على الله مَعَ التيقن بتجرد علمه عَن الْحَاجة إِلَى النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَسبق الْجَهْل، وكما نطلق الْحَيّ عَلَيْهِ تَعَالَى مَعَ الْيَقِين بتجرد حَيَاته عَن الْعَادة والتكون، ونطلق الْقُدْرَة مَعَ الْيَقِين بتجرد قدرته عَن المعالجة والاستعانة، فوصفه تَعَالَى بالرحمن الرَّحِيم من المنقولات الشَّرْعِيَّة فقد أثبت الْقُرْآن رَحْمَة الله فِي قَوْله ﴿ورحمتي وسعت كل شَيْء﴾ فَهِيَ منقولة فِي لِسَان الشَّرْع إِلَى إِرَادَة الله إِيصَال الْإِحْسَان إِلَى مخلوقاته فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وغالب الْأَسْمَاء الْحسنى من هَذَا الْقَبِيل. وَيَقُول: وَإِذا كَانَت حَقِيقَة الْغَضَب يَسْتَحِيل اتصاف الله تَعَالَى بهَا، وإسنادها إِلَيْهِ على الْحَقِيقَة، للأدلة القطعية الدَّالَّة على تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن التغيرات الذاتية والعرضية؛ فقد وَجب على الْمُؤمن صرف إِسْنَاد الْغَضَب إِلَى الله عَن مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَطَرِيقَة أهل الْعلم وَالنَّظَر فِي هَذَا الصّرْف أَن يصرف اللَّفْظ إِلَى الْمجَاز بعلاقة اللُّزُوم أَو إِلَى الْكِنَايَة بِاللَّفْظِ عَن لَازم مَعْنَاهُ، فَالَّذِي يكون صفة لله من معنى الْغَضَب هُوَ لَازمه، أَعنِي: الْعقَاب والإهانة يَوْم الْجَزَاء واللعنة أَي الإبعاد عَن أهل الدَّين وَالصَّلَاح فِي الدُّنْيَا أَو هُوَ من قبيل التمثيلية. وَكَانَ السّلف فِي الْقرن الأول ومنتصف الْقرن الثَّانِي يمسكون عَن تَأْوِيل هَذِه المتشابهات، لما رَأَوْا فِي ذَلِك الْإِمْسَاك من مصلحَة الِاشْتِغَال بِإِقَامَة الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ مُرَاد الشَّرْع من النَّاس، فَلَمَّا نَشأ النّظر فِي الْعلم وطلبوا معرفَة حقائق الْأَشْيَاء وَحدث قَول النَّاس فِي مَعَاني الدَّين بِمَا لَا يلائم الْحق، لم يجد أهل الْعلم بَدَأَ من توسيع أساليب التَّأْوِيل الصَّحِيح لإفهام الْمُسلم وكبت الملحد، فَقَامَ الدَّين بصنيعهم على قَوَاعِده، وتميز المخلص لَهُ عَن ماكره وجاحده، وكل فِيمَا صَنَعُوا على هدى. وَبعد الْبَيَان لَا يرجع إِلَى الْإِجْمَال أبدا، وَمَا تأولوه
- ٧٤٢ - إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي لِسَان الْعَرَب مَفْهُوم لأَهله. فَغَضب الله تَعَالَى على الْعُمُوم يرجع إِلَى مُعَامَلَته الحائدين عَن هَدْيه العاصين لأوامره وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ الانتقام وَهُوَ مَرَاتِب أقصاها عِقَاب الْمُشْركين وَالْمُنَافِقِينَ بالخلود فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَدون الْغَضَب الْكَرَاهِيَة. وَقد يستطرد أَحْيَانًا فِي تِلْكَ القضايا الْمُتَعَلّقَة بِالصِّفَاتِ وَيَكْفِي الْقَارئ لمعْرِفَة مدى الاستطراد الَّذِي وَقع فِيهِ الْمُؤلف الْخَارِج عَن نطاق التَّفْسِير أَن يقْرَأ هَذِه الْفَقْرَة الَّتِي سَاقهَا ضمن كَلَامه الطَّوِيل عَن الْحَمد: قَالَ: ...وَمِنْه أَنه يكون ثَنَاء على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ: وَبِهَذَا ينْدَفع الْإِشْكَال عَن حمدنا الله تَعَالَى على صِفَاته الذاتية كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة دون صِفَات الْأَفْعَال، وَإِن كَانَ اندفاعه على اخْتِيَار الْجُمْهُور أَيْضا ظَاهرا؛ فَإِن مَا ورد عَلَيْهِم من أَن مَذْهَبهم يسْتَلْزم أَن لَا يحمد الله تَعَالَى على صِفَاته لِأَنَّهَا ذاتية، فَلَا تُوصَف بِالِاخْتِيَارِ إِذْ الِاخْتِيَار يسْتَلْزم إِمْكَان الاتصاف. وَقد أجابوا عَنهُ إِمَّا بِأَن تِلْكَ الصِّفَات الْعلية نزلت منزلَة الاختيارية لاستقلال موصوفها وَإِمَّا بِأَن ترَتّب الْآثَار الاختيارية عَلَيْهَا يَجْعَلهَا كالاختيارية، وَإِمَّا بِأَن المُرَاد بالاختيارية
- ٧٤٣ - أَن يكون الْمَحْمُود فَاعِلا بِالِاخْتِيَارِ وَإِن لم يكن الْمَحْمُود عَلَيْهِ اختياريًا. وَعِنْدِي أَن الْجَواب أَن نقُول: إِن شَرط الِاخْتِيَارِيّ فِي حَقِيقَة الْحَمد - عِنْد مثبته- لإِخْرَاج الصِّفَات غير الاختيارية، لِأَن غير الِاخْتِيَارِيّ فِينَا لَيْسَ من صِفَات الْكَمَال إِذْ لَا تترتب عَلَيْهَا الْآثَار الْمُوجبَة للحمد، فَكَانَ شَرط الِاخْتِيَار فِي حمدنا زِيَادَة فِي تحقق كَمَال الْمَحْمُود، أما عدم الِاخْتِيَار الْمُخْتَص بِالصِّفَاتِ الذاتية الإلهية فَإِنَّهُ لَيْسَ عبارَة عَن نقص فِي صِفَاته، وَلكنه كَمَال نَشأ من وجوب الصّفة للذات لقدم الصّفة فَعدم الِاخْتِيَار فِي صِفَات الله تَعَالَى زِيَادَة فِي الْكَمَال لِأَن أَمْثَال تِلْكَ الصِّفَات فِينَا لَا تكون وَاجِبَة للذات مُلَازمَة لَهَا، فَكَانَ عدم الِاخْتِيَار فِي صِفَات الله تَعَالَى دَلِيلا على زِيَادَة الْكَمَال، وَفينَا دَلِيلا على النَّقْص. وَمَا كَانَ نقصا فِينَا بِاعْتِبَار مَا، قد يكون كمالا لله تَعَالَى بِاعْتِبَار آخر، مثل عدم الْوَلَد، فَلَا حَاجَة إِلَى الْأَجْوِبَة المبنية على التَّنْزِيل إِمَّا بِاعْتِبَار الصّفة أَو بِاعْتِبَار الْمَوْصُوف، على أَن تَوْجِيه الثَّنَاء إِلَى الله تَعَالَى بمادة (حمد) هُوَ أقْصَى مَا تسمى بِهِ اللُّغَة الْمَوْضُوعَة لأَدَاء الْمعَانِي المتعارفة لَدَى أهل تِلْكَ اللُّغَة، فَلَمَّا طرأت عَلَيْهِم المدارك الْمُتَعَلّقَة بالحقائق الْعَالِيَة عبر لَهُم عَنْهَا بأقصى مَا يقربهَا من كَلَامهم. وَيَقُول فِي خلق الْأَفْعَال وَقَضِيَّة اللطف وَهُوَ كَلَام يشم مِنْهُ رَائِحَة الاعتزال: ﴿فَزَادَهُم الله مَرضا﴾ وَإِنَّمَا أسندت زِيَادَة مرض قُلُوبهم إِلَى الله تَعَالَى مَعَ أَن زِيَادَة هاته الْأَمْرَاض القلبية من ذَاتهَا، لِأَن الله تَعَالَى لما خلق هَذَا التولد وأسبابه وَكَانَ أمره خفِيا، نبه النَّاس على خطر الاسترسال فِي النوايا الخبيثة والأعمال الْمُنكرَة، وَأَنه من شَأْنه أَن يزِيد تِلْكَ النوايا تمَكنا من الْقلب فيعسر أَو يتَعَذَّر الإقلاع عَنْهَا بعد تمكنها، وأسندت تِلْكَ الزِّيَادَة إِلَى اسْمه تَعَالَى لِأَن الله غضب عَلَيْهِم فأهملهم وشأنهم وَلم يتداركهم بِلُطْفِهِ الَّذِي يوقظهم من غفلاتهم لينبه الْمُسلمين إِلَى خطر أمرهَا وَأَنَّهَا مِمَّا يعسر إقلاع أَصْحَابهَا عَنْهَا ليَكُون حذرهم من معاملتهم أَشد مَا يُمكن. وَله كَلَام جيد فِي تَقْدِير الْمَحْذُوف فِي لَا إِلَه إِلَّا الله: قَالَ: قد أفادت
- ٧٤٤ - جملَة (لَا إِلَه إِلَّا هُوَ) التَّوْحِيد لِأَنَّهَا نفت حَقِيقَة الألوهية عَن غير الله تَعَالَى. وَخبر" لَا" مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ مَا فِي" لَا "من معنى النَّفْي لِأَن كل سامع يعلم أَن المُرَاد نفي هَذِه الْحَقِيقَة فالتقدير لَا إِلَه مَوْجُود إِلَّا هُوَ، وَقد عرضت حيرة للنحاة فِي تَقْدِير الْخَبَر فِي هاته الْكَلِمَة ...الخ كَمَا تعرض للْخلاف فِي مُسَمّى الْإِيمَان فَأطَال فِيهِ إطالة خرجت عَن حد التَّفْسِير وتورط فِيهَا ورطة كَبِيرَة كَمَا سَيَأْتِي فِي نِهَايَة حديثنا عَن هَذَا التَّفْسِير. وَله ردود ومناقشات مَعَ الْفرق وَمن ذَلِك: حَملته فِي الْمُقدمَة الثَّالِثَة على تَفْسِير الباطنية وَقد عرج على التَّفْسِير الإشاري وخرجه تخريجًا يوحي بقبوله لَهُ وَقَالَ فِي بعض أنحائه: وَرَأَيْت الشَّيْخ محيي الدَّين يُسَمِّي هَذَا النَّوْع سَمَاعا وَلَقَد أبدع. وَقد تعرض للإباضية وَقَوْلهمْ فِي الْإِيمَان كَمَا تعرض لبَعض الخلافات بَين الأشاعرة والمعتزلة وَابْن عاشور يُؤْخَذ عَلَيْهِ أَنه ينْقل عَن أنَاس معروفين بالزيغ فِي بَاب الِاعْتِقَاد فَهُوَ ينْقل عَن ابْن سينا وَأَمْثَاله إِذْ يَقُول بعد ذكر كَلَام للرازي: قلت: وَلم يسم الإِمَام الْمرتبَة الثَّالِثَة باسم وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُلْحقَة فِي الِاسْم
- ٧٤٥ - فِي الْمرتبَة الثَّالِثَة أَعنِي الْعُبُودِيَّة لِأَن الشَّيْخ ابْن سينا قَالَ فِي الإشارات: الْعَارِف يُرِيد الْحق لَا لشَيْء غَيره وَلَا يُؤثر شَيْئا على عرفانه وتعبده لَهُ فَقَط لِأَنَّهُ مُسْتَحقّ لِلْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا نِسْبَة شريفة إِلَيْهِ لَا لرغبة أَو رهبة ا. هـ فجعلهما حَالَة وَاحِدَة. كَمَا ينْقل عَنهُ مرّة ثَانِيَة بعْدهَا بصفحة فَيَقُول: وَأَقل مِنْهُ قَول الشَّيْخ ابْن سينا فِي الإشارات: لما لم يكن الْإِنْسَان بِحَيْثُ يسْتَقلّ وَحده بِأَمْر نَفسه إِلَّا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بَينهمَا يفرغ كل وَاحِدَة مِنْهُمَا لصَاحبه عَن مُهِمّ لَو تولاه لنَفسِهِ لازدحم على الْوَاحِد كثير وَكَانَ مِمَّا يتعسر إِن أمكن، وَجب أَن يكون بَين النَّاس مُعَاملَة وَعدل يحفظه شرع يفرضه شَارِع متميز بِاسْتِحْقَاق الطَّاعَة، وَوَجَب أَن يكون للمحسن والمسيء جَزَاء من عِنْد الْقَدِير الْخَبِير، فَوَجَبَ معرفَة الْمجَازِي والشارع، وَأَن يكون مَعَ الْمعرفَة سَبَب حَافظ للمعرفة فَفرضت عَلَيْهِم الْعِبَادَة المذكِّرة للمعبود، وكررت عَلَيْهِم ليستحفظ التَّذْكِير بالتكرير ا. هـ وَتقدم نَقله عَن ابْن عَرَبِيّ. كَمَا تأثر بِمن لَدَيْهِ انحراف فِي عقيدته وَنقل عَنهُ كثيرا أَمْثَال الزَّمَخْشَرِيّ، وَهُوَ يثني على الْغَزالِيّ وينقل عَنهُ كثيرا أَيْضا. ثَالِثا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ: وَمن مَوَاضِع تَفْسِير ابْن عاشور لِلْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَهِي تكَاد تكون نادرة وَغير مُبَاشرَة قَوْله: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم﴾ قَالَ: وَقيل: أُرِيد بالذين آمنُوا الَّذين أظهرُوا الْإِيمَان فَتكون خطابا لِلْمُنَافِقين فيؤول قَوْله ﴿الَّذين آمنُوا﴾ بِمَعْنى أظهرُوا الْإِيمَان فَيكون تهكما بهم على حد قَوْله ﴿وَقَالُوا ياأيها الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون﴾ فَيكون خطابا لِلْمُنَافِقين ...الخ. وَقَالَ: والعلو فِي قَوْله ﴿ولتعلن علوا كَبِيرا﴾ مجَاز فِي الطغيان والعصيان كَقَوْلِه كَقَوْلِه ﴿إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض﴾ وَقَوله
- ٧٤٦ - ﴿إِنَّه كَانَ عَالِيا من المسرفين﴾ وَقَوله ﴿أَلا تعلوا عَليّ وأتوني مُسلمين﴾ تَشْبِيها للتكبر والطغيان بالعلو على الشَّيْء لامتلاكه تَشْبِيه مَعْقُول بمحسوس. رَابِعا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالسنةِ: وأفرد ابْن عاشور الْمُقدمَة الثَّالِثَة من مقدماته الْعشْر: فِي صِحَة التَّفْسِير بِغَيْر الْمَأْثُور وَمعنى التَّفْسِير بِالرَّأْيِ وَقد انتقد فِيهَا كتب التَّفْسِير بالمأثور حَتَّى تجَاوز الانتقاد إِلَى ذكر مَا لَيْسَ بِحَقِيقَة كَقَوْلِه: وَإِن أَرَادوا بالمأثور مَا رُوِيَ عَن النَّبِي ﴿وَعَن الصَّحَابَة خَاصَّة وَهُوَ مَا يظْهر من صَنِيع السُّيُوطِيّ فِي تَفْسِيره الدّرّ المنثور. لم يَتَّسِع ذَلِك الْمضيق إِلَّا قَلِيلا وَلم يغن عَن أهل التَّفْسِير فتيلا. وَهَذَا غير صَحِيح فالدر المنثور جَامع لأقوال التَّابِعين وَبَعض تَابِعِيّ التَّابِعين أَكثر مِمَّا جمع عَن الصَّحَابَة. وَقد انتقد الطَّبَرِيّ وَقَالَ عَن طَرِيقَته: وَذَلِكَ طَرِيق لَيْسَ بنهج وَقد سبقه إِلَيْهِ بَقِي ابْن مخلد وَلم نقف على تَفْسِيره، وشاكل الطَّبَرِيّ فِيهِ معاصروه، مثل ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم، فَللَّه در الَّذين لم يحبسوا أنفسهم فِي تَفْسِير الْقُرْآن على مَا هُوَ مأثور مثل الْفراء وَأبي عُبَيْدَة من الْأَوَّلين، والزجاج والرماني مِمَّن بعدهمْ، ثمَّ الَّذين سلكوا طريقهم مثل الزَّمَخْشَرِيّ وَابْن عَطِيَّة. وَأَقُول: بل لله در من حبسوا نفسهم على منهاج أَوَّلهمْ وَلم تزل أَقْدَامهم فِي مازلت فِيهِ أَقْدَام غَيرهم مِمَّن خَرجُوا من القفص لحتفهم. أما موقفه من الحَدِيث فيتعرض لَهُ على وَجه التَّفْسِير وَرُبمَا جَاءَ بِهِ لدلَالَة لغوية وَنَحْوهَا. وَهُوَ فِي الْغَالِب يذكر الْأَحَادِيث بِدُونِ تَخْرِيج. وَرُبمَا ذكر التَّخْرِيج وَهُوَ قَلِيل. وَقد يُخَالف المُصَنّف عَادَته لحَاجَة فِي نفس يَعْقُوب وَمن ذَلِك كَلَامه
- ٧٤٧ - عَن حَدِيث تَحْويل الْقبْلَة حَيْثُ لم يكتف بالتخريج وَلَا بالصناعة الحديثية بل ذكر أَيْضا طرفا من الْأَسَانِيد فَقَالَ عِنْد قَوْله﴾ سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس ماولاهم عَن قبلتهم؟: وَلذَلِك جزم أَصْحَاب هَذَا القَوْل بِأَن هَذِه الْآيَة نزلت بعد نسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس وَرووا ذَلِك عَن مُجَاهِد. وروى البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة من طَرِيق عبد الله بن رَجَاء عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء حَدِيث تَحْويل الْقبْلَة وَوَقع فِيهِ: فَقَالَ السُّفَهَاء - وهم الْيَهُود -: ﴿مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ ﴿قل لله الْمشرق وَالْمغْرب يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ . وَأخرجه فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق عَمْرو بن خَالِد عَن زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بِغَيْر هَذِه الزِّيَادَة، وَلَكِن قَالَ عوضهَا: وَكَانَت الْيَهُود قد أعجبهم إِذْ كَانَ يُصَلِّي قبل بَيت الْقُدس، وَأهل الْكتاب، فَلَمَّا ولى وَجهه قبل الْبَيْت أَنْكَرُوا ذَلِك. وَأخرجه فِي كتاب التَّفْسِير من طَرِيق أبي نعيم عَن زُهَيْر بِدُونِ شَيْء من هَاتين الزيادتين، وَالظَّاهِر أَن الزِّيَادَة الأولى مدرجة من إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، وَالزِّيَادَة الثَّانِيَة مدرجة من عَمْرو بن خَالِد لِأَن مُسلما وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ قد رووا حَدِيث الْبَراء عَن أبي إِسْحَاق من غير طَرِيق إِسْرَائِيل وَلم يكن فِيهِ إِحْدَى الزيادتين، فاحتاجوا إِلَى تَأْوِيل حرف الِاسْتِقْبَال من قَوْله ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء﴾ بِمَعْنى التَّحْقِيق لَا غير، أَي قد قَالَ السُّفَهَاء: ماولاهم. وَهَذَا التَّخْرِيج المطول - بِالنِّسْبَةِ للتفسير - لاقيمة لَهُ من حَيْثُ الصِّنَاعَة الحديثية لإِثْبَات الإدراج فِي الحَدِيث، ولابد فِي ذَلِك من نَص عَالم متخصص من الْحفاظ على ذَلِك الإدراج أَو التتبع الْكَامِل لجَمِيع طرق الحَدِيث ثمَّ عرضهَا على قَوَاعِد أهل المصطلح للوصول لتِلْك الدَّعْوَى العريضة. وَهُوَ أَحْيَانًا يغض طرفه عَن مَشْهُور الحَدِيث بِعِبَارَة مقتضبة لعدم قناعته بالتفسير الْمُتَرَتب عَلَيْهِ وَمن ذَلِك: قَوْله ﴿غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين﴾
- ٧٤٨ - قَالَ: فالمغضوب عَلَيْهِم: جنس للْفرق الَّتِي تَعَمّدت ذَلِك واستخفت بالديانة عَن عمد أَو تَأْوِيل بعيد جدا، والضالون: جنس للْفرق الَّتِي أَخْطَأت الدَّين عَن سوء فهم وَقلة إصغاء، وكلا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُوم لأننا مأمورون بِاتِّبَاع سَبِيل الْحق وَصرف الْجهد إِلَى إِصَابَته، وَالْيَهُود من الْفَرِيق الأول وَالنَّصَارَى من الْفَرِيق الثَّانِي وَمَا ورد فِي الْأَثر مِمَّا ظَاهره تَفْسِير ﴿المغضوب عَلَيْهِم﴾ باليهود و﴿الضَّالّين بالنصارى﴾ فَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَن فِي الْآيَة تعريضًا بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذين حق عَلَيْهِمَا هَذَانِ الوصفان لِأَن كلا مِنْهُمَا صَار علما فِيمَا أُرِيد التَّعْرِيض بِهِ فِيهِ. فَقَوله: "وَمَا ورد فِي الْأَثر مِمَّا ظَاهره.. "وَاضح جدا فِيمَا ذكرته، وَتَفْسِير الْآيَة بذلك يعْتَبر نصا فِيهَا لَا ظَاهرا كَمَا يُوهم كَلَامه وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور رَوَاهُ عدَّة وَاتفقَ السّلف على تَفْسِير الْآيَة بذلك حَتَّى قَالَ ابْن أبي حَاتِم: لَا أعلم بَين الْمُفَسّرين فِي هَذَا الْحَرْف خلافًا. وَرُبمَا نقد بعض الْأَحَادِيث ثمَّ تنَاقض. وَقد وهم فِي حَدِيث نسبه للنَّبِي ﷺ وَهُوَ من مَشْهُور كَلَام عَليّ بن أبي طَالب وَذَلِكَ فِي قَوْله: فالعالم يحرم عَلَيْهِ أَن يكتم من علمه مَا فِيهِ هدى للنَّاس لِأَن كتم الْهدى إِيقَاع فِي الضَّلَالَة سَوَاء فِي ذَلِك الْعلم الَّذِي بلغَة إِلَيْهِ فِي تَارِيخ الْخَبَر كالقرآن وَالسّنة الصَّحِيحَة وَالْعلم الَّذِي يحصل عَن النّظر كالاجتهادات إِذا بلغَة مبلغ غَلَبَة الظَّن بِأَن فِيهَا خيرا للْمُسلمين، وَيحرم عَلَيْهِ بطرِيق الْقيَاس الَّذِي تومئ إِلَيْهِ الْعلَّة أَن يثبت فِي النَّاس مَا يوقعهم فِي أَوْهَام بِأَن يلقنها وَهُوَ لَا يحسن تزيلها وَلَا تَأْوِيلهَا، فقد قَالَ رَسُول الله ﷺ: "حدثوا النَّاس بِمَا يفهمون أتحبون أَن يكذب الله وَرَسُوله؟ " وَكَذَلِكَ كل مَا يعلم أَن النَّاس لَا يحسنون وَضعه. وَهُوَ يتَعَرَّض لذكر أَسبَاب النُّزُول وَقد أفرد لَهَا الْمُقدمَة الْخَامِسَة حَيْثُ
- ٧٤٩ - تكلم فِيهَا عَن فوائدها وَأنكر على من توسع فِيهَا وخلط الغث بالسمين. وَمن مَوَاضِع ذكره لأسباب النُّزُول ماتقدم فِي قَضِيَّة تَحْويل الْقبْلَة. وَمِنْه أَيْضا قَوْله فِي آيَة ﴿ماكان لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض﴾: ... فَنزلت لبَيَان الْأَمر الأجدر فِيمَا جرى فِي شَأْن الأسرى فِي وَقعت بدر. وَذَلِكَ مارواه مُسلم عَن ابْن عَبَّاس وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَا مُخْتَصره أَن الْمُسلمين لما أَسرُّوا الْأُسَارَى، قَالَ أَبُو بكر: يانبي الله هم بَنو الْعم وَالْعشيرَة أرى أَن تَأْخُذ مِنْهُم فديَة فَتكون لنا قُوَّة على الْكفَّار، فَعَسَى الله أَن يهْدِيهم لِلْإِسْلَامِ وَقَالَ عمر: أرى أَن تمكننا فَنَضْرِب أَعْنَاقهم فَإِن هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكفْر وَصَنَادِيدهَا. فَهَوِيَ رَسُول الله مَا قَالَ أَبُو بكر فَأخذ مِنْهُم الْفِدَاء. كَمَا رَوَاهُ أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس فَأنْزل الله ﴿ماكان لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى﴾ . خَامِسًا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بأقوال السّلف: أما أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَلَا يكثر نقلهَا وَهُوَ فِي نَقله غَالِبا تَابع لِابْنِ عَطِيَّة والرازي وَنَحْوهمَا لَا عَن المصادر الأساسية، وَأما أَكثر نقُوله فَهِيَ عَن الْمُتَأَخِّرين أَمْثَال الرَّازِيّ وَالْغَزالِيّ وَصَاحب الْكَشَّاف والسكاكي والسيالكوتي والتفتازاني وَنَحْوهم. وَمن مَوَاضِع نَقله عَن السّلف قَوْله: ويعضدنا فِي هَذَا مَا ذكر الْفَخر عَن ابْن عَبَّاس والبراء بن عَازِب وَالْحسن أَن المُرَاد بالسفهاء الْمُشْركُونَ. وَمن الْمَوَاضِع الَّتِي تسْتَحقّ التَّنْبِيه لتعلقها بتفسير السّلف قَوْله: ... مثل اللات يزْعم الْعَرَب أَنه رجل كَانَ يلت السويق للحجيج وَأَن أَصله اللاتّ. وَهَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ زعما للْعَرَب بل هُوَ تَفْسِير صَحِيح ثَابت عَن حبر الْأمة وترجمان الْقُرْآن ابْن عَبَّاس.
- ٧٥٠ - سادسا: موقفه من السِّيرَة والتاريخ وَذكر الْغَزَوَات: وَالْمُصَنّف يتَعَرَّض للسيرة فِي مناسبات كَثِيرَة مِنْهَا مَا تقدم فِي أُسَارَى بدر. وَمن مَوَاضِع تعرضه للأمور التاريخية حَدِيثه عَن شهور الْعَرَب وإطالته فِيهَا تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿شهر رَمَضَان﴾ . سابعا: موقفه من الْإسْرَائِيلِيات: وَالْمُصَنّف إِذْ ينعى على التَّفْسِير بالمأثور إغراقه فِي الْإسْرَائِيلِيات ونقلها عَن أَئِمَّة أهل الْكتاب مِمَّن أسلم أَمْثَال عبد الله بن سَلام؟ ووهب بن مُنَبّه وَكَعب ابتكر تعاملا جَدِيدا مَعهَا وَهُوَ النَّقْل الْمُبَاشر من الْأَسْفَار وَمن ذَلِك: قَوْله: وَقد جَاءَ ذكر اللَّعْنَة على إِضَاعَة عهد الله فِي التَّوْرَاة مَرَّات وأشهرها الْعَهْد الَّذِي أَخذه مُوسَى على بني إِسْرَائِيل فِي (حواريب) حَسْبَمَا جَاءَ فِي سفر الْخُرُوج فِي الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين، والعهد الَّذِي أَخذه عَلَيْهِم فِي (مؤاب) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اللَّعْنَة على من تَركه وَهُوَ فِي سفر التَّثْنِيَة فِي الإصحاح الثَّامِن وَالْعِشْرين والإصحاح التَّاسِع وَالْعِشْرين وَمِنْه: أَنْتُم واقفون الْيَوْم جميعكم أَمَام الرب إِلَهكُم ... لكَي تدْخلُوا فِي عهد الرب وقسمه لِئَلَّا يكون فِيكُم الْيَوْم منصرف عَن الرب ... الخ ثامنا: موقفه من اللُّغَة: وَمِمَّا قَالَه المُصَنّف فِي تَقْدِيمه لكتابه: وَقد اهتممت فِي تفسيري هَذَا بِبَيَان وُجُوه الإعجاز ونكت البلاغة الْعَرَبيَّة وأساليب الِاسْتِعْمَال. وَقَالَ: واهتممت بتبيين مَعَاني الْمُفْردَات فِي اللُّغَة بضبط وَتَحْقِيق مِمَّا خلت عَن ضَبطه وتحقيقه كثير مِنْهُ قواميس اللُّغَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ فعلا حَيْثُ خرج من التَّفْسِير إِلَى إِضَافَة قَامُوس لغَوِيّ لمفردات الْقُرْآن وَمن أَمْثِلَة ذَلِك:
- ٧٥١ - الإطناب فِي كلمة حِجَارَة الإطناب الشَّديد فِي فواتح السُّور وَجعل الْمُقدمَة الثَّانِيَة: فِي استمداد علم التَّفْسِير وركز على أهمية علمي الْبَيَان والمعاني ثمَّ الشّعْر وَبِهِمَا صدر الْعُلُوم الَّتِي يستمد مِنْهَا التَّفْسِير فَقدم مَا حَقه التَّأْخِير وَأخر مَا حَقه التَّقْدِيم. وَجعل الْمُقدمَة التَّاسِعَة: فِي أَن الْمعَانِي الَّتِي تتحملها جمل الْقُرْآن تعْتَبر مُرَادة بهَا. وَأما الْمُقدمَة الْعَاشِرَة والأخيرة فَكَانَت فِي إعجاز الْقُرْآن وَيَقُول فِيهَا: وَإِن علاقَة هَذِه الْمُقدمَة بالتفسير هِيَ أَن مُفَسّر الْقُرْآن لَا يعد تَفْسِيره لمعاني الْقُرْآن بَالغا حد الْكَمَال فِي غَرَضه مَا لم يكن مُشْتَمِلًا على بَيَان دقائق من وُجُوه البلاغة فِي آيه المفسرة بِمِقْدَار مَا تسموا إِلَيْهِ الهمة من تَطْوِيل واختصار. وَفِي هَذَا مُبَالغَة مكشوفة فَإِن تَفْسِير ترجمان الْقُرْآن وَحبر الْأمة على الْإِطْلَاق كَانَ خَالِيا مِمَّا ذكر ثمَّ من بعده من أَئِمَّة التَّفْسِير من الصَّحَابَة الْكِبَار وَالتَّابِعِينَ الْأَبْرَار الَّذين أَجمعت الْأمة على إمامتهم فِي ذَلِك الْفَنّ لم يتَعَرَّضُوا لما ذكر، ثمَّ جهابذة الْمُفَسّرين الْمَشْهُود لَهُم أَمْثَال الإِمَام مَالك وَالْإِمَام أَحْمد وَبَقِي بن مخلد وَالنَّسَائِيّ وَابْن أبي حَاتِم والطبري ثمَّ ابْن كثير وَغَيرهم لم يتَعَرَّضُوا لما ذكر أَيْضا. وَمن إطناباته اللُّغَوِيَّة الَّتِي خرجت عَن حد التَّفْسِير وَالَّتِي هِيَ كَثِيرَة: كَلَامه عَن اشتقاق كلمة الْفَاتِحَة فِي قريب من صفحة كَامِلَة. كَمَا أَفَاضَ فِي وَجه إِضَافَة سُورَة إِلَى فَاتِحَة الْكتاب بِمَا يقرب من صفحة أَيْضا. وَكَذَا فِي أصل كلمة بَسْمَلَة أَكثر من صفحة كَامِلَة. وَفِي مُتَعَلق الْبَاء. وَفِي اشتقاق كلمة اسْم. وَفِي الْفرق بَين الْحَمد وَالثنَاء والمدح. كَمَا نقل بَابا من كَلَام سِيبَوَيْهٍ بِاخْتِصَار فَوَقع فِي أَكثر من
- ٧٥٢ - صفحة كَامِلَة وَهُوَ بَاب مَا ينصب من المصادر على إِضْمَار الْفِعْل غير الْمُسْتَعْمل إِظْهَاره. وَفِي جملَة الْحَمد هَل هِيَ إنشائية أم خبرية. وَهُوَ لاشك مُتَمَكن من اللُّغَة وَإِمَام بارع فِيهَا وَله إضافات جميلَة وَمن ذَلِك قَوْله عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد﴾ وَقد عَن لى فِي بَيَان إيقاعهم الْفساد أَنه مَرَاتِب: أَولهَا: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تِلْكَ الأدواء القلبية الَّتِى أَشَرنَا إِلَيْهَا فِيمَا مضى وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من المذام ويتولد من الْمَفَاسِد. الثَّانِيَة: إفسادهم النَّاس ببث تِلْكَ الصِّفَات والدعوة إِلَيْهَا وإفسادهم أَبْنَاءَهُم وعيالهم فِي اقتدائهم بهم فِي مساوئهم كَمَا قَالَ نوح ﵇ ﴿إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا﴾ الثَّالِثَة: إفسادهم بالأفعال الَّتِي ينشأ عَنْهَا فَسَاد الْمُجْتَمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الْفِتَن وتأليب الْأَحْزَاب على الْمُسلمين وإحداث العقبات فِي طَرِيق المصلحين. والإفساد: فعل مَا بِهِ الْفساد، والهمزة فِيهِ للجعل أَي جعل الْأَشْيَاء فَاسِدَة فِي الأَرْض. وَالْفساد أَصله اسْتِحَالَة مَنْفَعَة الشَّيْء النافع إِلَى مُضر بِهِ أَو بِغَيْرِهِ، وَقد يُطلق على وجود الشَّيْء مُشْتَمِلًا على مضرَّة، وَإِن لم يكن فِيهِ نفع من قبل يُقَال: فسد الشَّيْء بعد أَن كَانَ صَالحا، وَيُقَال: فَاسد إِذا وجد فَاسِدا من أول وهلة، وَكَذَلِكَ يُقَال: أفسد إِذا عمد إِلَى شَيْء صَالح فأزال صَلَاحه، وَيُقَال: أفسد إِذا أوجد فَسَادًا من أول الْأَمر. وَالْأَظْهَر أَن الْفساد مَوْضُوع للقدر الْمُشْتَرك فِي الْأَطْعِمَة، وَمِنْه إِزَالَة الْأَشْيَاء النافعة كالحرق وَالْقَتْل للبرآء، وَمِنْه إِفْسَاد الأنظمة كالفتن والجور، وَمِنْه إِفْسَاد المساعي كتكثير الْجَهْل وَتَعْلِيم الدعارة وتحسين الْكفْر ومناوأة الصَّالِحين، وَلَعَلَّ الْمُنَافِقين قد أخذُوا من ضروب الْإِفْسَاد بِالْجَمِيعِ، فَلذَلِك حذف مُتَعَلق تفسدوا تَأْكِيدًا للْعُمُوم الْمُسْتَفَاد من وُقُوع الْفِعْل فِي حيّز النَّفْي.
