بريطانيا العظمى في مصر
نكون مخطئين إذا قلنا بأن «المراكز الكاذبة» في السياسة تضر ولا تنفع لأن الحقيقة هي أن السياسة لا تعيش إلا بهذه المراكز ونحن نعلم أن العالم الأخلاقي لا يرضى بمثل هذه القاعدة السياسية؛ ولذلك فنحن ننصح القارئ هنا بمثل ما نصحناه به في أوائل هذا الكتاب وهو أن لا يحاول أن يسير بالسياسة في الطريق التي يسير عليها الناس في حياتهم الخاصة؛ لأنه يتعب ويفشل ولا يصل إلى نتيجة ترضيه، فإننا مثلا في الحياة الخاصة نقول بأن كل من يتظاهر بما ليس فيه أو يشغل مركزا كاذبا يكون دائما عرضة للخيبة والسقوط فيجب على الفرد أن يفر من تينك الصفتين وإذا رماه سوء طاله طالعه في مركز كاذب أو اضطر إلى الادعاء بما ليس فيه فينبغي له أن يضحي كل نفيس وغال ليخلص من إحدى الورطتين.
ولكن الأمر ليس كذلك في السياسة، فإن الدول كثيرا ما تضطر للدخول في «مركز كاذب»؛ لأن البساطة والبلاهة في السياسة لا تجدي نفعا. فلنترك العالم الأخلاقي يصرخ بأعلى صوته لأننا لا نستطيع أن نطيع أوامره أو نسمع نصحه؛ لأننا مضطرون إلى أن نقول ما نسميه في الحياة الخاصة «كذبا وبهتانا»، ونسميه في السياسة «تساهلا وتسامحا»، وكل من له أدنى إلمام بتاريخ الأمم يعلم أن كل أعمالها السياسة كانت مملوءة كذبا وبهتانا وكلاما فارغا ومراكز كاذبة؛ لأن هذه الأشياء كلها ربما كانت الطرق الوحيدة لحل العقد التي لا يجسر على قطعها السيف، وكثيرا ما حلت مسائل معضلة بالمراكز الكاذبة والأباطيل والأضاليل ولولا تلك المراكز الكاذبة وتلك الأباطيل لكسرت النصال على النصال بدون أن تصل الدولة إلى غايتها. ولسنا في حاجة إلى أن نتعب القارئ بأن نأتي له بعدة شواهد من التاريخ إنما نسأله أن يلقي نظرة واحدة على الوزارة الإنكليزية، فإنها هي في الحقيقة التي تحكم بريطانيا العظمى، ولكن أوسع الناس علما في تاريخ الحكومات ونظاماتها وأبرعهم قدرة على البحث في الدفاتر والأوراق والقوانين لا يستطيع أن يجد كلمة واحدة مكتوبة تشير إلى الاعتراف بالوزارة الإنكليزية كحاكمة للإمبراطورية البريطانية أو بوظيفة رئيس الوزارة.
على أننا نعلم بلا ريب أن الوزارة هي الحاكمة المطلقة، ولكن شرائع البلاد لا تعترف بها بكلمة واحدة.
وبهذه «الطريقة الخيالية» نفسها استطاعت إنكلترا أن تجعل حكومتها دستورية ونصبت لها ملكا مطلقا في يده كل شيء، ولكن هذا الملك يعلم حق العلم أنه لا يقدر أن يستعمل تلك القوة المطلقة، وفي قدرتنا أن نأتي للقارئ بألف مثال لا تؤيد تلك القاعدة «فقط» وتجيز استعمال المراكز الكاذبة في السياسة بل تجعلها واجبة وضرورية أيضا.
وبناء على ذلك يحق لنا أن نترجل عن «جواد الأخلاق الفاضلة»، وأن نكف عن لوم الدول التي اضطرت لاستعمال المراكز الكاذبة ورب مضطر كان غير ملوم.
كلنا يعلم أن إنكلترا وعدت مرارا كثيرة وعودا صريحة بأنها تنوي أن تنجلى عن مصر
1
ولكنها ليومنا هذا لم توف بوعد من وعودها، ونحن لا نريد أن ننظر إلى ما وصمت به إنكلترا نفسها من إخلاف الوعود ونقض العهود من جهة «الفضيلة»، فإن مثل هذا النظر لا يفيد إلا المرجفين الذين يودون تحقير إنكلترا وتصغير شأنها ووصفها بكل الصفات المعيبة، ولكنه لا ينفع الحكيم العاقل الطيب النية الذي يريد أن ينظر إلى الأشياء بعين التعقل والحكمة.
وكل ما نود أن نعلم الآن هو هل بقاء إنكلترا في مركزها الكاذب بمصر يفيدها وينفعها؟
Unknown page