إهداء الكتاب
كلمتان كبيرتان
مقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
1 - الدول العظام والمسألة المصرية
2 - فرنسا وإيطاليا
3 - سياسة بريطانيا الاستعمارية
4 - المركز الكاذب
5 - المصريون و«حياد» مصر
الخاتمة
رأي الطان في «تحرير مصر»
إهداء الكتاب
كلمتان كبيرتان
مقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
1 - الدول العظام والمسألة المصرية
2 - فرنسا وإيطاليا
3 - سياسة بريطانيا الاستعمارية
4 - المركز الكاذب
5 - المصريون و«حياد» مصر
الخاتمة
رأي الطان في «تحرير مصر»
تحرير مصر
تحرير مصر
تأليف
أ. ز.
ترجمة
محمد لطفي جمعة
إهداء الكتاب
إلي الشعب المصري الكريم ...
كلمتان كبيرتان
1
لست ممن يقولون بأن مصر مدينة للإنكليز في كل ما سبب التقدم الذي بلغته منذ سنة 1882، إنما أنا أول من يعترفون بالأعمال النافعة التي قام بأعبائها الوطنيون والأجانب غير الإنكليز في سبيل إنهاض البلاد وإقالة عثرتها. ولا أعتقد أن نجاح مصر النهائي متوقف على بقاء النفوذ البريطاني فيها بشكله الحاضر أمدا غير محدود.
صحيفة 167 «كتاب إنجلترا في مصر» تأليف اللورد ملنر
2
إن حكم مصر بالمصريين هو الغرض الوحيد الذي يسعى إليه الإصلاح والمصلحون.
صحيفة 9 تقرير اللورد كرومر عن مصر والسودان في 1904
مقدمة المعرب
أيها القارئ الكريم:
إنا لا نعرف واضع هذا الكتاب، وقد قيل منذ أيام في الصحف الأجنبية التي تصدر في مصر إنه يظن أن واضعه من كبار الساسة الغربيين.
على أن الكتاب بليغ في لغته متين في أسلوبه، وكأن واضعه قد شاء أن يكون كتابه «قضية منطقية» فكان ... فإنك لا تزال تتنقل فيه من مقدمة إلى نتيجة ومن حقيقة إلى حقيقة ومن دليل إلى برهان حتى يخيل لك أن الكاتب لم يغادر في كتابه صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسياسة الدولة كافة في مصر إلا أحصاها.
ويعز علينا أن نقول إن هذا الكتاب ليس إلا «كأس ملام» يسقيه الأجنبي لأفاضل مصر وعلمائها الذين أسكتهم الكسل وقبض الخمول على أقلامهم بيد من حديد. فلعل الذين سكتوا حتى تكلم عنهم غيرهم بلسان غير لسانهم لا يسكتون مذ اليوم، ولعل هذا الكتاب يكون مقدمة لغيره من أقلام أبناء هذه البلاد ليبرهنوا للملأ أن همتهم لم تثبط وأن الآمال التي كانت تجول في صدورهم لا تزال حية لم تمت.
حديقة الحلمية
30 يناير سنة 1906
مقدمة المؤلف
لقد صدق اللورد ملنر في قوله: «إن مصر بلد التناقض والتخالف، فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مصر من الحقائق والأفكار المتناقضة المتباينة، وقد يصل هذا التناقض إلى حد مدهش فيصير مضحكا.»
فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبها أبدا متوفيا لئلا يلقيه حسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم، ويليق بمن يمعن النظر في تاريخ مصر في القرن الماضي ويرغب أن يخرج منه وهو على بينة من أمر تلك البلاد أن يكون قوي العزيمة ثابت الجأش، فإنه إذا أراد أن يطالع عشر الكتب والرسائل التي شوه فيها كاتبوها تاريخ مصر تشويها قبيحا يرى نفسه في حاجة شديدة إلى جهاد قوي يستطيع به أن يقاوم تأثير تلك الكتب التي ما كتبت إلا لتكون سهاما تصيب أغراض أصحابها، فينبغي للمطالع العاقل أن يقف موقف الحكيم فيتمكن بعد عناء شديد من الوقوف على شيء من الحقيقة؛ لأن كل ما كتب عن مصر من رسائل وكتب لم يكتب إلا ليكون لسان حال دولة من الدول التي لها في وادي النيل نفع أو ترجو منه خيرا. فمثلها كمثل الصحف السياسية التي تبتذل الحقائق حبا بالمطامع الشخصية والمنافع الذاتية؛ من أجل هذا لم تأت هذه الكتب بنفع يذكر وجلبت ضررا لا يقدر.
فيجب إذن على المراقب العادل أن يمسح لوح فكره، وأن يزيل ما كتب في صحيفة صدره من معاني التحزب لفريق دون آخر، أو التحامل على فئة دون فئة، فإن التغرض والتعصب والتحامل والمدح والقدح والطعن لا تؤدي جميعها إلا إلى الجدل الباطل الذي يضر ولا ينفع، وقد رأينا نتائج ذلك الجدل الباطل وهي أنه هاج سخط الوطنيين وحرك مراجل عواطفهم حينا من الدهر كما تهيج الخمر شاربها، ولكنه لم يؤثر أقل تأثير في الدول الأجنبية صاحبة المنافع والمآرب في وادي النيل.