- ٧٥٣ - وَذكر الْمحل الَّذِي أفسدوا مَا يحتوى عَلَيْهِ وَهُوَ الأَرْض لتفظيع فسادهم بِأَنَّهُ مبثوث فِي هَذِه الأَرْض لِأَن وُقُوعه فِي رقْعَة مِنْهَا تَشْوِيه لمجموعها. وَالْمرَاد بِالْأَرْضِ هَذِه الكرة الأرضية بِمَا تحتوى عَلَيْهِ من الْأَشْيَاء الْقَابِلَة للإفساد من النَّاس وَالْحَيَوَان والنبات وَسَائِر الأنظمة والنواميس الَّتِي وَضعهَا الله تَعَالَى لَهَا. وَمن التحقيقات اللُّغَوِيَّة عميقة الدّلَالَة كَلَامه عَن "كَذَلِك" فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا﴾ . وَكَلَامه عَن "لَعَلَّ" وانفراده بقول مُسْتَقل فِيهَا حَيْثُ يَقُول: وَعِنْدِي وَجه آخر مُسْتَقل وَهُوَ أَن "لَعَلَّ" الْوَاقِعَة فِي مقَام تَعْلِيل أَمر أَو نهى لَهَا اسْتِعْمَال يغاير اسْتِعْمَال "لَعَلَّ" المستأنفة فِي الْكَلَام سَوَاء وَقعت فِي كَلَام الله أم فِي غَيره، فَإِذا قلت: افْتقدَ فلَانا لَعَلَّك تنصحه، كَانَ إِخْبَارًا باقتراب وُقُوع الشَّيْء وَأَنه فِي حيّز الْإِمْكَان إِن تمّ مَا علق عَلَيْهِ، فَأَما اقتضاؤه عدم جزم الْمُتَكَلّم بالحصول فَذَلِك معنى التزامي أَعلَى قد يعلم انتفاؤه بِالْقَرِينَةِ، وَذَلِكَ الانتفاء فِي كَلَام الله أوقع، فاعتقادنا بِأَن كل شَيْء لم يَقع أَو لَا يَقع فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ الْقَرِينَة على تَعْطِيل هَذَا الْمَعْنى الالتزامي دون احْتِيَاج إِلَى التَّأْوِيل فِي معنى الرَّجَاء الَّذِي تفيده "لَعَلَّ" حَتَّى أَن يكون مجَازًا أَو اسْتِعَارَة لِأَن "لَعَلَّ" إِنَّمَا أُتِي بهَا لِأَن الْمقَام يَقْتَضِي معنى الرَّجَاء فالتزام تَأْوِيل الدّلَالَة فِي كل مَوضِع فِي الْقُرْآن تَعْطِيل لِمَعْنى الرَّجَاء الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمقَام وَالْجَمَاعَة لجئوا إِلَى التَّأْوِيل لأَنهم نظرُوا إِلَى "لَعَلَّ" بِنَظَر مُتحد فِي مواقع اسْتِعْمَالهَا بِخِلَاف "لَعَلَّ" المستأنفة فَإِنَّهَا أقرب إِلَى إنْشَاء الرَّجَاء من إِلَى إِخْبَار بِهِ، وعَلى كل فَمَعْنَى "لَعَلَّ" غير معنى أَفعَال المقاربة. وَقد أَطَالَ فِي معنى الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى ﴿أولو كَانَ آباؤهم﴾ كَمَا توسع فِي اسْم الْإِشَارَة: ذَلِك فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى ﴿ذَلِك الْكتاب﴾ وَمن إطنابه فِي مسَائِل الْبَيَان بِمَا يخرج أَيْضا عَن
- ٧٥٤ - حد التَّفْسِير قَوْله: فسورة الْفَاتِحَة بِمَا تقرر منزلَة من الْقُرْآن منزلَة الديباجة للْكتاب أَو الْمُقدمَة للخطبة، وَهَذَا الأسلوب لَهُ شَأْن عَظِيم فِي صناعَة الْأَدَب الْعَرَبِيّ وَهُوَ أعون للفهم وأدعى للوعي. وَقد رسم أسلوب الْفَاتِحَة للمنشئين ثَلَاث قَوَاعِد للمقدمة: الْقَاعِدَة الأولى: إيجاز الْمُقدمَة لِئَلَّا تمل نفوس السامعين بطول انْتِظَار الْمَقْصُود وَهُوَ ظَاهر فِي الْفَاتِحَة، وليكون سنة للخطباء فَلَا يطيلوا الْمُقدمَة كي لَا ينسبوا إِلَى العي فَإِنَّهُ بِمِقْدَار مَا تطال الْمُقدمَة يقصر الْغَرَض، وَمن هَذَا يظْهر وَجه وَضعهَا قبل السُّور الطوَال مَعَ أَنَّهَا سُورَة قَصِيرَة. الثَّانِيَة: أَن تُشِير إِلَى الْغَرَض الْمَقْصُود وَهُوَ مَا يُسمى براعة الاستهلال لِأَن ذَلِك يُهَيِّئ السامعين لسَمَاع تَفْصِيل مَا سيرد عَلَيْهِم فيتأهبوا لتلقيه إِن كَانُوا من أهل التلقي فَحسب، أَو لنقده وإكماله إِن كَانُوا فِي تِلْكَ الدرجَة، وَلِأَن ذَلِك يدل على تمكن الْخَطِيب من الْغَرَض وثقته بسداد رَأْيه فِيهِ بِحَيْثُ يُنَبه السامعين لوعيه، وَفِيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كَلَامهم. وَقد تقدم بَيَان اشْتِمَال الْفَاتِحَة على هَذَا عِنْد الْكَلَام على وَجه تَسْمِيَتهَا أم الْقُرْآن. الثَّالِثَة: أَن تكون الْمُقدمَة من جَوَامِع الْكَلم وَقد بَين ذَلِك عُلَمَاء الْبَيَان عِنْد ذكرهم الْمَوَاضِع الَّتِي يَنْبَغِي للمتكلم أَن يتأنق فِيهَا. الرَّابِعَة: أَن تفتتح بِحَمْد الله. وَهُوَ من المكثرين جدا فِي الِاسْتِدْلَال بالشعر فِي أصل الْكتاب وحاشيته وقلما تمر صفحة إِلَّا وفيهَا بَيت من الشّعْر إِن لم يكن أَكثر. وَهُوَ حَرِيص جدا على نِسْبَة الشواهد الشعرية لأصحابها حَتَّى إِنَّه قَالَ فِيمَا لم يقف على من قَالَه: كَقَوْل بعض فتاك الْعَرَب فِي أمه (أنْشدهُ فِي الْكَشَّاف وَلم أَقف على تعْيين قَائِله) .... وَمن مَوَاضِع خُرُوجه عَن التَّفْسِير استطراده فِي تَسْمِيَة بعض الشُّعَرَاء تَعْلِيقا على اسْم شَاعِر اسْتدلَّ بِبَيْت لَهُ. وَمن استطراداته بِذكر أشعار كَثِيرَة كشواهد فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مَا ذكره
- ٧٥٥ - تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿الم﴾ وَقد وصل بِهِ الْأَمر إِلَى شرح شعر الشواهد. وَهُوَ يعْتَمد فِي كثير من ذَلِك على الْكَشَّاف وشروحه اعْتِمَادًا كَبِيرا. وَمن مَوَاضِع اهتمامه بالتنبيه على النكات البلاغية: وَاخْتِيَار لفظ النُّور فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ذهب الله بنورهم﴾ دون الضَّوْء وَدون النَّار لِأَن لفظ النُّور أنسب، لِأَن الَّذِي يشبه النَّار من الْحَالة المشبهة هُوَ مظَاهر الْإِسْلَام الَّتِي يظهرونها، وَقد شاع التَّعْبِير عَن الْإِسْلَام بِالنورِ فِي الْقُرْآن، فَصَارَ اخْتِيَار لفظ النُّور هُنَا بِمَنْزِلَة تَجْرِيد الِاسْتِعَارَة لِأَنَّهُ أنسب بِالْحَال المشبهة، وَعبر عَمَّا يُقَابله فِي الْحَال الْمُشبه بهَا بِلَفْظ يصلح لَهما أَو هُوَ بالمشبه أنسب فِي إصطلاح الْمُتَكَلّم كَمَا قدمنَا الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي وَجه جمع الضَّمِير فِي قَوْله ﴿بنورهم﴾ . وَانْظُر كَلَامه عَن الْمثل فِي اللُّغَة والتمثيل. وَله كَلَام جيد عَن التَّشْبِيه فِي قَوْله ﴿وَمثل الَّذين كفرُوا﴾ وَفِي الِاسْتِعَارَة هَل هِيَ تَبَعِيَّة أم تمثيلية؟ وَمن اهتمامه بالتنبيه على النكات فِي الْمُتَشَابه اللَّفْظِيّ قَوْله: قد يَقُول قَائِل إِن قَرِيبا من هَذِه الْجُمْلَة تقدم عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَالك من الله من ولي وَلَا نصير﴾ فَعبر هُنَالك باسم الْمَوْصُول (الَّذِي) وَعبر هُنَا باسم الْمَوْصُول (مَا)، وَقَالَ هُنَالك (بعد) وَقَالَ هُنَا (من بعد) وَجعل جَزَاء هُنَالك انْتِفَاء ولي ونصير، وَجعل الْجَزَاء هُنَا أَن يكون من الظَّالِمين، وَقد أورد هَذَا السُّؤَال صَاحب درة التَّنْزِيل وغرة التَّأْوِيل وحاول إبداء خصوصيات تفرق بَين مَا اخْتلفت فِيهِ الْآيَتَانِ وَلم يَأْتِ بِمَا يشفي ....ثمَّ ذكر وَجها آخر أحسن مِنْهُ. وَقد تعرض المُصَنّف للإعجاز فِي مَوَاضِع عدَّة وَمن ذَلِك: مُقَارنَة بَين
- ٧٥٦ - شعر وَآيَة الإعجاز وتعلقه بِسُورَة أَو آيَات وَقد أَطَالَ فِي الحَدِيث عَن الإعجاز تَحت قَوْله ﴿وَلنْ تَفعلُوا﴾ . تاسعا: موقفه من الْقرَاءَات: وَقد جعل المُصَنّف الْمُقدمَة السَّادِسَة فِي الْقرَاءَات وَبَين فِيهَا سَبَب إعراضه عَن ذكر كثير من الْقرَاءَات فِي أثْنَاء التَّفْسِير. وَقَالَ ﵀: (تَنْبِيه) أَنا أقتصر فِي هَذَا التَّفْسِير على التَّعَرُّض لاخْتِلَاف الْقرَاءَات الْعشْر الْمَشْهُورَة خَاصَّة فِي أشهر رِوَايَات الراوين عَن أَصْحَابهَا لِأَنَّهَا متواترة، وَإِن كَانَت الْقرَاءَات السَّبع قد امتازت على بَقِيَّة الْقرَاءَات بالشهرة بَين الْمُسلمين فِي أقطار الْإِسْلَام. وأبني أول التَّفْسِير على قِرَاءَة نَافِع بِرِوَايَة عِيسَى بن مينا الْمدنِي الملقب بقالون لِأَنَّهَا الْقِرَاءَة المدنية إِمَامًا وراويًا وَلِأَنَّهَا الَّتِي يقْرَأ بهَا مُعظم أهل تونس، ثمَّ أذكر خلاف بَقِيَّة الْقُرَّاء الْعشْرَة خَاصَّة. وَلم يلْتَزم بِمَا قَالَ، بل أطنب إطنابا غَرِيبا فِي بعض الْمَوَاضِع وَمن ذَلِك قَوْله: والصراط: الطَّرِيق وَهُوَ بالصَّاد وَالسِّين وَقد قرئَ بهما فِي الْمَشْهُورَة وَكَذَلِكَ نطقت بِهِ بِالسِّين جُمْهُور الْعَرَب إِلَّا أهل الْحجاز نطقوه بالصَّاد مبدلة عَن السِّين لقصد التَّخْفِيف فِي الِانْتِقَال من السِّين إِلَى الرَّاء ثمَّ إِلَى الطَّاء قَالَ فِي لطائف الإشارات عَن الجعبرى: إِنَّهُم يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي كل سين بعْدهَا غين أَو خاء أَو قَاف أَو طاء وَإِنَّمَا قلبوها هُنَا صادًا لتطابق الطَّاء فِي الإطباق والاستعلاء والتفخم مَعَ الرَّاء استثقالا للانتقال من سفل إِلَى علو اهـ. أى بِخِلَاف الْعَكْس نَحْو طست لِأَن الأول عمل وَالثَّانِي ترك. وقيسٌ قلبوا السِّين بَين الصَّاد وَالزَّاي وَهُوَ إشمام وَقَرَأَ بِهِ حَمْزَة فِي رِوَايَة خلف عَنهُ. وَمن الْعَرَب من قلب السِّين زايًا خَالِصَة قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهِي لُغَة عذرة وكلب وَبني الْقَيْن وَهِي مرجوحة وَلم يقْرَأ بهَا، وَقد قَرَأَ باللغة الفصحى (بالصَّاد) جُمْهُور الْقُرَّاء وَقَرَأَ بِالسِّين ابْن كثير فِي رِوَايَة قنبل، وَالْقِرَاءَة بالصَّاد هِيَ الراجحة لموافقتها
- ٧٥٧ - رسم الْمُصحف وَكَونهَا اللُّغَة الفصحى. وَقَالَ: وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي حَرَكَة مِيم ضمير الْجمع الْغَائِب الْمُذكر فِي الْوَصْل إِذا وَقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا ﴿عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم﴾ بِسُكُون الْمِيم وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو جَعْفَر وقالون فِي رِوَايَة عَنهُ بضمة مشبعة ﴿غير المغضوب عليهمو﴾ وَهِي لُغَة لبَعض الْعَرَب وَعَلَيْهَا قَول لبيد: وهمو فوارسها وهم حكامها فجَاء باللغتين وَقَرَأَ ورش بِضَم الْمِيم وإشباعها إِذا وَقع بعد الْمِيم همز دون نَحْو ﴿غير المغضوب عَلَيْهِم﴾ وَأجْمع الْكل على إسكان الْمِيم فِي الْوَقْف. وَفِي قَوْله ﴿فَمن اضْطر غير بَاغ﴾ قَالَ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: فَمن اضْطر بِكَسْر الطَّاء، لِأَن أَصله اضطرر براءين أولاهما مَكْسُورَة فَلَمَّا أُرِيد إدغام الرَّاء الأولى فِي الثَّانِيَة نقلت حركتها إِلَى الطَّاء بعد طرح حَرَكَة الطَّاء. وَانْظُر أَيْضا فِي تعرضه لِلْأُصُولِ فِي الْقرَاءَات كَلَامه فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ءأنذرتهم﴾ وَهَذَا خُرُوج سَافر عَمَّا أَخذه على نَفسه من عدم الإطالة فِي الْقرَاءَات فجل الْمُفَسّرين إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْخلاف الْمُؤثر فِي الْمَعْنى أَو الْمُتَعَلّق بِهِ لَا فِي الْأَدَاء وَنَحْوه. وَقد أَخطَأ خطأ فَاحِشا فِي عزو الْقرَاءَات فِي قَوْله تَعَالَى ﴿يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا ومايخدعون إِلَّا أنفسهم ومايشعرون﴾ حَيْثُ قَالَ: وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل قِرَاءَة ابْن عَامر وَمن مَعَه: يخدعون الله. وَهَذَا إِنَّمَا يدْفع الْإِشْكَال عَن إِسْنَاد صُدُور الخداع من الله وَالْمُؤمنِينَ مَعَ تَنْزِيه الله وَالْمُؤمنِينَ عَنهُ، وَلَا يدْفع إِشْكَال صُدُور الخداع من الْمُنَافِقين لله. وَأما التَّأْوِيل فِي فَاعل ﴿يخادعون﴾ الْمُقدر وَهُوَ الْمَفْعُول أَيْضا فبأن يَجْعَل المُرَاد أَنهم يخادعون رَسُول الله فالإسناد إِلَى الله تَعَالَى إِمَّا على طَرِيق الْمجَاز الْعقلِيّ لأجل الملابسة بَين الرَّسُول ومرسله، وَإِمَّا مجَاز بالحذف
- ٧٥٨ - للمضاف، فَلَا يكون مُرَادهم خداع الله حَقِيقَة، وَيبقى أَن يكون رَسُول الله مخدوعا مِنْهُم ومخادعا لَهُم، وَأما تَجْوِيز مخادعة الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ لِلْمُنَافِقين لِأَنَّهَا جَزَاء لَهُم على خداعهم كَذَلِك غير لَائِق. وَقَالَ: وَاعْلَم أَن قَوْله ﴿وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم﴾ أَجمعت الْقرَاءَات الْعشْرَة على قِرَاءَته بِضَم التَّحْتِيَّة وَفتح الْخَاء بعْدهَا ألف، وَالنَّفس فِي لِسَان الْعَرَب الذَّات وَالْقُوَّة الْبَاطِنَة الْمعبر عَنْهَا بِالروحِ وخاطر الْعقل. وَهَذَا الَّذِي ذكره هُوَ عكس الْحَقِيقَة فقد أجمع الْقُرَّاء على قِرَاءَة ﴿يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا﴾ بِضَم الْيَاء وَالْألف على المفاعلة، وَأما فِي الْموضع الثَّانِي فَاخْتَلَفُوا فقرأها الْجَمِيع ماعدا نَافِع وَابْن كثير وَأبي عَمْرو واليزيدي ﴿ومايخدعون إِلَّا أنفسهم﴾ بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْخَاء بِدُونِ ألف، وَقرأَهَا الْبَاقُونَ كالحرف الأول. وَقد أَطَالَ إطالة شَدِيدَة فِي اخْتلَافهمْ فِي قِرَاءَة ﴿وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب أَن الْقُوَّة لله﴾ عاشرا: موقفه من الْفِقْه وَالْأُصُول: أَطَالَ ﵀ نَفسه كعادته فِي بعض الْمسَائِل الَّتِي لَا علاقَة لَهَا بالتفسير وَمن ذَلِك قِرَاءَة الْبَسْمَلَة عِنْد الشُّرُوع فِي قِرَاءَة السُّورَة أَو أَجْزَائِهَا. وَقد أطنب فِي مَسْأَلَة هَل الْبَسْمَلَة آيَة من كل سُورَة أم لَا إطناب الْفُقَهَاء لَا الْمُفَسّرين. وَمن مَوَاضِع حَدِيثه عَن الفقهيات بتطويل مَسْأَلَة اسْتِقْبَال الْقبْلَة. وَله كَلَام فقهي عَجِيب فِي ماذبح بنية أَن الْجِنّ تشرب دَمه ولايذكرون اسْم الله عَلَيْهِ تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا أهل بِهِ لغير الله﴾ وَهُوَ لَا يلْتَزم مَذْهَب مَالك وينقل عَن الظَّاهِرِيَّة وَأهل الحَدِيث وَمن كَلَامه الْجيد فِي الْفِقْه مَعَ كَونه اسْتِطْرَادًا فِي التَّفْسِير قَوْله: وَمن العجيب مَا
- ٧٥٩ - يتَعَرَّض لَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاء من الْبَحْث فِي حُرْمَة خِنْزِير المَاء وَهِي مَسْأَلَة فارغة إِذْ أَسمَاء أَنْوَاع الْحُوت روعيت فِيهَا المشابهة كَمَا سموا بعض الْحُوت فرس الْبَحْر وَبَعضه حمام الْبَحْر وكلب الْبَحْر، فَكيف يَقُول أحد بتأثير الْأَسْمَاء والألقاب فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة؟ وَفِي الْمُدَوَّنَة توقف مَالك أَن يُجيب فِي خِنْزِير المَاء وَقَالَ: أَنْتُم تَقولُونَ خِنْزِير. قَالَ ابْن شأش: رأى غير وَاحِد أَن توقف مَالك حَقِيقَة لعُمُوم ﴿أحل لكم صيد الْبَحْر﴾ عُمُوم قَوْله تَعَالَى ﴿وَلحم الْخِنْزِير﴾ وَرَأى بَعضهم أَنه غير مُتَوَقف فِيهِ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا امْتنع من الْجَواب إنكارا عَلَيْهِم تسميتهم إِيَّاه خنزيرا وَلذَلِك قَالَ: أَنْتُم تسمونه خنزيرا؟ يَعْنِي أَن الْعَرَب لم يَكُونُوا يسمونه خنزيرا وَأَنه لَا يَنْبَغِي تَسْمِيَته خنزيرا، ثمَّ السُّؤَال عَن أكله حَتَّى يَقُول قَائِلُونَ: أكلُوا لحم الْخِنْزِير، أَي فَيرجع كَلَام مَالك إِلَى صون أَلْفَاظ الشَّرِيعَة أَلا يتلاعب بهَا، وَعَن أبي حنيفَة أَنه منع أكل خِنْزِير الْبَحْر غير مُتَرَدّد أخذا بِأَنَّهُ سمي خنزيرا، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوف بِصَاحِب الرَّأْي، وَمن أَيْن لنا أَلا يكون لذَلِك الْحُوت اسْم آخر فِي لُغَة بعض الْعَرَب فَيكون أكله محرما على فريق ومباحا لفريق؟ موقفه من النّسخ: وَهُوَ يَقُول بالنسخ وَله فِي تفاصيله تفردات وَمن ذَلِك قَوْله مُعَللا بَقَاء تِلَاوَة الْمَنْسُوخ حكما: وَقد بدا لي دَلِيل قوي على هَذَا وَهُوَ بَقَاء الْآيَات الَّتِي نسخ حكمهَا وَبقيت متلوة من الْقُرْآن ومكتوبة فِي الْمَصَاحِف فَإِنَّهَا لما نسخ حكمهَا لم يبْق وَجه لبَقَاء تلاوتها وكتبها فِي الْمَصَاحِف إِلَّا مَا فِي مِقْدَار مجموعها من البلاغة بِحَيْثُ يلتئم مِنْهَا مِقْدَار ثَلَاث آيَات متحدى بالإتيان بِمِثْلِهَا مِثَال ذَلِك آيَة الْوَصِيَّة فِي سُورَة الْعُقُود. وَمن كَلَامه فِي النّسخ قَوْله: وَقد اتّفق عُلَمَاء الْإِسْلَام على أَن الْوَصِيَّة لَا تكون لوَارث لما رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن عَن عَمْرو بن خَارِجَة وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
- ٧٦٠ - وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي أَمَامه كِلَاهُمَا يَقُول سَمِعت النبيء قَالَ: "إِن الله أعْطى كل ذى حق حَقه، أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث". وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع، فَخص بذلك عُمُوم الْوَالِدين وَهَذَا التَّخْصِيص نسخ، لِأَنَّهُ وَقع بعد الْعَمَل بِالْعَام وَهُوَ وَإِن كَانَ خبر آحَاد فقد اعْتبر من قبيل الْمُتَوَاتر، لِأَنَّهُ سَمعه الكافة وتلقاه عُلَمَاء الْأمة بِالْقبُولِ. وَفِي معرض استبعاده لتشريع كَيْفيَّة الصّيام السَّابِقَة لصيام رَمَضَان الثَّابِتَة فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة قَالَ: فَأَما أَن يكون ذَلِك قد شرع ثمَّ نسخ فَلَا أَحْسبهُ، إِذْ لَيْسَ من شَأْن الدَّين الَّذِي شرع الصَّوْم أول مرّة يَوْمًا فِي السّنة ثمَّ دَرَجه فشرع الصَّوْم شهرا على التَّخْيِير بَينه وَبَين الطَّعَام تَخْفِيفًا على الْمُسلمين؛ أَن يفرضه بعد ذَلِك لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَا يُبِيح الْفطر إِلَّا سَاعَات قَليلَة من اللَّيْل. وَالرَّدّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْكَلَام يطول وَيَكْفِي فِي ذَلِك ثُبُوت الرِّوَايَة وَلم ينتبه لمدلول كلمة ﴿تختانون﴾ وَكلمَة ﴿فَتَابَ عَلَيْكُم﴾ وَكلمَة ﴿وَعَفا عَنْكُم﴾ حَيْثُ أضْرب عَن تَفْسِيرهَا تَمامًا، كَمَا حاول تَأْوِيل كلمة ﴿فَالْآن﴾ لِأَنَّهَا لَيست متوافقة مَعَ ماذهب إِلَيْهِ. وَمن مَوَاضِع تعرضه لِلْأُصُولِ قَوْله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا﴾ وَأما كَون الْآيَة دَلِيلا على حجية إِجْمَاع الْمُجْتَهدين عَن نظر واجتهاد فَلَا يُؤْخَذ من الْآيَة إِلَّا بِأَن يُقَال: إِن الْآيَة يسْتَأْنس بهَا لذَلِك فَإِنَّهَا لما أخْبرت أَن الله تَعَالَى جعل هَذِه الْأمة وسطا وَعلمنَا أَن الْوسط هُوَ الْخِيَار الْعدْل الْخَارِج من بَين طَرفَيْهِ إفراط وتفريط علمنَا أَن الله تَعَالَى أكمل عقول هَذِه الْأمة بِمَا تنشأ عَلَيْهِ الْعُقُول من الِاعْتِقَاد بالعقائد الصَّحِيحَة ومجانبة الأوهام السخيفة الَّتِي ساخت فِيهَا عقول الْأمة.
- ٧٦١ - وَيَقُول أَيْضا: وعَلى هَذَا التَّفْسِير يجىء قَول الْفُقَهَاء إِن شَهَادَة أهل الْمعرفَة بِإِثْبَات الْعُيُوب أَو بالسلامة لَا تشْتَرط فِيهَا الْعَدَالَة، وَكنت أعلل ذَلِك فِي دروس الْفِقْه بِأَن الْمَقْصُود من الْعَدَالَة تحقق الْوَازِع عَن شَهَادَة الزُّور، وَقد قَامَ الْوَازِع العلمي فِي شَهَادَة أهل الْمعرفَة مقَام الْوَازِع الديني لِأَن الْعَارِف حَرِيص مَا اسْتَطَاعَ أَن يُؤثر عَنهُ الْغَلَط وَالْخَطَأ وَكفى بذلك وازعا عَن تَعَمّده وَكفى بِعِلْمِهِ مَظَنَّة لإصابة الصَّوَاب فَحصل الْمَقْصُود من الشَّهَادَة. ود أَطَالَ فِي حَدِيثه عَن بعض القضايا الْعَقْلِيَّة الْأُصُولِيَّة وَهِي قَضِيَّة التَّكْلِيف بالمحال عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿سَوَاء عَلَيْهِم ءأنذرتهم﴾ وَهُوَ يتذرع كثيرا بالمجاز وَمن ذَلِك ماذكره تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿ختم الله على قُلُوبهم﴾ حادي عشر: موقفه من الْعُلُوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية: وَقد اهتم بذلك ابْن عاشور على الرغم من استنكاره على الْمُفَسّرين الحشو وَالنَّقْل غير الدَّقِيق فحشا بهَا تَفْسِيره وَمن ذَلِك قَوْله: قَالَ ابْن عَرَفَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: ﴿تولج اللَّيْل فِي النَّهَار﴾ كَانَ بَعضهم يَقُول: إِن الْقُرْآن يشْتَمل على أَلْفَاظ يفهمها الْعَوام وألفاظ يفهمها الْخَواص وعَلى مَا يفهمهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْه هَذِه الْآيَة فَإِن الْإِيلَاج يَشْمَل الْأَيَّام الَّتِي لَا يُدْرِكهَا إِلَّا الْخَواص والفصول الَّتِي يُدْرِكهَا سَائِر الْعَوام. أَقُول: وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقًا ففتقناهما﴾ وَالدَّلِيل على إصراره على هَذَا الْفَهم المعكوس قَوْله: وَفِي ذَلِك آيَة لخاصة الْعُقَلَاء إِذْ يعلمُونَ أَسبَاب اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار على الأَرْض وَإنَّهُ من آثَار دوران الأَرْض حول الشَّمْس فِي كل يَوْم وَلِهَذَا جعلت الْآيَة فِي اخْتِلَافهمَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن كلا مِنْهُمَا ... الخ ويبدو أَن جهلة الْقرن التَّاسِع عشر عِنْد ابْن عاشور هم الْخَواص الَّذين
- ٧٦٢ - خاطبهم الْقُرْآن وعلماء الْقُرُون المفضلة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ هم الْعَوام حشرنا الله مَعَهم. وَيَقُول: وَأعظم تِلْكَ الْأَسْرَار تكوينها على هَيْئَة كرية. قَالَ الْفَخر: كَانَ عمر بن الحسام يقْرَأ كتاب المجسطي على عمر الْأَبْهَرِيّ فَقَالَ لَهما بعض الْفُقَهَاء يَوْمًا: مَا الَّذِي تقرأونه؟ فَقَالَ الْأَبْهَرِيّ أفسر قَوْله تَعَالَى ﴿أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها﴾ فَأَنا أفسر كَيْفيَّة بنائها. وَلَقَد صدق الْأَبْهَرِيّ فِيمَا قَالَ فَإِن كل من كَانَ أَكثر توغلا فِي بحار الْمَخْلُوقَات كَانَ أَكثر علما بِجلَال الله تَعَالَى وعظمته. ا.هـ. ويبدو أَن النَّبِي ﷺ لم يطبق هَذَا الْأَمر من النّظر إِلَى السَّمَاء كَيفَ بناها الله كَمَا أَنه لم يعلم أعظم الْأَسْرَار الَّتِي لَا تدخل جنَّة وَلَا تنجي من نَار! وَكَذَا صَحبه الأخيار ثمَّ عُلَمَاء الْأمة الْأَبْرَار حَتَّى جَاءَ هَذَا الَّذِي لَعَلَّه لَا يحسن وضوءه ليفسرها. والنتيجة الَّتِي وصل إِلَيْهَا غير صَحِيحَة فكم من عَالم متوغل فِي بحار الْمَخْلُوقَات وَهُوَ من أعظم النَّاس جهلا بربه. وَقَالَ: وَأما وَجه شبه السَّمَاء بِالْبِنَاءِ فَهُوَ أَن الكرة الهوائية جعلهَا الله حاجزة بَين الكرة الأرضية وَبَين الكرة الأثيرية فَهِيَ كالبناء فِيمَا يُرَاد لَهُ الْبناء وَهُوَ الْوِقَايَة من الأضرار النَّازِلَة، فَإِن الكرة الهوائية بَين الكرة ......الخ فَأطَال بِمَا لايسمن ولايغني من جوع. ثمَّ وَقع ﵀ فِي طامة من الطَّامَّات الَّتِي يَقع فِيهَا غَالِبا المفتونون بِتِلْكَ الْعُلُوم المقحمون لَهَا فِي دبن الله ﷿ بِغَيْر ترو وَلَا بَصِيرَة فَقَالَ: وَالسَّمَاوَات جمع سَمَاء وَالسَّمَاء إِذا أطلقت فَالْمُرَاد بهَا الجو الْمُرْتَفع وَإِذا جمعت فَالْمُرَاد بهَا أجرام عَظِيمَة ذَات نظام عَظِيمَة وَهِي السيارات الْعَظِيمَة الْمَعْرُوفَة وَالَّتِي عرفت من بعد وَالَّتِي ستعرف عُطَارِد، والزهرة، والمريخ، وَالشَّمْس، وَالْمُشْتَرِي، وزحل، وأروانوس، ونبتون. ولعلها هِيَ السَّمَاوَات السَّبع وَالْعرش الْعَظِيم وَهَذَا السِّرّ فِي جمع السَّمَاوَات هُنَا وإفراد الأَرْض لِأَن الأَرْض عَالم
- ٧٦٣ - وَاحِد فِي بعض الْآيَات فَهُوَ معنى طبقاتها أَو أَقسَام سطحها. السَّمَوَات السَّبع وَالْعرش الْعَظِيم؟؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم، وَلَا نقُول إِلَّا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه!! فَكيف نفهم إِذن أَحَادِيث الْمِعْرَاج المتواترة، وَكَيف نفهم أَحَادِيث قبض الْأَرْوَاح وَالْأَحَادِيث الَّتِي تَتَحَدَّث عَن خلق السَّمَوَات؟ وماذا يَقُول مفسرنا لَو عَاشَ إِلَى يَوْمنَا هَذَا واكتشف أَن هَذِه الأجرام الَّتِي فتنه الْعلم السطحي بهَا لَيست إِلَّا مَجْمُوعَة من المجموعات الشمسية فِي مجرة رَأس التبانة الَّتِي هِيَ وَاحِدَة من ملايين المجرات الَّتِي تسيح فِي هَذَا الْكَوْن؟ ثمَّ وَقع ﵀ فِي كَلَام غير علمي من نَاحيَة الْعُلُوم الحديثة ليته لم يقحم نَفسه فِيهِ فيضحك علينا من لَيْسَ منا، قَالَ: وَالدَّم مَعْرُوف مَدْلُوله فِي اللُّغَة وَهُوَ إِفْرَاز من المفرزات الناشئة عَن الْغذَاء وَبِه الْحَيَاة وأصل خلقته فِي الْجَسَد آتٍ من انقلاب دم الْحيض فِي رحم الْحَامِل إِلَى جَسَد الْجَنِين بِوَاسِطَة المصران الْمُتَّصِل بَين رحم وجسد الْجَنِين وَهُوَ الَّذِي يقطع حِين الْولادَة، وتجدده فِي جَسَد الْحَيَوَان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بِوَاسِطَة هضم الكبد للغذاء المنحدر إِلَيْهَا من الْمعدة بعد هضمه فِي الْمعدة، وَيخرج من الكبد مَعَ عرق فِيهَا فيصعد إِلَى الْقلب الَّذِي يَدْفَعهُ إِلَى الشرايين وَهِي الْعُرُوق الغليظة وَإِلَى الْعُرُوق الرقيقة بِقُوَّة حَرَكَة الْقلب بِالْفَتْح والإغلاق حَرَكَة ماكينيكية هوائية، ثمَّ يَدُور الدَّم فِي الْعُرُوق منتقلا من بَعْضهَا إِلَى بعض بِوَاسِطَة حركات الْقلب وتنفس الرئة، وَبِذَلِك الدوران يسلم من التعفن فَلذَلِك إِذا تعطلت دورته حِصَّة طَوِيلَة مَاتَ الْحَيَوَان. وَمن شغفه أَيْضا بالكونيات كَلَامه عَن الْحَدِيد وأصنافه وصدئه وأكسيده وأماكن وجوده وماوجد مِنْهُ فِي مدافن الفراعنة بمنفيس وَغير ذَلِك مِمَّا تميز بِهِ عَمَّن سبقه من الْمُفَسّرين!!! .
- ٧٦٤ - وَرُبمَا نقل ابْن عاشور شَيْئا من كَلَام الْحُكَمَاء والفلاسفة هُوَ فِي غنى عَنهُ وَمن ذَلِك قَوْله: وَالصَّوْم بِمَعْنى إقلال تنَاول الطَّعَام عَن الْمُقدر الَّذِي يبلغ حد الشِّبَع أَو ترك بعض المأكل: أصل قديم من أصُول التَّقْوَى لَدَى المليين ولدى الْحُكَمَاء الإشراقيين، وَالْحكمَة الإشراقية مبناها على تَزْكِيَة النَّفس بِإِزَالَة كدرات البهيمية عَنْهَا بِقدر الْإِمْكَان، بِنَاء على أَن للْإنْسَان قوتين: إِحْدَاهمَا روحانية منبتة فِي قرارتها من الجسمانية كلهَا. ثَانِي عشر: موقفه من المواعظ والآداب: أفرد المُصَنّف الْمُقدمَة الرَّابِعَة: فِيمَا يحِق أَن يكون غَرَض الْمُفَسّر فَذكر ثَمَانِيَة أُمُور وَهِي إصْلَاح الِاعْتِقَاد وتهذيب الْأَخْلَاق والتشريع وسياسة الْأمة والتأسي بأخبار الْأُمَم والتعلم والوعظ والإعجاز بِالْقُرْآنِ. كَمَا جعل الْمُقدمَة السَّابِعَة: فِي قصَص الْقُرْآن وفوائده. وَذكر عشر فَوَائِد كَمَا ذكر حِكْمَة تكْرَار الْقِصَّة فِي مَوَاضِع عدَّة. وَلم يظْهر لَهُ اهتمام كَبِير فِي هَذَا الْجَانِب وَمِمَّا وقفت عَلَيْهِ من كَلَامه فِيمَا ينْدَرج تَحْتَهُ إعداده شَجَرَة بتفريعات جَيِّدَة فِي الْأَمْرَاض النفسانية الناشئة عَن النِّفَاق مَبْنِيَّة على الْآيَات وَالْأَحَادِيث ليحذرها الْمُسلم. إِلَى هُنَا وصلت إِلَى دراسة مَنْهَج المُصَنّف بِصُورَة لَا بَأْس بهَا، وَهَذِه جملَة من الانتقادات الموجهة لَهُ خلا ماتقدم فِي الحَدِيث عَن الْمنْهَج التفصيلي أدّى إِلَيْهَا الْإِعْجَاب بِهِ أختم بهَا حَدِيثي عَن تَفْسِيره: فَهُوَ أَولا: ذُو ثِقَة زَائِدَة بِنَفسِهِ أوقعته فِي مزالق: فَمن مَوَاقِف ثقته الزَّائِدَة بِنَفسِهِ وتفرده قَوْله: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالقبلة المنسوخة وَهِي اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس أَعنِي الشرق وَهِي قبْلَة الْيَهُود وَلم يشف أحد من الْمُفَسّرين وَأَسْبَاب النُّزُول الغليل فِي هَذَا على أَن الْمُنَاسبَة بَينهَا وَبَين الْآي الَّذِي قبلهَا غير وَاضِحَة فَاحْتَاجَ بعض الْمُفَسّرين إِلَى تكلّف إبدائها.
- ٧٦٥ - وَقَوله: وَأَنا أَقُول كلمة أربأ بهَا عَن الانحياز إِلَى نصْرَة وَهِي أَن اخْتِلَاف الْمُسلمين فِي أول خطوَات مَسِيرهمْ وَأول موقف من مَوَاقِف أنظارهم وَقد مَضَت عَلَيْهِ الْأَيَّام بعد الْأَيَّام وتعاقبت الأقوام يعد نقصا علميا لَا ينبغى الْبَقَاء عَلَيْهِ. وَلَا أعرفني بعد هَذَا الْيَوْم ملتفتا إِلَيْهِ. ثمَّ وَقع فِي إِشْكَال كَبِير فِي مُسَمّى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام خرج بِهِ عَن عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة! والعجيب أَنه ظن أَنه استوفى الْمَسْأَلَة وَفصل فِيهَا وَهُوَ لم يستوعب عشر معشار أَدِلَّة أحد الْفَرِيقَيْنِ وَالْمقَام لَا يحْتَمل سوق الْأَدِلَّة والردود وَفِي نفس الْوَقْت خرج عَن حد التَّفْسِير فَلَا هُوَ استوفى وَلَا هُوَ رَاعى الْمَقْصد. كَذَلِك عدم اعْتِبَاره التَّفْسِير علما كَمَا ذكر فِي الْمُقدمَة، وعَلى الرغم من كَونه يعلم تَمامًا أَنه لم يسْبقهُ أحد لهَذَا الْفَهم وَأَنه تَحْصِيل حَاصِل ذهب إِلَيْهِ، وَكَانَ الأولى بِهِ أَن ينخرط فِي آلَاف الْعلمَاء من جَمِيع عصور الْإِسْلَام الَّذين اعتبروا التَّفْسِير علما بل اعتبروه أجل الْعُلُوم. وَكَذَا حَملته الشعواء على التَّفْسِير بالمأثور واستقلاله لَهُ واستخفافه بأَهْله، عَظِيمَة من العظائم، فبدون التَّفْسِير بالمأثور ضلت الْأمة وَبِغير نوره زاغ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ نَفسه من الدَّلَائِل على ذَلِك فَهُوَ على الرغم من استفادته مِنْهُ فِي كل تَفْسِيره إِلَّا أَنه حاد عَنهُ فِي بعض الْمَوَاضِع فَوَقع فِيمَا وَقع فِيهِ. وَانْظُر أَيْضا من مَوَاضِع مُخَالفَته بالمأثور وثقته الزَّائِدَة بِنَفسِهِ واستخدامه "لَعَلَّه" لغير حجَّة. ثَانِيًا: صَاحب استطراد وتكلف خرج عَن حد التَّفْسِير جملَة وتفصيلا على الرغم من إهماله التَّفْسِير فِي مَوَاضِع لَا يسْتَغْنى عَن تَفْسِيرهَا: فَمَعَ اهتمامه بِإِثْبَات الْيَاء فِي دعان أَو عدم إِثْبَاتهَا أهمل تَفْسِير قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنِّي قريب﴾ وَمن التكلفات الَّتِي دفع إِلَيْهَا الاستطراد قَوْله: وَعِنْدِي أَن الْبَسْمَلَة كَانَ مَا يرادفها قد جرى على أَلْسِنَة الْأَنْبِيَاء من عهد إِبْرَاهِيم ﵇ فقد حكى الله عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ لِأَبِيهِ: ﴿يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف أَن يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن﴾ وَقَالَ: ﴿سأستغفر لَك رَبِّي إِنَّه كَانَ بِي حفيا﴾ وَمعنى الحفى قريب
- ٧٦٦ - من الرَّحِيم وَحكي عَنهُ قَوْله ﴿وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم﴾ وَقَوله: وَقَالَ الْأُسْتَاذ مُحَمَّد عَبده: إِن النَّصَارَى كَانُوا يبتدئون أدعيتهم وَنَحْوهَا باسم الْأَب وَالِابْن وَالروح الْقُدس إِشَارَة إِلَى الأقانيم الثَّلَاثَة عِنْدهم، فَجَاءَت فَاتِحَة كتاب الْإِسْلَام بِالرَّدِّ عَلَيْهِم موقظة لَهُم بِأَن الْإِلَه الْوَاحِد وَإِن تعدّدت أسماؤه فَإِنَّمَا هُوَ تعدد الْأَوْصَاف دون تعدد المسميات، يَعْنِي فَهُوَ رد عَلَيْهِم بتغليظ وتبليد. وَإِذا صَحَّ أَن فواتح النَّصَارَى وأدعيتهم كَانَت تَشْمَل على ذَلِك إِذْ النَّاقِل أَمِين فَهِيَ نُكْتَة لَطِيفَة. ثَالِثا: ذُو ولع شَدِيد بِالنَّقْدِ وَإِن كَانَ هُنَاكَ مندوحة لترك الانتقاد انتقاده لوجه فِي التَّفْسِير مَقْبُول عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿فَزَادَهُم الله مَرضا﴾ قَالَ: قَالَ بعض الْمُفَسّرين: هِيَ دُعَاء عَلَيْهِم كَقَوْل جُبَير بن الأضبط: تبَاعد عَنى فَقَالَ إِذْ دَعوته أَمِين فَزَاد الله مَا بَيْننَا بعدا قَالَ: وَهُوَ تَفْسِير غير حسن لِأَنَّهُ خلاف الأَصْل فِي الْعَطف بِالْفَاءِ وَلِأَن تصدى الْقُرْآن لشتمهم بذلك لَيْسَ من دأبه، وَلِأَن الدُّعَاء عَلَيْهِم بِالزِّيَادَةِ تنَافِي مَا عهد من الدُّعَاء للضالين بالهداية فِي نَحْو "اللَّهُمَّ اهد قومى فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ ". وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِم فقد قَالَ تَعَالَى ﴿قتل الْإِنْسَان مَا أكفره﴾ وَقَالَ ﴿ملعونين أَيْنَمَا ثقفوا﴾ وَقَالَ ﴿قَاتلهم الله أَنى يؤفكون﴾ غير ذَلِك. وَقد كنت من المعجبين بِهَذَا الْكتاب وحرصت على اقتنائه بطبعته التونسية على الرغم من غلاء سعره جدا وَعدم اكتماله وَقتهَا وَذَلِكَ قبل أَكثر من سبع عشرَة سنة، إِلَّا أنني لمحت فِيهِ تِلْكَ السلبيات مِمَّا حدا بِي إِلَى الإطالة فِي بَيَانهَا. وَالْكتاب فِي الْجُمْلَة كتاب جيد من حَيْثُ الإضافات العلمية الَّتِي أضافها وَقد كَانَ تحرر صَاحبه سِلَاحا ذَا حَدَّيْنِ فَكَمَا أفادنا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، زلت قدمه فِي مَوَاضِع أَكثر والمعصوم من عصمه الله.
بَين يَدي الْكتاب (*) _________ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: مبَاحث هَذَا الْبَاب وَهِي (ترجمتان لِابْنِ عاشور، ومبحث عَن تَفْسِيره) لَيست فِي المطبوع وَإِنَّمَا نسختها هُنَا للفائدة
[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم مصطفى عاشور:] (*) (مُحَمَّد الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور التّونسِيّ) كَانَ جَامع الزيتونة مصنعا لرجال أفذاذ قادوا حَيَاة شعوبهم قبل أَن يقودوا حياتهم، فِي وَقت اضْطَرَبَتْ فِيهِ معالم الْحَيَاة، فَكَانُوا منارات للهدى وعلامات لطريق السداد. و«مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور» هُوَ أحد أَعْلَام هَذَا الْجَامِع، وَمن عظمائهم المجددين. حَيَاته المديدة الَّتِي زَادَت على ٩٠ عَاما كَانَت جهادًا فِي طلب الْعلم، وجهادا فِي كسر وتحطيم أطواق الجمود والتقليد الَّتِي قيدت الْعقل الْمُسلم عَن التفاعل مَعَ الْقُرْآن الْكَرِيم والحياة المعاصرة. أحدثت آراؤه نهضة فِي عُلُوم الشَّرِيعَة وَالتَّفْسِير والتربية والتعليم والإصلاح، وَكَانَ لَهَا أَثَرهَا الْبَالِغ فِي اسْتِمْرَار «الزيتونة» فِي الْعَطاء والريادة. وَإِذا كَانَ من عَادَة الشرق عدم احتفاظه بكنوزه، فَهُوَ غَالِبا مَا ينسى عمالقته ورواده الَّذين كَانُوا ملْء السّمع وَالْبَصَر، ويتطلع إِلَى أفكار مستوردة وتجارب سَابِقَة التَّجْهِيز، وينسى مصلحيه ومجدديه، وَنبت بيئته وغرس مبادئه!! لم يلق الطَّاهِر تَمام حَقه من الاهتمام بِهِ وباجتهاداته وأفكاره الإصلاحية؛ وَرُبمَا رَجَعَ ذَلِك لِأَن اجتهاداته تحارب الجمود الْعقلِيّ والتقليد من نَاحيَة، وتصطدم بالاستبداد من نَاحيَة أُخْرَى، كَمَا أَن أفكاره تسْعَى للنهوض والتقدم وفْق مَنْهَج عَقْلِي إسلامي، وَلَعَلَّ هَذَا يبين لنا سَبَب نِسْيَان الشرق فِي هَذِه الفترة لرواده وعمالقته!! من هُوَ؟ ولد مُحَمَّد الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور، الشهير بالطاهر بن عاشور، بتونس فِي (١٢٩٦هـ = ١٨٧٩م) فِي أسرة علمية عريقة تمتد أُصُولهَا إِلَى بِلَاد الأندلس. وَقد اسْتَقَرَّتْ هَذِه الأسرة فِي تونس بعد حملات التنصير ومحاكم التفتيش الَّتِي تعرض لَهَا مسلمو الأندلس. وَقد نبغ من هَذِه الأسرة عدد من الْعلمَاء الَّذين تعلمُوا بِجَامِع الزيتونة، تِلْكَ المؤسسة العلمية الدِّينِيَّة العريقة الَّتِي كَانَت مَنَارَة للْعلم وَالْهِدَايَة فِي الشمَال الأفريقي، كَانَ مِنْهُم مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور، وَابْنه الَّذِي مَاتَ فِي حَيَاته: الْفَاضِل بن عاشور. وَجَاء مولد الطَّاهِر فِي عصر يموج بالدعوات الإصلاحية التجديدية الَّتِي تُرِيدُ الْخُرُوج بِالدّينِ وعلومه من حيّز الجمود والتقليد إِلَى التَّجْدِيد والإصلاح، وَالْخُرُوج بالوطن من مستنقع التَّخَلُّف والاستعمار إِلَى ساحة التَّقَدُّم وَالْحريَّة والاستقلال، فَكَانَت لأفكار جمال الدَّين الأفغاني وَمُحَمّد عَبده وَمُحَمّد رشيد رضَا صداها المدوي فِي تونس وَفِي جَامعهَا العريق، حَتَّى إِن رجال الزيتونة بدءوا بإصلاح جامعهم من النَّاحِيَة التعليمية قبل الْجَامِع الْأَزْهَر، مِمَّا أثار إعجاب الإِمَام مُحَمَّد عَبده الَّذِي قَالَ: «إِن مُسْلِمِي الزيتونة سبقُونَا إِلَى إصْلَاح التَّعْلِيم، حَتَّى كَانَ مَا يجرونَ عَلَيْهِ فِي جَامع الزيتونة خيرا مِمَّا عَلَيْهِ أهل الْأَزْهَر» . وأثمرت جهود التَّجْدِيد والإصلاح فِي تونس الَّتِي قَامَت فِي الأساس على الاهتمام بالتعليم وتطويره عَن إنْشَاء مدرستين كَانَ لَهما أكبر الْأَثر فِي النهضة الفكرية فِي تونس، وهما: الْمدرسَة الصادقية الَّتِي أَنْشَأَهَا الْوَزير النابهة خير الدَّين التّونسِيّ سنة (١٢٩١هـ = ١٨٧٤م) وَالَّتِي احتوت على مَنْهَج متطور امتزجت فِيهِ الْعُلُوم الْعَرَبيَّة باللغات الْأَجْنَبِيَّة، إِضَافَة إِلَى تَعْلِيم الرياضيات والطبيعة والعلوم الاجتماعية. وَقد أُقِيمَت هَذِه الْمدرسَة على أَن تكون تعضيدًا وتكميلًا للزيتونة. أما الْمدرسَة الْأُخْرَى فَهِيَ الْمدرسَة الخلدونية الَّتِي تأسست سنة (١٣١٤هـ = ١٨٩٦م) وَالَّتِي كَانَت مدرسة علمية تهتم بتكميل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ دارسو الْعُلُوم الإسلامية من عُلُوم لم تدرج فِي برامجهم التعليمية، أَو أدرجت وَلَكِن لم يهتم بهَا وبمزاولتها فآلت إِلَى الإهمال. وتواكبت هَذِه النهضة الإصلاحية التعليمية مَعَ دعوات مقاومة الاستعمار الفرنسي، فَكَانَت أطروحات تِلْكَ الحقبة من التَّارِيخ ذَات صبغة إصلاحية تجديدة شَامِلَة تَنْطَلِق من الدَّين نَحْو إصْلَاح الوطن والمجتمع، وَهُوَ مَا انعكس على تفكير ومنهج رواد الْإِصْلَاح فِي تِلْكَ الفترة الَّتِي تدعمت بتأسيس الصحافة، وصدور المجلات والصحف الَّتِي خلقت منَاخًا ثقافيًا وفكريًا كَبِيرا ينبض بِالْحَيَاةِ والوعي وَالرَّغْبَة فِي التحرر والتقدم. حفظ الطَّاهِر الْقُرْآن الْكَرِيم، وَتعلم اللُّغَة الفرنسية، والتحق بِجَامِع الزيتونة سنة (١٣١٠هـ = ١٨٩٢م) وَهُوَ فِي الـ١٤ من عمره، فدرس عُلُوم الزيتونة ونبغ فِيهَا، وَأظْهر همة عالية فِي التَّحْصِيل، وساعده على ذَلِك ذكاؤه النَّادِر والبيئة العلمية الدِّينِيَّة الَّتِي نَشأ فِيهَا، وشيوخه الْعِظَام فِي الزيتونة الَّذين كَانَ لَهُم بَاعَ كَبِير فِي النهضة العلمية والفكرية فِي تونس، وَملك هاجس الْإِصْلَاح نُفُوسهم وعقولهم فبثوا هَذِه الرّوح الخلاقة التجديدية فِي نفس الطَّاهِر، وَكَانَ منهجهم أَن الْإِسْلَام دين فكر وحضارة وَعلم ومدنية. سفير الدعْوَة تخرج الطَّاهِر فِي الزيتونة عَام (١٣١٧هـ = ١٨٩٦م)، والتحق بسلك التدريس فِي هَذَا الْجَامِع العريق، وَلم تمض إِلَّا سنوات قَليلَة حَتَّى عين مدرسًا من الطَّبَقَة الأولى بعد اجتياز اختبارها سنة (١٣٢٤هـ = ١٩٠٣م) . وَكَانَ الطَّاهِر قد اختير للتدريس فِي الْمدرسَة الصادقية سنة (١٣٢١هـ = ١٩٠٠م)، وَكَانَ لهَذِهِ التجربة المبكرة فِي التدريس بَين الزيتونة -ذَات الْمنْهَج التقليدي- والصادقية -ذَات التَّعْلِيم العصري المتطور- أَثَرهَا فِي حَيَاته، إِذْ فتحت وعيه على ضَرُورَة ردم الهوة بَين تيارين فكريين مَا زَالا فِي طور التكوين، ويقبلان أَن يَكُونَا خطوط انقسام ثقافي وفكري فِي الْمُجْتَمع التّونسِيّ، وهما: تيار الْأَصَالَة الممثل فِي الزيتونة، وتيار المعاصرة الممثل فِي الصادقية، وَدون آراءه هَذِه فِي كِتَابه النفيس «أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب؟» من خلال الرُّؤْيَة الحضارية التاريخية الشاملة الَّتِي تدْرك التحولات العميقة الَّتِي يمر بهَا الْمُجْتَمع الإسلامي والعالمي. وَفِي سنة (١٣٢١ هـ = ١٩٠٣ م) قَامَ الإِمَام مُحَمَّد عَبده مفتي الديار المصرية بزيارته الثَّانِيَة لتونس الَّتِي كَانَت حَدثا ثقافيا دينيا كَبِيرا فِي الأوساط التونسية، والتقاه فِي تِلْكَ الزِّيَارَة الطَّاهِر بن عاشور فتوطدت العلاقة بَينهمَا، وَسَماهُ مُحَمَّد عَبده بـ «سفير الدعْوَة» فِي جَامع الزيتونة؛ إِذْ وجدت بَين الشَّيْخَيْنِ صِفَات مُشْتَركَة، أبرزها ميلهما إِلَى الْإِصْلَاح التربوي والاجتماعي الَّذِي صاغ ابْن عاشور أهم ملامحه بعد ذَلِك فِي كِتَابه «أصُول النظام الاجتماعي فِي الْإِسْلَام» . وَقد توطدت العلاقة بَينه وَبَين رشيد رضَا، وَكتب ابْن عاشور فِي مجلة الْمنَار. آراء ومناصب عين الطَّاهِر بن عاشور نَائِبا أول لَدَى النظارة العلمية بِجَامِع الزيتونة سنة (١٣٢٥ هـ = ١٩٠٧م)؛ فَبَدَأَ فِي تطبيق رُؤْيَته الإصلاحية العلمية والتربوية، وَأدْخل بعض الإصلاحات على النَّاحِيَة التعليمية، وحرر لائحة فِي إصْلَاح التَّعْلِيم وعرضها على الْحُكُومَة فنفذت بعض مَا فِيهَا، وسعى إِلَى إحْيَاء بعض الْعُلُوم الْعَرَبيَّة؛ فَأكْثر من دروس الصّرْف فِي مراحل التَّعْلِيم وَكَذَلِكَ دروس أدب اللُّغَة، ودرس بِنَفسِهِ شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام. وَأدْركَ صاحبنا أَن الْإِصْلَاح التعليمي يجب أَن ينْصَرف بطاقته القصوى نَحْو إصْلَاح الْعُلُوم ذَاتهَا؛ على اعْتِبَار أَن الْمعلم مهما بلغ بِهِ الجمود فَلَا يُمكنهُ أَن يحول بَين الأفهام وَمَا فِي التآليف؛ فَإِن الْحق سُلْطَان!! وَرَأى أَن تَغْيِير نظام الْحَيَاة فِي أَي من أنحاء الْعَالم يتطلب تبدل الأفكار والقيم الْعَقْلِيَّة، ويستدعي تَغْيِير أساليب التَّعْلِيم. وَقد سعى الطَّاهِر إِلَى إِيجَاد تَعْلِيم ابتدائي إسلامي فِي المدن الْكَبِيرَة فِي تونس على غرار مَا يفعل الْأَزْهَر فِي مصر، وَلكنه قوبل بعراقيل كَبِيرَة. أما سَبَب الْخلَل وَالْفساد اللَّذين أصابا التَّعْلِيم الإسلامي فترجع فِي نظره إِلَى فَسَاد الْمعلم، وَفَسَاد التآليف، وَفَسَاد النظام الْعَام؛ وَأعْطى أَوْلَوِيَّة لإِصْلَاح الْعُلُوم والتآليف. اختير ابْن عاشور فِي لجنة إصْلَاح التَّعْلِيم الأولى بالزيتونة فِي (صفر ١٣٢٨ هـ = ١٩١٠م)، وَكَذَلِكَ فِي لجنة الْإِصْلَاح الثَّانِيَة (١٣٤٢ هـ = ١٩٢٤م)، ثمَّ اختير شَيخا لجامع الزيتونة فِي (١٣٥١ هـ = ١٩٣٢م)، كَمَا كَانَ شيخ الْإِسْلَام الْمَالِكِي؛ فَكَانَ أول شُيُوخ الزيتونة الَّذين جمعُوا بَين هذَيْن المنصبين، وَلكنه لم يلبث أَن استقال من المشيخة بعد سنة وَنصف بِسَبَب العراقيل الَّتِي وضعت أَمَام خططه لإِصْلَاح الزيتونة، وبسبب اصطدامه بِبَعْض الشُّيُوخ عِنْدَمَا عزم على إصْلَاح التَّعْلِيم فِي الزيتونة. أُعِيد تعينه شَيخا لجامع الزيتونة سنة (١٣٦٤ هـ = ١٩٤٥م)، وَفِي هَذِه الْمرة أَدخل إصلاحات كَبِيرَة فِي نظام التَّعْلِيم الزيتوني؛ فارتفع عدد الطلاب الزيتونيين، وزادت عدد الْمعَاهد التعليمية. وشملت عناية الطَّاهِر بن عاشور إصْلَاح الْكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التَّعْلِيم؛ فاستبدل كثيرا من الْكتب الْقَدِيمَة الَّتِي كَانَت تدرس وصبغ عَلَيْهَا الزَّمَان صبغة القداسة بِدُونِ مبرر، واهتم بعلوم الطبيعة والرياضيات، كَمَا رَاعى فِي المرحلة التعليمية الْعَالِيَة التبحر فِي أَقسَام التخصص، وَبَدَأَ التفكير فِي إِدْخَال الْوَسَائِل التعليمية المتنوعة. وحرص على أَن يصطبغ التَّعْلِيم الزيتوني بالصبغة الشَّرْعِيَّة والعربية، حَيْثُ يدرس الطَّالِب الزيتوني الْكتب الَّتِي تنمي الملكات العلمية وتمكنه من الغوص فِي الْمعَانِي؛ لذَلِك دَعَا إِلَى التقليل من الْإِلْقَاء والتلقين، وَإِلَى الْإِكْثَار من التطبيق؛ لتنمية ملكة الْفَهم الَّتِي يَسْتَطِيع من خلالها الطَّالِب أَن يعْتَمد على نَفسه فِي تَحْصِيل الْعلم. ولدى اسْتِقْلَال تونس أسندت إِلَيْهِ رئاسة الجامعة الزيتونية سنة (١٣٧٤ هـ = ١٩٥٦م) . التَّحْرِير والتنوير كَانَ الطَّاهِر بن عاشور عَالما مصلحا مجددا، لَا يَسْتَطِيع الباحث فِي شخصيته وَعلمه أَن يقف على جَانب وَاحِد فَقَط، إِلَّا أَن الْقَضِيَّة الجامعة فِي حَيَاته وَعلمه ومؤلفاته هِيَ التَّجْدِيد والإصلاح من خلال الْإِسْلَام وَلَيْسَ بَعيدا عَنهُ، وَمن ثمَّ جَاءَت آراؤه وكتاباته ثورة على التَّقْلِيد والجمود وثورة على التسيب والضياع الفكري والحضاري. يعد الطَّاهِر بن عاشور من كبار مفسري الْقُرْآن الْكَرِيم فِي الْعَصْر الحَدِيث، وَلَقَد احتوى تَفْسِيره «التَّحْرِير والتنوير» على خُلَاصَة آرائه الاجتهادية والتجديدية؛ إِذْ اسْتمرّ فِي هَذَا التَّفْسِير مَا يقرب من ٥٠ عَاما، وَأَشَارَ فِي بدايته إِلَى أَن منهجه هُوَ أَن يقف موقف الحكم بَين طوائف الْمُفَسّرين، تَارَة لَهَا وَأُخْرَى عَلَيْهَا؛ «فالاقتصار على الحَدِيث الْمعَاد فِي التَّفْسِير هُوَ تَعْطِيل لفيض الْقُرْآن الْكَرِيم الَّذِي مَا لَهُ من نفاد»، وَوصف تَفْسِيره بِأَنَّهُ «احتوى أحسن مَا فِي التفاسير، وَأَن فِيهِ أحسن مِمَّا فِي التفاسير» . وَتَفْسِير التَّحْرِير والتنوير فِي حَقِيقَته تَفْسِير بلاغي، اهتم فِيهِ بدقائق البلاغة فِي كل آيَة من آيَاته، وَأورد فِيهِ بعض الْحَقَائِق العلمية وَلَكِن باعتدال وَدون توسع أَو إغراق فِي تفريعاتها ومسائلها. وَقد نقد ابْن عاشور كثيرا من التفاسير والمفسرين، وَنقد فهم النَّاس للتفسير، وَرَأى أَن أحد أَسبَاب تَأَخّر علم التَّفْسِير هُوَ الولع بالتوقف عِنْد النَّقْل حَتَّى وَإِن كَانَ ضَعِيفا أَو فِيهِ كذب، وَكَذَلِكَ اتقاء الرَّأْي وَلَو كَانَ صَوَابا حَقِيقِيًّا، وَقَالَ: «لأَنهم توهموا أَن مَا خَالف النَّقْل عَن السَّابِقين إِخْرَاج لِلْقُرْآنِ عَمَّا أَرَادَ الله بِهِ»؛ فَأَصْبَحت كتب التَّفْسِير عَالَة على كَلَام الأقدمين، وَلَا همّ للمفسر إِلَّا جمع الْأَقْوَال، وبهذه النظرة أصبح التَّفْسِير «تسجيلا يقيَّد بِهِ فهم الْقُرْآن ويضيَّق بِهِ مَعْنَاهُ» . وَلَعَلَّ نظرة التَّجْدِيد الإصلاحية فِي التَّفْسِير تتفق مَعَ الْمدرسَة الإصلاحية الَّتِي كَانَ من روادها الإِمَام مُحَمَّد عَبده الَّذِي رأى أَن أفضل مُفَسّر لِلْقُرْآنِ الْكَرِيم هُوَ الزَّمن، وَهُوَ مَا يُشِير إِلَى معَان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص فِي مَعَاني الْقُرْآن. وَكَانَ لتفاعل الطَّاهِر بن عاشور الإيجابي مَعَ الْقُرْآن الْكَرِيم أَثَره الْبَالِغ فِي عقل الشَّيْخ الَّذِي اتسعت آفاقه فَأدْرك مَقَاصِد الْكتاب الْحَكِيم وألم بأهدافه وأغراضه، مِمَّا كَانَ سَببا فِي فهمه لمقاصد الشَّرِيعَة الإسلامية الَّتِي وضع فِيهَا أهم كتبه بعد التَّحْرِير والتنوير وَهُوَ كتاب «مَقَاصِد الشَّرِيعَة» . مَقَاصِد الشَّرِيعَة كَانَ الطَّاهِر بن عاشور فَقِيها مجددا، يرفض مَا يردده بعض أدعياء الْفِقْه من أَن بَاب الِاجْتِهَاد قد أغلق فِي أعقاب الْقرن الْخَامِس الهجري، وَلَا سَبِيل لفتحه مرّة ثَانِيَة، وَكَانَ يرى أَن ارتهان الْمُسلمين لهَذِهِ النظرة الجامدة المقلدة سَيُصِيبُهُمْ بالتكاسل وسيعطل إِعْمَال الْعقل لإيجاد الْحُلُول لقضاياهم الَّتِي تَجِد فِي حياتهم. وَإِذا كَانَ علم أصُول الْفِقْه هُوَ الْمنْهَج الضَّابِط لعملية الِاجْتِهَاد فِي فهم نُصُوص الْقُرْآن الْكَرِيم واستنباط الْأَحْكَام مِنْهُ فَإِن الاختلال فِي هَذَا الْعلم هُوَ السَّبَب فِي تخلي الْعلمَاء عَن الِاجْتِهَاد. وَرَأى أَن هَذَا الاختلال يرجع إِلَى توسيع الْعلم بِإِدْخَال مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُجْتَهد، وَأَن قَوَاعِد الْأُصُول دونت بعد أَن دون الْفِقْه، لذَلِك كَانَ هُنَاكَ بعض التَّعَارُض بَين الْقَوَاعِد وَالْفُرُوع فِي الْفِقْه، كَذَلِك الْغَفْلَة عَن مَقَاصِد الشَّرِيعَة؛ إِذْ لم يدون مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل، وَكَانَ الأولى أَن تكون الأَصْل الأول لِلْأُصُولِ لِأَن بهَا يرْتَفع خلاف كَبِير. وَيعْتَبر كتاب «مَقَاصِد الشَّرِيعَة» من أفضل مَا كتب فِي هَذَا الْفَنّ وضوحا فِي الْفِكر ودقة فِي التَّعْبِير وسلامة فِي الْمنْهَج واستقصاء للموضوع. محنة التَّجْنِيس لم يكن الطَّاهِر بن عاشور بَعيدا عَن سِهَام الاستعمار والحاقدين عَلَيْهِ والمخالفين لمنهجه الإصلاحي التجديدي، فتعرض الشَّيْخ لمحنة قاسية استمرت ٣ عُقُود عرفت بمحنة التَّجْنِيس، وملخصها أَن الاستعمار الفرنسي أصدر قانونا فِي (شَوَّال ١٣٢٨ هـ = ١٩١٠م) عرف بقانون التَّجْنِيس، يتيح لمن يرغب من التونسيين التجنس بالجنسية الفرنسية؛ فتصدى الوطنيون التونسيون لهَذَا القانون وَمنعُوا المتجنسين من الدّفن فِي الْمَقَابِر الإسلامية؛ مِمَّا أربك الفرنسيين فلجأت السلطات الفرنسية إِلَى الْحِيلَة لاستصدار فَتْوَى تضمن للمتجنسين التَّوْبَة من خلال صِيغَة سُؤال عَامَّة لَا تتَعَلَّق بالحالة التونسية توجه إِلَى الْمجْلس الشَّرْعِيّ. وَكَانَ الطَّاهِر يتَوَلَّى فِي ذَلِك الْوَقْت سنة (١٣٥٢ هـ = ١٩٣٣م) رئاسة الْمجْلس الشَّرْعِيّ لعلماء الْمَالِكِيَّة فَأفْتى الْمجْلس صَرَاحَة بِأَنَّهُ يتَعَيَّن على المتجنس عِنْد حُضُوره لَدَى القَاضِي أَن ينْطق بِالشَّهَادَتَيْنِ ويتخلى فِي نفس الْوَقْت عَن جنسيته الَّتِي اعتنقها، لَكِن الاستعمار حجب هَذِه الْفَتْوَى، وبدأت حَملَة لتلويث سمعة هَذَا الْعَالم الْجَلِيل، وتكررت هَذِه الحملة الآثمة عدَّة مَرَّات على الشَّيْخ، وَهُوَ صابر محتسب. صدق الله وَكذب بورقيبة وَمن المواقف الْمَشْهُورَة للطاهر بن عاشور رفضه الْقَاطِع استصدار فَتْوَى تبيح الْفطر فِي رَمَضَان، وَكَانَ ذَلِك عَام (١٣٨١ هـ = ١٩٦١م) عِنْدَمَا دَعَا «الحبيبُ بورقيبة» الرئيسُ التّونسِيّ السَّابِق العمالَ إِلَى الْفطر فِي رَمَضَان بِدَعْوَى زِيَادَة الإنتاج، وَطلب من الشَّيْخ أَن يُفْتِي فِي الإذاعة بِمَا يُوَافق هَذَا، لَكِن الشَّيْخ صرح فِي الإذاعة بِمَا يُريدهُ الله تَعَالَى، بعد أَن قَرَأَ آيَة الصّيام، وَقَالَ بعْدهَا: «صدق الله وَكذب بورقيبة»، فخمد هَذَا التطاول المقيت وَهَذِه الدعْوَة الْبَاطِلَة بِفضل مقولة ابْن عاشور. وَفَاته وَقد توفّي الطَّاهِر بن عاشور فِي (١٣ رَجَب ١٣٩٣ هـ = ١٢ أغسطس ١٩٧٣م) بعد حَيَاة حافلة بِالْعلمِ والإصلاح والتجديد على مستوى تونس والعالم الإسلامي. _________ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: هَذَا المبحث لَيْسَ فِي المطبوع وَإِنَّمَا نسخته هُنَا للفائدة