ونحن نرى أن أول واجب على الكاتب إذا أراد أن يفحص المسألة المصرية فحصا جيدا ويكتب عنها كتابا نافعا يصور فيه البلاد وأهلها كما هم هو أن يعرف الشعب النازل على ضفاف النيل حق المعرفة، وأن يعلم أن هذا الشعب خليط من وطنيين ودخلاء وأجانب، وأن لكل طائفة من الطوائف التي يتكون منها هذا الخليط دينا ولغة ومبادئ ومنافع خاصة بها، وأن كل تلك الديانات واللغات والمبادئ والمنافع مهما تباينت فإن أصحابها لا يرون أمامهم إلا غرضا واحدا هو التماس الرزق والكسب، وأن يعلم أن كل دولة أوروبية لها في مصر غرض تسعى لتدركه ويختلف سعي هذه الدول باختلاف نفوذها في أرض الفراعنة قوة وضعفا.
فإذا حالت هذه الصعوبات بأسرها ووقفت في طريق المطالع المؤرخ الراغب في أن يؤلف عن مصر رأيا واضحا عادلا مستندا فيه إلى تاريخها الماضي، فكيف بمن يرغب أن يتخذ تاريخ مصر الماضي مرقاة ووسيلة للحكم على مستقبلها؟ بيد أن من يطالع كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر لا يجد أمامه إلا حقائق متباينة متخالفة، ولئن كان هذا التناقض والتخالف هو مادة تلك الكتب، فإن ذلك يكون من حسن حظ القارئ، ولكن مؤلفي كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر جعلوها مجموعة للحقائق الناقصة؛ لذلك يحتاج المطالع إلى قوة فكرية كبيرة وقدرة عقلية هائلة يستطيع بهما أن يزن الأقوال والبراهين، فيتمكن بعد عناء شديد من حل الشلة المعقدة التي يسميها السياسيون والصحافيون بالمسألة المصرية.
وإذا منح المطالع قوة يميز بها بين الغث والسمين وبين الحقيقة والخيال، وكانت في غريزته قوة خارقة للعادة تخرق حجب الباطل حتى تصل إلى الحق، فإنه ولا جرم يبلغ نتيجة ترضيه ويقف على حقائق كثيرة لم يقف عليها غيره، فإذا وقف على تلك الحقائق فقد خطا الخطوة الأولى ولم يبق عليه إلا أن يلم بتأثير العوامل الخارجية والداخلية التي لها في حالة مصر السياسية وهيئتها الاجتماعية أيد فعالة، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للمطالع أن يهتدي إلى الحكم على مستقبل تلك البلاد. وغرضنا في هذا الكتاب أن نحاول جهد طاقتنا أن نشرح الحاضر ونتكهن بكنه المستقبل.
وقد وطدنا النفس على الثبات وسنزن أقوالنا في ميزان الحكمة والعقل، ونرجو أن لا يميل هذا الميزان مع هوى أو يعدل عن حق، ولعل المحك الذي سنحك عليه ما نكتب لا يخدعنا كما خدع غيرنا فننطق عن جهل كما نطق سوانا من قبل.
على أننا لا نستطيع أن نبلغ هذه الغاية إلا إذا وقفنا على تاريخ مصر بالتفصيل في خلال الثلاثين سنة الماضية، ولا ندرك هذه النتيجة إلا إذا قدرنا نفوذ إنكلترا وفرنسا في مصر حق قدرهما، ولا نستطيع نيل هذه النتيجة إلا إذا وسعنا نطاق دائرة الفكر وتخلصنا من آراء التحزب والتحامل المنبعثة عن كل مسألة سياسية خطيرة مثل المسألة المصرية، وغضضنا النظر عن المنادين بالوطنية رياء وكذبا لأغراض أخرى في نفوسهم ولبانات يتوقعون قضاءها.
فإذا استعددنا هذا الاستعداد لفحص تلك المسألة فنكون قد وضعناها في مكان تشرق عليها فيه أنوار الحقيقة، ونظرنا لها بمنظار المؤرخ السياسي الحكيم الذي يراعي الحقيقة ويحرص على منفعة البلاد حرص الجبان على نفسه قبل أن يراعي المبادئ الذاتية والأغراض الشخصية.
ولذلك سنلقي نظرة صغيرة على تاريخ مصر في تلك السنين الثلاثين ونضع أساسا متينا نبني عليه (تخت رمل) ننظر فيه نظر المنجم إلى طالع هذه البلاد، ونتكهن بما تخبئه لها الأيام والليالي.
وأول ما ينبغي لنا أن ننظر فيه هو علاقة فرنسا بمصر، وألا نبخس هذه الدولة حقها، فإن نفوذها يمتد إلى عهد حملة نابوليون سنة 1798، فكانت فرنسا أول دولة غربية مدت يدها إلى مصر وسعت للاستيلاء عليها، ولئن خاب سعيها فإنها فازت فوزا مبينا في ترك آثار لها في مصر لا يمحوها كرور الأيام ومرور الأعوام، وليس لدينا شهادة أكبر وأقوى من شهادة اللورد ملنر صاحب كتاب «إنكلترا في مصر»، فإنه قال فيه: «إن المنافع المادية والأدبية التي تمت لمصر على أيدي فرنسا كثيرة لا تحصى.»