[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم الْمهْدي بن حميدة] (*) (مُحَمَّد الطَّاهِر بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور التّونسِيّ) ١- آل عاشور أصل هَذِه الشَّجَرَة الزكية الأول هُوَ مُحَمَّد بن عاشور، ولد بِمَدِينَة سلا من الْمغرب الْأَقْصَى بعد خُرُوج وَالِده من الأندلس فَارًّا بِدِينِهِ من الْقَهْر والتنصير. توفّي سنة ١١١٠هـ وَقد سَطَعَ نجم آخر وَهُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور وَهُوَ جد مترجمنا، ولد سنة ١٢٣٠هـ وَقد تقلد مناصب هَامة كالقضاء والإفتاء والتدريس والإشراف على الْأَوْقَاف الْخَيْرِيَّة والنظارة على بَيت المَال والعضوية بِمَجْلِس الشورى. وَمن أشهر تلاميذه الشَّيْخ مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور وَالشَّيْخ يُوسُف جعيط وَالشَّيْخ أَحْمد بن الخوجة. وَالشَّيْخ سَالم بوحاجب وَالشَّيْخ مَحْمُود بن الخوجة وَالشَّيْخ مُحَمَّد بيرم. وَمن سلالة آل عاشور وَالِد شَيخنَا الشَّيْخ مُحَمَّد ابْن عاشور وَقد تولى رئاسة مجْلِس إدارة جمعية الْأَوْقَاف ثمَّ خَلفه عَلَيْهَا "أَبُو النخبة المثقفة" مُحَمَّد البشير صفر حَيْثُ عينته الدولة نَائِبا عَنْهَا فِي تِلْكَ المؤسسة وَقد تدعمت الصِّلَة وتمتنت بَين الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور الْجد وتلميذه مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور الْوَزير نتج عَنْهَا زيجة شَرْعِيَّة لابنَة الثَّانِي - مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور - على ابْن الأول - الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور الْجد - وَهَكَذَا تمت أواصر هَذِه العائلة بالعائلات التونسية [١] وَأخذت مَكَانهَا وارتبطت صلَاتهَا فَكَانَت شَجَرَة طيبَة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء تؤتي أكلهَا كل حِين بِإِذن رَبهَا. ٢- مولده ونشأته (١٨٧٩/١٩٧٣) بشّرت هَذِه العائلة الشَّرِيفَة بِوِلَادَة الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بالمرسى ضاحية من ضواحي العاصمة التونسية فِي جُمَادَى الأولى سنة ١٢٩٦ هـ الْمُوَافق لشهر سبتمبر ١٨٧٩م [٢] . نَشأ الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور فِي بيئة علمية لجده للْأَب قَاضِي قُضَاة الْحَاضِرَة التونسية وجده للْأُم الشَّيْخ مُحَمَّد الْعَزِيز بوعتور. فَفِي مثل هَذَا الْوسط العلمي والسياسي والإصلاحي شب مترجمنا فحفظ الْقُرْآن الْكَرِيم حفظا متقنا مُنْذُ صغر سنه وَحفظ الْمُتُون العلمية كَسَائِر أَبنَاء عصره من التلاميذ ثمَّ تعلم مَا تيَسّر لَهُ من اللُّغَة الفرنسية [٣] . ارتحل إِلَى الْمشرق الْعَرَبِيّ وأوروبا وشارك فِي عدَّة ملتقيات إسلامية. كَانَ عضوا مراسلا لمجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ سنة ١٩٥٦م، وبالمجمع العلمي الْعَرَبِيّ بِدِمَشْق سنة ١٩٥٥م. اشْتهر بِالصبرِ والاعتزاز بِالنَّفسِ والصمود أَمَام الكوارث، والترفع عَن الدُّنْيَا، حاول أقْصَى جهده إنقاذ التَّعْلِيم الزيتوني وتصدى لَهُ بمعارفه ويقينه وَلَكِن أَيدي الأعادي تسلطت على هَذِه المنارة العلمية فألغتها سنة ١٩٦١م فَتَوَلّى الْعلم بتونس وانزوى حَتَّى توفّي الإِمَام الشَّيْخ ﵀ يَوْم الْأَحَد ١٢ أوت ١٩٧٣م وَدفن بمقبرة الزلاج بِمَدِينَة تونس رَحمَه الله تَعَالَى وَجَعَلنَا خير خلف لخير سلف [٤] . ٣- مسيرته الدراسية والعلمية الْتحق الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بِجَامِع الزيتونة فِي سنة ١٣٠٣هـ/ ١٨٨٦ م وثابر على تَعْلِيمه بِهِ حَتَّى أحرز على شَهَادَة التطويع سنة ١٣١٧هـ/١٨٩٩م وَسمي عدلا مبرزا. ابْتِدَاء من سنة ١٩٠٠ م إِلَى سنة ١٩٣٢ أقبل على التدريس بِجَامِع الزيتونة والمدرسة الصادقية مدرسا من الدرجَة الثَّانِيَة فمدرسا من الدرجَة الأولى سنة ١٩٠٥م، ثمَّ عضوا مؤسسا للجنة إصْلَاح التَّعْلِيم بِجَامِع الزيتونة سنة ١٩١٠م. الْتحق الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بِالْقضَاءِ سنة ١٩١١م فَكَانَ عضوا بالمحكمة العقارية وقاضيا مالكيا ثمَّ مفتيا مالكيا سنة ١٩٢٣م فكبير الْمُفْتِينَ سنة ١٩٢٤م فَشَيْخ الْإِسْلَام للْمَذْهَب الْمَالِكِي سنة ١٩٣٢م، وَقد بَاشر ﵀ كل هَذِه المهام بمهارة ودقة علمية نادرة وبنزاهة وَحسن نظر فَكَانَ حجَّة ومرجعا فِي مَا يقْضِي بِهِ. سمي شيخ جَامع الزيتونة وفروعه لأوّل مرّة فِي سبتمبر سنة ١٩٣٢م بعد أَن اشْترك فِي إدارة الْكُلية الزيتونية، وَلكنه استقال من مشيخة جَامع الزيتونة بعد سنة (سبتمبر سنة ١٩٣٣م) ثمَّ سمي من جَدِيد شَيخا لجامع الزيتونة فِي سنة ١٩٤٥م. وَفِي سنة ١٩٥٦م شَيخا عميدا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدَّين حَتَّى سنة ١٩٦٠م حَيْثُ أُحِيل إِلَى الرَّاحَة بِسَبَب موقفه تجاه الحملة الَّتِي شنها بورقيبة يَوْمئِذٍ ضد فَرِيضَة الصّيام فِي رَمَضَان [٥] . كَانَ مُقبلا على الْكِتَابَة وَالتَّحْقِيق والتأليف، فقد شَارك فِي إنْشَاء مجلة السَّعَادَة الْعُظْمَى سنة ١٩٥٢م وَهِي أول مجلة تونسية مَعَ صديقه الْعَلامَة الشَّيْخ مُحَمَّد الْخضر حُسَيْن ﵀. وَنشر بحوثا عديدة خُصُوصا فِي الْمجلة الزيتونية ومجلات مشرقية مثل هدى الْإِسْلَام والمنار وَالْهِدَايَة الإسلامية وَنور الْإِسْلَام ومجلة مجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ. كَمَا نشرت لَهُ مجلة الْمجمع العلمي بِدِمَشْق. شَارك فِي الموسوعة الْفِقْهِيَّة الَّتِي تشرف عَلَيْهَا وزارة الْأَوْقَاف والشئون الإسلامية بالكويت بمبحث قيم [٦] . ٤- شُيُوخه اكْتسب الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور ثقافة وَاسِعَة شملت التَّفْسِير والْحَدِيث والقراءات ومصطلح الحَدِيث وَالْبَيَان واللغة والتاريخ والمنطق وَعلم الْعرُوض وأعمل فكره فِيمَا حصله وَتوسع فِي ذَلِك وحلله. فقد تخرج على أَيدي ثلة من عُلَمَاء عصره امتازوا بثقافة موسوعية فِي عُلُوم الدَّين وقواعد اللُّغَة الْعَرَبيَّة وبلاغتها وبيانها وبديعها إِلَى جَانب قدرَة على التَّبْلِيغ وَمَعْرِفَة بطرق التدريس والتركيز على تربية الملكات فِي الْعُلُوم وَمن أشهرهم الشَّيْخ مُحَمَّد النجار وَالشَّيْخ سَالم بوحاجب وَالشَّيْخ مُحَمَّد النخلي وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن يُوسُف وَالشَّيْخ عمر بن عاشور وَالشَّيْخ صَالح الشريف رَحِمهم الله تَعَالَى جَمِيعًا. وَإِذا تصفحنا حَيَاة هَؤُلَاءِ الْأَعْلَام وجدناها حَيَاة علمية زاخرة حافلة بجلائل الْأَعْمَال قد أعْطوا الْحَيَاة التونسية عَطاء جزيلا فِي الدَّين والاجتماع وَالْأَدب والسياسة وَهَؤُلَاء النبغاء وَإِن لم يتْركُوا مؤلفات ضخمة إِلَّا أَنهم تركُوا تلاميذ شهدُوا لَهُم بطول الباع فِي نقد الْآثَار والمناهج وتتبع الهنات اللُّغَوِيَّة، وَقد كَانَ الشَّيْخ بوحاجب أخصائيا فِي عُلُوم اللُّغَة والنحو والبلاغة وَالْأَدب. والأستاذ عمر بن الشَّيْخ ماهر فِي الْفِقْه والمنطق وَالْكَلَام والفلسفة. وَالشَّيْخ مُحَمَّد النجار كَانَ جَامعا لشتى الْعُلُوم الَّتِي تدرس بِجَامِع الزتونة. [٧] وَهَؤُلَاء الْعلمَاء الَّذين تتلمذ عَلَيْهِم الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور كَانُوا ثَمَرَة لمصلحين أسهموا الْحَيَاة التونسية إسهاما جَلِيلًا على شَتَّى المستويات الأدبية والاجتماعية أَمْثَال الشَّيْخ إِبْرَاهِيم الريَاحي وَإِسْمَاعِيل التَّمِيمِي والوزير خير الدَّين باشا صَاحب أقوم المسالك وَالشَّيْخ مَحْمُود قبادو. وَلَقَد كَانَ هَؤُلَاءِ الْعلمَاء زعماء الْمدرسَة الإصلاحية التونسية، وَكَانَت فرعا مهما للمدارس الإصلاحية الَّتِي نشرت فِي الْعَالم الإسلامي كالمدرسة الدهلوية والمدرسة الوهابية والمدرسة الأفغانية - نِسْبَة إِلَى جمال الدَّين الأفغاني - وَهَذِه الْمدرسَة إِلَى جَانب الْمدرسَة المغربية تتفق مَعَ مدارس الْعَالم الإسلامي فِي الأسس والمبادئ وتختلف عَنْهَا فِي الأساليب والطرائق. بيد أَنَّهَا تلتقي جَمِيعًا حول هدف موحد هُوَ مقاومة التَّخَلُّف المزري الَّذِي تردى فِيهِ الْمُسلمُونَ بالرغم من أَن دينهم دين الْفِكر والحضارة وَالْعلم والمدنية [٨] . ٥- تأثره بمفكري عصره لقد كَانَ للحركة الإصلاحية الَّتِي تزعمها السَّيِّد جمال الدَّين الأفغاني وتابعها تِلْمِيذه الشَّيْخ مُحَمَّد عَبده صداها الْبعيد فِي الْعَالم الإسلامي، فقد فتحت بصائر النَّاس وحركتهم عَن طَرِيق مجلة العروة الوثقى والزيارات المتتابعة للبلدان الإسلامية من قبل الشَّيْخَيْنِ الأفغاني وَمُحَمّد عَبده. وَفِي هَذَا النطاق تتدرج زيارتي الشَّيْخ مُحَمَّد عَبده إِلَى تونس الأولى كَانَت سنة ١٨٨٥م وَكَانَ عمر الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور ثَمَانِي سنوات. والأرجح أَن مترجمنا لم يتطلع إِلَى هَذِه الآراء الإصلاحية بعد نظرا لصِغَر سنه. أما الزِّيَارَة الثَّانِيَة لمفتي الديار المصرية فَكَانَت سنة ١٩٠٣م/١٣٢١هـ وَكَانَ عمر الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور ثَلَاث وَعشْرين سنة وَهُوَ يشغل خطة مدرس من الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَقد نجح فِي هَذِه الخطة فِي نفس هَذِه السّنة [٩] . فَهُوَ فِي مقتبل الْعُمر وَقد نَضِجَتْ أفكاره وتشبع وَقَرَأَ كثيرا من آرائه، وتشوفت نَفسه للقاء هَذَا المصلح الْكَبِير. وَتحقّق لَهُ ذَلِك فقد حل مُحَمَّد عَبده ضيفا بالمرسى عِنْد الْوَزير خَلِيل أَبُو حَاجِب بقصره الْمَعْرُوف [١٠] . وَقد عقدت مجَالِس علمية بَين الشبخ مُحَمَّد عَبده وَبَين مفكري الْبِلَاد التونسيين. وَكَانَ الشَّيْخ الْأُسْتَاذ ابْن عاشور لَا يتَخَلَّف عَنْهَا وَكَانَ من بَين الَّذين تقدمُوا للأستاذ الإِمَام باقتراح يطْلبُونَ فِيهِ مِنْهُ بِأَن يلقِي درسا بالجمعية الخلدونية وَكَانَ عضوا بمجلسها الإداري، وَقد كَانَ لَهُ ذَلِك وَأُلْقِي الدَّرْس فِي جُمَادَى الثَّانِيَة سنة ١٣٢١هـ/ سبتمبر ١٩٠٣م [١١] . وَلم يقْتَصر الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور على اجتماعه بمصلحي الشرق فَحسب بل اجْتمع بمفكري الْعَالم الغربي من ذَلِك اجتماعه بالمستشرق اوبنهايم الْمَعْرُوف بمناهجه الفلسفية والدينية ومقارنة الْأَدْيَان والمذاهب وأصولها ومبادئها. وَله فِي هَذَا المجال بَاعَ وَلَقَد فاجئني فِي كِتَابه» أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب «بإشاراته الباهرة إِلَى مفكري الغرب ونظرته لأفكارهم بِعَين النَّقْد، يوحي إِلَيْك من خلالها أَنه مُتَمَكن من اللُّغَة الفرنسية على أقل شَيْء [١٢] . ٦- إصلاحاته ورؤيته للإصلاح بَدَأَ الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور بمساعدة ثلة من الْأَنْصَار الأوفياء فِي تخطيط مراحل الْإِصْلَاح وتطبيق النّظم الَّتِي يَرَاهَا كفيلة بتحقيق الهدف الَّذِي يصبو إِلَيْهِ لِلْخُرُوجِ بِهَذَا المعهد الْعَظِيم من كبوته [١٣] بعد أَن تكلم عَن أساليب التَّعْلِيم "الزيتوني" ومناهجه بِلِسَان النَّقْد فِي كِتَابه» أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب «الَّذِي أَلفه سنة ١٩٠٧م - ١٣٢١هـ وَالَّذِي ضمنه رُؤْيَته للإصلاح وحدد فِيهِ أَسبَاب تخلف الْعُلُوم مصنفا كل علم على حِدة وَاعْتبر أَن إصْلَاح حَال الْأمة لَا يكون إِلَّا بإصلاح مناهج التَّعْلِيم وَالْقِيَام على هَذَا الْجَانِب، كتب كِتَابه هَذَا وعمره لم يتَجَاوَز الْخَمْسَة وَعشْرين سنة مِمَّا يدل على أَن هَذَا الشَّيْخ الْجَلِيل كرس حَيَاته للنهوض بالجامع الْأَعْظَم وبالتالي على مكمن الدَّاء فِي تخلف الْأمة، وَلَئِن أحس الشَّيْخ بجسامة المهمة والبون الشاسع بَين وَاقع الْمُسلمين وَمَا وصلت إِلَيْهِ الْأُمَم الغربية من امتلاك أَسبَاب النهضة والرقي إِلَّا أَنه لم يدّخر جهدا وَلم يثن عزما فِي السّير فِي هَذَا الطَّرِيق المليء بالأشواك. لقد شملت عناية الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور إصْلَاح الْكتب الدراسية وأساليب التدريس ومعاهد التَّعْلِيم. وَقد اهتمت لجان من شُيُوخ الزيتونة بتشجيع مِنْهُ بِهَذَا الْغَرَض. وَنظرت فِي الْكتب الدراسية على مُخْتَلف مستوياتها وَعمل الشَّيْخ على استبدال كتب كَثِيرَة كَانَت مُنْذُ عصور مَاضِيَة تدرّس وصبغ عَلَيْهَا قدم الزَّمَان صبغة احترام وقداسة موهومة. لقد حرص الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور على خاصتي التَّعْلِيم الزيتوني: الصبغة الشَّرْعِيَّة واللغة الْعَرَبيَّة وللوصول إِلَى هَذَا الهدف لابد من تَخْصِيص كتب دراسية شهد لَهَا الْعلمَاء بغزارة الْعلم وإحكام الصَّنْعَة وتنمية الملكات فِي التَّحْرِير ليتخرج من "الزيتونة" الْعَالم المقتدر على الْخَوْض فِيمَا درس من الْمسَائِل وتمحيصها ونقدها. ولتحقيق هَذِه الأهداف دَعَا الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور المدرسين إِلَى التقليل من الْإِلْقَاء والإكثار من الأشغال التطبيقية. حَتَّى تتربى للطَّالِب ملكة بهَا يسْتَقلّ فِي الْفَهم. ويعول على نَفسه فِي التَّحْصِيل على ثقافته الْعَامَّة والخاصة. وَقد حث المدرسين على نقد الأساليب والمناهج الدراسية وَاخْتِيَار أحْسنهَا أثْنَاء الدَّرْس ومراعاة تربية الملكة، بدل شحن الْعقل بمعلومات كَثِيرَة قد لَا يحسن الطَّالِب التَّصَرُّف فِيهَا. فَكَانَت دَعوته للإصلاح ذَات بعدِي التنظير والتطبيق الميداني. _________ [١] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٢] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧، جَاءَ فِيهَا: الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور أصيل قَرْيَة بني خِيَار الْمَشْهُورَة بِكَثْرَة حفاظ الْقُرْآن وجودة حفظهم وَكَذَلِكَ نشِير إِلَى اشتهار مَدِينَة قربَة بِكَثْرَة الْحفظَة. [٣] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٤] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧. [٥] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١٢٥ [٦] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧. [٧] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٨] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [٩] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [١٠] كَانَ هَذَا الْوَزير زوجا لأميرة مصرية فَكَانَ ذَلِك سَببا لنزوله ضيفا بالمرسى [١١] الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور رائد الْفِكر الإسلامي [١٢] انْظُر إشاراته على سَبِيل الذّكر لَا الْحصْر الصفحة ١١٧، كتاب "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" [١٣] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١٢١ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: هَذَا المبحث لَيْسَ فِي المطبوع وَإِنَّمَا نسخته هُنَا للفائدة
- تطور الْعُلُوم يَقُول الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور فِي كِتَابه "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" - إِيذَانًا مِنْهُ بِقرب النَّصْر واستعادة الْأمة مجدها وتخلصها من المستعمر الفرنسي الَّذِي باغتها فِي عقل دارها-:" رَأَيْت الَّذِي يطْمع فِي الْبَحْث عَن مُوجبَات تدلي الْعُلُوم يَرْمِي بِنَفسِهِ إِلَى متسع رُبمَا لَا يجد مِنْهُ مخرجا فِي أمد غَيره طَوِيل، وأيقنت أَن لأسباب تَأَخّر الْمُسلمين عُمُوما رابطة وَثِيقَة بِأَسْبَاب تَأَخّر الْعُلُوم" [١٤] . أحس الشَّيْخ ابْن عاشور بِقِيمَة الْعلم فِي سَبِيل نهوض الْأمة وحاول من خلال كِتَابه الْمَذْكُور أَن يقدم بديلا لما سَاد فِي أوساط الْجَامِع الْمَعْمُور من مناهج لتدريس الطّلبَة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة الَّتِي توارثها الأجيال أَبَا عَن جد دون نظر وإعمال للرأي ومكنت الغرب بالتالي من استحكام سيطرته على الْعَالم الإسلامي والقطر التّونسِيّ جُزْء مِنْهُ. وَقبل أَن يسْرد سببين رئيسيين لتأخر الْعُلُوم وَيزِيد عَلَيْهِمَا خَمْسَة عشر سَببا فرعيا، قدم نظرته إِلَى الْعُلُوم ورسم منهجه فِي التَّعَامُل مَعَ الْعلم وأطواره، فقسم الْعُلُوم قسمَيْنِ من جِهَة ثَمَرَتهَا: ١- مَا تنشأ عَنْهَا ثَمَرَة هِيَ من نوع مَوْضُوعَات مسَائِله، كعلم النَّحْو فثمرته تجتنى مِنْهُ وَهِي ثَمَرَة لفظية مَحْضَة. ٢- مَا يبْحَث عَن أَشْيَاء لَا لذاتها بل لاستنتاج نتائج عَنْهَا مثل علم التَّارِيخ والفلسفة والهندسة النظرية وأصول الْفِقْه وَغَيرهَا، فبالتاريخ يَسْتَعِين مزاوله على عقل التجارب وتجنب مضار الحضارات والأخطاء الَّتِي وَقعت فِيهَا الْأُمَم السَّابِقَة، والفلسفة تنير الْعقل وتدربه على فتح أَبْوَاب الْحَقَائِق وهاته الْأَشْيَاء لَا تقْرَأ فِي الفلسفة وَإِنَّمَا يتعودها الذِّهْن فِي ضمن ممارساته وَمثل ذَلِك علم البلاغة وَجَمِيع الْعُلُوم البرهانية النظرية، وأصول الْفِقْه فِي فلسفة الاستنباط. يضيف فِي كِتَابه "أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب" ليقول كَلمته الحاسمة فِي التَّعَامُل مَعَ الْعُلُوم بمنطق النَّقْد والتطوير دون الْخُرُوج عَن أدب الِالْتِزَام بمناهج القدماء من سلف الْأمة، فَيَقُول:" وَإِن أطوار الْعُلُوم فِي الْأمة تشبه أطوارها فِي الْأَفْرَاد ذَلِك أَن الْعلم فِي الْأمة كَمَا هُوَ فِي الْفَرد لَهُ أَرْبَعَة أطوار: ١- طور الْحِفْظ والتقليد وَالْقَبُول للمسائل كَمَا هِيَ من غير انتساب بَعْضهَا من بعض وَلَا تفكر فِي غايتها بل لقصد الْعَمَل. ٢- طور انتساب بَعْضهَا من بعض وتنويعها وَالِانْتِفَاع بِبَعْضِهَا فِي بعض. ٣- طور الْبَحْث فِي عللها وأسرارها وغاياتها. ٤- الحكم عَلَيْهَا بِاعْتِبَار تِلْكَ الْعِلَل بالتصحيح والنقد وَهُوَ طور التضلع والتحرير. - المسيرة النضالية عُزز موقف الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر بن عاشور بتسميته شَيخا لِلْإِسْلَامِ الْمَالِكِي سنة ١٩٣٢م ثمَّ بتكليفه فِي شهر سبتمبر من نفس السّنة ١٩٣٢م بمهام شيخ مدير الْجَامِع الْأَعْظَم وفروعه فتيسر لَهُ الشُّرُوع فِي تطبيق آرائه الإصلاحية الَّتِي كَانَت شغله الشاغل [١٥] إِلَّا أَن الدسائس والمؤامرات الَّتِي كَانَت تحاك ضِدّه من طرف معارضيه "الزيتونيين" من المتحفظين على خطواته الإصلاحية من جِهَة وأعدائه وخصومه السياسيين "زعماء الحزب الْحر الدستوري الْجَدِيد" الَّذين شعروا بنفوذه وقبوله من طرف كل المحيطين بِهِ والدور الَّذِي يُمكن أَن يلعبه فِي سحب الْبسَاط من تَحت أَرجُلهم [١٦] من جِهَة ثَانِيَة جعلته يقدم استقالته فِي سبتمبر السّنة الموالية ١٩٣٣م. وَفِي سنة ١٣٦٤هـ -١٩٤٥م عيّن مرّة ثَانِيَة شَيخا للجامع الْأَعْظَم وفروعه وقوبلت عودة الشَّيْخ بحماس فياض من طرف الأوساط الزيتونية والرأي التّونسِيّ بِصفة عَامَّة واهتز المعهد الزيتوني وفروعه سُرُورًا فانتظمت عدَّة تظاهرات تكريما وارتياحا لعودة الشَّيْخ بالعاصمة وَمِنْهَا الِاسْتِقْبَال الْحَار الَّذِي خصته بِهِ فروع سوسة والقيروان وصفاقس بمناسبة الزِّيَارَة التفقدية الَّتِي قَامَ بهَا الشَّيْخ ابْن عاشور فِي ماي ١٩٤٥م فَور تَسْمِيَته من جَدِيد على رَأس إدارة التَّعْلِيم الزيتوني فَانْطَلَقت أَلْسِنَة الأدباء وَالشعرَاء بالقصائد الحماسية والأناشيد [١٧] . واستأنف الشَّيْخ تطبيق برنامجه الإصلاحي فَجعل الْفُرُوع الزيتونية تَحت مراقبة إدارة مشيخة الْجَامِع رَأْسا بَعْدَمَا كَانَت ترجع شؤونها بِالنّظرِ إِلَى السلط الشَّرْعِيَّة الجهوية. كَمَا زَاد الشَّيْخ ابْن عاشور فِي عدد الْفُرُوع الزيتونية الَّذِي ارْتقى فِي مُدَّة سبع سنوات (١٩٤٩ - ١٩٥٦م) من ثَمَانِيَة إِلَى خمس وَعشْرين (مِنْهَا اثْنَان للفتيات فِي تونس وصفاقس) وَصَارَ عدد تلامذة الزيتونة وفروعها يناهز الْعشْرين ألف تلميذ فِي حُدُود ١٩٥٦م [١٨] . كَمَا امتدت شبكة فروع الزيتونة إِلَى الْقطر الجزائري بإنشاء فرعين فِي مَدِينَة قسنطينة [١٩] . وحرص الشَّيْخ ابْن عاشور على أَن يحسن من أوضاع الطّلبَة المعيشية والاجتماعية لَهُم لما لَهُ قيمَة فِي رفع معنويات الطّلبَة الزيتونيين إزاء إخْوَانهمْ الميسرين، وأمام الضغوط من حَولهمْ على الْقَضَاء على التَّعْلِيم الزيتوني [٢٠] والحيرة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أغلب أَبنَاء الزيتونة والآفاق الَّتِي يُمكن أَن يرسموها لمستقبلهم، فأنشئت مطابخ بِبَعْض الْمدَارِس مكنت الطّلبَة من تنَاول الطَّعَام ثَلَاث مَرَّات فِي الْيَوْم بأسعار زهيدة. إِلَّا أَن ذَلِك لم يكن شَيْئا يذكر أَمَام البنايات الْقَدِيمَة وَضعف مَالِيَّة إدارة المشيخة وَهِي حَقِيقَة عاشها كل الزيتونيين. تجدر الْإِشَارَة إِلَى أَن سلطات الحماية حاولت تَعْطِيل إنجاز برنامج الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بطرق متنوعة مِنْهَا مقاومة إنْشَاء الْفُرُوع ...وَقد زَاد تفاقم الْوَضع الظروف السياسية فِي الْبِلَاد وانعكاسها على الأوساط الزيتونية انعكاسا تسبب فِي اضْطِرَاب دَاخل الْجَامِع. وبسبب تمسك الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور بمبدأ عدم الاستجابة لرغبة الْأَحْزَاب السياسية فَاشْتَدَّ الْخلاف بَينه وَبَين الوزارة فِي سنة ١٩٥٠م [٢١]، خُصُوصا إِثْر رفض الشَّيْخ ابْن عاشور لطلب تِلْكَ الوزارة بطرد بعض الطّلبَة أَعْضَاء صَوت الطَّالِب الزيتوني [٢٢] المناهض للحزب. وَقد قررت السلطة إبعاد الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور عَن مُبَاشرَة وظيفته مَعَ إبقائه فِي خطته وتكليف كاهيته الشَّيْخ عَليّ النيفر بإدارة المشيخة. وَفِي سِتَّة ١٩٥٦م عَاد الشَّيْخ ابْن عاشور إِلَى مُبَاشرَة شؤون التَّعْلِيم الزيتوني بعنوان شيخ عميد للجامعة الزيتونية من سنة ١٩٥٦ إِلَى ١٩٦٠م تَارِيخ الْقَضَاء على الزيتونة والتعليم الزيتوني. ٧- كتاباته ومؤلفاته كَانَ أول من حَاضر بِالْعَرَبِيَّةِ بتونس فِي هَذَا الْقرن، أما كتبه ومؤلفاته فقد وصلت إِلَى الْأَرْبَعين هِيَ غَايَة فِي الدقة العلمية. وتدل على تبحر الشَّيْخ فِي شَتَّى الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَالْأَدب. وَمن أجلّها كِتَابه فِي التَّفْسِير "التَّحْرِير والتنوير" مَوْضُوع بحثنا. وَكتابه الثمين والفريد من نَوعه "فِي مَقَاصِد الشَّرِيعَة الإسلامية"، وَكتابه حَاشِيَة التَّنْقِيح للقرافي، و"أصُول الْعلم الاجتماعي فِي الْإِسْلَام"، وَالْوَقْف وآثاره فِي الْإِسْلَام، وَنقد علمي لكتاب أصُول الحكم، وكشف المعطر فِي أَحَادِيث الْمُوَطَّأ، والتوضيح والتصحيح فِي أصُول الْفِقْه، وموجز البلاغة، وَكتاب الْإِنْشَاء والخطابة، شرح ديوَان بشار وديوان النَّابِغَة ... إِلَخ. وَلَا تزَال العديد من مؤلفات الشَّيْخ مخطوطة مِنْهَا: مَجْمُوع الْفَتَاوَى، وَكتاب فِي السِّيرَة، ورسائل فقهية كَثِيرَة [٢٣] . وَقد قسمت مؤلفاته إِلَى قسمَيْنِ مِنْهَا مؤلفات فِي الْعُلُوم الإسلامية، وَأُخْرَى فِي الْعَرَبيَّة وآدابها [٢٤]: · الْعُلُوم الإسلامية: ١- التَّحْرِير والتنوير ٢- مَقَاصِد الشَّرِيعَة الإسلامية ٣- أصُول النظام الاجتماعي فِي الْإِسْلَام ٤- أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب ٥- الْوَقْف وآثاره فِي الْإِسْلَام ٦- كشف الْمُعْطى من الْمعَانِي والألفاظ الْوَاقِعَة فِي الْمُوَطَّأ ٧- قصَّة المولد ٨- حَوَاشِي على التَّنْقِيح لشهاب الدَّين الْقَرَافِيّ فِي أصُول الْفِقْه ٩- رد على كتاب الْإِسْلَام وأصول الحكم تأليف على عبد الرازق ١٠- فَتَاوَى ورسائل فقهية ١١- التَّوْضِيح والتصحيح فِي أصُول الْفِقْه ١٢- النّظر الفسيح عِنْد مضايق الأنظار فِي الْجَامِع الصَّحِيح ١٣- تَعْلِيق وَتَحْقِيق على شرح حَدِيث أم زرع ١٤- قضايا شَرْعِيَّة وَأَحْكَام فقهية وآراء اجتهادية ومسائل علمية ١٥- آمال على مُخْتَصر خَلِيل ١٦- تعاليق على العلول وحاشية السياكوتي ١٧- آمال على دَلَائِل الإعجاز ١٨- أصُول التَّقَدُّم فِي الْإِسْلَام ١٩- مراجعات تتَعَلَّق بكتابي: معجز أَحْمد واللامع للعزيزي · اللُّغَة الْعَرَبيَّة وآدابها: ١- أصُول الْإِنْشَاء والخطابة ٢- موجز البلاغة ٣- شرح قصيدة الْأَعْشَى ٤- تَحْقِيق ديوَان بشار ٥- الْوَاضِح فِي مشكلات المتنبي ٦- سرقات المتنبي ٧- شرح ديوَان الحماسة لأبي تَمام ٨- تَحْقِيق فَوَائِد العقيان لِلْفَتْحِ ابْن خاقَان مَعَ شرح ابْن زاكور ٩- ديوَان النَّابِغَة الذَّهَبِيّ ١٠- تَحْقِيق "مُقَدّمَة فِي النَّحْو" لخلف الْأَحْمَر ١١- تراجم لبَعض الْأَعْلَام ١٢- تَحْقِيق كتاب "الاقتضاب" للبطليوسي مَعَ شرح كتاب أدب الْكَاتِب ١٣- جمع وَشرح ديوَان سحيم ١٤- شرح معلقَة امْرِئ الْقَيْس ١٥- تَحْقِيق لشرح الْقرشِي على ديوَان المتنبي ١٦- غرائب الِاسْتِعْمَال ١٧- تَصْحِيح وَتَعْلِيق على كتاب "النتصار" لِجَالِينُوسَ للحكيم ابْن زهر. وَقد عدد الدكتور مُحَمَّد الحبيب بن الخوجة المجلات العلمية الَّتِي أسْهم فِيهَا الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور، نذْكر مِنْهَا: - السَّعَادَة الْعُظْمَى - الْمجلة الزيتونية وَمن الصُّحُف والمجلات الشرقية: - هدى الْإِسْلَام - نور الْإِسْلَام - مِصْبَاح الشرق - مجلة الْمنَار - مجلة الْهِدَايَة الإسلامية - مجلة مجمع اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ - مجلة الْمجمع العلمي بِدِمَشْق. وَقد شغل مهمة عُضْو مراسل لمجمعي اللُّغَة الْعَرَبيَّة بِالْقَاهِرَةِ ودمشق مُنْذُ سنة ١٩٥٥م. _________ [١٤] أَلَيْسَ الصُّبْح بقريب ص ١٧٥ [١٥] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١١٥ [١٦] حاكوا لَهُ الدسائس بِسَبَب مَوَاقِف اتهمَ بَاطِلا باتخاذها فِيمَا يُسمى بقضية التَّجْنِيس - انْظُر الْمصدر السَّابِق [١٧] أنْشد تلاميذه أناشيد مُؤثرَة مِنْهَا مَا أنْشدهُ صغَار تلامذة فروع سوسة: - أَيهَا الطَّاهِر أَهلا بِابْن عاشور وسهلا- قد حللت الصفو حلا - وَجرى دمع السرُور - أَنْت للعين ضِيَاء - فِي اهتداء وارتياء - يَا وريث الْأَنْبِيَاء، أَنْت للمعمور نور (...) [١٨] فِي هَذِه السّنة حصلت تونس على استقلالها، وَأصْبح بورقيبة والحزب الدستوري يباشرون الحكم، مِمَّا سيخيف هَذَا الْأَخير الْمَدّ الزيتوني الَّذِي أحدثه الشَّيْخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور. [١٩] جَامع الزيتونة المَعْلم وَرِجَاله - مُحَمَّد الْعَزِيز ابْن عاشور ص ١٢٣ [٢٠] صرح مارسال ماشوال الممثل الفرنسي على النهوض بالتعليم فِي تونس قَائِلا أَمَام لجنة التفكير فِي إصْلَاح التَّعْلِيم:» Cette «connaissance machinale d'ailleurs، du livre sacré، de quoi leur sert-elle dans ce monde؟ De rien du tout انْظُر دراسة مَشْرُوع مارشوال - كراسات تونسية سنة ١٩٨٦ - مُخْتَار عياشي [٢١] وَهِي يَوْمئِذٍ بَين يَدي زعماء الحزب الْحر الدستوري الْجَدِيد وبخاصة كَاتبه الْعَام صَالح بن يُوسُف وَزِير الْعدْل - جَامع الزيتونة المعلَم وَرِجَاله ص ١٢٤ [٢٢] منظمة طلابية نقابية أسست سنة ١٩٥٠م لَهَا تَارِيخ عريق فِي التصدي لأعداء الزيتونة وَعرف مُحَمَّد البدوي كأهم الْوُجُوه لَهَا. [٢٣] نقلا عَن نشرية الْكَلِمَة الطّيبَة، السّنة الأولى، الْعدَد ١٢، محرم ١٤١٧. [٢٤] نقلتها مجلة جَوْهَر الْإِسْلَام عدد ٣ -٤ السّنة الْعَاشِرَة. ١٩٧٨م (فِي عدد خَاص بالشيخ مُحَمَّد الطَّاهِر ابْن عاشور) .
[مَبْحَث عَن التَّحْرِير والتنوير] (*) - ٧٣٧ - التَّعْرِيف بالتفسير: وَتَفْسِيره الْمُسَمّى بالتحرير والتنوير اسْمه الْأَصْلِيّ: "تَحْرِير الْمَعْنى السديد وتنوير الْعقل الْجَدِيد وَتَفْسِير الْكتاب الْمجِيد". وَالْكتاب لَهُ طبعتان: طبعة على هَيْئَة أَجزَاء مُتَفَرِّقَة نشرتها الدَّار التونسية للنشر، وطبعة فِي خمس مجلدات، وطبعة قديمَة سنة ١٣٨٤هـ بمطبعة عِيسَى البابي الْحلَبِي لم أَقف مِنْهَا على غير الْجُزْء الأول فَقَط. قدم لَهُ الْمُؤلف بتمهيد واف ذكر فِيهِ مُرَاده من هَذَا التَّفْسِير وَقَالَ: فَجعلت حَقًا عَليّ أَن أبدي فِي تَفْسِير الْقُرْآن نكتا لم أر من سبقني إِلَيْهَا، وَأَن أَقف موقف الحكم بَين طوائف الْمُفَسّرين تَارَة لَهَا وآونة عَلَيْهَا، فَإِن الِاقْتِصَار على الحَدِيث الْمعَاد، تَعْطِيل لفيض الْقُرْآن الَّذِي مَاله من نفاد، وَلَقَد رَأَيْت النَّاس حول كَلَام الأقدمين أحد رجلَيْنِ: رجل معتكف فِيمَا شاده الأقدمون، وَآخر آخذ بمعولة فِي هدم مَا مَضَت عَلَيْهِ الْقُرُون وَفِي تِلْكَ الْحَالَتَيْنِ ضرّ كثير، وهنالك حَالَة أُخْرَى ينجبر بهَا الْجنَاح الكسير، وَهِي أَن نعمد إِلَى مَا أشاده الأقدمون فنهذبه ونزيده وحاشا أَن ننقضه أَو نبيده، علما بِأَن غمص فَضلهمْ كفران للنعمة، وَجحد مزايا سلفها لَيْسَ من حميد خِصَال الْأمة. _________ (*) قَالَ مُعِدُّ الْكتاب للشاملة: هَذَا المبحث لَيْسَ فِي المطبوع، وَهُوَ مَنْقُول من كتاب (التَّفْسِير والمفسرون فِي غرب إفريقيا) للشَّيْخ مُحَمَّد بن رزق الطرهوني - وأصل الْكتاب أطروحة الدكتوراة للشَّيْخ من جَامِعَة الْأَزْهَر فأثبتُّ هَذَا المبحث من الْكتاب هُنَا للفائدة، وترقيم صفحاته مُوَافق للمطبوع (ط - دَار ابْن الْجَوْزِيّ - الطبعة الأولى ١٤٢٦ هـ) وتجد الأرقام أَعلَى الصفحات
- ٧٣٨ - وَقد ذكر فِيهَا أهم التفاسير فِي نظره فبدأها بتفسير الْكَشَّاف ثمَّ الْمُحَرر الْوَجِيز ثمَّ مَفَاتِيح الْغَيْب وَتَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ والآلوسي وَذكر بعض الْحَوَاشِي على الْكَشَّاف والبيضاوي وَتَفْسِير أبي السُّعُود والقرطبي وَتَقْيِيد الأبي على ابْن عَرَفَة وَتَفْسِير ابْن جرير ودرة التَّنْزِيل. ثمَّ قَالَ: ولقصد الِاخْتِصَار أعرض عَن الْعزو إِلَيْهَا. فَكَأَنَّهَا مراجعه الأساسية. وَلَقَد أخر مَا حَقه التَّقْدِيم فَجعل أَولهَا كتاب الْكَشَّاف المعتزلي وَجعل فِي آخرهَا كتاب ابْن جرير أعظم الْمُفَسّرين وعمدة السَّابِقين واللاحقين مِمَّا يُعْطي الانطباع بِأَن مَنْهَج الشَّيْخ عقلاني أَكثر مِنْهُ أثري. ثمَّ قَالَ: وَقد ميزت مَا يفتح الله لي من فهم فِي مَعَاني كِتَابه وَمَا أجلبه من الْمسَائِل العلمية مِمَّا لَا يذكرهُ الْمُفَسِّرُونَ. كَمَا وضح أَن فن البلاغة لم يَخُصُّهُ أحد من الْمُفَسّرين بِكِتَاب كَمَا خصوا أفانين الْقُرْآن الْأُخْرَى وَمن أجل ذَلِك الْتزم أَن لَا يغْفل التَّنْبِيه على مَا يلوح لَهُ مِنْهُ كلما ألهمه. وأخيرًا فَهُوَ يمتدح كِتَابه بقوله: فَفِيهِ أحسن مَا فِي التفاسير، وَفِيه أحسن مِمَّا فِي التفاسير. وَقد أتبع كَلَامه عَن تَفْسِيره بِعشر مُقَدمَات: الأولى: فِي التَّفْسِير والتأويل وَتعرض فِيهِ لبَيَان أَن التَّفْسِير لَيْسَ علما إِلَّا على وَجه التسامح وناقش ذَلِك بمقدمات منطقية ترسم أبعادًا لمنهجه العقلاني الَّذِي يَتَّضِح من خلال مطالعة تَفْسِيره شَيْئا فَشَيْئًا. وَقد أثنى فِي تِلْكَ الْمُقدمَة على تفسيري الْكَشَّاف وَابْن عَطِيَّة وَقَالَ: وَكِلَاهُمَا عضادتا الْبَاب ومرجع من بعدهمَا من أولي الْأَلْبَاب. وسوف يَأْتِي ذكر بَقِيَّة الْمُقدمَات فِي غُضُون كلامنا عَن الْمنْهَج التفصيلي. الْمنْهَج الْعَام للتفسير: وَتَفْسِير التَّحْرِير والتنوير بعتير فِي الْجُمْلَة تَفْسِيرا بلاغيا بَيَانا لغويا عقلانيا
- ٧٣٩ - لَا يغْفل الْمَأْثُور ويهتم بالقراءات. وَطَرِيقَة مُؤَلفه فِيهِ أَن يذكر مقطعا من السُّورَة ثمَّ بشرع فِي تَفْسِيره مبتدئا بِذكر الْمُنَاسبَة ثمَّ لغويات المقطع ثمَّ التَّفْسِير الإجمالي ويتعرض فِيهِ للقراءات والفقهيات وَغَيرهَا. وَهُوَ يقدم عرضا تفصيليا لما فِي السُّورَة ويتحدث عَن ارتباط آياتها. الْمنْهَج التفصيلي للمؤلف: أَولا: أَسمَاء السُّور وَعدد الْآيَات وَالْوُقُوف وَبَيَان المناسبات: لقد أفرد ابْن عاشور الْمُقدمَة الثَّامِنَة من مقدماته وَجعلهَا فِي اسْم الْقُرْآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها. ثمَّ هُوَ يتَعَرَّض أثْنَاء التَّفْسِير لأسماء السُّور وَمن ذَلِك فِي سُورَة الْفَاتِحَة إِذْ يَقُول: سُورَة الْفَاتِحَة من السُّور ذَات الْأَسْمَاء الْكَثِيرَة. أنهاها صَاحب الإتقان إِلَى نَيف وَعشْرين بَين ألقاب وصفات وَجَرت على أَلْسِنَة الْقُرَّاء من عهد السّلف، وَلم يثبت فِي السّنة الصَّحِيحَة والمأثور من أسمائها إِلَّا فَاتِحَة الْكتاب، والسبع المثاني، وَأم الْقُرْآن، أَو أم الْكتاب، فلنقتصر على بَيَان هَذِه الْأَسْمَاء الثَّلَاثَة. وَمِمَّا قَالَه فِي تَقْدِيمه لكتابه: واهتممت أَيْضا بِبَيَان تناسب اتِّصَال الْآي بَعْضهَا بِبَعْض وَبَين أَن الْبَحْث عَن تناسب مواقع السُّور لَيْسَ حَقًا على الْمُفَسّر. ويتعرض لمكية السُّور ومدنيتها وترتيب نُزُولهَا كَمَا فِي الْفَاتِحَة وَالْبَقَرَة وَغَيرهمَا. وَفِي تَرْتِيب النُّزُول جَاءَ قَوْله: تحير الْمُفَسِّرُونَ فِي مَحل هاته الْحُرُوف الْوَاقِعَة فِي أول هاته السُّور، وَفِي فواتح سور أُخْرَى عدَّة جَمِيعهَا تسع وَعِشْرُونَ سُورَة ومعظمها فِي السُّور المكية، وَكَانَ بَعْضهَا فِي ثَانِي سُورَة نزلت وهى ﴿ن والقلم﴾ وأخلق بهَا أَن تكون مثار حيرة ومصدر أَقْوَال مُتعَدِّدَة وأبحاث كَثِيرَة. وَعند النّظر لأوّل وهلة يتَبَيَّن أَن تَحْدِيد المُصَنّف لتِلْك السُّورَة بِأَنَّهَا ثَانِي سُورَة نزلت لَيْسَ بِصَحِيح فَإِن أولى السُّور نزولا هِيَ العلق ثمَّ
- ٧٤٠ - المدثر وَالْخلاف مَحْصُور فيهمَا مَعَ الْفَاتِحَة، فسورة ن هِيَ الرَّابِعَة على أقل تَقْدِير. وَهُوَ يتَعَرَّض لعد الْآي وَمن ذَلِك قَوْله فِي سُورَة الْبَقَرَة: وَعدد آيها مِائَتَان وَخمْس وَثَمَانُونَ آيَة عِنْد أهل الْعدَد بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّة وَالشَّام، وست وَثَمَانُونَ عِنْد أهل الْعدَد بِالْكُوفَةِ، وَسبع وَثَمَانُونَ عِنْد أهل الْعدَد بِالْبَصْرَةِ. وَقد تعرض للْخلاف فِي عد الفواتح. ثَانِيًا: موقفه من العقيدة: وَهُوَ فِي العقيدة يسْلك مَسْلَك المؤولة: يَقُول: فوصف الله تَعَالَى بِصِفَات الرَّحْمَة فِي اللُّغَات نَاشِئ على مِقْدَار عقائد أَهلهَا فِي مَا يجوز على الله ويستحيل، وَكَانَ أَكثر الْأُمَم مجسمة، ثمَّ يَجِيء ذَلِك فِي لِسَان الشَّرَائِع تعبيرًا على الْمعَانِي الْعَالِيَة بأقصى مَا تسمح بِهِ اللُّغَات مَعَ اعْتِقَاد تَنْزِيه الله عَن أَعْرَاض الْمَخْلُوقَات بِالدَّلِيلِ الْعَام على التَّنْزِيه وَهُوَ مَضْمُون قَول الْقُرْآن ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ فَأهل الْإِيمَان إِذا سمعُوا أَو أطْلقُوا وصفي: الرَّحْمَن الرَّحِيم؛ لَا يفهمون مِنْهُ حُصُول ذَلِك الانفعال الملحوظ فِي حَقِيقَة الرَّحْمَة فِي مُتَعَارَف اللُّغَة الْعَرَبيَّة لسطوع أَدِلَّة تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن الْأَعْرَاض بل إِنَّه يُرَاد بِهَذَا الْوَصْف فِي جَانب الله تَعَالَى إِثْبَات الْغَرَض الأسمى من حَقِيقَة الرَّحْمَة وَهُوَ صُدُور آثَار الرَّحْمَة من الرِّفْق واللطف وَالْإِحْسَان والإعانة لِأَن ماعدا ذَلِك من الْقُيُود الملحوظة فِي مُسَمّى الرَّحْمَة فِي مُتَعَارَف النَّاس لَا أهمية لَهُ، لَوْلَا أَنه لَا يُمكن بِدُونِهِ حُصُول آثاره فيهم أَلا ترى أَن الْمَرْء قد يرحم أحدا وَلَا يملك لَهُ نفعا لعجز أَو نَحوه وَقد أَشَارَ إِلَى مَا قُلْنَاهُ أَبُو حَامِد الْغَزالِيّ فِي الْمَقْصد الْأَسْنَى بقوله: الَّذِي يُرِيد قَضَاء حَاجَة الْمُحْتَاج وَلَا يَقْضِيهَا فَإِن كَانَ قَادِرًا على قَضَائهَا لم يسم رحِيما إِذْ لَو تمت الْإِرَادَة لوفى بهَا وَإِن كَانَ عَاجِزا فقد يُسمى رحِيما بِاعْتِبَار مَا اعْتَبرهُ من الرَّحْمَة والرقة وَلَكِن نَاقص. وَبِهَذَا تعلم أَن إِطْلَاق نَحْو هَذَا الْوَصْف على الله تَعَالَى لَيْسَ من الْمُتَشَابه
- ٧٤١ - لتبادر الْمَعْنى المُرَاد مِنْهُ بِكَثْرَة اسْتِعْمَاله وَتحقّق تنزه الله عَن لَوَازِم الْمَعْنى الْمَقْصُود فِي الْوَضع مِمَّا لَا يَلِيق بِجلَال الله، كَمَا نطلق الْعَلِيم على الله مَعَ التيقن بتجرد علمه عَن الْحَاجة إِلَى النّظر وَالِاسْتِدْلَال وَسبق الْجَهْل، وكما نطلق الْحَيّ عَلَيْهِ تَعَالَى مَعَ الْيَقِين بتجرد حَيَاته عَن الْعَادة والتكون، ونطلق الْقُدْرَة مَعَ الْيَقِين بتجرد قدرته عَن المعالجة والاستعانة، فوصفه تَعَالَى بالرحمن الرَّحِيم من المنقولات الشَّرْعِيَّة فقد أثبت الْقُرْآن رَحْمَة الله فِي قَوْله ﴿ورحمتي وسعت كل شَيْء﴾ فَهِيَ منقولة فِي لِسَان الشَّرْع إِلَى إِرَادَة الله إِيصَال الْإِحْسَان إِلَى مخلوقاته فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وغالب الْأَسْمَاء الْحسنى من هَذَا الْقَبِيل. وَيَقُول: وَإِذا كَانَت حَقِيقَة الْغَضَب يَسْتَحِيل اتصاف الله تَعَالَى بهَا، وإسنادها إِلَيْهِ على الْحَقِيقَة، للأدلة القطعية الدَّالَّة على تَنْزِيه الله تَعَالَى عَن التغيرات الذاتية والعرضية؛ فقد وَجب على الْمُؤمن صرف إِسْنَاد الْغَضَب إِلَى الله عَن مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَطَرِيقَة أهل الْعلم وَالنَّظَر فِي هَذَا الصّرْف أَن يصرف اللَّفْظ إِلَى الْمجَاز بعلاقة اللُّزُوم أَو إِلَى الْكِنَايَة بِاللَّفْظِ عَن لَازم مَعْنَاهُ، فَالَّذِي يكون صفة لله من معنى الْغَضَب هُوَ لَازمه، أَعنِي: الْعقَاب والإهانة يَوْم الْجَزَاء واللعنة أَي الإبعاد عَن أهل الدَّين وَالصَّلَاح فِي الدُّنْيَا أَو هُوَ من قبيل التمثيلية. وَكَانَ السّلف فِي الْقرن الأول ومنتصف الْقرن الثَّانِي يمسكون عَن تَأْوِيل هَذِه المتشابهات، لما رَأَوْا فِي ذَلِك الْإِمْسَاك من مصلحَة الِاشْتِغَال بِإِقَامَة الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ مُرَاد الشَّرْع من النَّاس، فَلَمَّا نَشأ النّظر فِي الْعلم وطلبوا معرفَة حقائق الْأَشْيَاء وَحدث قَول النَّاس فِي مَعَاني الدَّين بِمَا لَا يلائم الْحق، لم يجد أهل الْعلم بَدَأَ من توسيع أساليب التَّأْوِيل الصَّحِيح لإفهام الْمُسلم وكبت الملحد، فَقَامَ الدَّين بصنيعهم على قَوَاعِده، وتميز المخلص لَهُ عَن ماكره وجاحده، وكل فِيمَا صَنَعُوا على هدى. وَبعد الْبَيَان لَا يرجع إِلَى الْإِجْمَال أبدا، وَمَا تأولوه
- ٧٤٢ - إِلَّا بِمَا هُوَ مَعْرُوف فِي لِسَان الْعَرَب مَفْهُوم لأَهله. فَغَضب الله تَعَالَى على الْعُمُوم يرجع إِلَى مُعَامَلَته الحائدين عَن هَدْيه العاصين لأوامره وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ الانتقام وَهُوَ مَرَاتِب أقصاها عِقَاب الْمُشْركين وَالْمُنَافِقِينَ بالخلود فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَدون الْغَضَب الْكَرَاهِيَة. وَقد يستطرد أَحْيَانًا فِي تِلْكَ القضايا الْمُتَعَلّقَة بِالصِّفَاتِ وَيَكْفِي الْقَارئ لمعْرِفَة مدى الاستطراد الَّذِي وَقع فِيهِ الْمُؤلف الْخَارِج عَن نطاق التَّفْسِير أَن يقْرَأ هَذِه الْفَقْرَة الَّتِي سَاقهَا ضمن كَلَامه الطَّوِيل عَن الْحَمد: قَالَ: ...وَمِنْه أَنه يكون ثَنَاء على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ: وَبِهَذَا ينْدَفع الْإِشْكَال عَن حمدنا الله تَعَالَى على صِفَاته الذاتية كَالْعلمِ وَالْقُدْرَة دون صِفَات الْأَفْعَال، وَإِن كَانَ اندفاعه على اخْتِيَار الْجُمْهُور أَيْضا ظَاهرا؛ فَإِن مَا ورد عَلَيْهِم من أَن مَذْهَبهم يسْتَلْزم أَن لَا يحمد الله تَعَالَى على صِفَاته لِأَنَّهَا ذاتية، فَلَا تُوصَف بِالِاخْتِيَارِ إِذْ الِاخْتِيَار يسْتَلْزم إِمْكَان الاتصاف. وَقد أجابوا عَنهُ إِمَّا بِأَن تِلْكَ الصِّفَات الْعلية نزلت منزلَة الاختيارية لاستقلال موصوفها وَإِمَّا بِأَن ترَتّب الْآثَار الاختيارية عَلَيْهَا يَجْعَلهَا كالاختيارية، وَإِمَّا بِأَن المُرَاد بالاختيارية
- ٧٤٣ - أَن يكون الْمَحْمُود فَاعِلا بِالِاخْتِيَارِ وَإِن لم يكن الْمَحْمُود عَلَيْهِ اختياريًا. وَعِنْدِي أَن الْجَواب أَن نقُول: إِن شَرط الِاخْتِيَارِيّ فِي حَقِيقَة الْحَمد - عِنْد مثبته- لإِخْرَاج الصِّفَات غير الاختيارية، لِأَن غير الِاخْتِيَارِيّ فِينَا لَيْسَ من صِفَات الْكَمَال إِذْ لَا تترتب عَلَيْهَا الْآثَار الْمُوجبَة للحمد، فَكَانَ شَرط الِاخْتِيَار فِي حمدنا زِيَادَة فِي تحقق كَمَال الْمَحْمُود، أما عدم الِاخْتِيَار الْمُخْتَص بِالصِّفَاتِ الذاتية الإلهية فَإِنَّهُ لَيْسَ عبارَة عَن نقص فِي صِفَاته، وَلكنه كَمَال نَشأ من وجوب الصّفة للذات لقدم الصّفة فَعدم الِاخْتِيَار فِي صِفَات الله تَعَالَى زِيَادَة فِي الْكَمَال لِأَن أَمْثَال تِلْكَ الصِّفَات فِينَا لَا تكون وَاجِبَة للذات مُلَازمَة لَهَا، فَكَانَ عدم الِاخْتِيَار فِي صِفَات الله تَعَالَى دَلِيلا على زِيَادَة الْكَمَال، وَفينَا دَلِيلا على النَّقْص. وَمَا كَانَ نقصا فِينَا بِاعْتِبَار مَا، قد يكون كمالا لله تَعَالَى بِاعْتِبَار آخر، مثل عدم الْوَلَد، فَلَا حَاجَة إِلَى الْأَجْوِبَة المبنية على التَّنْزِيل إِمَّا بِاعْتِبَار الصّفة أَو بِاعْتِبَار الْمَوْصُوف، على أَن تَوْجِيه الثَّنَاء إِلَى الله تَعَالَى بمادة (حمد) هُوَ أقْصَى مَا تسمى بِهِ اللُّغَة الْمَوْضُوعَة لأَدَاء الْمعَانِي المتعارفة لَدَى أهل تِلْكَ اللُّغَة، فَلَمَّا طرأت عَلَيْهِم المدارك الْمُتَعَلّقَة بالحقائق الْعَالِيَة عبر لَهُم عَنْهَا بأقصى مَا يقربهَا من كَلَامهم. وَيَقُول فِي خلق الْأَفْعَال وَقَضِيَّة اللطف وَهُوَ كَلَام يشم مِنْهُ رَائِحَة الاعتزال: ﴿فَزَادَهُم الله مَرضا﴾ وَإِنَّمَا أسندت زِيَادَة مرض قُلُوبهم إِلَى الله تَعَالَى مَعَ أَن زِيَادَة هاته الْأَمْرَاض القلبية من ذَاتهَا، لِأَن الله تَعَالَى لما خلق هَذَا التولد وأسبابه وَكَانَ أمره خفِيا، نبه النَّاس على خطر الاسترسال فِي النوايا الخبيثة والأعمال الْمُنكرَة، وَأَنه من شَأْنه أَن يزِيد تِلْكَ النوايا تمَكنا من الْقلب فيعسر أَو يتَعَذَّر الإقلاع عَنْهَا بعد تمكنها، وأسندت تِلْكَ الزِّيَادَة إِلَى اسْمه تَعَالَى لِأَن الله غضب عَلَيْهِم فأهملهم وشأنهم وَلم يتداركهم بِلُطْفِهِ الَّذِي يوقظهم من غفلاتهم لينبه الْمُسلمين إِلَى خطر أمرهَا وَأَنَّهَا مِمَّا يعسر إقلاع أَصْحَابهَا عَنْهَا ليَكُون حذرهم من معاملتهم أَشد مَا يُمكن. وَله كَلَام جيد فِي تَقْدِير الْمَحْذُوف فِي لَا إِلَه إِلَّا الله: قَالَ: قد أفادت
- ٧٤٤ - جملَة (لَا إِلَه إِلَّا هُوَ) التَّوْحِيد لِأَنَّهَا نفت حَقِيقَة الألوهية عَن غير الله تَعَالَى. وَخبر" لَا" مَحْذُوف دلّ عَلَيْهِ مَا فِي" لَا "من معنى النَّفْي لِأَن كل سامع يعلم أَن المُرَاد نفي هَذِه الْحَقِيقَة فالتقدير لَا إِلَه مَوْجُود إِلَّا هُوَ، وَقد عرضت حيرة للنحاة فِي تَقْدِير الْخَبَر فِي هاته الْكَلِمَة ...الخ كَمَا تعرض للْخلاف فِي مُسَمّى الْإِيمَان فَأطَال فِيهِ إطالة خرجت عَن حد التَّفْسِير وتورط فِيهَا ورطة كَبِيرَة كَمَا سَيَأْتِي فِي نِهَايَة حديثنا عَن هَذَا التَّفْسِير. وَله ردود ومناقشات مَعَ الْفرق وَمن ذَلِك: حَملته فِي الْمُقدمَة الثَّالِثَة على تَفْسِير الباطنية وَقد عرج على التَّفْسِير الإشاري وخرجه تخريجًا يوحي بقبوله لَهُ وَقَالَ فِي بعض أنحائه: وَرَأَيْت الشَّيْخ محيي الدَّين يُسَمِّي هَذَا النَّوْع سَمَاعا وَلَقَد أبدع. وَقد تعرض للإباضية وَقَوْلهمْ فِي الْإِيمَان كَمَا تعرض لبَعض الخلافات بَين الأشاعرة والمعتزلة وَابْن عاشور يُؤْخَذ عَلَيْهِ أَنه ينْقل عَن أنَاس معروفين بالزيغ فِي بَاب الِاعْتِقَاد فَهُوَ ينْقل عَن ابْن سينا وَأَمْثَاله إِذْ يَقُول بعد ذكر كَلَام للرازي: قلت: وَلم يسم الإِمَام الْمرتبَة الثَّالِثَة باسم وَالظَّاهِر أَنَّهَا مُلْحقَة فِي الِاسْم
- ٧٤٥ - فِي الْمرتبَة الثَّالِثَة أَعنِي الْعُبُودِيَّة لِأَن الشَّيْخ ابْن سينا قَالَ فِي الإشارات: الْعَارِف يُرِيد الْحق لَا لشَيْء غَيره وَلَا يُؤثر شَيْئا على عرفانه وتعبده لَهُ فَقَط لِأَنَّهُ مُسْتَحقّ لِلْعِبَادَةِ وَلِأَنَّهَا نِسْبَة شريفة إِلَيْهِ لَا لرغبة أَو رهبة ا. هـ فجعلهما حَالَة وَاحِدَة. كَمَا ينْقل عَنهُ مرّة ثَانِيَة بعْدهَا بصفحة فَيَقُول: وَأَقل مِنْهُ قَول الشَّيْخ ابْن سينا فِي الإشارات: لما لم يكن الْإِنْسَان بِحَيْثُ يسْتَقلّ وَحده بِأَمْر نَفسه إِلَّا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بَينهمَا يفرغ كل وَاحِدَة مِنْهُمَا لصَاحبه عَن مُهِمّ لَو تولاه لنَفسِهِ لازدحم على الْوَاحِد كثير وَكَانَ مِمَّا يتعسر إِن أمكن، وَجب أَن يكون بَين النَّاس مُعَاملَة وَعدل يحفظه شرع يفرضه شَارِع متميز بِاسْتِحْقَاق الطَّاعَة، وَوَجَب أَن يكون للمحسن والمسيء جَزَاء من عِنْد الْقَدِير الْخَبِير، فَوَجَبَ معرفَة الْمجَازِي والشارع، وَأَن يكون مَعَ الْمعرفَة سَبَب حَافظ للمعرفة فَفرضت عَلَيْهِم الْعِبَادَة المذكِّرة للمعبود، وكررت عَلَيْهِم ليستحفظ التَّذْكِير بالتكرير ا. هـ وَتقدم نَقله عَن ابْن عَرَبِيّ. كَمَا تأثر بِمن لَدَيْهِ انحراف فِي عقيدته وَنقل عَنهُ كثيرا أَمْثَال الزَّمَخْشَرِيّ، وَهُوَ يثني على الْغَزالِيّ وينقل عَنهُ كثيرا أَيْضا. ثَالِثا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ: وَمن مَوَاضِع تَفْسِير ابْن عاشور لِلْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَهِي تكَاد تكون نادرة وَغير مُبَاشرَة قَوْله: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ادخُلُوا فِي السّلم﴾ قَالَ: وَقيل: أُرِيد بالذين آمنُوا الَّذين أظهرُوا الْإِيمَان فَتكون خطابا لِلْمُنَافِقين فيؤول قَوْله ﴿الَّذين آمنُوا﴾ بِمَعْنى أظهرُوا الْإِيمَان فَيكون تهكما بهم على حد قَوْله ﴿وَقَالُوا ياأيها الَّذِي نزل عَلَيْهِ الذّكر إِنَّك لمَجْنُون﴾ فَيكون خطابا لِلْمُنَافِقين ...الخ. وَقَالَ: والعلو فِي قَوْله ﴿ولتعلن علوا كَبِيرا﴾ مجَاز فِي الطغيان والعصيان كَقَوْلِه كَقَوْلِه ﴿إِن فِرْعَوْن علا فِي الأَرْض﴾ وَقَوله
- ٧٤٦ - ﴿إِنَّه كَانَ عَالِيا من المسرفين﴾ وَقَوله ﴿أَلا تعلوا عَليّ وأتوني مُسلمين﴾ تَشْبِيها للتكبر والطغيان بالعلو على الشَّيْء لامتلاكه تَشْبِيه مَعْقُول بمحسوس. رَابِعا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالسنةِ: وأفرد ابْن عاشور الْمُقدمَة الثَّالِثَة من مقدماته الْعشْر: فِي صِحَة التَّفْسِير بِغَيْر الْمَأْثُور وَمعنى التَّفْسِير بِالرَّأْيِ وَقد انتقد فِيهَا كتب التَّفْسِير بالمأثور حَتَّى تجَاوز الانتقاد إِلَى ذكر مَا لَيْسَ بِحَقِيقَة كَقَوْلِه: وَإِن أَرَادوا بالمأثور مَا رُوِيَ عَن النَّبِي ﴿وَعَن الصَّحَابَة خَاصَّة وَهُوَ مَا يظْهر من صَنِيع السُّيُوطِيّ فِي تَفْسِيره الدّرّ المنثور. لم يَتَّسِع ذَلِك الْمضيق إِلَّا قَلِيلا وَلم يغن عَن أهل التَّفْسِير فتيلا. وَهَذَا غير صَحِيح فالدر المنثور جَامع لأقوال التَّابِعين وَبَعض تَابِعِيّ التَّابِعين أَكثر مِمَّا جمع عَن الصَّحَابَة. وَقد انتقد الطَّبَرِيّ وَقَالَ عَن طَرِيقَته: وَذَلِكَ طَرِيق لَيْسَ بنهج وَقد سبقه إِلَيْهِ بَقِي ابْن مخلد وَلم نقف على تَفْسِيره، وشاكل الطَّبَرِيّ فِيهِ معاصروه، مثل ابْن أبي حَاتِم وَابْن مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم، فَللَّه در الَّذين لم يحبسوا أنفسهم فِي تَفْسِير الْقُرْآن على مَا هُوَ مأثور مثل الْفراء وَأبي عُبَيْدَة من الْأَوَّلين، والزجاج والرماني مِمَّن بعدهمْ، ثمَّ الَّذين سلكوا طريقهم مثل الزَّمَخْشَرِيّ وَابْن عَطِيَّة. وَأَقُول: بل لله در من حبسوا نفسهم على منهاج أَوَّلهمْ وَلم تزل أَقْدَامهم فِي مازلت فِيهِ أَقْدَام غَيرهم مِمَّن خَرجُوا من القفص لحتفهم. أما موقفه من الحَدِيث فيتعرض لَهُ على وَجه التَّفْسِير وَرُبمَا جَاءَ بِهِ لدلَالَة لغوية وَنَحْوهَا. وَهُوَ فِي الْغَالِب يذكر الْأَحَادِيث بِدُونِ تَخْرِيج. وَرُبمَا ذكر التَّخْرِيج وَهُوَ قَلِيل. وَقد يُخَالف المُصَنّف عَادَته لحَاجَة فِي نفس يَعْقُوب وَمن ذَلِك كَلَامه
- ٧٤٧ - عَن حَدِيث تَحْويل الْقبْلَة حَيْثُ لم يكتف بالتخريج وَلَا بالصناعة الحديثية بل ذكر أَيْضا طرفا من الْأَسَانِيد فَقَالَ عِنْد قَوْله﴾ سَيَقُولُ السُّفَهَاء من النَّاس ماولاهم عَن قبلتهم؟: وَلذَلِك جزم أَصْحَاب هَذَا القَوْل بِأَن هَذِه الْآيَة نزلت بعد نسخ اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس وَرووا ذَلِك عَن مُجَاهِد. وروى البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة من طَرِيق عبد الله بن رَجَاء عَن إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء حَدِيث تَحْويل الْقبْلَة وَوَقع فِيهِ: فَقَالَ السُّفَهَاء - وهم الْيَهُود -: ﴿مَا ولاهم عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ ﴿قل لله الْمشرق وَالْمغْرب يهدي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ . وَأخرجه فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق عَمْرو بن خَالِد عَن زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بِغَيْر هَذِه الزِّيَادَة، وَلَكِن قَالَ عوضهَا: وَكَانَت الْيَهُود قد أعجبهم إِذْ كَانَ يُصَلِّي قبل بَيت الْقُدس، وَأهل الْكتاب، فَلَمَّا ولى وَجهه قبل الْبَيْت أَنْكَرُوا ذَلِك. وَأخرجه فِي كتاب التَّفْسِير من طَرِيق أبي نعيم عَن زُهَيْر بِدُونِ شَيْء من هَاتين الزيادتين، وَالظَّاهِر أَن الزِّيَادَة الأولى مدرجة من إِسْرَائِيل عَن أبي إِسْحَاق، وَالزِّيَادَة الثَّانِيَة مدرجة من عَمْرو بن خَالِد لِأَن مُسلما وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ قد رووا حَدِيث الْبَراء عَن أبي إِسْحَاق من غير طَرِيق إِسْرَائِيل وَلم يكن فِيهِ إِحْدَى الزيادتين، فاحتاجوا إِلَى تَأْوِيل حرف الِاسْتِقْبَال من قَوْله ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاء﴾ بِمَعْنى التَّحْقِيق لَا غير، أَي قد قَالَ السُّفَهَاء: ماولاهم. وَهَذَا التَّخْرِيج المطول - بِالنِّسْبَةِ للتفسير - لاقيمة لَهُ من حَيْثُ الصِّنَاعَة الحديثية لإِثْبَات الإدراج فِي الحَدِيث، ولابد فِي ذَلِك من نَص عَالم متخصص من الْحفاظ على ذَلِك الإدراج أَو التتبع الْكَامِل لجَمِيع طرق الحَدِيث ثمَّ عرضهَا على قَوَاعِد أهل المصطلح للوصول لتِلْك الدَّعْوَى العريضة. وَهُوَ أَحْيَانًا يغض طرفه عَن مَشْهُور الحَدِيث بِعِبَارَة مقتضبة لعدم قناعته بالتفسير الْمُتَرَتب عَلَيْهِ وَمن ذَلِك: قَوْله ﴿غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين﴾
- ٧٤٨ - قَالَ: فالمغضوب عَلَيْهِم: جنس للْفرق الَّتِي تَعَمّدت ذَلِك واستخفت بالديانة عَن عمد أَو تَأْوِيل بعيد جدا، والضالون: جنس للْفرق الَّتِي أَخْطَأت الدَّين عَن سوء فهم وَقلة إصغاء، وكلا الْفَرِيقَيْنِ مَذْمُوم لأننا مأمورون بِاتِّبَاع سَبِيل الْحق وَصرف الْجهد إِلَى إِصَابَته، وَالْيَهُود من الْفَرِيق الأول وَالنَّصَارَى من الْفَرِيق الثَّانِي وَمَا ورد فِي الْأَثر مِمَّا ظَاهره تَفْسِير ﴿المغضوب عَلَيْهِم﴾ باليهود و﴿الضَّالّين بالنصارى﴾ فَهُوَ إِشَارَة إِلَى أَن فِي الْآيَة تعريضًا بِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اللَّذين حق عَلَيْهِمَا هَذَانِ الوصفان لِأَن كلا مِنْهُمَا صَار علما فِيمَا أُرِيد التَّعْرِيض بِهِ فِيهِ. فَقَوله: "وَمَا ورد فِي الْأَثر مِمَّا ظَاهره.. "وَاضح جدا فِيمَا ذكرته، وَتَفْسِير الْآيَة بذلك يعْتَبر نصا فِيهَا لَا ظَاهرا كَمَا يُوهم كَلَامه وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور رَوَاهُ عدَّة وَاتفقَ السّلف على تَفْسِير الْآيَة بذلك حَتَّى قَالَ ابْن أبي حَاتِم: لَا أعلم بَين الْمُفَسّرين فِي هَذَا الْحَرْف خلافًا. وَرُبمَا نقد بعض الْأَحَادِيث ثمَّ تنَاقض. وَقد وهم فِي حَدِيث نسبه للنَّبِي ﷺ وَهُوَ من مَشْهُور كَلَام عَليّ بن أبي طَالب وَذَلِكَ فِي قَوْله: فالعالم يحرم عَلَيْهِ أَن يكتم من علمه مَا فِيهِ هدى للنَّاس لِأَن كتم الْهدى إِيقَاع فِي الضَّلَالَة سَوَاء فِي ذَلِك الْعلم الَّذِي بلغَة إِلَيْهِ فِي تَارِيخ الْخَبَر كالقرآن وَالسّنة الصَّحِيحَة وَالْعلم الَّذِي يحصل عَن النّظر كالاجتهادات إِذا بلغَة مبلغ غَلَبَة الظَّن بِأَن فِيهَا خيرا للْمُسلمين، وَيحرم عَلَيْهِ بطرِيق الْقيَاس الَّذِي تومئ إِلَيْهِ الْعلَّة أَن يثبت فِي النَّاس مَا يوقعهم فِي أَوْهَام بِأَن يلقنها وَهُوَ لَا يحسن تزيلها وَلَا تَأْوِيلهَا، فقد قَالَ رَسُول الله ﷺ: "حدثوا النَّاس بِمَا يفهمون أتحبون أَن يكذب الله وَرَسُوله؟ " وَكَذَلِكَ كل مَا يعلم أَن النَّاس لَا يحسنون وَضعه. وَهُوَ يتَعَرَّض لذكر أَسبَاب النُّزُول وَقد أفرد لَهَا الْمُقدمَة الْخَامِسَة حَيْثُ
- ٧٤٩ - تكلم فِيهَا عَن فوائدها وَأنكر على من توسع فِيهَا وخلط الغث بالسمين. وَمن مَوَاضِع ذكره لأسباب النُّزُول ماتقدم فِي قَضِيَّة تَحْويل الْقبْلَة. وَمِنْه أَيْضا قَوْله فِي آيَة ﴿ماكان لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض﴾: ... فَنزلت لبَيَان الْأَمر الأجدر فِيمَا جرى فِي شَأْن الأسرى فِي وَقعت بدر. وَذَلِكَ مارواه مُسلم عَن ابْن عَبَّاس وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود مَا مُخْتَصره أَن الْمُسلمين لما أَسرُّوا الْأُسَارَى، قَالَ أَبُو بكر: يانبي الله هم بَنو الْعم وَالْعشيرَة أرى أَن تَأْخُذ مِنْهُم فديَة فَتكون لنا قُوَّة على الْكفَّار، فَعَسَى الله أَن يهْدِيهم لِلْإِسْلَامِ وَقَالَ عمر: أرى أَن تمكننا فَنَضْرِب أَعْنَاقهم فَإِن هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكفْر وَصَنَادِيدهَا. فَهَوِيَ رَسُول الله مَا قَالَ أَبُو بكر فَأخذ مِنْهُم الْفِدَاء. كَمَا رَوَاهُ أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس فَأنْزل الله ﴿ماكان لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى﴾ . خَامِسًا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بأقوال السّلف: أما أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَلَا يكثر نقلهَا وَهُوَ فِي نَقله غَالِبا تَابع لِابْنِ عَطِيَّة والرازي وَنَحْوهمَا لَا عَن المصادر الأساسية، وَأما أَكثر نقُوله فَهِيَ عَن الْمُتَأَخِّرين أَمْثَال الرَّازِيّ وَالْغَزالِيّ وَصَاحب الْكَشَّاف والسكاكي والسيالكوتي والتفتازاني وَنَحْوهم. وَمن مَوَاضِع نَقله عَن السّلف قَوْله: ويعضدنا فِي هَذَا مَا ذكر الْفَخر عَن ابْن عَبَّاس والبراء بن عَازِب وَالْحسن أَن المُرَاد بالسفهاء الْمُشْركُونَ. وَمن الْمَوَاضِع الَّتِي تسْتَحقّ التَّنْبِيه لتعلقها بتفسير السّلف قَوْله: ... مثل اللات يزْعم الْعَرَب أَنه رجل كَانَ يلت السويق للحجيج وَأَن أَصله اللاتّ. وَهَذَا الَّذِي ذكره لَيْسَ زعما للْعَرَب بل هُوَ تَفْسِير صَحِيح ثَابت عَن حبر الْأمة وترجمان الْقُرْآن ابْن عَبَّاس.
- ٧٥٠ - سادسا: موقفه من السِّيرَة والتاريخ وَذكر الْغَزَوَات: وَالْمُصَنّف يتَعَرَّض للسيرة فِي مناسبات كَثِيرَة مِنْهَا مَا تقدم فِي أُسَارَى بدر. وَمن مَوَاضِع تعرضه للأمور التاريخية حَدِيثه عَن شهور الْعَرَب وإطالته فِيهَا تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿شهر رَمَضَان﴾ . سابعا: موقفه من الْإسْرَائِيلِيات: وَالْمُصَنّف إِذْ ينعى على التَّفْسِير بالمأثور إغراقه فِي الْإسْرَائِيلِيات ونقلها عَن أَئِمَّة أهل الْكتاب مِمَّن أسلم أَمْثَال عبد الله بن سَلام؟ ووهب بن مُنَبّه وَكَعب ابتكر تعاملا جَدِيدا مَعهَا وَهُوَ النَّقْل الْمُبَاشر من الْأَسْفَار وَمن ذَلِك: قَوْله: وَقد جَاءَ ذكر اللَّعْنَة على إِضَاعَة عهد الله فِي التَّوْرَاة مَرَّات وأشهرها الْعَهْد الَّذِي أَخذه مُوسَى على بني إِسْرَائِيل فِي (حواريب) حَسْبَمَا جَاءَ فِي سفر الْخُرُوج فِي الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين، والعهد الَّذِي أَخذه عَلَيْهِم فِي (مؤاب) وَهُوَ الَّذِي فِيهِ اللَّعْنَة على من تَركه وَهُوَ فِي سفر التَّثْنِيَة فِي الإصحاح الثَّامِن وَالْعِشْرين والإصحاح التَّاسِع وَالْعِشْرين وَمِنْه: أَنْتُم واقفون الْيَوْم جميعكم أَمَام الرب إِلَهكُم ... لكَي تدْخلُوا فِي عهد الرب وقسمه لِئَلَّا يكون فِيكُم الْيَوْم منصرف عَن الرب ... الخ ثامنا: موقفه من اللُّغَة: وَمِمَّا قَالَه المُصَنّف فِي تَقْدِيمه لكتابه: وَقد اهتممت فِي تفسيري هَذَا بِبَيَان وُجُوه الإعجاز ونكت البلاغة الْعَرَبيَّة وأساليب الِاسْتِعْمَال. وَقَالَ: واهتممت بتبيين مَعَاني الْمُفْردَات فِي اللُّغَة بضبط وَتَحْقِيق مِمَّا خلت عَن ضَبطه وتحقيقه كثير مِنْهُ قواميس اللُّغَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ فعلا حَيْثُ خرج من التَّفْسِير إِلَى إِضَافَة قَامُوس لغَوِيّ لمفردات الْقُرْآن وَمن أَمْثِلَة ذَلِك:
- ٧٥١ - الإطناب فِي كلمة حِجَارَة الإطناب الشَّديد فِي فواتح السُّور وَجعل الْمُقدمَة الثَّانِيَة: فِي استمداد علم التَّفْسِير وركز على أهمية علمي الْبَيَان والمعاني ثمَّ الشّعْر وَبِهِمَا صدر الْعُلُوم الَّتِي يستمد مِنْهَا التَّفْسِير فَقدم مَا حَقه التَّأْخِير وَأخر مَا حَقه التَّقْدِيم. وَجعل الْمُقدمَة التَّاسِعَة: فِي أَن الْمعَانِي الَّتِي تتحملها جمل الْقُرْآن تعْتَبر مُرَادة بهَا. وَأما الْمُقدمَة الْعَاشِرَة والأخيرة فَكَانَت فِي إعجاز الْقُرْآن وَيَقُول فِيهَا: وَإِن علاقَة هَذِه الْمُقدمَة بالتفسير هِيَ أَن مُفَسّر الْقُرْآن لَا يعد تَفْسِيره لمعاني الْقُرْآن بَالغا حد الْكَمَال فِي غَرَضه مَا لم يكن مُشْتَمِلًا على بَيَان دقائق من وُجُوه البلاغة فِي آيه المفسرة بِمِقْدَار مَا تسموا إِلَيْهِ الهمة من تَطْوِيل واختصار. وَفِي هَذَا مُبَالغَة مكشوفة فَإِن تَفْسِير ترجمان الْقُرْآن وَحبر الْأمة على الْإِطْلَاق كَانَ خَالِيا مِمَّا ذكر ثمَّ من بعده من أَئِمَّة التَّفْسِير من الصَّحَابَة الْكِبَار وَالتَّابِعِينَ الْأَبْرَار الَّذين أَجمعت الْأمة على إمامتهم فِي ذَلِك الْفَنّ لم يتَعَرَّضُوا لما ذكر، ثمَّ جهابذة الْمُفَسّرين الْمَشْهُود لَهُم أَمْثَال الإِمَام مَالك وَالْإِمَام أَحْمد وَبَقِي بن مخلد وَالنَّسَائِيّ وَابْن أبي حَاتِم والطبري ثمَّ ابْن كثير وَغَيرهم لم يتَعَرَّضُوا لما ذكر أَيْضا. وَمن إطناباته اللُّغَوِيَّة الَّتِي خرجت عَن حد التَّفْسِير وَالَّتِي هِيَ كَثِيرَة: كَلَامه عَن اشتقاق كلمة الْفَاتِحَة فِي قريب من صفحة كَامِلَة. كَمَا أَفَاضَ فِي وَجه إِضَافَة سُورَة إِلَى فَاتِحَة الْكتاب بِمَا يقرب من صفحة أَيْضا. وَكَذَا فِي أصل كلمة بَسْمَلَة أَكثر من صفحة كَامِلَة. وَفِي مُتَعَلق الْبَاء. وَفِي اشتقاق كلمة اسْم. وَفِي الْفرق بَين الْحَمد وَالثنَاء والمدح. كَمَا نقل بَابا من كَلَام سِيبَوَيْهٍ بِاخْتِصَار فَوَقع فِي أَكثر من
- ٧٥٢ - صفحة كَامِلَة وَهُوَ بَاب مَا ينصب من المصادر على إِضْمَار الْفِعْل غير الْمُسْتَعْمل إِظْهَاره. وَفِي جملَة الْحَمد هَل هِيَ إنشائية أم خبرية. وَهُوَ لاشك مُتَمَكن من اللُّغَة وَإِمَام بارع فِيهَا وَله إضافات جميلَة وَمن ذَلِك قَوْله عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا وَيهْلك الْحَرْث والنسل وَالله لَا يحب الْفساد﴾ وَقد عَن لى فِي بَيَان إيقاعهم الْفساد أَنه مَرَاتِب: أَولهَا: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تِلْكَ الأدواء القلبية الَّتِى أَشَرنَا إِلَيْهَا فِيمَا مضى وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من المذام ويتولد من الْمَفَاسِد. الثَّانِيَة: إفسادهم النَّاس ببث تِلْكَ الصِّفَات والدعوة إِلَيْهَا وإفسادهم أَبْنَاءَهُم وعيالهم فِي اقتدائهم بهم فِي مساوئهم كَمَا قَالَ نوح ﵇ ﴿إِنَّك إِن تذرهم يضلوا عِبَادك وَلَا يلدوا إِلَّا فَاجِرًا كفَّارًا﴾ الثَّالِثَة: إفسادهم بالأفعال الَّتِي ينشأ عَنْهَا فَسَاد الْمُجْتَمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الْفِتَن وتأليب الْأَحْزَاب على الْمُسلمين وإحداث العقبات فِي طَرِيق المصلحين. والإفساد: فعل مَا بِهِ الْفساد، والهمزة فِيهِ للجعل أَي جعل الْأَشْيَاء فَاسِدَة فِي الأَرْض. وَالْفساد أَصله اسْتِحَالَة مَنْفَعَة الشَّيْء النافع إِلَى مُضر بِهِ أَو بِغَيْرِهِ، وَقد يُطلق على وجود الشَّيْء مُشْتَمِلًا على مضرَّة، وَإِن لم يكن فِيهِ نفع من قبل يُقَال: فسد الشَّيْء بعد أَن كَانَ صَالحا، وَيُقَال: فَاسد إِذا وجد فَاسِدا من أول وهلة، وَكَذَلِكَ يُقَال: أفسد إِذا عمد إِلَى شَيْء صَالح فأزال صَلَاحه، وَيُقَال: أفسد إِذا أوجد فَسَادًا من أول الْأَمر. وَالْأَظْهَر أَن الْفساد مَوْضُوع للقدر الْمُشْتَرك فِي الْأَطْعِمَة، وَمِنْه إِزَالَة الْأَشْيَاء النافعة كالحرق وَالْقَتْل للبرآء، وَمِنْه إِفْسَاد الأنظمة كالفتن والجور، وَمِنْه إِفْسَاد المساعي كتكثير الْجَهْل وَتَعْلِيم الدعارة وتحسين الْكفْر ومناوأة الصَّالِحين، وَلَعَلَّ الْمُنَافِقين قد أخذُوا من ضروب الْإِفْسَاد بِالْجَمِيعِ، فَلذَلِك حذف مُتَعَلق تفسدوا تَأْكِيدًا للْعُمُوم الْمُسْتَفَاد من وُقُوع الْفِعْل فِي حيّز النَّفْي.