فنحن لا نظن أن الذين ينكرون جميل فرنسا أكثر من الذين يعترفون به، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن المدنية المصرية الحديثة هي مدنية فرنسوية صرفة، ويكفي لتصديق هذا القول أن نلقي نظرة واحدة على أعمال فرنسا في هذه البلاد، فمن من العالمين لم يسمع باسم فرنكو شامبوليون الذي سهل لنا باجتهاده وثباته قراءة تاريخ مصر القديم باللسان الهروغليفي، وأضاف باكتشافه حلا لتلك الرموز إلى مصر شهرة فوق شهرتها السابقة، وجعلها ملتقى الأنظار ومحط الرحال، ومن ينكر أن إصلاح الري في عهد محمد علي وبناء القناطر الخيرية وعمل الخزانات لخزن ماء النيل، وأن كل ما نراه اليوم في مصر مما يتعلق بالانتفاع بماء النيل ليس إلا من عمل المهندسين الفرنسويين الذين كانوا عضد محمد علي ويده اليمنى.
ومن ينكر أن المهندسين الفرنسويين كانوا قائمين بكل الأعمال الهندسية عندما كان المستخدمون الفرنسويون قائمين بالأعمال الإدارية؛ بل من ينكر علينا أن قنال السويس - وهو أكبر عمل فني تم في القرن التاسع عشر - هو من صنع الفرنسويين فكرا وعملا؟ فيرى القارئ مما تقدم أن الإصلاح الذي جلب لمصر أكثر من نصف ثروتها الحاضرة ليس إلا من غرس الفرنسويين وما جاء الإنكليز إلا منفذين ومكملين.
هذا ومن يفحص نظام التعليم الحالي في مصر يرى لأول وهلة أنه منقول عن نظام التعليم الفرنسوي، وأكبر دليل على ذلك هو سيادة اللغة الفرنسوية على كل لغة أخرى في مصر، فإنها لا تزال لغة مصر الرسمية ولا تزال اللغة المحكية بين الخاصة من المتعلمين، ولا نرى دليلا على وصول المدنية الفرنسوية إلى قلوب المصريين أكبر من بلوغ لسانهم هذا الشأو البعيد في وادي النيل، وقد سرى هذا النفوذ إلى بعض المستخدمين من الإنكليز، فهم لا يزالون حتى اليوم يكتبون أوراقهم الرسمية باللغة الفرنسوية!
ولكن الذي يذكر عن فرنسا بالثناء والشكر هو أنها لم تكن تعمل في وادي النيل لتمتص ثروة البلاد، فإن الفرنسويين أفرغوا جهدهم ولم يدخروا وسعا في القيام بأعمال توازي ما يأخذونه من مال مصر وتزيد، ومن المعلوم أن ثروة مصر منذ خمسين سنة لم تكن كافية لتمهد لها سبيل التقدم الباهر الذي وصلت إليه، فمدت أوروبا يدها بالمال لمساعدة مصر وأقرضتها أكثر من مائة ألف ألف جنيه، فكانت فرنسا أول ملبية لدعوة مصر، وكان معظم هذا القدر الجسيم من مال الفرنسويين.
وقد يصعب علينا كثيرا أن نهتدي إلى كل المنافذ التي نفذت إليها المدنية الفرنسوية في مصر، فإنا لا نجد مجالا في مصر ماديا كان أو أدبيا إلا ونرى للفرنسويين فيه جولة، ونخص بالذكر العلماء الفرنسويين الذين تركوا في كل واد أثرا من آثارهم.
وأعظم الآثار النافعة التي تركها الفرنسويون في مصر تلك المدرسة الكبرى المسماة ب «متحف الآثار» الذي يديره الرجل الفاضل المسيو ماسبرو العالم (الأجيبتولوجيست) الشهير ومؤلف كتاب «تاريخ مصر القديم» الذي هو من أمهات الكتب التي يرجع إليها في تاريخ مصر.
وحسب القائلين بأن الفرنسويين لا يحسنون إدارة المستعمرات لأنهم ليسوا مستعمرين بطبيعتهم ما ذكرناه من أعمال فرنسا وأبنائها في أرض الفراعنة دليلا واضحا وبرهانا بينا، فمن الجهل أن يعترض على المصريين لأنهم أحبوا فرنسا والفرنسويين بعد أن تشبعوا بأفكارهم وآرائهم، وبعد أن امتزجوا بهم امتزاج الماء بالراح.
ويكفينا أن نقول إن حب المصريين لفرنسا هو أكبر دليل على قوة فرنسا والفرنسويين على الاستعمار وتوثيق عرى الوداد بينهم وبين أهل البلاد التي يستعمرونها.
لقد رأينا الآن تأثير فرنسا في مصر ونحن نرى أن ما ذكرناه عن تأثير فرنسا في مصر كاف لغرضنا الذي نسعى إليه، فنحن لا نحتاج بعد ما تقدم لي تتبع أدوار السياسة الفرنسوية في مصر أو إلى البحث في السياسة التي اتبعها كل وزير فرنسوي في أثناء نفوذ هذه الدولة في وادي النيل، ولا نرى للقارئ نفعا فيما إذا كانت سياسة دي فريسينه سابقة لأوانها أو أنها سياسة رجل متراخ كسول أو سياسة مجنون متهور، فإن لدينا ما هو أهم من مثل تلك الأبحاث وهو أن ننظر في سياسة فرنسا مراعين سياسة إنكلترا، فنقول: إذا استطعنا أن نقرأ قصة احتلال إنكلترا لمصر كما كتبها من امتلأت قلوبهم حقدا من الكتاب على إنكلترا وانطوت جوانبهم على بغضها دون أن نقرأ ما يتخلل السطور؛ بل إذا استطعنا أن ننسى كل ما عرفناه عن الاحتلال وأسبابه وقرأنا هذه القصة على نحو ما يقرأ التلميذ درسه، أي بلا ريب في صدقها ولا احتراس من الوقوع في الأحبولة التي نصبها لنا مؤلفوها، فإننا نقوم لا محالة بعد قراءتها ونحن نسب الأرض والسماء قائلين: «ما أظلم الإنسان وما أشد قسوته على أخيه وما أبشع جوره عليه.»
أجل إننا لو قرأنا قصة احتلال إنكلترا لمصر كما يكتبها هؤلاء الكتاب الناقمون الحاقدون لدهشنا من تلك الجزيرة الصغيرة التي أخرجت ذلك العدد الكبير من السياسيين الذين قاموا بأعمال ودبروا مكايد سياسية يعجز عن أمثالها «ماكيافيلي» على ما اشتهر به من التفنن في أساليب الخداع والبراعة في أنواع الغدر بالأمم لمصلحة الملوك.
نعم إن «ماكيافيلي» نفسه لو بعث حيا لخجل من أعمال هؤلاء الساسة؛ بل إن خجله ينقلب حقدا وحسدا لهؤلاء الساسة الإنكليز الذين فاقوه في المكر وأربوا عليه في ميدان الغدر.
هذا ما يخطر ببالنا بعد أن نقرأ القصة ولكننا نعود فلا نتمالك من الدهشة، وقد نرى أن هؤلاء الساسة أنفسهم لم يتجاوز غدرهم وخيانتهم الحد المحدود في السياسة في كل معاملاتهم الأخرى مع أمم العالم وممالكه كافة، فكأن خداعهم لم يكن إلا لاحتلال مصر وكأن غدرهم ومكرهم لم يخلقا فيهم إلا لينالوا بهما مآربهم في وادي النيل!
عند ذلك يبلغ الدهش والاستغراب من القارئ حدا كبيرا.
على أن عددا عظيما من الناس في أوروبا لا يزالون يعتقدون صدق هذه القصة، ولا يزالون يقرءون هذه الكتب الكاذبة التي يتهم فيها كتابها الأبرياء بما ليس فيهم، والأغرب من هذا هو أن هؤلاء القراء لا يدور في خلدهم أن تلك الكتب لم تكتب إلا لتشعل نار غضب العقلاء وتسيل دموع ضعاف القلوب ممن لا يرون سلب حرية شعب من العدل في شيء، ولئلا نتهم بما اتهم به كتاب هذه الكتب فقد قصدنا في هذا السفر أن نبتعد جهد طاقتنا عن أي قول تشتم منه رائحة الملام أو الاتهام.
ولا نتطال إلى أن نؤنب أية دولة على ما اقترفته في الماضي؛ فإن ما فات فقد فات ولذلك نرى من الواجب علينا أن نعلن على رءوس الأشهاد أن الظن بأن إنكلترا كانت تدبر لمصر سياسة غدر وخيانة ظن سيء فاسد مبني على جهل القائلين به.
ولذلك ستظهر للملأ أن مصر لم تكن في زمن من الأزمان الغابرة العامل الأول في سياسة إنكلترا الخارجية، وأن ما اتخذته إنكلترا من الذرائع في مصر لم يكن إلا من الضرورة والاحتياج لاتساع نطاق السياسة البريطانية في الشرق فصارت مصر حينئذ عاملا مهما من عوامل السياسة البريطانية الخارجية ولكنها لم تكن غرض إنكلترا الوحيد.
ورغم كل هذه الحقائق فإن التهم التي ألصقت بوزارة خارجية إنكلترا ظلما لم تزل ولن تزال بدون دحض ولا نقض.
وسنبحث فيما إذا كانت إنكلترا قد انتهزت في الحقيقة فرصة الحركة العرابية لتضع يدها على مصر كما انتهزت أية دولة قوية ضعف جارتها، أو أن ذلك الاحتلال جاء عفوا صفوا، ثم نبحث فيما إذا كان هذا التداخل الإنكليزي قد ألحق بمصر نفعا أو ضرا. بعد أن بررنا هذا التداخل والتمسنا لإنكلترا فيه عذرا لدخولها في ميدان الاستعمار الذي جعل احتلال مصر ضربة لازب، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ إنكلترا ومستعمراتها يذكر أن إنكلترا قامت نحو سنة 1757 بأعمال سياسية وحربية في الهند استمرت سبع سنوات، تمكنت بريطانيا عقبها من القبض على صولجان السيادة في ولايات الهند الشمالية الشرقية كافة، فكتب على مصر من ذاك الحين أن تكون عاملا مهما في سياسة إنكلترا الاستعمارية، على أن مصر كانت لها أهمية تجارية قبل ذلك العهد، وهي أنه قبل افتتاح قنال السويس كانت معظم التجارة المستعجلة الآتية من الغرب إلى الشرق تنتهي إلى الإسكندرية، ومن هناك تحمل على ظهور الجمال إلى ثغر السويس.