- ٧٥٣ - وَذكر الْمحل الَّذِي أفسدوا مَا يحتوى عَلَيْهِ وَهُوَ الأَرْض لتفظيع فسادهم بِأَنَّهُ مبثوث فِي هَذِه الأَرْض لِأَن وُقُوعه فِي رقْعَة مِنْهَا تَشْوِيه لمجموعها. وَالْمرَاد بِالْأَرْضِ هَذِه الكرة الأرضية بِمَا تحتوى عَلَيْهِ من الْأَشْيَاء الْقَابِلَة للإفساد من النَّاس وَالْحَيَوَان والنبات وَسَائِر الأنظمة والنواميس الَّتِي وَضعهَا الله تَعَالَى لَهَا. وَمن التحقيقات اللُّغَوِيَّة عميقة الدّلَالَة كَلَامه عَن "كَذَلِك" فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا﴾ . وَكَلَامه عَن "لَعَلَّ" وانفراده بقول مُسْتَقل فِيهَا حَيْثُ يَقُول: وَعِنْدِي وَجه آخر مُسْتَقل وَهُوَ أَن "لَعَلَّ" الْوَاقِعَة فِي مقَام تَعْلِيل أَمر أَو نهى لَهَا اسْتِعْمَال يغاير اسْتِعْمَال "لَعَلَّ" المستأنفة فِي الْكَلَام سَوَاء وَقعت فِي كَلَام الله أم فِي غَيره، فَإِذا قلت: افْتقدَ فلَانا لَعَلَّك تنصحه، كَانَ إِخْبَارًا باقتراب وُقُوع الشَّيْء وَأَنه فِي حيّز الْإِمْكَان إِن تمّ مَا علق عَلَيْهِ، فَأَما اقتضاؤه عدم جزم الْمُتَكَلّم بالحصول فَذَلِك معنى التزامي أَعلَى قد يعلم انتفاؤه بِالْقَرِينَةِ، وَذَلِكَ الانتفاء فِي كَلَام الله أوقع، فاعتقادنا بِأَن كل شَيْء لم يَقع أَو لَا يَقع فِي الْمُسْتَقْبل هُوَ الْقَرِينَة على تَعْطِيل هَذَا الْمَعْنى الالتزامي دون احْتِيَاج إِلَى التَّأْوِيل فِي معنى الرَّجَاء الَّذِي تفيده "لَعَلَّ" حَتَّى أَن يكون مجَازًا أَو اسْتِعَارَة لِأَن "لَعَلَّ" إِنَّمَا أُتِي بهَا لِأَن الْمقَام يَقْتَضِي معنى الرَّجَاء فالتزام تَأْوِيل الدّلَالَة فِي كل مَوضِع فِي الْقُرْآن تَعْطِيل لِمَعْنى الرَّجَاء الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمقَام وَالْجَمَاعَة لجئوا إِلَى التَّأْوِيل لأَنهم نظرُوا إِلَى "لَعَلَّ" بِنَظَر مُتحد فِي مواقع اسْتِعْمَالهَا بِخِلَاف "لَعَلَّ" المستأنفة فَإِنَّهَا أقرب إِلَى إنْشَاء الرَّجَاء من إِلَى إِخْبَار بِهِ، وعَلى كل فَمَعْنَى "لَعَلَّ" غير معنى أَفعَال المقاربة. وَقد أَطَالَ فِي معنى الْوَاو فِي قَوْله تَعَالَى ﴿أولو كَانَ آباؤهم﴾ كَمَا توسع فِي اسْم الْإِشَارَة: ذَلِك فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى ﴿ذَلِك الْكتاب﴾ وَمن إطنابه فِي مسَائِل الْبَيَان بِمَا يخرج أَيْضا عَن
- ٧٥٤ - حد التَّفْسِير قَوْله: فسورة الْفَاتِحَة بِمَا تقرر منزلَة من الْقُرْآن منزلَة الديباجة للْكتاب أَو الْمُقدمَة للخطبة، وَهَذَا الأسلوب لَهُ شَأْن عَظِيم فِي صناعَة الْأَدَب الْعَرَبِيّ وَهُوَ أعون للفهم وأدعى للوعي. وَقد رسم أسلوب الْفَاتِحَة للمنشئين ثَلَاث قَوَاعِد للمقدمة: الْقَاعِدَة الأولى: إيجاز الْمُقدمَة لِئَلَّا تمل نفوس السامعين بطول انْتِظَار الْمَقْصُود وَهُوَ ظَاهر فِي الْفَاتِحَة، وليكون سنة للخطباء فَلَا يطيلوا الْمُقدمَة كي لَا ينسبوا إِلَى العي فَإِنَّهُ بِمِقْدَار مَا تطال الْمُقدمَة يقصر الْغَرَض، وَمن هَذَا يظْهر وَجه وَضعهَا قبل السُّور الطوَال مَعَ أَنَّهَا سُورَة قَصِيرَة. الثَّانِيَة: أَن تُشِير إِلَى الْغَرَض الْمَقْصُود وَهُوَ مَا يُسمى براعة الاستهلال لِأَن ذَلِك يُهَيِّئ السامعين لسَمَاع تَفْصِيل مَا سيرد عَلَيْهِم فيتأهبوا لتلقيه إِن كَانُوا من أهل التلقي فَحسب، أَو لنقده وإكماله إِن كَانُوا فِي تِلْكَ الدرجَة، وَلِأَن ذَلِك يدل على تمكن الْخَطِيب من الْغَرَض وثقته بسداد رَأْيه فِيهِ بِحَيْثُ يُنَبه السامعين لوعيه، وَفِيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كَلَامهم. وَقد تقدم بَيَان اشْتِمَال الْفَاتِحَة على هَذَا عِنْد الْكَلَام على وَجه تَسْمِيَتهَا أم الْقُرْآن. الثَّالِثَة: أَن تكون الْمُقدمَة من جَوَامِع الْكَلم وَقد بَين ذَلِك عُلَمَاء الْبَيَان عِنْد ذكرهم الْمَوَاضِع الَّتِي يَنْبَغِي للمتكلم أَن يتأنق فِيهَا. الرَّابِعَة: أَن تفتتح بِحَمْد الله. وَهُوَ من المكثرين جدا فِي الِاسْتِدْلَال بالشعر فِي أصل الْكتاب وحاشيته وقلما تمر صفحة إِلَّا وفيهَا بَيت من الشّعْر إِن لم يكن أَكثر. وَهُوَ حَرِيص جدا على نِسْبَة الشواهد الشعرية لأصحابها حَتَّى إِنَّه قَالَ فِيمَا لم يقف على من قَالَه: كَقَوْل بعض فتاك الْعَرَب فِي أمه (أنْشدهُ فِي الْكَشَّاف وَلم أَقف على تعْيين قَائِله) .... وَمن مَوَاضِع خُرُوجه عَن التَّفْسِير استطراده فِي تَسْمِيَة بعض الشُّعَرَاء تَعْلِيقا على اسْم شَاعِر اسْتدلَّ بِبَيْت لَهُ. وَمن استطراداته بِذكر أشعار كَثِيرَة كشواهد فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة مَا ذكره
- ٧٥٥ - تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿الم﴾ وَقد وصل بِهِ الْأَمر إِلَى شرح شعر الشواهد. وَهُوَ يعْتَمد فِي كثير من ذَلِك على الْكَشَّاف وشروحه اعْتِمَادًا كَبِيرا. وَمن مَوَاضِع اهتمامه بالتنبيه على النكات البلاغية: وَاخْتِيَار لفظ النُّور فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ذهب الله بنورهم﴾ دون الضَّوْء وَدون النَّار لِأَن لفظ النُّور أنسب، لِأَن الَّذِي يشبه النَّار من الْحَالة المشبهة هُوَ مظَاهر الْإِسْلَام الَّتِي يظهرونها، وَقد شاع التَّعْبِير عَن الْإِسْلَام بِالنورِ فِي الْقُرْآن، فَصَارَ اخْتِيَار لفظ النُّور هُنَا بِمَنْزِلَة تَجْرِيد الِاسْتِعَارَة لِأَنَّهُ أنسب بِالْحَال المشبهة، وَعبر عَمَّا يُقَابله فِي الْحَال الْمُشبه بهَا بِلَفْظ يصلح لَهما أَو هُوَ بالمشبه أنسب فِي إصطلاح الْمُتَكَلّم كَمَا قدمنَا الْإِشَارَة إِلَيْهِ فِي وَجه جمع الضَّمِير فِي قَوْله ﴿بنورهم﴾ . وَانْظُر كَلَامه عَن الْمثل فِي اللُّغَة والتمثيل. وَله كَلَام جيد عَن التَّشْبِيه فِي قَوْله ﴿وَمثل الَّذين كفرُوا﴾ وَفِي الِاسْتِعَارَة هَل هِيَ تَبَعِيَّة أم تمثيلية؟ وَمن اهتمامه بالتنبيه على النكات فِي الْمُتَشَابه اللَّفْظِيّ قَوْله: قد يَقُول قَائِل إِن قَرِيبا من هَذِه الْجُمْلَة تقدم عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم مَالك من الله من ولي وَلَا نصير﴾ فَعبر هُنَالك باسم الْمَوْصُول (الَّذِي) وَعبر هُنَا باسم الْمَوْصُول (مَا)، وَقَالَ هُنَالك (بعد) وَقَالَ هُنَا (من بعد) وَجعل جَزَاء هُنَالك انْتِفَاء ولي ونصير، وَجعل الْجَزَاء هُنَا أَن يكون من الظَّالِمين، وَقد أورد هَذَا السُّؤَال صَاحب درة التَّنْزِيل وغرة التَّأْوِيل وحاول إبداء خصوصيات تفرق بَين مَا اخْتلفت فِيهِ الْآيَتَانِ وَلم يَأْتِ بِمَا يشفي ....ثمَّ ذكر وَجها آخر أحسن مِنْهُ. وَقد تعرض المُصَنّف للإعجاز فِي مَوَاضِع عدَّة وَمن ذَلِك: مُقَارنَة بَين
- ٧٥٦ - شعر وَآيَة الإعجاز وتعلقه بِسُورَة أَو آيَات وَقد أَطَالَ فِي الحَدِيث عَن الإعجاز تَحت قَوْله ﴿وَلنْ تَفعلُوا﴾ . تاسعا: موقفه من الْقرَاءَات: وَقد جعل المُصَنّف الْمُقدمَة السَّادِسَة فِي الْقرَاءَات وَبَين فِيهَا سَبَب إعراضه عَن ذكر كثير من الْقرَاءَات فِي أثْنَاء التَّفْسِير. وَقَالَ ﵀: (تَنْبِيه) أَنا أقتصر فِي هَذَا التَّفْسِير على التَّعَرُّض لاخْتِلَاف الْقرَاءَات الْعشْر الْمَشْهُورَة خَاصَّة فِي أشهر رِوَايَات الراوين عَن أَصْحَابهَا لِأَنَّهَا متواترة، وَإِن كَانَت الْقرَاءَات السَّبع قد امتازت على بَقِيَّة الْقرَاءَات بالشهرة بَين الْمُسلمين فِي أقطار الْإِسْلَام. وأبني أول التَّفْسِير على قِرَاءَة نَافِع بِرِوَايَة عِيسَى بن مينا الْمدنِي الملقب بقالون لِأَنَّهَا الْقِرَاءَة المدنية إِمَامًا وراويًا وَلِأَنَّهَا الَّتِي يقْرَأ بهَا مُعظم أهل تونس، ثمَّ أذكر خلاف بَقِيَّة الْقُرَّاء الْعشْرَة خَاصَّة. وَلم يلْتَزم بِمَا قَالَ، بل أطنب إطنابا غَرِيبا فِي بعض الْمَوَاضِع وَمن ذَلِك قَوْله: والصراط: الطَّرِيق وَهُوَ بالصَّاد وَالسِّين وَقد قرئَ بهما فِي الْمَشْهُورَة وَكَذَلِكَ نطقت بِهِ بِالسِّين جُمْهُور الْعَرَب إِلَّا أهل الْحجاز نطقوه بالصَّاد مبدلة عَن السِّين لقصد التَّخْفِيف فِي الِانْتِقَال من السِّين إِلَى الرَّاء ثمَّ إِلَى الطَّاء قَالَ فِي لطائف الإشارات عَن الجعبرى: إِنَّهُم يَفْعَلُونَ ذَلِك فِي كل سين بعْدهَا غين أَو خاء أَو قَاف أَو طاء وَإِنَّمَا قلبوها هُنَا صادًا لتطابق الطَّاء فِي الإطباق والاستعلاء والتفخم مَعَ الرَّاء استثقالا للانتقال من سفل إِلَى علو اهـ. أى بِخِلَاف الْعَكْس نَحْو طست لِأَن الأول عمل وَالثَّانِي ترك. وقيسٌ قلبوا السِّين بَين الصَّاد وَالزَّاي وَهُوَ إشمام وَقَرَأَ بِهِ حَمْزَة فِي رِوَايَة خلف عَنهُ. وَمن الْعَرَب من قلب السِّين زايًا خَالِصَة قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهِي لُغَة عذرة وكلب وَبني الْقَيْن وَهِي مرجوحة وَلم يقْرَأ بهَا، وَقد قَرَأَ باللغة الفصحى (بالصَّاد) جُمْهُور الْقُرَّاء وَقَرَأَ بِالسِّين ابْن كثير فِي رِوَايَة قنبل، وَالْقِرَاءَة بالصَّاد هِيَ الراجحة لموافقتها
- ٧٥٧ - رسم الْمُصحف وَكَونهَا اللُّغَة الفصحى. وَقَالَ: وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي حَرَكَة مِيم ضمير الْجمع الْغَائِب الْمُذكر فِي الْوَصْل إِذا وَقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا ﴿عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم﴾ بِسُكُون الْمِيم وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو جَعْفَر وقالون فِي رِوَايَة عَنهُ بضمة مشبعة ﴿غير المغضوب عليهمو﴾ وَهِي لُغَة لبَعض الْعَرَب وَعَلَيْهَا قَول لبيد: وهمو فوارسها وهم حكامها فجَاء باللغتين وَقَرَأَ ورش بِضَم الْمِيم وإشباعها إِذا وَقع بعد الْمِيم همز دون نَحْو ﴿غير المغضوب عَلَيْهِم﴾ وَأجْمع الْكل على إسكان الْمِيم فِي الْوَقْف. وَفِي قَوْله ﴿فَمن اضْطر غير بَاغ﴾ قَالَ: وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر: فَمن اضْطر بِكَسْر الطَّاء، لِأَن أَصله اضطرر براءين أولاهما مَكْسُورَة فَلَمَّا أُرِيد إدغام الرَّاء الأولى فِي الثَّانِيَة نقلت حركتها إِلَى الطَّاء بعد طرح حَرَكَة الطَّاء. وَانْظُر أَيْضا فِي تعرضه لِلْأُصُولِ فِي الْقرَاءَات كَلَامه فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ءأنذرتهم﴾ وَهَذَا خُرُوج سَافر عَمَّا أَخذه على نَفسه من عدم الإطالة فِي الْقرَاءَات فجل الْمُفَسّرين إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْخلاف الْمُؤثر فِي الْمَعْنى أَو الْمُتَعَلّق بِهِ لَا فِي الْأَدَاء وَنَحْوه. وَقد أَخطَأ خطأ فَاحِشا فِي عزو الْقرَاءَات فِي قَوْله تَعَالَى ﴿يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا ومايخدعون إِلَّا أنفسهم ومايشعرون﴾ حَيْثُ قَالَ: وَيُؤَيّد هَذَا التَّأْوِيل قِرَاءَة ابْن عَامر وَمن مَعَه: يخدعون الله. وَهَذَا إِنَّمَا يدْفع الْإِشْكَال عَن إِسْنَاد صُدُور الخداع من الله وَالْمُؤمنِينَ مَعَ تَنْزِيه الله وَالْمُؤمنِينَ عَنهُ، وَلَا يدْفع إِشْكَال صُدُور الخداع من الْمُنَافِقين لله. وَأما التَّأْوِيل فِي فَاعل ﴿يخادعون﴾ الْمُقدر وَهُوَ الْمَفْعُول أَيْضا فبأن يَجْعَل المُرَاد أَنهم يخادعون رَسُول الله فالإسناد إِلَى الله تَعَالَى إِمَّا على طَرِيق الْمجَاز الْعقلِيّ لأجل الملابسة بَين الرَّسُول ومرسله، وَإِمَّا مجَاز بالحذف
- ٧٥٨ - للمضاف، فَلَا يكون مُرَادهم خداع الله حَقِيقَة، وَيبقى أَن يكون رَسُول الله مخدوعا مِنْهُم ومخادعا لَهُم، وَأما تَجْوِيز مخادعة الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ لِلْمُنَافِقين لِأَنَّهَا جَزَاء لَهُم على خداعهم كَذَلِك غير لَائِق. وَقَالَ: وَاعْلَم أَن قَوْله ﴿وَمَا يخادعون إِلَّا أنفسهم﴾ أَجمعت الْقرَاءَات الْعشْرَة على قِرَاءَته بِضَم التَّحْتِيَّة وَفتح الْخَاء بعْدهَا ألف، وَالنَّفس فِي لِسَان الْعَرَب الذَّات وَالْقُوَّة الْبَاطِنَة الْمعبر عَنْهَا بِالروحِ وخاطر الْعقل. وَهَذَا الَّذِي ذكره هُوَ عكس الْحَقِيقَة فقد أجمع الْقُرَّاء على قِرَاءَة ﴿يخادعون الله وَالَّذين آمنُوا﴾ بِضَم الْيَاء وَالْألف على المفاعلة، وَأما فِي الْموضع الثَّانِي فَاخْتَلَفُوا فقرأها الْجَمِيع ماعدا نَافِع وَابْن كثير وَأبي عَمْرو واليزيدي ﴿ومايخدعون إِلَّا أنفسهم﴾ بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْخَاء بِدُونِ ألف، وَقرأَهَا الْبَاقُونَ كالحرف الأول. وَقد أَطَالَ إطالة شَدِيدَة فِي اخْتلَافهمْ فِي قِرَاءَة ﴿وَلَو يرى الَّذين ظلمُوا إِذْ يرَوْنَ الْعَذَاب أَن الْقُوَّة لله﴾ عاشرا: موقفه من الْفِقْه وَالْأُصُول: أَطَالَ ﵀ نَفسه كعادته فِي بعض الْمسَائِل الَّتِي لَا علاقَة لَهَا بالتفسير وَمن ذَلِك قِرَاءَة الْبَسْمَلَة عِنْد الشُّرُوع فِي قِرَاءَة السُّورَة أَو أَجْزَائِهَا. وَقد أطنب فِي مَسْأَلَة هَل الْبَسْمَلَة آيَة من كل سُورَة أم لَا إطناب الْفُقَهَاء لَا الْمُفَسّرين. وَمن مَوَاضِع حَدِيثه عَن الفقهيات بتطويل مَسْأَلَة اسْتِقْبَال الْقبْلَة. وَله كَلَام فقهي عَجِيب فِي ماذبح بنية أَن الْجِنّ تشرب دَمه ولايذكرون اسْم الله عَلَيْهِ تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا أهل بِهِ لغير الله﴾ وَهُوَ لَا يلْتَزم مَذْهَب مَالك وينقل عَن الظَّاهِرِيَّة وَأهل الحَدِيث وَمن كَلَامه الْجيد فِي الْفِقْه مَعَ كَونه اسْتِطْرَادًا فِي التَّفْسِير قَوْله: وَمن العجيب مَا
- ٧٥٩ - يتَعَرَّض لَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْفُقَهَاء من الْبَحْث فِي حُرْمَة خِنْزِير المَاء وَهِي مَسْأَلَة فارغة إِذْ أَسمَاء أَنْوَاع الْحُوت روعيت فِيهَا المشابهة كَمَا سموا بعض الْحُوت فرس الْبَحْر وَبَعضه حمام الْبَحْر وكلب الْبَحْر، فَكيف يَقُول أحد بتأثير الْأَسْمَاء والألقاب فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة؟ وَفِي الْمُدَوَّنَة توقف مَالك أَن يُجيب فِي خِنْزِير المَاء وَقَالَ: أَنْتُم تَقولُونَ خِنْزِير. قَالَ ابْن شأش: رأى غير وَاحِد أَن توقف مَالك حَقِيقَة لعُمُوم ﴿أحل لكم صيد الْبَحْر﴾ عُمُوم قَوْله تَعَالَى ﴿وَلحم الْخِنْزِير﴾ وَرَأى بَعضهم أَنه غير مُتَوَقف فِيهِ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا امْتنع من الْجَواب إنكارا عَلَيْهِم تسميتهم إِيَّاه خنزيرا وَلذَلِك قَالَ: أَنْتُم تسمونه خنزيرا؟ يَعْنِي أَن الْعَرَب لم يَكُونُوا يسمونه خنزيرا وَأَنه لَا يَنْبَغِي تَسْمِيَته خنزيرا، ثمَّ السُّؤَال عَن أكله حَتَّى يَقُول قَائِلُونَ: أكلُوا لحم الْخِنْزِير، أَي فَيرجع كَلَام مَالك إِلَى صون أَلْفَاظ الشَّرِيعَة أَلا يتلاعب بهَا، وَعَن أبي حنيفَة أَنه منع أكل خِنْزِير الْبَحْر غير مُتَرَدّد أخذا بِأَنَّهُ سمي خنزيرا، وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ وَهُوَ الْمَعْرُوف بِصَاحِب الرَّأْي، وَمن أَيْن لنا أَلا يكون لذَلِك الْحُوت اسْم آخر فِي لُغَة بعض الْعَرَب فَيكون أكله محرما على فريق ومباحا لفريق؟ موقفه من النّسخ: وَهُوَ يَقُول بالنسخ وَله فِي تفاصيله تفردات وَمن ذَلِك قَوْله مُعَللا بَقَاء تِلَاوَة الْمَنْسُوخ حكما: وَقد بدا لي دَلِيل قوي على هَذَا وَهُوَ بَقَاء الْآيَات الَّتِي نسخ حكمهَا وَبقيت متلوة من الْقُرْآن ومكتوبة فِي الْمَصَاحِف فَإِنَّهَا لما نسخ حكمهَا لم يبْق وَجه لبَقَاء تلاوتها وكتبها فِي الْمَصَاحِف إِلَّا مَا فِي مِقْدَار مجموعها من البلاغة بِحَيْثُ يلتئم مِنْهَا مِقْدَار ثَلَاث آيَات متحدى بالإتيان بِمِثْلِهَا مِثَال ذَلِك آيَة الْوَصِيَّة فِي سُورَة الْعُقُود. وَمن كَلَامه فِي النّسخ قَوْله: وَقد اتّفق عُلَمَاء الْإِسْلَام على أَن الْوَصِيَّة لَا تكون لوَارث لما رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن عَن عَمْرو بن خَارِجَة وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
- ٧٦٠ - وَالتِّرْمِذِيّ عَن أبي أَمَامه كِلَاهُمَا يَقُول سَمِعت النبيء قَالَ: "إِن الله أعْطى كل ذى حق حَقه، أَلا لَا وَصِيَّة لوَارث". وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع، فَخص بذلك عُمُوم الْوَالِدين وَهَذَا التَّخْصِيص نسخ، لِأَنَّهُ وَقع بعد الْعَمَل بِالْعَام وَهُوَ وَإِن كَانَ خبر آحَاد فقد اعْتبر من قبيل الْمُتَوَاتر، لِأَنَّهُ سَمعه الكافة وتلقاه عُلَمَاء الْأمة بِالْقبُولِ. وَفِي معرض استبعاده لتشريع كَيْفيَّة الصّيام السَّابِقَة لصيام رَمَضَان الثَّابِتَة فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة قَالَ: فَأَما أَن يكون ذَلِك قد شرع ثمَّ نسخ فَلَا أَحْسبهُ، إِذْ لَيْسَ من شَأْن الدَّين الَّذِي شرع الصَّوْم أول مرّة يَوْمًا فِي السّنة ثمَّ دَرَجه فشرع الصَّوْم شهرا على التَّخْيِير بَينه وَبَين الطَّعَام تَخْفِيفًا على الْمُسلمين؛ أَن يفرضه بعد ذَلِك لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَا يُبِيح الْفطر إِلَّا سَاعَات قَليلَة من اللَّيْل. وَالرَّدّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْكَلَام يطول وَيَكْفِي فِي ذَلِك ثُبُوت الرِّوَايَة وَلم ينتبه لمدلول كلمة ﴿تختانون﴾ وَكلمَة ﴿فَتَابَ عَلَيْكُم﴾ وَكلمَة ﴿وَعَفا عَنْكُم﴾ حَيْثُ أضْرب عَن تَفْسِيرهَا تَمامًا، كَمَا حاول تَأْوِيل كلمة ﴿فَالْآن﴾ لِأَنَّهَا لَيست متوافقة مَعَ ماذهب إِلَيْهِ. وَمن مَوَاضِع تعرضه لِلْأُصُولِ قَوْله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا﴾ وَأما كَون الْآيَة دَلِيلا على حجية إِجْمَاع الْمُجْتَهدين عَن نظر واجتهاد فَلَا يُؤْخَذ من الْآيَة إِلَّا بِأَن يُقَال: إِن الْآيَة يسْتَأْنس بهَا لذَلِك فَإِنَّهَا لما أخْبرت أَن الله تَعَالَى جعل هَذِه الْأمة وسطا وَعلمنَا أَن الْوسط هُوَ الْخِيَار الْعدْل الْخَارِج من بَين طَرفَيْهِ إفراط وتفريط علمنَا أَن الله تَعَالَى أكمل عقول هَذِه الْأمة بِمَا تنشأ عَلَيْهِ الْعُقُول من الِاعْتِقَاد بالعقائد الصَّحِيحَة ومجانبة الأوهام السخيفة الَّتِي ساخت فِيهَا عقول الْأمة.
- ٧٦١ - وَيَقُول أَيْضا: وعَلى هَذَا التَّفْسِير يجىء قَول الْفُقَهَاء إِن شَهَادَة أهل الْمعرفَة بِإِثْبَات الْعُيُوب أَو بالسلامة لَا تشْتَرط فِيهَا الْعَدَالَة، وَكنت أعلل ذَلِك فِي دروس الْفِقْه بِأَن الْمَقْصُود من الْعَدَالَة تحقق الْوَازِع عَن شَهَادَة الزُّور، وَقد قَامَ الْوَازِع العلمي فِي شَهَادَة أهل الْمعرفَة مقَام الْوَازِع الديني لِأَن الْعَارِف حَرِيص مَا اسْتَطَاعَ أَن يُؤثر عَنهُ الْغَلَط وَالْخَطَأ وَكفى بذلك وازعا عَن تَعَمّده وَكفى بِعِلْمِهِ مَظَنَّة لإصابة الصَّوَاب فَحصل الْمَقْصُود من الشَّهَادَة. ود أَطَالَ فِي حَدِيثه عَن بعض القضايا الْعَقْلِيَّة الْأُصُولِيَّة وَهِي قَضِيَّة التَّكْلِيف بالمحال عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿سَوَاء عَلَيْهِم ءأنذرتهم﴾ وَهُوَ يتذرع كثيرا بالمجاز وَمن ذَلِك ماذكره تَحت قَوْله تَعَالَى ﴿ختم الله على قُلُوبهم﴾ حادي عشر: موقفه من الْعُلُوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية: وَقد اهتم بذلك ابْن عاشور على الرغم من استنكاره على الْمُفَسّرين الحشو وَالنَّقْل غير الدَّقِيق فحشا بهَا تَفْسِيره وَمن ذَلِك قَوْله: قَالَ ابْن عَرَفَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: ﴿تولج اللَّيْل فِي النَّهَار﴾ كَانَ بَعضهم يَقُول: إِن الْقُرْآن يشْتَمل على أَلْفَاظ يفهمها الْعَوام وألفاظ يفهمها الْخَواص وعَلى مَا يفهمهُ الْفَرِيقَانِ وَمِنْه هَذِه الْآيَة فَإِن الْإِيلَاج يَشْمَل الْأَيَّام الَّتِي لَا يُدْرِكهَا إِلَّا الْخَواص والفصول الَّتِي يُدْرِكهَا سَائِر الْعَوام. أَقُول: وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقًا ففتقناهما﴾ وَالدَّلِيل على إصراره على هَذَا الْفَهم المعكوس قَوْله: وَفِي ذَلِك آيَة لخاصة الْعُقَلَاء إِذْ يعلمُونَ أَسبَاب اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار على الأَرْض وَإنَّهُ من آثَار دوران الأَرْض حول الشَّمْس فِي كل يَوْم وَلِهَذَا جعلت الْآيَة فِي اخْتِلَافهمَا وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن كلا مِنْهُمَا ... الخ ويبدو أَن جهلة الْقرن التَّاسِع عشر عِنْد ابْن عاشور هم الْخَواص الَّذين
- ٧٦٢ - خاطبهم الْقُرْآن وعلماء الْقُرُون المفضلة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ هم الْعَوام حشرنا الله مَعَهم. وَيَقُول: وَأعظم تِلْكَ الْأَسْرَار تكوينها على هَيْئَة كرية. قَالَ الْفَخر: كَانَ عمر بن الحسام يقْرَأ كتاب المجسطي على عمر الْأَبْهَرِيّ فَقَالَ لَهما بعض الْفُقَهَاء يَوْمًا: مَا الَّذِي تقرأونه؟ فَقَالَ الْأَبْهَرِيّ أفسر قَوْله تَعَالَى ﴿أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها﴾ فَأَنا أفسر كَيْفيَّة بنائها. وَلَقَد صدق الْأَبْهَرِيّ فِيمَا قَالَ فَإِن كل من كَانَ أَكثر توغلا فِي بحار الْمَخْلُوقَات كَانَ أَكثر علما بِجلَال الله تَعَالَى وعظمته. ا.هـ. ويبدو أَن النَّبِي ﷺ لم يطبق هَذَا الْأَمر من النّظر إِلَى السَّمَاء كَيفَ بناها الله كَمَا أَنه لم يعلم أعظم الْأَسْرَار الَّتِي لَا تدخل جنَّة وَلَا تنجي من نَار! وَكَذَا صَحبه الأخيار ثمَّ عُلَمَاء الْأمة الْأَبْرَار حَتَّى جَاءَ هَذَا الَّذِي لَعَلَّه لَا يحسن وضوءه ليفسرها. والنتيجة الَّتِي وصل إِلَيْهَا غير صَحِيحَة فكم من عَالم متوغل فِي بحار الْمَخْلُوقَات وَهُوَ من أعظم النَّاس جهلا بربه. وَقَالَ: وَأما وَجه شبه السَّمَاء بِالْبِنَاءِ فَهُوَ أَن الكرة الهوائية جعلهَا الله حاجزة بَين الكرة الأرضية وَبَين الكرة الأثيرية فَهِيَ كالبناء فِيمَا يُرَاد لَهُ الْبناء وَهُوَ الْوِقَايَة من الأضرار النَّازِلَة، فَإِن الكرة الهوائية بَين الكرة ......الخ فَأطَال بِمَا لايسمن ولايغني من جوع. ثمَّ وَقع ﵀ فِي طامة من الطَّامَّات الَّتِي يَقع فِيهَا غَالِبا المفتونون بِتِلْكَ الْعُلُوم المقحمون لَهَا فِي دبن الله ﷿ بِغَيْر ترو وَلَا بَصِيرَة فَقَالَ: وَالسَّمَاوَات جمع سَمَاء وَالسَّمَاء إِذا أطلقت فَالْمُرَاد بهَا الجو الْمُرْتَفع وَإِذا جمعت فَالْمُرَاد بهَا أجرام عَظِيمَة ذَات نظام عَظِيمَة وَهِي السيارات الْعَظِيمَة الْمَعْرُوفَة وَالَّتِي عرفت من بعد وَالَّتِي ستعرف عُطَارِد، والزهرة، والمريخ، وَالشَّمْس، وَالْمُشْتَرِي، وزحل، وأروانوس، ونبتون. ولعلها هِيَ السَّمَاوَات السَّبع وَالْعرش الْعَظِيم وَهَذَا السِّرّ فِي جمع السَّمَاوَات هُنَا وإفراد الأَرْض لِأَن الأَرْض عَالم
- ٧٦٣ - وَاحِد فِي بعض الْآيَات فَهُوَ معنى طبقاتها أَو أَقسَام سطحها. السَّمَوَات السَّبع وَالْعرش الْعَظِيم؟؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم، وَلَا نقُول إِلَّا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه!! فَكيف نفهم إِذن أَحَادِيث الْمِعْرَاج المتواترة، وَكَيف نفهم أَحَادِيث قبض الْأَرْوَاح وَالْأَحَادِيث الَّتِي تَتَحَدَّث عَن خلق السَّمَوَات؟ وماذا يَقُول مفسرنا لَو عَاشَ إِلَى يَوْمنَا هَذَا واكتشف أَن هَذِه الأجرام الَّتِي فتنه الْعلم السطحي بهَا لَيست إِلَّا مَجْمُوعَة من المجموعات الشمسية فِي مجرة رَأس التبانة الَّتِي هِيَ وَاحِدَة من ملايين المجرات الَّتِي تسيح فِي هَذَا الْكَوْن؟ ثمَّ وَقع ﵀ فِي كَلَام غير علمي من نَاحيَة الْعُلُوم الحديثة ليته لم يقحم نَفسه فِيهِ فيضحك علينا من لَيْسَ منا، قَالَ: وَالدَّم مَعْرُوف مَدْلُوله فِي اللُّغَة وَهُوَ إِفْرَاز من المفرزات الناشئة عَن الْغذَاء وَبِه الْحَيَاة وأصل خلقته فِي الْجَسَد آتٍ من انقلاب دم الْحيض فِي رحم الْحَامِل إِلَى جَسَد الْجَنِين بِوَاسِطَة المصران الْمُتَّصِل بَين رحم وجسد الْجَنِين وَهُوَ الَّذِي يقطع حِين الْولادَة، وتجدده فِي جَسَد الْحَيَوَان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بِوَاسِطَة هضم الكبد للغذاء المنحدر إِلَيْهَا من الْمعدة بعد هضمه فِي الْمعدة، وَيخرج من الكبد مَعَ عرق فِيهَا فيصعد إِلَى الْقلب الَّذِي يَدْفَعهُ إِلَى الشرايين وَهِي الْعُرُوق الغليظة وَإِلَى الْعُرُوق الرقيقة بِقُوَّة حَرَكَة الْقلب بِالْفَتْح والإغلاق حَرَكَة ماكينيكية هوائية، ثمَّ يَدُور الدَّم فِي الْعُرُوق منتقلا من بَعْضهَا إِلَى بعض بِوَاسِطَة حركات الْقلب وتنفس الرئة، وَبِذَلِك الدوران يسلم من التعفن فَلذَلِك إِذا تعطلت دورته حِصَّة طَوِيلَة مَاتَ الْحَيَوَان. وَمن شغفه أَيْضا بالكونيات كَلَامه عَن الْحَدِيد وأصنافه وصدئه وأكسيده وأماكن وجوده وماوجد مِنْهُ فِي مدافن الفراعنة بمنفيس وَغير ذَلِك مِمَّا تميز بِهِ عَمَّن سبقه من الْمُفَسّرين!!! .