ومن هنا تظهر أهمية مصر التجارية قبل افتتاح ترعة السويس نفسه، ومن يتتبع تاريخ التجارة بين الشرق والغرب يلاحظ أن طريق البحر الأبيض كان يدخل في دور الأهمية سنة عن سنة، ويتجلى له أن عدد المسافرين الذين كانوا ينزلون مصر قبل سفرهم إلى الشرق الأقصى كان يزيد عاما فعاما، وفي سنة 1780 ازدادت قوة إنكلترا في الهند وساعدها الحظ فحصلت على ولاية كارناتيك، فأصبح الاستيلاء على مصر في مقدمات الأمور المهمة لضمان بلاد الهند.
ثم رأت إنكلترا أن أملاكها ومستعمراتها في أفريقية لا تكون أبدا في مأمن من غارة الأعداء إلا إذا ضمت إليها بلاد الكاب، ثم نظرت فشهدت العلم الفرنسوي يخفق فوق جزيرة موريتيس فهاج من ذلك سخطها ولحقها الجزع لعلمها أن جزيرة موريتيس «ركن خطر»، وإن بقاءها في يد دولة معادية أيا كانت يعرض إنكلترا لأخطار دائمة، فلو بقيت فرنسا في تلك الجزيرة فإنها تتمكن في أي حين من أن تبعث بسفن حربية من سفنها لمناوأة السفن البريطانية، أو أن تبعث بثلة من جندها لسلب السفن البريطانية التجارية.
وغني عن البيان أن إنكلترا لم تكن لتتحمل كل تلك المتاعب إذا أرادت أن تتوسع في سياستها الاستعمارية، فهل تلام إنكلترا إذن إذا كانت لا تدخر وسعا في امتلاك بلاد الكاب وجزيرة موريتيس؟ أفنسمي سياسة دولة تنظر في العواقب وتحسب للمستقبل ألف حساب سياسة مكر وخداع؟
ألا نعلم أن السياسة الدولية مبنية على الأنانية وحب الأثرة وتفضيل الذات على الغير، وأن الدولة التي تفضل دولة أخرى على نفسها تداس بالأرجل وتسقط في أقرب زمان.
على أن المقام لا يسمح لنا بالإفاضة في هذا البحث والنظر فيما إذا كانت سياسة الاستعمار التي تتخذها كل دولة لتوسيع أملاكها سياسة حكيمة عادلة مبنية على الفضيلة وحب الخير للإنسانية أم لا، وكل ما نقول هو إن الاستعمار قد أصبح الغرض الوحيد الذي تسعى إليه كل الدول، فلم تبق دولة من دول العالم وضربت فيه بسهم، فإن كانت سياسة الاستعمار جديرة باللوم والذم فإن الدول جمعاء جديرة بهما، ومن الظلم أن نرى عيوب دولة ونغض الطرف عن عيوب دولة أخرى.
وغني عن البيان أننا لا نبرر استيلاء إنكلترا على الهند لأننا لا نرى لها حقا أدبيا في ذلك، ولكن إذا كانت إنكلترا قد وضعت يدها فإنها لا تستطيع أن ترى وهي قريرة العين هادئة البال عدوا قويا ذا بأس شديد كفرنسا على قيد ذراع من الطريق إلى الهند؛ لأن مثل هذا العدو في آونة الحرب الحقيقية يمكنه أن يضرب إنكلترا في مستعمراتها ضربة قاضية قبل أن تصل النجدة الحربية إلى نصف الطريق من ثغر بليموث إلى البحار الهندية.
فإذا كان هذا اهتمام إنكلترا بجزيرة صغيرة في وسط المحيط الهندي فكيف باهتمامها بمصر؟ يرى المتأمل أنه من المستحيل أن ترضى إنكلترا باحتلال نابوليون وادي النيل؛ لأن مثل هذا الاحتلال كان ينذرها بضياع أملاكها في الهند في أقل من لمح البصر، فكانت واقعة أبي قير هي الكلمة الفاصلة بين إنكلترا ونابوليون، وبانتصار الإنكليز وهزيمة بونابرت عادت الطمأنينة إلى قلب إنكلترا لأنها أمنت على مصر وهي أقرب واسطة بين الغرب والشرق.
ونحن لا نرى في عمل إنكلترا لنجاة طريق الهند ختلا أو خداعا، فإن ما عمدت إليه إنكلترا من الأسباب كانت تعمد إليه كل دولة في أمثال هذه الأحوال.
ولو كانت إنكلترا تضمر لمصر شرا من قديم كما يقول المكابرون لانتهزت فرصة فوزها على نابوليون في أبي قير واستولت على مصر، وربما يرد بعضهم علينا بقوله: إن إنكلترا كانت في ذلك العهد ضعيفة في داخليتها فلم تر في نفسها الكفاءة للتغلب على بلاد كمصر، أو أنها لم تجد من نفسها ميلا لاحتلال هذه البلاد خوفا من عودة نابوليون إليها بقوة وشدة.