- ٧٦٤ - وَرُبمَا نقل ابْن عاشور شَيْئا من كَلَام الْحُكَمَاء والفلاسفة هُوَ فِي غنى عَنهُ وَمن ذَلِك قَوْله: وَالصَّوْم بِمَعْنى إقلال تنَاول الطَّعَام عَن الْمُقدر الَّذِي يبلغ حد الشِّبَع أَو ترك بعض المأكل: أصل قديم من أصُول التَّقْوَى لَدَى المليين ولدى الْحُكَمَاء الإشراقيين، وَالْحكمَة الإشراقية مبناها على تَزْكِيَة النَّفس بِإِزَالَة كدرات البهيمية عَنْهَا بِقدر الْإِمْكَان، بِنَاء على أَن للْإنْسَان قوتين: إِحْدَاهمَا روحانية منبتة فِي قرارتها من الجسمانية كلهَا. ثَانِي عشر: موقفه من المواعظ والآداب: أفرد المُصَنّف الْمُقدمَة الرَّابِعَة: فِيمَا يحِق أَن يكون غَرَض الْمُفَسّر فَذكر ثَمَانِيَة أُمُور وَهِي إصْلَاح الِاعْتِقَاد وتهذيب الْأَخْلَاق والتشريع وسياسة الْأمة والتأسي بأخبار الْأُمَم والتعلم والوعظ والإعجاز بِالْقُرْآنِ. كَمَا جعل الْمُقدمَة السَّابِعَة: فِي قصَص الْقُرْآن وفوائده. وَذكر عشر فَوَائِد كَمَا ذكر حِكْمَة تكْرَار الْقِصَّة فِي مَوَاضِع عدَّة. وَلم يظْهر لَهُ اهتمام كَبِير فِي هَذَا الْجَانِب وَمِمَّا وقفت عَلَيْهِ من كَلَامه فِيمَا ينْدَرج تَحْتَهُ إعداده شَجَرَة بتفريعات جَيِّدَة فِي الْأَمْرَاض النفسانية الناشئة عَن النِّفَاق مَبْنِيَّة على الْآيَات وَالْأَحَادِيث ليحذرها الْمُسلم. إِلَى هُنَا وصلت إِلَى دراسة مَنْهَج المُصَنّف بِصُورَة لَا بَأْس بهَا، وَهَذِه جملَة من الانتقادات الموجهة لَهُ خلا ماتقدم فِي الحَدِيث عَن الْمنْهَج التفصيلي أدّى إِلَيْهَا الْإِعْجَاب بِهِ أختم بهَا حَدِيثي عَن تَفْسِيره: فَهُوَ أَولا: ذُو ثِقَة زَائِدَة بِنَفسِهِ أوقعته فِي مزالق: فَمن مَوَاقِف ثقته الزَّائِدَة بِنَفسِهِ وتفرده قَوْله: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالقبلة المنسوخة وَهِي اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس أَعنِي الشرق وَهِي قبْلَة الْيَهُود وَلم يشف أحد من الْمُفَسّرين وَأَسْبَاب النُّزُول الغليل فِي هَذَا على أَن الْمُنَاسبَة بَينهَا وَبَين الْآي الَّذِي قبلهَا غير وَاضِحَة فَاحْتَاجَ بعض الْمُفَسّرين إِلَى تكلّف إبدائها.
- ٧٦٥ - وَقَوله: وَأَنا أَقُول كلمة أربأ بهَا عَن الانحياز إِلَى نصْرَة وَهِي أَن اخْتِلَاف الْمُسلمين فِي أول خطوَات مَسِيرهمْ وَأول موقف من مَوَاقِف أنظارهم وَقد مَضَت عَلَيْهِ الْأَيَّام بعد الْأَيَّام وتعاقبت الأقوام يعد نقصا علميا لَا ينبغى الْبَقَاء عَلَيْهِ. وَلَا أعرفني بعد هَذَا الْيَوْم ملتفتا إِلَيْهِ. ثمَّ وَقع فِي إِشْكَال كَبِير فِي مُسَمّى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام خرج بِهِ عَن عقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة! والعجيب أَنه ظن أَنه استوفى الْمَسْأَلَة وَفصل فِيهَا وَهُوَ لم يستوعب عشر معشار أَدِلَّة أحد الْفَرِيقَيْنِ وَالْمقَام لَا يحْتَمل سوق الْأَدِلَّة والردود وَفِي نفس الْوَقْت خرج عَن حد التَّفْسِير فَلَا هُوَ استوفى وَلَا هُوَ رَاعى الْمَقْصد. كَذَلِك عدم اعْتِبَاره التَّفْسِير علما كَمَا ذكر فِي الْمُقدمَة، وعَلى الرغم من كَونه يعلم تَمامًا أَنه لم يسْبقهُ أحد لهَذَا الْفَهم وَأَنه تَحْصِيل حَاصِل ذهب إِلَيْهِ، وَكَانَ الأولى بِهِ أَن ينخرط فِي آلَاف الْعلمَاء من جَمِيع عصور الْإِسْلَام الَّذين اعتبروا التَّفْسِير علما بل اعتبروه أجل الْعُلُوم. وَكَذَا حَملته الشعواء على التَّفْسِير بالمأثور واستقلاله لَهُ واستخفافه بأَهْله، عَظِيمَة من العظائم، فبدون التَّفْسِير بالمأثور ضلت الْأمة وَبِغير نوره زاغ الْمُفَسِّرُونَ، وَهُوَ نَفسه من الدَّلَائِل على ذَلِك فَهُوَ على الرغم من استفادته مِنْهُ فِي كل تَفْسِيره إِلَّا أَنه حاد عَنهُ فِي بعض الْمَوَاضِع فَوَقع فِيمَا وَقع فِيهِ. وَانْظُر أَيْضا من مَوَاضِع مُخَالفَته بالمأثور وثقته الزَّائِدَة بِنَفسِهِ واستخدامه "لَعَلَّه" لغير حجَّة. ثَانِيًا: صَاحب استطراد وتكلف خرج عَن حد التَّفْسِير جملَة وتفصيلا على الرغم من إهماله التَّفْسِير فِي مَوَاضِع لَا يسْتَغْنى عَن تَفْسِيرهَا: فَمَعَ اهتمامه بِإِثْبَات الْيَاء فِي دعان أَو عدم إِثْبَاتهَا أهمل تَفْسِير قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنِّي قريب﴾ وَمن التكلفات الَّتِي دفع إِلَيْهَا الاستطراد قَوْله: وَعِنْدِي أَن الْبَسْمَلَة كَانَ مَا يرادفها قد جرى على أَلْسِنَة الْأَنْبِيَاء من عهد إِبْرَاهِيم ﵇ فقد حكى الله عَن إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ لِأَبِيهِ: ﴿يَا أَبَت إِنِّي أَخَاف أَن يمسك عَذَاب من الرَّحْمَن﴾ وَقَالَ: ﴿سأستغفر لَك رَبِّي إِنَّه كَانَ بِي حفيا﴾ وَمعنى الحفى قريب
- ٧٦٦ - من الرَّحِيم وَحكي عَنهُ قَوْله ﴿وَتب علينا إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم﴾ وَقَوله: وَقَالَ الْأُسْتَاذ مُحَمَّد عَبده: إِن النَّصَارَى كَانُوا يبتدئون أدعيتهم وَنَحْوهَا باسم الْأَب وَالِابْن وَالروح الْقُدس إِشَارَة إِلَى الأقانيم الثَّلَاثَة عِنْدهم، فَجَاءَت فَاتِحَة كتاب الْإِسْلَام بِالرَّدِّ عَلَيْهِم موقظة لَهُم بِأَن الْإِلَه الْوَاحِد وَإِن تعدّدت أسماؤه فَإِنَّمَا هُوَ تعدد الْأَوْصَاف دون تعدد المسميات، يَعْنِي فَهُوَ رد عَلَيْهِم بتغليظ وتبليد. وَإِذا صَحَّ أَن فواتح النَّصَارَى وأدعيتهم كَانَت تَشْمَل على ذَلِك إِذْ النَّاقِل أَمِين فَهِيَ نُكْتَة لَطِيفَة. ثَالِثا: ذُو ولع شَدِيد بِالنَّقْدِ وَإِن كَانَ هُنَاكَ مندوحة لترك الانتقاد انتقاده لوجه فِي التَّفْسِير مَقْبُول عِنْد قَوْله تَعَالَى ﴿فَزَادَهُم الله مَرضا﴾ قَالَ: قَالَ بعض الْمُفَسّرين: هِيَ دُعَاء عَلَيْهِم كَقَوْل جُبَير بن الأضبط: تبَاعد عَنى فَقَالَ إِذْ دَعوته أَمِين فَزَاد الله مَا بَيْننَا بعدا قَالَ: وَهُوَ تَفْسِير غير حسن لِأَنَّهُ خلاف الأَصْل فِي الْعَطف بِالْفَاءِ وَلِأَن تصدى الْقُرْآن لشتمهم بذلك لَيْسَ من دأبه، وَلِأَن الدُّعَاء عَلَيْهِم بِالزِّيَادَةِ تنَافِي مَا عهد من الدُّعَاء للضالين بالهداية فِي نَحْو "اللَّهُمَّ اهد قومى فَإِنَّهُم لَا يعلمُونَ ". وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِم فقد قَالَ تَعَالَى ﴿قتل الْإِنْسَان مَا أكفره﴾ وَقَالَ ﴿ملعونين أَيْنَمَا ثقفوا﴾ وَقَالَ ﴿قَاتلهم الله أَنى يؤفكون﴾ غير ذَلِك. وَقد كنت من المعجبين بِهَذَا الْكتاب وحرصت على اقتنائه بطبعته التونسية على الرغم من غلاء سعره جدا وَعدم اكتماله وَقتهَا وَذَلِكَ قبل أَكثر من سبع عشرَة سنة، إِلَّا أنني لمحت فِيهِ تِلْكَ السلبيات مِمَّا حدا بِي إِلَى الإطالة فِي بَيَانهَا. وَالْكتاب فِي الْجُمْلَة كتاب جيد من حَيْثُ الإضافات العلمية الَّتِي أضافها وَقد كَانَ تحرر صَاحبه سِلَاحا ذَا حَدَّيْنِ فَكَمَا أفادنا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة، زلت قدمه فِي مَوَاضِع أَكثر والمعصوم من عصمه الله.
Unknown page
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لِلْمُسْتَهْدِينَ مَعَالِمَ مُرَادِهِ، وَنَصَبَ لِجَحَافِلِ الْمُسْتَفْتِحِينَ أَعْلَامَ أَمْدَادِهِ فَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ قَانُونًا عَامًّا مَعْصُومًا، وَأَعْجَزَ بِعَجَائِبِهِ فَظَهَرَتْ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنًا، وَمَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يَعِظُ مُسِيئًا وَيَعِدُ مُحْسِنًا، حَتَّى عَرَفَهُ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَجَاحِدٍ، وَشَهِدَ لَهُ الرَّاغِبُ وَالْمُحْتَارُ وَالْحَاسِدُ، فَكَانَ الْحَالُ بِتَصْدِيقِهِ أَنْطَقَ مِنَ اللِّسَانِ، وَبُرْهَانُ الْعَقْلِ فِيهِ أَبْصَرَ مِنْ شَاهِدِ الْعِيَانِ، وَأَبْرَزَ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ فَتَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَفْضَلِ رَسُولٍ فَبَشَّرَ بِأَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، فَبِهِ أَصْبَحَ الرَّسُولُ الْأُمِّيُّ سَيِّدَ الْحُكَمَاءِ الْمُرَبِّينَ، وَبِهِ شُرِحَ صَدْرُهُ إِذْ قَالَ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩]، فَلَمْ يَزَلْ كِتَابُهُ مُشِعًّا نَيِّرًا، مَحْفُوظًا مِنْ لَدُنْهُ أَنْ يُتْرَكَ فَيَكُونَ مُبَدَّلًا وَمُغَيَّرًا.
ثُمَّ قَيَّضَ لِتَبْيِينِهِ أَصْحَابَهُ الْأَشِدَّاءَ الرُّحَمَاءَ، وَأَبَانَ أَسْرَارَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ نُجُومِ الِاقْتِدَاءِ لِلسَّائِرِينَ وَالْمَاخِرِينَ (١) .
أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ كَانَ أَكْبَرَ أُمْنِيَتِي مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، تَفْسِيرُ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَمَوْثِقٌ شَدِيدُ الْعُرَى مِنَ الْحَقِّ الْمَتِينِ، وَالْحَاوِي لِكُلِّيَّاتِ الْعُلُومِ وَمَعَاقِدِ اسْتِنْبَاطِهَا، وَالْآخِذُ قَوْسَ الْبَلَاغَةِ مِنْ مَحَلِّ نِيَاطِهَا ; طَمَعًا فِي بَيَانِ نُكَتٍ مِنَ الْعِلْمِ وَكُلِّيَّاتٍ مِنَ التَّشْرِيعِ، وَتَفَاصِيلَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَانَ يلوح أُنْمُوذَج مِنْ جَمِيعِهَا فِي خِلَالِ تَدَبُّرِهِ، أَوْ مُطَالَعَةِ كَلَامِ مُفَسِّرِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ عَلَى كَلَفِي بِذَلِكَ أَتَجَهَّمُ التَّقَحُّمَ عَلَى هَذَاُِِ
_________
(١) قَالَ رَسُول الله ﷺ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِم اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ»
فبنيت على هَذَا التَّشْبِيه تَشْبِيه المهتدين بهم بفريقين: فريق سائرون فِي الْبر- وَفِي ذَلِك تَشْبِيه عَمَلهم فِي الإهداء، وَهُوَ اتِّبَاع طَرِيق السّنة بالسير فِي طرق الْبر- وفريق ماخرون أَي سائرون فِي الْفلك المواخر فِي الْبَحْر، وتضمن ذَلِك تَشْبِيه عَمَلهم فِي الإهداء وَهُوَ الْخَوْض فِي الْعُلُوم بالمخر فِي الْبَحْر، وَمن ذَلِك الْإِشَارَة إِلَى أَن الْعلم كالبحر كَمَا هُوَ شَائِع، وَأَن السّنة كالسبيل الْمبلغ للمقصود.
(٢) أُشير بِهَذَا إِلَى أَن المهم من كَلَام الْمُفَسّرين يرشد إِلَى الزِّيَادَة على مَا ذَكرُوهُ، وَالَّذِي دون ذَلِك من كَلَامهم يُنَبه إِلَى تَقْوِيم مَا ذَكرُوهُ، والمفسر هُنَا مُرَاد بِهِ الْجِنْس.
1 / 5
الْمَجَالِ، وَأُحْجِمُ عَنِ الزَّجِّ بِسِيَةِ قَوْسِي فِي هَذَا النِّضَالِ. اتِّقَاءَ مَا عَسَى أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ مِنْ مَتَاعِبَ تَنُوءُ بِالْقُوَّةِ، أَوْ فَلَتَاتِ سِهَامِ الْفَهْمِ وَإِنْ بَلَغَ سَاعِدُ الذِّهْنِ كَمَال الفتوّة، فيقيت أُسَوِّفُ النَّفْسَ مَرَّةً وَمَرَّةً أَسُومُهَا زَجْرًا، فَإِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا تَصْمِيمًا أَحَلْتُهَا عَلَى فُرْصَةٍ أُخْرَى، وَأَنَا آمُلُ أَنْ يُمْنَحَ مِنَ التَّيْسِيرِ، مَا يُشَجِّعُ عَلَى قَصْدِ هَذَا الْغَرَضِ الْعَسِيرِ، وَفِيمَا أَنَا بَيْنَ إِقْدَامٍ وَإِحْجَامٍ، أَتَخَيَّلُ هَذَا الْحَقْلَ مَرَّةً الْقَتَادَ وَأُخْرَى الثُّمَامَ إِذَا أَنَا بِأَمَلِي قَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهُ تَبَاعَدَ أَو انْقَضى، إِذا قُدِّرَ أَنْ تُسْنَدَ إِلَيَّ خُطَّةُ الْقَضَا (١)، فَبَقِيتُ مُتَلَهِّفًا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وَأَضْمَرْتُ تَحْقِيقَ هَاتِهِ الْأُمْنِيَّةِ مَتَى أَجْمَلَ اللَّهُ الْخَلَاصَ، وَكُنْتُ أُحَادِثُ بِذَلِكَ الْأَصْحَابَ وَالْإِخْوَانَ، وَأَضْرِبُ الْمَثَلَ بِأَبِي الْوَلِيدِ ابْنِ رُشْدٍ فِي كِتَابِ «الْبَيَانِ» (٢)، وَلَمْ أَزَلْ كُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَزْدَادُ التَّمَنِّي وَأَرْجُو إِنْجَازَهُ، إِلَى أَن أَو شكّ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ، فَإِذَا اللَّهُ قَدْ مَنَّ بِالنَّقْلَةِ إِلَى خُطَّةِ الْفُتْيَا (٣)، وَأَصْبَحَتِ الْهِمَّةُ مَصْرُوفَةً إِلَى مَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْهِمَمُ الْعُلْيَا، فَتَحَوَّلَ إِلَى الرَّجَاءِ ذَلِكَ الْيَأْسُ، وَطَمِعْتُ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيعلمهَا النَّاس (٤) . هُنَا لَك عَقَدْتُ الْعَزْمَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا كُنْتُ أَضْمَرْتُهُ، وَاسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَخَرْتُهُ، وَعَلِمْتُ أَنَّ مَا يَهُولُ مِنْ تَوَقُّعِ كَلَلٍ أَوْ غَلَطٍ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَسْجِ هَذَا النَّمَطِ، إِذَا بَذَلْتُ الْوُسْعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَتَوَخَّيْتُ طُرُقَ الصَّوَابِ وَالسَّدَادِ.
أَقْدَمْتُ عَلَى هَذَا الْمُهِمِّ إِقْدَامَ الشُّجَاعِ عَلَى وَادِي السِّبَاعِ (٥) مُتَوَسِّطًا فِي مُعْتَرَكِ أَنْظَارِ
_________
(١) فِي ٢٦ رَمَضَان ١٣٣١ هـ وَالْقَضَاء هُنَا بِالْقصرِ لمراعاة السجع.
(٢) حَيْثُ ذكر أَنه شرع فِيهِ، ثمَّ عاقه عَنهُ تَقْلِيد خطة الْقَضَاء بقرطبة فعزم على الرُّجُوع إِلَيْهِ إِن أُرِيح من الْقَضَاء، وَأَنه عرض عزمه على أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن يُوسُف ابْن تاشفين، فَأَجَابَهُ لذَلِك وأعفاه من الْقَضَاء ليعود إِلَى إِكْمَال كِتَابه «الْبَيَان والتحصيل» وَهَذَا الْكتاب هُوَ شرح جليل على كتاب «الْعُتْبِيَّة» الَّذِي جمع فِيهِ الْعُتْبِي سَماع أَصْحَاب مَالك مِنْهُ، وَسَمَاع أَصْحَاب ابْن الْقَاسِم مِنْهُ.
(٣) فِي ٢٦ رَجَب ١٣٤١ هـ.
(٤) أردْت الْإِشَارَة إِلَى الحَدِيث: «لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» لِأَنَّهُ يتَعَيَّن أَن لَا يكون المُرَاد خُصُوص الْجمع بَين الْقَضَاء بهَا وَتَعْلِيمهَا، بل يحصل الْمَقْصُود وَلَو بِأَن يقْضى بهَا مُدَّة، وَيعلمهَا النَّاس مُدَّة أُخْرَى.
(٥) وَادي السبَاع مَوضِع بَين مَكَّة وَالْبَصْرَة وَهُوَ وَاد قفر من السكان تكْثر بِهِ السبَاع قَالَ سحيم بن وثيل:
مَرَرْت على وَادي السبَاع وَلَا أرى ... كوادي السبَاع حِين يظلم وَاديا
أقلّ بِهِ ركب أَتَوْهُ تئيّة ... وأخوف إلّا مَا وقى الله ساريا
1 / 6
النَّاظِرِينَ. وَزَائِرًا بَيْنَ ضُبَاحِ الزَّائِرِينَ (١)، فَجَعَلْتُ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أُبْدِيَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ نُكَتًا لَمْ أَرَ مَنْ سَبَقَنِي إِلَيْهَا، وَأَنْ أَقِفَ مَوْقِفَ الْحَكَمِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُفَسِّرِينَ تَارَةً لَهَا وَآوِنَةً عَلَيْهَا، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْحَدِيثِ الْمُعَادِ، تَعْطِيلٌ لِفَيْضِ الْقُرْآن الَّذِي مَاله مِنْ نَفَادٍ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ حَوْلَ كَلَامِ الْأَقْدَمِينَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ معتكف فِيمَا أشاده الْأَقْدَمُونَ، وَآخَرُ آخِذٌ بِمِعْوَلِهِ فِي هَدْمِ مَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْقُرُونُ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ ضرّ كثير، وَهنا لَك حَالَةٌ أُخْرَى يَنْجَبِرُ بِهَا الْجَنَاحُ الْكَسِيرُ، وَهِيَ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى مَا شاده الْأَقْدَمُونَ فَنُهَذِّبَهُ وَنَزِيدَهُ، وَحَاشَا أَنْ نَنْقُضَهُ أَوْ نُبِيدَهُ، عَالِمًا بِأَنَّ غَمْضَ فَضْلِهِمْ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ، وَجَحْدَ مَزَايَا سَلَفِهَا لَيْسَ مِنْ حَمِيدِ خِصَالِ الْأُمَّةِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ الْأَمَلَ، وَيَسَّرَ إِلَى هَذَا الْخَيْرِ وَدَلَّ.
وَالتَّفَاسِيرُ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ الْكَثِيرَ مِنْهَا إِلَّا عَالَةً عَلَى كَلَامٍ سَابِقٍ بِحَيْثُ لَا حَظَّ لِمُؤَلِّفِهِ إِلَّا الْجَمْعُ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ اخْتِصَارٍ وَتَطْوِيلٍ. وَإِنَّ أَهَمَّ التَّفَاسِيرِ تَفْسِير «الْكَشَّاف» و«الْمُحَرر الْوَجِيزُ» لِابْنِ عَطِيَّة و«مَفَاتِيح الْغَيْبِ» لِفَخْرِ الدَّين الرَّازِيّ، و«تَفْسِير الْبَيْضَاوِيِّ» الْمُلَخَّصُ مِنَ «الْكَشَّافِ» وَمِنْ «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» بتحقيق بديع، و«تَفْسِير الشِّهَابِ الْأَلُوسِيِّ»، وَمَا كَتَبَهُ الطِّيبِيُّ والقزويني والقطب والتفتازانيّ عَلَى «الْكَشَّافِ»، وَمَا كَتَبَهُ الْخَفَاجِيُّ عَلَى «تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ»، و«تَفْسِيرِ أبي السُّعُود»، و«تَفْسِير الْقُرْطُبِيِّ» وَالْمَوْجُودُ مِنْ «تَفْسِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ التُّونُسِيِّ» مِنْ تَقْيِيدِ تِلْمِيذِهِ الْأبيِّ وَهُوَ بِكَوْنِهِ تَعْلِيقًا عَلَى «تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ» أَشْبَهُ مِنْهُ بِالتَّفْسِيرِ، لِذَلِكَ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ آي الْقُرْآن، و«تفاسير الْأَحْكَامِ، وَتَفْسِيرُ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ ابْن جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ»، وَكِتَابُ «دُرَّةِ التَّنْزِيلِ» الْمَنْسُوبُ لِفَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ، وَرُبَّمَا يُنْسَبُ لِلرَّاغِبِ الْأَصْفَهَانِيِّ. وَلِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ أُعْرِضُ عَنِ الْعَزْوِ إِلَيْهَا، وَقَدْ مَيَّزْتُ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِي مِنْ فَهْمٍ فِي مَعَانِي كِتَابِهِ وَمَا أَجْلِبُهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ، مِمَّا لَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَإِنَّمَا حَسْبِي فِي ذَلِكَ عَدَمُ عُثُورِي عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَ يَدِي مِنَ التَّفَاسِيرِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ خَاصَّةً، وَلَسْتُ أَدَّعِي انْفِرَادِي بِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَكَمْ مِنْ كَلَامٍ تُنْشِئُهُ، تَجِدُكَ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ مُتَكَلِّمٌ،
_________
(١) الزائرين هُنَا اسْم فَاعل من زأر بِهَمْزَة بعد الزَّاي، وَهُوَ الَّذِي مصدره الزئير، وَهُوَ صَوت الْأسد قَالَ عنترة:
حلّت بِأَرْض لزائرين فَأَصْبَحت ... عسرا عليّ طلابك ابْنة مخرم
1 / 7
وَكَمْ مِنْ فَهْمٍ تَسْتَظْهِرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَكَ إِلَيْهِ مُتَفَهِّمٌ، وَقَدِيمًا قِيلَ:
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ
إِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَمَقَاصِدَهُ ذَاتُ أَفَانِينَ كَثِيرَةٍ بَعِيدَةِ الْمَدَى مُتَرَامِيَةِ الْأَطْرَافِ مُوَزَّعَةٍ عَلَى آيَاتِهِ فَالْأَحْكَامُ مُبَيَّنَةٌ فِي آيَاتِ الْأَحْكَامِ، وَالْآدَابُ فِي آيَاتِهَا، وَالْقِصَصُ فِي مَوَاقِعِهَا، وَرُبَّمَا اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ عَلَى فَنَّيْنِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ. وَقَدْ نَحَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَفْنَانِ، وَلَكِنَّ فَنًّا مِنْ فُنُونِ الْقُرْآنِ لَا تَخْلُو عَنْ دَقَائِقِهِ وَنُكَتِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ فَنُّ دَقَائِقِ الْبَلَاغَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخُصَّهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ بِكِتَابٍ كَمَا خَصُّوا الْأَفَانِينَ الْأُخْرَى، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْتَزَمْتُ أَنْ لَا أُغْفِلَ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا يَلُوحُ لِي مِنْ هَذَا الْفَنِّ الْعَظِيمِ فِي آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ كُلَّمَا أُلْهِمْتُهُ بِحَسَبِ مَبْلَغِ الْفَهْمِ وَطَاقَةِ التَّدَبُّرِ.
وَقَدِ اهْتَمَمْتُ فِي تَفْسِيرِي هَذَا بِبَيَانِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ وَنُكَتِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَاهْتَمَمْتُ أَيْضًا بِبَيَانِ تَنَاسُبِ اتِّصَالِ الْآيِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَهُوَ مَنْزَعٌ جَلِيلٌ قَدْ عُنِيَ بِهِ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَأَلَّفَ فِيهِ بُرْهَانُ الدِّينِ الْبِقَاعِيُّ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى: «نَظْمَ الدُّرَرِ فِي تَنَاسُبِ الْآيِ وَالسُّورِ» إِلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، فَلَمْ تَزَلْ أنظار المتأملين لفضل الْقَوْلِ تَتَطَلَّعُ. أَمَّا الْبَحْثُ عَنْ تَنَاسُبِ مَوَاقِعِ السُّورِ بَعْضِهَا إِثْرَ بَعْضٍ، فَلَا أَرَاهُ حَقًّا عَلَى الْمُفَسِّرِ.
وَلَمْ أُغَادِرْ سُورَةً إِلَّا بَيَّنْتُ مَا أُحِيطُ بِهِ مِنْ أَغْرَاضِهَا لِئَلَّا يَكُونَ النَّاظِرُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَقْصُورًا عَلَى بَيَانِ مُفْرَدَاتِهِ وَمَعَانِي جُمَلِهِ كَأَنَّهَا فِقَرٌ مُتَفَرِّقَةٌ تَصْرِفُهُ عَنْ رَوْعَةِ انْسِجَامِهِ وَتَحْجُبُ عَنْهُ رَوَائِعَ جَمَالِهِ.
وَاهْتَمَمْتُ بِتَبْيِينِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِضَبْطٍ وَتَحْقِيقٍ مِمَّا خَلَتْ عَنْ ضَبْطِ كَثِيرٍ مِنْهُ قَوَامِيسُ اللُّغَةِ. وَعَسَى أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْمُطَالِعُ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ، وَيَتَنَاوَلَ مِنْهُ فَوَائِدَ وَنُكَتًا عَلَى قَدْرِ اسْتِعْدَادِهِ، فَإِنِّي بَذَلْتُ الْجُهْدَ فِي الْكَشْفِ عَنْ نُكَتٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ خَلَتْ عَنْهَا التَّفَاسِيرُ، وَمِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ هِمَمُ النَّحَارِيرِ، بِحَيْثُ سَاوَى هَذَا التَّفْسِيرُ عَلَى اخْتِصَارِهِ مُطَوَّلَاتِ الْقَمَاطِيرِ، فَفِيهِ أَحْسَنُ مَا فِي التَّفَاسِيرِ، وَفِيهِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي التَّفَاسِيرِ. وَسَمَّيْتُهُ: «تَحْرِيرَ الْمَعْنَى السَّدِيدِ وَتَنْوِيرَ الْعَقْلِ الْجَدِيدِ مِنْ تَفْسِيرِ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ» .
1 / 8
وَاخْتَصَرْتُ هَذَا الِاسْمَ بِاسْمِ «التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ مِنَ التَّفْسِيرِ» وَهَا أَنا (١) أبتدىء بِتَقْدِيمِ مُقَدِّمَاتٍ تَكُونُ عَوْنًا لِلْبَاحِثِ فِي التَّفْسِيرِ، وَتُغْنِيهِ عَنْ معاد كثير.
_________
(١) عَن قصد قلت «وَهَا أَنا» وَلم أقل «وَهَا أَنا ذَا» كَمَا الْتَزمهُ كثير من المتحذلقين أخذا بِظَاهِر كَلَام «مُغنِي اللبيب» لما بَينته عِنْد تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٨٥] .
1 / 9
الْمُقدمَات
الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَكَوْنِ التَّفْسِيرِ عِلْمًا
التَّفْسِيرُ مَصْدَرُ فَسَّرَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ الَّذِي هُوَ مُضَاعَفُ فَسَرَ بِالتَّخْفِيفِ، مِنْ بَابَيْ نَصَرَ وَضَرَبَ الَّذِي مَصْدُرُهُ الْفَسْرُ، وَكِلَاهُمَا فِعْلٌ مُتَعَدٍّ فَالتَّضْعِيفُ لَيْسَ لِلتَّعْدِيَةِ. وَالْفَسْرُ الْإِبَانَةُ وَالْكَشْفُ لِمَدْلُولِ كَلَامٍ أَوْ لَفْظٍ بِكَلَامٍ آخَرَ هُوَ أَوْضَحُ لِمَعْنَى الْمُفَسَّرِ عِنْدَ السَّامِعِ، ثُمَّ قِيلَ الْمَصْدَرَانِ وَالْفِعْلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقِيلَ يَخْتَصُّ الْمُضَاعَفُ بِإِبَانَةِ الْمَعْقُولَاتِ، قَالَهُ الرَّاغِبُ وَصَاحِبُ «الْبَصَائِرِ»، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَن بَيَان المعقولان يُكَلِّفُ الَّذِي يُبَيِّنُهُ كَثْرَةُ الْقَوْلِ، كَقَوْلِ أَوْسِ بْنِ حُجْرٍ (١):
الْأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
فَكَانَ تَمَامُ الْبَيْتِ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْأَلْمَعِيِّ، وَكَذَلِكَ الْحُدُودُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْمُفَسِّرَةُ لِلْمَوَاهِي وَالْأَجْنَاسِ، لَا سِيمَا الْأَجْنَاس الْعَالِيَة الْمُلَقَّبَةِ بِالْمَقُولَاتِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْبَيَانُ بِصِيغَةِ الْمُضَاعَفَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ فَعَّلَ الْمُضَاعَفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْدِيَةِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّكْثِيرِ مِنَ الْمَصْدَرِ، قَالَ فِي «الشَّافِيَةِ»: «وَفَعَّلَ لِلتَّكْثِيرِ غَالِبًا» وَقَدْ يَكُونُ التَّكْثِيرُ فِي ذَلِكَ مَجَازِيًّا وَاعْتِبَارِيًّا بِأَنْ يَنْزِلَ كَدُّ الْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ، ثُمَّ فِي اخْتِيَارِ أَضْبَطِ الْأَقْوَالِ لِإِبَانَتِهَا مَنْزِلَةَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ كَتَفْسِيرِ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ (٢) وَقَدْ سَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنِ الْبَلَاغَةِ فَقَالَ: «أَنْ تَقول فَلَا تخطىء، وَتُجِيبَ فَلَا تُبْطِئَ» ثُمَّ قَالَ لِسَائِلِهِ أَقلنِي: «لَا تخطىء وَلَا تُبْطِئُ» .
_________
(١) كَمَا فِي «الصِّحَاح» و«التَّهْذِيب»، ويروى لبشر بن أبي خازم يرثي فضَالة بن كلدة كَمَا فِي «الْعباب» .
(٢) صحار بِضَم الصَّاد وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن عَيَّاش، بليغ من بلغاء قَبيلَة عبد الْقَيْس فِي صدر الدولة الأموية.
1 / 10
وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الْفرْقَان: ٣٣] .
فَأَمَّا إِذَا كَانَ فَعَّلَ الْمُضَاعَفُ لِلتَّعْدِيَةِ فَإِنَّ إِفَادَتَهُ التَّكْثِيرَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ
الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يَعْدِلُ عَنْ تَعْدِيَةِ الْفِعْلِ بِالْهَمْزَةِ إِلَى تَعْدِيَتِهِ بِالتَّضْعِيفِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَ قَدْ عُرِفَ بِتِلْكَ الدَّلَالَةِ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ فعلا لَازِما فمقارنته تِلْكَ الدَّلَالَةُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِ لِلتَّعْدِيَةِ مُقَارَنَةَ تَبَعِيَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَلَّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي خُطْبَةِ «الْكَشَّافِ» «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ كَلَامًا مُؤَلَّفًا مُنَظَّمًا، وَنَزَّلَهُ عَلَى حَسَبِ الْمصَالح منجما» فَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُرَّاحِهِ: جَمَعَ بَيْنَ أَنْزَلَ وَنَزَّلَ لِمَا فِي نَزَّلَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْثِيرِ، الَّذِي يُنَاسِبُ مَا أَرَادَهُ الْعَلَّامَةُ مِنَ التَّدْرِيجِ وَالتَّنْجِيمِ.
وَأَنَا أَرَى أَنَّ اسْتِفَادَةَ مَعْنَى التَّكْثِيرِ فِي حَالِ اسْتِعْمَالِ التَّضْعِيفِ لِلتَّعْدِيَةِ أَمْرٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْكَلَامِ حَاصِلٌ مِنْ قَرِينَةِ عُدُولِ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ عَنِ الْمَهْمُوزِ الَّذِي هُوَ خَفِيفٌ إِلَى الْمُضَعَّفِ الَّذِي هُوَ ثَقِيلٌ، فَذَلِكَ الْعُدُولُ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي مِثْلِ كَلَامِ «الْكَشَّافِ» قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّكْثِيرِ.
وَعَزَا شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي أَوَّلِ «أَنْوَاءِ الْبُرُوقِ» إِلَى بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقُوا بَيْنَ فَرَقَ بِالتَّخْفِيفِ وَفَرَّقَ بِالتَّشْدِيدِ، فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ لِلْمَعَانِي وَالثَّانِيَ لِلْأَجْسَامِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْحُرُوفِ تَقْتَضِي زِيَادَةَ الْمَعْنَى أَوْ قُوَّتَهُ، وَالْمَعَانِي لَطِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا الْمُخَفَّفُ، وَالْأَجْسَامُ كَثِيفَةٌ يُنَاسِبُهَا التَّشْدِيدُ، وَاسْتَشْكَلَهُ هُوَ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّحْرِيرِ بِالْمَحَلِّ اللَّائِقِ، بَلْ هُوَ أَشْبَهُ بِاللَّطَائِفِ مِنْهُ بِالْحَقَائِقِ، إِذْ لَمْ يُرَاعِ الْعَرَبُ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَعْقُولًا وَلَا مَحْسُوسًا وَإِنَّمَا رَاعَوُا الْكَثْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ أَوِ الْمَجَازِيَّةَ كَمَا قَرَّرْنَا، وَدَلَّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ ثَابِتَانِ فِي الْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ [الْإِسْرَاء: ١٠٦] قرىء بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً لِقَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٨٥] وَقَالَ لَبِيدٌ:
فَمَضَى وَقَدَّمَهَا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إِذَا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدَامُهَا
فَجَاءَ بِفِعْلِ قَدَّمَ وَبِمَصْدَرِ أَقْدَمَ، وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: «إِنَّ فَعَّلَ وَأَفْعَلَ يَتَعَاقَبَانِ» عَلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ عِنْدَ مُثْبِتِهَا، تَفْرِقَةٌ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ لَا فِي حَالَةِ مَفْعُولِهِ بِالْأَجْسَامِ.
وَالتَّفْسِيرُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَقُولُ: هُوَ اسْمٌ لِلْعِلْمِ الْبَاحِثِ عَنْ بَيَانِ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا بِاخْتِصَارٍ أَوْ تَوَسُّعٍ.
1 / 11
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْمَعْنَى الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَطْوِيلٍ.