وسنقص على القارئ الكريم في الحوادث التي وقعت بعد هذه الحادثة ما يفسر لنا إحجام إنكلترا عن احتلال مصر في ذلك الحين تفسيرا مرضيا، على أن إنكلترا بعد واقعة أبي قير بقيت ساكتة عن مصر أربعين سنة.
وتفسير هذا السكوت هو أنها لا ترى فائدة في الحركة والعمل إذا لم يكن هناك موجب لهما، وما دامت مصر في ضعف وقراها في انحلال، وما دامت ليست في يد قوية، فإنكلترا مطمئنة من جهتها كل الاطمئنان، واستمر هذا السكوت حتى جاء محمد علي، وظهر منه أنه يستطيع تهديد مركز إنكلترا في الشرق ويعيد إلى الحكومة الإنكليزية الآلام التي سببها لها نابوليون، فنهضت إنكلترا حينئذ للعمل وتداخلت في شئون محمد علي وهو في قمة مجده، على أننا لا نرى أن إنكلترا ملومة فيما عملته مع محمد علي، ولا نرى وجها لانتقادها انتقادا شديدا كما يصنع سوانا.
فإن أعمال إنكلترا لم تكن إلا دفاعا عن نفسها وحفظا لمركزها السياسي، ونحن لا نؤيد رأي القائلين بأن إنكلترا رأت من الحكمة أن تقتل «الفرخة قبل أن تخرج من البيضة» بأن تفسد ما أصلحه محمد علي لتوقف مصر عند حدها ولا تسمح لها بالتقدم في طريق المدنية، ولكننا نقول بأن إنكلترا لم يرق في عينها أن ترى محمدا علي سائرا بمملكته وشعبه في طريق التقدم، وتنظر بسكون وهدوء اليوم الذي تعادل فيه قوة محمد علي قوة نابوليون الكبير ويعود التعقيد إلى مسألة الهند وطريقها.
لأنه كان من المستحيل على الحكومة الإنكليزية أن تغير سياستها الاستعمارية التي قضت في تدبيرها السنين الطويلة حبا بالإنسانية وإكراما لخاطر مصر والمصريين. إن إنكلترا لا تطيق أن ترى في مصر يدا قوية غير يدها، وبذلك تستوي عندها يد إمبراطور فرنسا ويد الألباني المجدود (محمد علي)، على أن يد محمد علي كانت أشد خطرا عليها من نابوليون؛ لأنه لم يجتهد في إخفاء عواطفه الحبية نحو فرنسا، وأكبر دليل على ذلك كونه قد غمس مصر في المدنية الفرنسوية، ولا يخفى أن محمدا علي بإظهاره هذا الميل أظهر أيضا أنه إذا قام نزاع بين الدول ونشبت بينها حرب فإنه لا محالة ينضم إلى فرنسا، فهل يعقل إذن أن إنكلترا كانت تقف مغلولة الأيدي وهي ترى بعينيها نفوذ فرنسا وطيد البنيان ثابت الأركان في أهم بلاد تستطيع تهديد أملاكها؛ لأن فرنسا إذا كانت نافذة الكلمة في مصر فإنها بلا ريب تكون أبدا على أهبة الاستعداد لتنقض على أملاك إنكلترا في الهند.
وفي عام 1840 عقدت إنكلترا مؤتمرا دوليا في لندن لتؤيد فيه سياستها المستمرة التي حافظت عليها من يوم وضعت يدها على بلاد الهند وصارت لها بالشرق علاقة.
وعند قولنا: «السياسة المستمرة» فإنا نصيب كبد المسألة؛ لأن استمرار السياسة البريطانية وصبر الساسة الإنكليز هو الذي جعل الناس يرمونها بالمكر والخداع والغدر، ولا ذنب لإنكلترا إلا استطاعتها أن تنتظر حتى يقع أعداؤها في الضيق فإذا سنحت تلك الفرصة فإنها لا تفر من يد إنكلترا مهما كلفها ذلك، فإن إنكلترا إذا رأت عدوها عاجزا عن الدفاع عن نفسه ورأت أمامها مقتله معرضا للضرب فإنها ترمي بسهمها الصائب وهي تعلم أنه ينال من خصمها فوق ما ترغب، فيصرخ العدو الجاهل وأمثاله قائلين: «لله ما أقبح المكر والخداع اللذين تخفيهما إنكلترا تحت طيات سكونها وسكوتها ...»
على أننا لا نلوم في هذا المقام إلا الخصيم الجهول الذي لم يتق الضربة الصائبة قبل وقوعها مع علمه بأن العدو القوي لا يشفق عليه إذا رأى عجزه وضعفه ما دام يرى لنفسه في وقوع هذه الضربة نفعا.