وَمَوْضُوعُ التَّفْسِيرِ: أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِيهِ وَمَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، وَبِهَذِهِ
الْحَيْثِيَّةِ خَالَفَ عِلْمَ الْقِرَاءَاتِ لِأَنَّ تَمَايُزَ الْعُلُومِ- كَمَا يَقُولُونَ- بِتَمَايُزِ الْمَوْضُوعَاتِ وَحَيْثِيَّاتِ الْمَوْضُوعَاتِ.
هَذَا وَفِي عَدِّ التَّفْسِيرِ عِلْمًا تَسَامُحٌ إِذِ الْعِلْمُ إِذَا أُطْلِقَ، إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْإِدْرَاكِ، نَحْوَ قَوْلِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ: الْعِلْمُ إِمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَلَكَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَقْلِ وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْجَهْلِ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ فِي عَدِّ الْعُلُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَسَائِلُ الْمَعْلُومَاتُ وَهِيَ مَطْلُوبَاتٌ خَبَرِيَّةٌ يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَهِيَ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ، وَمَبَاحِثُ هَذَا الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِقَضَايَا يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فَمَا هِيَ بِكُلِّيَّةٍ، بَلْ هِيَ تَصَوُّرَاتٌ جُزْئِيَّةٌ غَالِبًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ أَلْفَاظٍ أَوِ اسْتِنْبَاطُ مَعَانٍ. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَمِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلَيْسَ مِنَ الْقَضِيَّةِ.
فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ يَوْمَ الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَلِكِ يَوْم الدَّين [الْفَاتِحَة: ٤] هُوَ يَوْمُ الْجَزَاءِ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الْأَحْقَاف: ١٥] مَعَ قَوْلِهِ: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لُقْمَان: ١٤] يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ أَقَلَّ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَضِيَّةً، بَلِ الْأَوَّلُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ،
وَالثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ وَلَكِنَّهُمْ عَدُّوا تَفْسِيرَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا أَرَاهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ وُجُوهٍ سِتَّةٍ:
الْأَوَّلُ:
أَنَّ مَبَاحِثَهُ لِكَوْنِهَا تُؤَدِّي إِلَى اسْتِنْبَاطِ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ، نَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهَا مَبْدَأٌ لَهَا وَمَنْشَأٌ، تَنْزِيلًا لِلشَّيْءِ مَنْزِلَةَ مَا هُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِهِ بِقَاعِدَةِ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا تُسْتَخْرَجُ مِنْهُ الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ وَالْعُلُومُ أَجْدَرُ بِأَنْ يُعَدَّ عِلْمًا مِنْ عِدِّ فَرُوعِهِ عِلْمًا، وَهُمْ قَدْ عَدُّوا تَدْوِينَ الشِّعْرِ عِلْمًا لِمَا فِي حِفْظِهِ مِنِ اسْتِخْرَاجِ نُكَتٍ بَلَاغِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ لُغَوِيَّةٍ.
وَالثَّانِي
أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ قَضَايَا كُلِّيَّةً يُبَرْهَنُ عَلَيْهَا فِي الْعِلْمِ خَاصٌّ بِالْعُلُومِ الْمَعْقُولَةِ، لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطٌ ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ فِي تَقْسِيمِ الْعُلُومِ، أَمَّا الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْأَدَبِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ مَبَاحِثُهَا مُفِيدَةً كَمَالًا عِلْمِيًّا لِمُزَاوِلِهَا،
1 / 12
وَالتَّفْسِيرُ أَعْلَاهَا فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَهُوَ بَيَانُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامِهِ، وَهُمْ قَدْ عَدُّوا الْبَدِيعَ عِلْمًا وَالْعَرُوضَ عِلْمًا وَمَا هِيَ إِلَّا تَعَارِيفُ لِأَلْقَابٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ.
وَالثَّالِثُ
أَنْ نَقُولَ: التَّعَارِيفُ اللَّفْظِيَّةُ تَصْدِيقَاتٌ عَلَى رَأْيِ بَعْضِ الْمُحَقِّقين فَهِيَ تؤول إِلَى قَضَايَا، وَتَفَرُّعُ الْمَعَانِي الْجَمَّةِ عَنْهَا نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْكُلِّيَّةِ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهَا بِشِعْرِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْبُرْهَانِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَنْزِيلِ
مَبَاحِثِ التَّفْسِيرِ مَنْزِلَةَ الْمَسَائِلِ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَ التَّنْزِيلِ فِي الْأَوَّلِ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا، وَهُنَا رَاجِعٌ إِلَى ذَاتِهَا مَعَ أَنَّ التَّنْزِيلَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ وَهُنَا فِي شَرْطَيْنِ، لِأَنَّ كَوْنَهَا قَضَايَا إِنَّمَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْمَنْطِقِيِّينَ.
الرَّابِعُ
أَنْ نَقُولَ: إِنَّ عِلْمَ التَّفْسِيرِ لَا يَخْلُو مِنْ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ فِي أَثْنَائِهِ مِثْلَ تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ النَّسْخِ عِنْدَ تَفْسِيرِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [الْبَقَرَة: ١٠٦] وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ التَّأْوِيلِ عِنْدَ تَقْرِيرِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمرَان: ٧] وَقَوَاعِدِ الْمُحْكَمِ عِنْدَ تَقْرِيرِ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ [آل عمرَان: ٧]، فَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ وَمَا مَعَهُ عِلْمًا تَغْلِيبًا، وَقَدِ اعْتَنَى الْعُلَمَاءُ بِإِحْصَاءِ كُلِّيَّاتٍ تَتَعَلَّقُ بِالْقُرْآنِ، وَجَمَعَهَا ابْنُ فَارِسٍ، وَذَكَرَهَا عَنْهُ فِي «الْإِتْقَانِ» وَعُنِيَ بِهَا أَبُو الْبَقَاءِ الْكَفَوِيُّ فِي «كُلِّيَّاتِهِ»، فَلَا بِدْعَ أَنْ تُزَادَ تِلْكَ فِي وُجُوهِ شِبْهِ مَسَائِلِ التَّفْسِيرِ بِالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ.
الْخَامِسُ:
أَنَّ حَقَّ التَّفْسِيرِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى بَيَانِ أُصُولِ التَّشْرِيعِ وَكُلِّيَّاتِهِ فَكَانَ بِذَلِكَ حَقِيقًا بِأَنْ يُسَمَّى عِلْمًا وَلَكِن الْمُفَسّرين ابتدأوا بِتَقَصِّي مَعَانِي الْقُرْآنِ فَطَفَحَتْ عَلَيْهِمْ وَحَسَرَتْ دُونَ كَثْرَتِهَا قُوَاهُمْ، فَانْصَرَفُوا عَنِ الِاشْتِغَالِ بِانْتِزَاعِ كُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ قَلِيلَةٍ.
السَّادِسُ
- وَهُوَ الْفَصْلُ-: أَنَّ التَّفْسِيرَ كَانَ أَوَّلَ مَا اشْتَغَلَ بِهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِتَدْوِينِ بَقِيَّةِ الْعُلُومِ، وَفِيهِ كَثُرَتْ مُنَاظَرَاتُهُمْ وَكَانَ يَحْصُلُ مِنْ مُزَاوَلَتِهِ وَالدُّرْبَةِ فِيهِ لِصَاحِبِهِ مَلَكَةٌ يُدْرِكُ بِهَا أَسَالِيبَ الْقُرْآنِ وَدَقَائِقَ نَظْمِهِ، فَكَانَ بِذَلِكَ مُفِيدًا عُلُومًا كُلِّيَّةً لَهَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ عِلْمًا.
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ إِنْ أُخِذَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ أُصُولِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْغَزَالِيُّ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ
1 / 13
الْمَحْمُودَةِ مِنْ كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ»، لِأَنَّهُ عَدَّ أَوَّلَهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُعْنَى بِعِلْمِ الْكِتَابِ حِفْظُ أَلْفَاظِهِ بَلْ فَهْمُ مَعَانِيهَا وَبِذَلِكَ صَحَّ أَنْ يُعَدَّ رَأْسَ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا وَصَفَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِذَلِكَ، وَإِنْ أُخِذَ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ مَكِّيٍّ وَمَدَنِيٍّ، وَنَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ، وَمِنْ قَوَاعِدِ الِاسْتِنْبَاطِ الَّتِي تُذْكَرُ أَيْضًا فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ عُمُوم وخصوص وَغير هما كَانَ مَعْدُودًا فِي مُتَمِّمَاتِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ (١)، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ عُدَّ فِيهَا إِذْ قَالَ: «الضَّرْبُ الرَّابِعُ الْمُتَمِّمَاتُ وَذَلِكَ فِي عِلْمِ
الْقُرْآنِ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّفْظِ، كَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى كَالتَّفْسِيرِ فَإِنَّ اعْتِمَادَهُ أَيْضًا عَلَى النَّقْلِ، وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِهِ كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْبَعْضِ مِنْهُ مَعَ الْبَعْضِ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُسَمَّى أُصُولَ الْفِقْهِ» وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يَكُونُ رَئِيسَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالتَّفْسِيرُ أَوَّلُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ ظُهُورًا، إِذْ قَدْ ظَهَرَ الْخَوْضُ فِيهِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ، إِذْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ قَدْ سَأَلَ عَنْ بَعْضِ مَعَانِي الْقُرْآنِ كَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ ﵁ عَنِ الْكَلَالَةِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِيهِ بَعْدُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَهُمَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ قَوْلًا فِي التَّفْسِيرِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ﵃، وَكَثُرَ الْخَوْضُ فِيهِ، حِينَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيَّ السَّجِيَّةِ، فَلَزِمَ التَّصَدِّي لِبَيَانِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لَهُمْ، وَشَاعَ عَنِ التَّابِعينَ وَأَشْهُرُهُمْ فِي ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَهُوَ أَيْضًا أَشْرَفُ الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَرَأْسُهَا عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَأَمَّا تَصْنِيفُهُ فَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ جُرَيْجٍ الْمَكِّيُّ الْمَوْلُودُ سَنَةَ ٨٠ هـ وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٤٩ هـ. صَنَّفَ كِتَابَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَجَمَعَ فِيهِ آثَارًا وَغَيْرَهَا أَكثر رِوَايَتَهُ عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، وَصُنِّفَتْ تَفَاسِيرُ وَنُسِبَتْ رِوَايَتُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،
_________
(١) حَيْثُ قسم الْعُلُوم إِلَى شَرْعِيَّة وَغَيرهَا، وَقسم الشَّرْعِيَّة إِلَى محمودة ومذمومة، وَقسم المحمودة مِنْهَا إِلَى أضْرب أَرْبَعَة: أصُول وفروع ومقدمات ومتممات، فالأصول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وآثار الصَّحَابَة، وَالثَّانِي الْفُرُوع وَهُوَ مَا فهم من الْأُصُول، وَهُوَ الْفِقْه وَعلم أَحْوَال الْقُلُوب، وَالثَّالِث الْمُقدمَات كالنحو واللغة، وَالرَّابِع المتممات لِلْقُرْآنِ وللسنة وللآثار وَهِي الْقرَاءَات وَالتَّفْسِير وَالْأُصُول وَعلم الرِّجَال وَلَيْسَ فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة مَذْمُوم إِلَّا عرضا، كبعض أَحْوَال علم الْكَلَام، وَبَعض الْفِقْه الَّذِي يقْصد للتحيل وَنَحْوه. [.....]
1 / 14
لَكِنَّ أَهْلَ الْأَثَرِ تَكَلَّمُوا فِيهَا وَهِيَ «تَفْسِيرُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ» الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ١٤٦ هـ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُمِيَ أَبُو صَالِحٍ بِالْكَذِبِ حَتَّى لُقِّبَ بِكَلِمَةِ «دروغدت» بِالْفَارِسِيَّةِ بِمَعْنَى الْكَذَّابِ (١) وَهِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ (٢)، أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا ضِدُّ مَا لَقَّبُوهُ بِسِلْسِلَةِ الذَّهَبِ، وَهِيَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْكَلْبِيَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ الْأَصْلِ، الَّذِي أَسْلَمَ وَطَعَنَ فِي الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ وَغَلَا فِي حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، وَقَالَ إِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ ادَّعَى إلهية عَليّ.
وَهنا لَك رِوَايَةُ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ الضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْهَاشِمِيِّ كُلُّهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَصَحُّهَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَهِيَ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» فِيمَا يَصْدُرُ بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْلِيقِ، وَقَدْ خَرَّجَ فِي «الْإِتْقَانِ»، جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُفْرَدَاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُرَتَّبَةً عَلَى سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَدِ اتَّخَذَهَا الْوَضَّاعُونَ وَالْمُدَلِّسُونَ مَلْجَأً لِتَصْحِيحِ مَا يَرْوُونَهُ كَدَأْبِ النَّاسِ فِي نِسْبَةِ كُلِّ أَمْرٍ مَجْهُولٍ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالنَّوَادِرِ، لِأَشْهَرِ النَّاسِ فِي ذَلِك الْمَقْصد.
وَهنا لَك رِوَايَاتٌ تُسْنَدُ لِعَلِيٍّ ﵁، أَكْثَرُهَا مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، إِلَّا مَا رُوِيَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْلَ مَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ لِعَلِيٍّ أَفْهَامًا فِي الْقُرْآنِ كَمَا
وَرَدَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لَعَلِيٍّ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآن»
ثمَّ تَلا حق الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَسَلَكَ كُلُّ فَرِيقٍ مَسْلَكًا يَأْوِي إِلَيْهِ وَذَوْقًا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ نَقْلِ مَا يُؤْثَرُ عَنِ السَّلَفِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَكَذَلِكَ الدَّاوُدِيُّ تِلْمِيذُ السَّيُوطِيِّ فِي «طَبَقَاتِ الْمُفَسِّرِينَ»، وَذَكَرَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» إِجْمَالًا. وَأَشْهَرُ أَهْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِيمَا هُوَ بِأَيْدِي النَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
_________
(١) «تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ» .
(٢) «الإتقان» .
1 / 15
وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَ النَّظَرِ كَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَشُغِفَ كَثِيرٌ بِنَقْلِ الْقِصَصِ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَكَثُرَتْ فِي كُتُبِهِمُ الْمَوْضُوعَاتُ، إِلَى أَنْ جَاءَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ عَالِمَانِ جَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَهُوَ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودٌ الزَّمَخْشَرِيُّ، صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، الآخر بِالْمَغْرِبِ بِالْأَنْدَلُسِ وَهُوَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ، فَأَلَّفَ تَفْسِيرَهُ الْمُسَمَّى بِ «الْمُحَرر الْوَجِيز»، كلا هما يَغُوصُ عَلَى مَعَانِي الْآيَاتِ، وَيَأْتِي بِشَوَاهِدِهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَيَذْكُرُ كَلَامَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَّا أَنَّ مَنْحَى الْبَلَاغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ بِالزَّمَخْشَرِيِّ أَخَصُّ، وَمَنْحَى الشَّرِيعَةِ عَلَى ابْنِ عَطِيَّة أغلب، وكلا هما عِضَادَتَا الْبَابِ، ومرجع من بعد هما مَنْ أُولِي الْأَلْبَابِ.
وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْخَوْضِ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّأْوِيلِ، وَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّفْسِيرِ
أَوْ أَخَصُّ مِنْهُ أَوْ مُبَايِنٌ؟ وَجِمَاعُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُمَا مُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ثَعْلَبٌ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ التَّفْسِيرَ لِلْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلَ لِلْمُتَشَابِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ مُحْتَمَلٍ لِدَلِيلٍ فَيَكُونُ هُنَا بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ، فَإِذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الرّوم: ١٩] بِإِخْرَاجِ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ، فَهُوَ التَّفْسِيرُ، أَوْ بِإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ فَهُوَ التَّأْوِيل، وَهنا لَك أَقْوَالٌ أُخَرُ لَا عِبْرَةَ بِهَا، وَهَذِهِ كُلُّهَا اصْطِلَاحَاتٌ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا إِلَّا أَنَّ اللُّغَةَ وَالْآثَارَ تَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ التَّأْوِيلَ مَصْدَرُ أَوَّلَهُ إِذَا أَرْجَعَهُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ اللَّفْظِ هُوَ مَعْنَاهُ وَمَا أَرَادَهُ مِنْهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنَ الْمَعَانِي فَسَاوَى التَّفْسِيرَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ تَفْصِيلُ مَعْنًى خَفِيٍّ مَعْقُولٍ قَالَ الْأَعْشَى:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوَّلُ حُبَّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
أَيْ تَبْيِينُ تَفْسِيرِ حُبِّهَا أَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا فِي قَلْبِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى صَارَ كَبِيرًا كَهَذَا السَّقْبِ أَيْ وَلَدِ النَّاقَةِ، الَّذِي هُوَ مِنَ السِّقَابِ الرَّبِيعِيَّةِ لَمْ يَزَلْ يَشِبُّ حَتَّى كَبِرَ وَصَارَ لَهُ وَلَدٌ يَصْحَبُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الْأَعْرَاف: ٥٣] أَيْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا بَيَانَهُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ،
وَقَالَ ﷺ فِي دُعَائِهِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»
، أَيْ فَهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ،
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاُ
1 / 16
: «كَانَ ﷺ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ»
أَيْ يَعْمَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ٣] فَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي دُعَائِهِ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ وَذِكْرَ لَفْظِ الرَّبِّ وَطَلَبَ الْمَغْفِرَةِ فَقَوْلُهَا «يَتَأَوَّلُ» صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ مِنِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الرِّسَالَةِ وَقُرْبِ انْتِقَالِهِ ﷺ، الَّذِي فَهِمَهُ مِنْهَا عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵄.
1 / 17
الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ
اسْتِمْدَادُ الْعِلْمِ يُرَادُ بِهِ تَوَقُّفُهُ عَلَى مَعْلُومَاتٍ سَابِقٌ وُجُودُهَا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْعِلْمِ عِنْدَ مُدَوِّنِيهِ لِتَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى إِتْقَانِ تَدْوِينِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ بِالِاسْتِمْدَادِ عَنْ تَشْبِيهِ احْتِيَاجِ الْعِلْمِ لِتِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ بِطَلَبِ الْمَدَدِ، وَالْمَدَدُ الْعَوْنُ وَالْغُوَاثُ، فَقَرَنُوا الْفِعْلَ بِحَرْفَيِ الطَّلَبِ وَهُمَا السِّينُ وَالتَّاءُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُذْكَرُ فِي الْعِلْمِ مَعْدُودًا مِنْ مَدَدِهِ، بَلْ مَدَدُهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَقَوُّمُهُ، فَأَمَّا مَا يُورَدُ فِي الْعِلْمِ مِنْ مَسَائِلِ عُلُومٍ أُخْرَى عِنْدَ الْإِفَاضَةِ فِي الْبَيَانِ، مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ إِفَاضَاتِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ فِي «مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ» فَلَا يُعَدُّ مَدَدًا لِلْعِلْمِ، وَلَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ وَلَا يَنْضَبِطْ، بَلْ هُوَ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ تَوَسُّعِ الْمُفَسِّرِينَ وَمُسْتَطْرَدَاتِهِمْ، فَاسْتِمْدَادُ عِلْمِ التَّفْسِيرِ لِلْمُفَسِّرِ الْعَرَبِيِّ، وَالْمُوَلَّدِ، مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُلْتَئِمِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَعِلْمِ الْآثَارِ، وَمِنْ أَخْبَارِ الْعَرَبِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ قِيلَ: وَعِلْمِ الْكَلَامِ وَعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ.
أَمَّا الْعَرَبِيَّةُ فَالْمُرَادُ مِنْهَا مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِ الْعَرَبِ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَدَبِ لُغَتِهِمْ سَوَاءٌ حَصَلَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ بِالسَّجِيَّةِ وَالسَّلِيقَةِ، كَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، أَمْ حَصَلَتْ بِالتَّلَقِّي وَالتَّعَلُّمِ كَالْمَعْرِفَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ شَافَهُوا بَقِيَّةَ الْعَرَبِ وَمَارَسُوهُمْ، وَالْمُوَلَّدِينَ الَّذِينَ دَرَسُوا عُلُومَ اللِّسَانِ وَدَوَّنُوهَا. إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ فَكَانَتْ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ طَرِيقًا لِفَهْمِ مَعَانِيهِ، وَبِدُونِ ذَلِكَ يَقَعُ الْغَلَطُ وَسُوءُ الْفَهْمِ لِمَنْ لَيْسَ بعربي بالسليقة، وَيَعْنِي بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ مَجْمُوعَ عُلُومِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَهِيَ: مَتْنُ اللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفُ، وَالنَّحْوُ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانُ. وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ الْمُتَّبَعَ مِنْ أَسَالِيبِهِمْ فِي خُطَبِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَتَرَاكِيبِ بُلَغَائِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّمْثِيلِ وَالِاسْتِئْنَاسِ لِلتَّفْسِيرِ مِنْ أَفْهَامِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْفُسِهِمْ لِمَعَانِي آيَاتٍ غَيْرِ وَاضِحَةِ الدَّلَالَةِ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»: «وَمِنْ حَقِّ مُفَسِّرِ كِتَابِ اللَّهِ الْبَاهِرِ، وَكَلَامِهِ الْمُعْجِزِ أَنْ يَتَعَاهَدَ فِي مَذَاهِبِهِ بَقَاءَ النَّظْمِ عَلَى حُسْنِهِ وَالْبَلَاغَةِ عَلَى كَمَالِهَا، وَمَا وَقَعَ بِهِ
1 / 18
التَّحَدِّي سَلِيمًا مِنَ الْقَادِحِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَاهَدْ أَوْضَاعَ اللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ تَعَاهُدِ النَّظْمِ وَالْبَلَاغَةِ
عَلَى مَرَاحِلَ» (١) .
وَلِعِلْمَيِ الْبَيَانِ وَالْمَعَانِي مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُمَا وَسِيلَةٌ لِإِظْهَارِ خَصَائِصِ الْبَلَاغَةِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْمَعَانِي وَإِظْهَارِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَانِ الْعِلْمَانِ يُسَمَّيَانِ فِي الْقَدِيمِ عِلْمَ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ قَالَ فِي «الْكَشَّافِ»: «عِلْمُ التَّفْسِيرِ الَّذِي لَا يَتِمُّ لِتَعَاطِيهِ وَإِجَالَةِ النَّظَرِ فِيهِ كُلُّ ذِي عِلْمٍ، فَالْفَقِيهُ وَإِنْ بَرَزَ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي عِلْمِ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ، والمتكلم وَإِن بز أَهْلَ الدُّنْيَا فِي صِنَاعَةِ الْكَلَامِ، وَحَافِظُ الْقِصَصِ وَالْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ مِنِ ابْنِ الْقَرْيَةِ أَحْفَظَ، وَالْوَاعِظُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَوْعَظَ، وَالنَّحْوِيُّ وَإِنْ كَانَ أَنْحَى مِنْ سِيبَوَيْهِ، وَاللُّغَوِيُّ وَإِنْ عَلَكَ اللُّغَاتِ بِقُوَّةِ لَحْيَيْهِ، لَا يَتَصَدَّى مِنْهُمْ أَحَدٌ لِسُلُوكِ تِلْكَ الطَّرَائِقِ، وَلَا يَغُوصُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحَقَائِقِ، إِلَّا رَجُلٌ قَدْ بَرَعَ فِي عِلْمَيْنِ مُخْتَصَّيْنِ بِالْقُرْآنِ وَهُمَا عِلْمَا الْبَيَانِ وَالْمَعَانِي اهـ» (٢) .
وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الزُّمَرِ [٦٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ:
«وَكَمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّنْزِيلِ وَحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ، قَدْ ضِيمَ وَسِيمَ الْخَسْفَ، بِالتَّأْوِيلَاتِ الْغَثَّةِ، وَالْوُجُوهِ الرَّثَّةِ، لِأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَهَا لَيْسَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ عِيرٍ وَلَا نَفِيرٍ، وَلَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْهُ مِنْ دَبِيرٍ» يُرِيدُ بِهِ عِلْمَ الْبَيَانِ.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ»: «وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ عَلَى تَمَامِ مُرَادِ الْحَكِيمِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مِنْ كَلَامِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَى هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ (الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ) كُلَّ الِافْتِقَارِ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ تَعَاطَى التَّفْسِيرَ وَهُوَ فِيهِمَا رَاجِلٌ» .
قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِهِ»: «وَلَا شَكَّ أَنَّ خَوَاصَّ نَظْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ بَلِيغًا سَلِيقَةً، مِنْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ. وَقَدْ أَصَابَ (السَّكَّاكِيُّ) بِذِكْرِ الْحَكِيمِ الْمَحَزِّ، أَيْ أَصَابَ الْمَحَزَّ إِذْ خَصَّ بِالذِّكْرِ هَذَا الِاسْمَ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، لِأَنَّ كَلَامَ الْحَكِيمِ يَحْتَوِي عَلَى مَقَاصِدَ جَلِيلَةٍ وَمَعَانِي غَالِيَةٍ، لَا يَحْصُلُ الِاطِّلَاعُ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ مُعْظَمِهَا إِلَّا بَعْدَ التَّمَرُّسِ بِقَوَاعِدِ بَلَاغَةِ الْكَلَامِ الْمُفْرَغَةِ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ يُنَبِّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ،
_________
(١) اُنْظُرْهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٥] .
(٢) ديباجة «الْكَشَّاف» .
1 / 19
وَقَوْلُهُ فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ تَنْفِيرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ إِذَا شَرَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِهِ
أَخْطَأَ غَالِبًا، وَإِنْ أَصَابَ نَادِرًا كَانَ مُخْطِئًا فِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ اهـ» .
وَقَوْلُهُ تَمَامَ مُرَادِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْمَقْصُودُ هُوَ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ قُرْآنِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا لِيَكْثُرَ الطَّلَبُ وَاسْتِخْرَاجُ النُّكَتِ، فَيَدْأَبُ كُلُّ أَحَدٍ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى غَايَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي نُصِبَ عَلَيْهِ عَلَامَاتٌ بَلَاغِيَّةٌ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ بِحَسَبِ التَّتَبُّعِ، وَالْكُلُّ مُظِنَّةُ عَدَمِ التَّنَاهِي وَبَاعِثٌ لِلنَّاظِرِ عَلَى بَذْلِ غَايَةِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاطِّلَاعِ عَلَى قَدْرِ صَفَاءِ الْقَرَائِحِ وَوَفْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رشد فِي جَوَاب لَهُ عَمَّنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ مَا نَصُّهُ: «هَذَا جَاهِلٌ فَلْيَنْصَرِفْ عَنْ ذَلِكَ وَلْيَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥] إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِخُبْثٍ فِي دِينِهِ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَرَى فَقَدْ قَالَ عَظِيمًا اهـ» .
وَمُرَادُ السَّكَّاكِيِّ مِنْ تَمَامِ مُرَادِ اللَّهِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي الْخُصُوصِيَّةِ، فَمَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: ٥] بِإِنَّا نَعْبُدُكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَمَامِ الْمُرَادِ لِأَنَّهُ أَهْمَلَ مَا يَقْتَضِيهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ مِنَ الْقَصْدِ.
وَقَالَ فِي آخِرِ فَنِّ الْبَيَانِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ»: «لَا أَعْلَمُ فِي بَابِ التَّفْسِيرِ بَعْدَ عِلْمِ الْأُصُولِ أَقْرَأَ عَلَى الْمَرْءِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ مُتَشَابِهَاتِهِ، وَلَا أَنْفَعَ فِي دَرْكِ لَطَائِفِ نُكَتِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَلَا أَكْشَفَ لِلْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ إِعْجَازِهِ، وَلَكَمْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَرَاهَا قَدْ ضِيمَتْ حَقَّهَا وَاسْتُلِبَتْ مَاءَهَا وَرَوْنَقَهَا أَنْ وَقَعَتْ إِلَى مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ، فَأَخَذُوا بِهَا فِي مَآخِذَ مَرْدُودَةٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى مَحَامِلَ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ إِلَخْ» .
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» . فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَجَازِ الْحُكْمِيِّ: «وَمِنْ عَادَةِ قَوْمٍ مِمَّنْ يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَلْبَابَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّمْثِيلِ أَنَّهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا (أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ)، فَيُفْسِدُوا الْمَعْنَى بِذَلِكَ وَيُبْطِلُوا الْغَرَضَ وَيَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَالسَّامِعَ مِنْهُمُ الْعَلِمَ بِمَوْضِعِ الْبَلَاغَةِ وَبِمَكَانِ الشَّرَفِ، وَنَاهِيكَ بِهِمْ إِذَا أَخَذُوا فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ وَجَعَلُوا يُكْثِرُونَ فِي غير طائل، هُنَا لَك تَرَى مَا شِئْتَ مِنْ بَابِ جَهْلٍ قَدْ فَتَحُوهُ، وَزَنْدِ ضَلَالَةٍ قَدْ قَدَحُوا بِهِ» .
1 / 20
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ، فَهُوَ التَّمَلِّي مِنْ أَسَالِيبِهِمْ فِي خُطَبِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَمُحَادَثَاتِهِمْ، لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ لِمُمَارَسَةِ الْمُوَلَّدِ ذَوْقٌ يَقُومُ عِنْدَهُ مَقَامَ السَّلِيقَةِ وَالسَّجِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ «وَالذَّوْقُ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تُدْرِكُ الْخَوَاصَّ وَالْمَزَايَا الَّتِي لِلْكَلَامِ الْبَلِيغِ» قَالَ شَيْخُنَا الْجَدُّ الْوَزِيرُ «وَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ تَتَبُّعِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ فَتَحْصُلُ لِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ بِتَتَبُّعِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْكَلَامِ الْمَقْطُوعِ بِبُلُوغِهِ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ، فَدَعْوَى مَعْرِفَةِ الذَّوْقِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْخَاصَّةِ وَهُوَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى بِحَسَبِ مُثَافَنَةِ ذَلِكَ التَّدَبُّرِ» اهـ.
وَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي قَوْلِهِ الْمَقْطُوعِ بِبُلُوغِهِ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ الْمُشِيرِ إِلَى وُجُوبِ اخْتِيَارِ الْمُمَارِسِ لِمَا يُطَالِعُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْبَلَاغَةِ بَيْنَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، نَحْوَ «المعلقات» و«الحماسة» وَنَحْوَ «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» وَ«مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ» وَ«رَسَائِلِ بَدِيعِ الزَّمَانِ» .
قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» قُبَيْلَ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارَاتِ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ «لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ فِي صِنَاعَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي أُصُولِهَا وَتَفَارِيعِهَا إِلَى مُجَرَّدِ الْعَقْلِ، أَنْ يَكُونَ الدخيل فِيهَا كالناشىء عَلَيْهَا فِي اسْتِفَادَةِ الذَّوْقِ مِنْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الصِّنَاعَةُ مُسْتَنِدَةً إِلَى تَحْكِيمَاتٍ وَضْعِيَّةٍ وَاعْتِبَارَاتٍ إِلْفِيَّةٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَى الدَّخِيلِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، أَنْ يُقَلِّدَ صَاحِبَهُ فِي بَعْضِ فَتَاوَاهُ إِنْ فَاتَهُ الذَّوْقُ هُنَاكَ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ لَهُ عَلَى مَهْلٍ مُوجِبَاتُ ذَلِكَ الذَّوْقِ اهـ» .
وَلِذَلِكَ- أَيْ لِإِيجَادِ الذَّوْقِ أَوْ تَكْمِيلِهِ- لَمْ يَكُنْ غِنًى لِلْمُفَسِّرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لِتَكْمِيلِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الذَّوْقِ، عِنْدَ خَفَاءِ الْمَعْنَى، وَلِإِقْنَاعِ السَّامع والمتعلم الَّذين لَمْ يَكْمُلْ لَهُمَا الذَّوْقُ فِي الْمُشْكِلَاتِ.
وَهَذَا- كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا- شَيْءٌ وَرَاءَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعِلْمُ الْبَلَاغَةِ بِهِ يَحْصُلُ انْكِشَافُ بَعْضِ الْمَعَانِي وَاطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لَهَا، وَبِهِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١]، وَعَرَضَ لَدَيْهِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَوْمٌ عطف مباين، أَوْ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ فَاسْتَشْهَدَ الْمُفَسِّرُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ:
1 / 21
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
كَيْفَ تَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ لِاحْتِمَالِ عَطْفِ الْمُبَايِنِ دُونَ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَكَذَلِكَ
إِذَا رَأَى تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] وَتَرَدَّدَ عِنْدَهُ احْتِمَالُ أَنَّ الْبَاءَ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ أَوْ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلْآلَةِ وَكَانَتْ نَفْسُهُ غَيْرَ مُطْمَئِنَّةٍ لِاحْتِمَالِ التَّأْكِيدِ إِذْ كَانَ مَدْخُولُ الْبَاءِ مَفْعُولًا فَإِذَا اسْتُشْهِدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا ... وَأَصْبَحَ جَدُّ النَّاسِ يَظْلَعُ عَاثِرًا
وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
فَكُلُّنَا مُغْرَمٌ يَهْوَى بِصَاحِبِهِ ... قَاصٍ وَدَانٍ وَمَحْبُولٍ وَمُحْتَبَلِ
رَجَحَ عِنْدَهُ احْتِمَالُ التَّأْكِيدِ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِلتَّأْكِيدِ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
رَوَى أَئِمَّةُ الْأَدَبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ [النَّحْل: ٤٧] ثُمَّ قَالَ مَا تَقُولُونَ فِيهَا أَيْ فِي مَعْنَى التَّخَوُّفِ، فَقَامَ شَيْخٌ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ: هَذِهِ لُغَتُنَا، التَّخَوُّفُ التَّنَقُّصُ، فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي كَلَامِهَا؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكًا قَرِدًا ... كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ (١)
فَقَالَ عُمَرُ: «عَلَيْكُمْ بِدِيوَانِكُمْ لَا تَضِلُّوا، هُوَ شِعْرُ الْعَرَبِ فِيهِ تَفْسِيرُ كِتَابِكُمْ وَمَعَانِي كَلَامِكُمْ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْنَا الْحَرْفُ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِلُغَتِهِمْ رَجَعْنَا إِلَى دِيوَانِهِمْ فَالْتَمَسْنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مِنْهُ» وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ الشِّعْرَ إِذَا سُئِلَ عَنْ بَعْضِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ السِّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَة: ٢٥٥] فَقَالَ النُّعَاسُ وَأَنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ:
لَا سِنَةَ فِي طُوَالِ اللَّيْلِ تَأْخُذُهُ ... وَلَا يَنَامُ وَلَا فِي أَمْرِهِ فَنَدُ
وَسُئِلَ عِكْرِمَةُ مَا مَعْنَى الزَّنِيمِ؟ فَقَالَ هُوَ وَلَدُ الزِّنَى وَأَنْشَدَ:
زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَنْ أُبُوهُ ... بَغِيُّ الْأُمِّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمُِ
_________
(١) التامك: السنام، وقرد بِفَتْح الْقَاف وَكسر الرَّاء: كثير القراد، والسفن- بِفتْحَتَيْنِ- الْمبرد.
1 / 22
فَمِمَّا يُؤْثَرُ (١) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ﵀ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَمَثُّلِ الرَّجُلِ بِبَيْتِ شِعْرٍ لِبَيَانِ مَعْنًى فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: «مَا يُعْجِبُنِي» فَهُوَ عَجِيبٌ، وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ كَرَاهَةَ أَنْ يَذْكُرَ
الشِّعْرَ لِإِثْبَاتِ صِحَّةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ (٢) (وَكَانَ يُزَنُّ بِالْإِلْحَادِ) قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: «أَتَقُولُ الْعَرَبُ لِبَاسُ التَّقْوَى» فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَا بَاسَ لَا بَاسَ، وَإِذَا أَنْجَى اللَّهُ النَّاسَ، فَلَا نَجَّى ذَلِكَ الرَّاسَ، هَبْكَ يَا بن الرَّاوَنْدِيِّ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا أَفَتُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا عَرَبِيًّا؟» .
وَيَدْخُلُ فِي مَادَّةِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ مَا يُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي فَهْمِ مَعَانِي بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَى قَوَانِينِ اسْتِعْمَالِهِمْ، كَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
«قُلْتُ لِعَائِشَةَ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ-: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى. إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: ١٥٨]، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ اهـ»، فَبَيَّنَتْ لَهُ ابْتِدَاءَ طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَمَا وَهِمَهُ عُرْوَةُ ثُمَّ بَيَّنَتْ لَهُ مَثَارَ شُبْهَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنِ السَّاعِي الَّذِي يُصَدِّقُ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَالْمَعْنِيُّ بِهَا مَا نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ بَعْضِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعِ الْإِشْكَالِ وَالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ جِبْرِيلُ»، وَقَالَ مَعْنَاهُ فِي مُغَيَّبَاتِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِ مُجْمَلِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بتوقيف، قلت: أَو كَانَ تَفْسِيرًا لَا تَوْقِيفَ فِيهِ، كَمَا بَيَّنَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ هُمَا سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ، وَقَالَ لَهُ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ
_________
(١) ذكره الألوسي.
(٢) توفّي سنة ٢٤٠ هـ.
1 / 23