أوليس من العجيب أن تنال إنكلترا جماع أمانيها وتبلغ من أعدائها ما تبلغ دون أن تظهر سرعة أو تهورا ودون أن يشعر أحد بأعمالها؟
يرى القارئ مما تقدم أن النصر والنجاح كانا حليفي إنكلترا في أعمالها وحركاتها كافة، فلماذا لم تحذ جميع دول أوروبا حذوها وتتخذ سياستها نموذجا تجري عليه، هل أحجمت تلك الدول لما في أخلاقها من الكمال ولأنها رأت أعمال إنكلترا تدل على الخبث والغدر؟ كلا، فإن دول أوروبا لا تتأخر طرفة عين عن إيصال الأذى إلى أي عدو من أعدائها إذا سنحت لها فرصة ورأت أن ذلك يعود عليها بالخير؛ إذن الجواب عن هذا السؤال هو أن إنكلترا اكتسبت مركزا ساميا خاصا بها دون سواها من الدول، وقد عرف ساسة الإنكليز كلهم قدر ذلك المركز واستعملوه فيما عاد على إنكلترا بالخير العميم، ومن هؤلاء الساسة ديزرائيلي (بيكو نسفيلد) الذي صرح في محال كثيرة من روايته «سيبيل» بذكر المنافع الجمة والقوة العظيمة التي اكتسبتها إنكلترا من وضع «الكنيسة والتاج» «على الرف »، وقد يظن بعض الناس أن استشهادنا برواية يكون استشهادا لا قيمة له؛ سيما ونحن نكتب في موضوع جدي كهذا، فنقول لهم إن رواية من قلم وزير كبير وسياسي خطير ك «بيكو نسفيلد» ليست كأية رواية أخرى يكتبها أي رجل آخر، على أن بيكو نسفيلد لم يقل غير الحق، فإن المتتبع لتاريخ إنكلترا يرى أنها بقيت أربعة قرون بلا شقاق داخلي، ومنذ طردت الأمة الإنكليزية أسرة ستيوارت الكاثوليكية في سنة 1688 لم تحس البلاد بشبه ثورة داخلية، ولولا بعض الشغب الذي لا يهم أمره لبقيت سياسة إنكلترا الداخلية أنقى من مرآة الحسناء، على أننا لا ننكر أن بعض المتاعب نشأت من حين إلى آخر، ولكن كانت نار هذه المشاغب الطفيفة بأسرها لا تلبث أن تشتعل حتى تخمد.
ومنذ اتفاق إنكلترا مع اسكوتلندا (إيقوسيا) في سنة 1707 اطمأنت إنكلترا من جهة الحدود التي كانت تهددها من حين إلى آخر، وقد زاد ذلك الاطمئنان أن إنكلترا وإيقوسيا اتفقتا اتفاق التوءمتين والتاريخ لا يحفظ ذكر اتفاق بين دولتين أمتن من اتفاق إنكلترا واسكوتلندا، فإنهما اتفقتا اتفاقا لا تفصم عروته ولا تحل عقدته، والذي زاد هدوء إنكلترا وساعدها على استتباب الأمن في داخليتها عدم وجود أشراف وأمراء منقسمين يطالبون بالملك أو يحاربون بعضهم بعضا، وبالإجمال فإن تاريخ إنكلترا في كل ذلك الزمن الطويل لا يحفظ إلا ذكر ثورة أهلية بسيطة ثارها العمال مطالبين ببعض حقوق لهم حسبوها مهضومة، فهي أشبه بحركة اجتماعية منها بثورة داخلية، ولكن تلك الحركة ما كادت تتنفس حتى قضي عليها في ليلة ويوم.
ومن المعلوم أن المشاغل الداخلية هي العقبة الكئود التي تقف أبدا في طريق سياسة الدول الأوروبية، وكثيرا ما يعترض كبار الساسة في أعظم فرصة لديهم فتتلف عليهم في لحظة واحدة ما أخذوا في تدبيره سنين طويلة، ومن حسن حظ إنكلترا أنها كانت آمنة مثل تلك المشاكل التي تعرقل مساعي السياسة الخارجية، ومن يعرف دخائل السياسة الإنكليزية يعلم أن من كان من ساستها يرمي إلى غرض في سياسة بلاده الخارجية وكأن هذا الغرض بعيدا، كان يدبر له من يريد تدبيره بصبر وعزم لعلمه بأن تلك التدابير ستنال فوق ما يرغب، فكان يتفرغ لهذا الغرض كل التفرغ ضاربا صفحا عن كل ما سواه؛ لأنه يرى نفسه في مأمن من المشاكل الداخلية والمشاغب الأهلية التي تعوقه عن تنفيذ مشروعه وإتمام عمله.
فيظهر من هذا أن إنكلترا لم تضع سياستها الخارجية لأجل مشاكلها الداخلية لأنها كانت آمنة شر تلك المشاغب التي تحصل في كل مملكة بدون علم وانتظار، فتقلب نظام السياسة الخارجية رأسا على عقب، وهذا هو السبب الوحيد في نجاح سياسة بريطانيا الخارجية.
وليس من الصعب على من يقارن بين التاريخ السياسي لبريطانيا والتواريخ السياسية عند سائر الدول الأوروبية في القرنين الماضيين أن يرى لأول وهلة حقيقة واحدة واضحة كل الوضوح وهي أن السلام الدائم في أي مملكة هو الشرط الوحيد للنجاح خارجا؛ لأنه لا توجد دولة في قارة أوروبا يمكنها أن تنظر بهدوء إلى حدودها وتقول إنها تبقى آمنة طوارق الحدث زمنا محدودا من السنين، فإذا لم تكن كل دولة على جانب عظيم من التيقظ والحذر فإنها تكون دائما معرضة للخطر، وهذه الحقيقة السياسية الواضحة تقلل عدد الجند والقوة الحربية التي تكون في يد أية دولة إذا أرادت أن تقيم حربا خارجيا؛ لأن قواها الحربية يجب دائما أن تكون على استعداد تام لتتقي بها ضربات العدو المهاجم لها في بلادها، ولا نظن أن ألمانيا أو فرنسا تستطيعان إرسال 200000 من جنودهما أو أقل من ذلك إلى خارج بلادهما بدون أن يختل ميزان قوتهما في داخليتهما؛ لأن تغيب مثل هذا العدد من جنود أية دولة يدعو إلى ضعفها ويسبب عجزها في داخلية البلاد ويضطرها إلى الإذعان لجاراتها القوية، وقد أثبت التاريخ ذلك، فإن فرنسا بعد تجريد حملة نابوليون على مصر أحست بضعف شديد في أوروبا، فاضطر نابوليون إلى العودة إلى بلاده لحمايتها وتخلى عن أعماله الحربية، وترك السياسة الاستعمارية التي كان قد بنى أساسها في مصر.
وكأن فرنسا لم تكتف بهذا الدرس فأعادت الكرة ، فبعثت بحملة المكسيك المشهورة في أواسط القرن التاسع عشر ففازت في أمريكا وانهزمت شر هزيمة في حرب السبعين بواقعتي «متز» و«سيدان»، على أن فرنسا لو استطاعت أن تقاوم أعداءها في أوروبا سنة 1866 فنحن لا نشك في أنها ربما كانت ألغت حرب السبعين، ولو لم تقع حرب السبعين لكانت السياسة الأوروبية كلها تغيرت، ولكن من سوء حظ فرنسا أنها وجدت نفسها في أزمة ولم تجد لنفسها منها مخرجا، وعندما كانت جنودها المظفرة تتغلب على أعدائها في المكسيك كانت حدودها الشرقية مهددة بجيوش ألمانيا في أوروبا.
هذا وأضر شيء بسياسة الدول الخارجية بعد ما ذكرناه هو كون الدولة منقسمة في داخليتها، وهذه فرنسا لم تنجح في سياستها الخارجية يوما لأن داخليتها أبدا في شقاق وانقسام، وهذا مسبب من مزاحمة سلطة الكنيسة لسلطة الحكومة، فلو نجحت فرنسا كما نجحت إنكلترا في وضع «الكنيسة على الرف» لما فشلت في سياستها الخارجية ذلك الفشل الذي جعلها مثلا بين الدول.
ونحن لا نود أن نطيل هذا البحث الذي يخرجنا عن الموضوع الأصلي على ما فيه من اللذة، بيد أننا لا نتمالك من أن نشير إلى أن لكل دولة آفة، فآفة ألمانيا حزب الاشتراكيين، وآفة النمسا خوف الانقسام الذي يعقبه الانحلال، وآفة فرنسا الكنيسة، وآفة إيطاليا فقر أهلها، وآفة روسيا اتساع سلطانها واستبداد حكومتها، ولكن إنكلترا لا آفة لها؛ ولذلك نرى سياستها الخارجية سائرة على الدوام في طريق النجاح والفوز، فهذه الدول جمعاء تحسد بريطانيا وترميها بالمكر والخداع والغدر والمخاتلة، وما أبعد هذا القول عن الصواب!
إن إنكلترا عمدت إلى سياسة بسيطة سهلة، هي سياسة التأني والانتظار لانتهاز فرصة ضعف عدوها وعجزه، وكثيرا ما يحدث أن ترى إنكلترا دولة أخرى قد وقفت في طريقها فتسكت إنكلترا وتربض كما يربض الأسد وتتحين فرصة تقع فيها هذه الدولة المعاكسة في أزمة تلجئها إلى المعاونة أو تضعفها عن العمل فتتقدم إنكلترا وتضطرها للتخلي عن طريقها فتتخلى تلك الدولة مختارة أو مضطرة، وتستمر إنكلترا في طريقها، فإذا رأت الدول استمرار إنكلترا في طريقها عادت تسلقها بألسنة حداد وترميها بالظلم والغدر والخداع، وهذا هو الذي دعا بعض المتقولين أن يتقولوا على بريطانيا بأنها كانت تضمر لمصر سوءا من زمن بعيد، فلو سلمنا جدلا لهؤلاء المتقولين بصحة زعمهم فما الذي عاق إنكلترا عن وضع يدها على مصر عقيب نصرها الباهر في واقعة أبي قير؟ يقول المتقولون إن مركز إنكلترا السياسي في ذلك الحين لم يكن ليسمح لها بإضافة مصر إلى مستعمراتها، نقول قبلنا فأجيبونا عن سبب تخلي إنكلترا عن مصر في سنة 1840؟ تقولون إن محمدا علي كان واقفا في وجه إنكلترا وخلفه فرنسا تشد أزره. كل هذا حسن ولكن قولوا لنا سبب تخلي إنكلترا عن مصر سنة 1870 عندما سنحت لها فرصة لا تسنح في العمر إلا مرة. وكلنا يعلم أن إنكلترا كانت في هذه السنة مطلقة الأيدي وكان الجو لها خاليا، ولم يكن أمامها من يحرك لسانه أو يرفع يده. يقول المتقولون إن نتيجة حرب السبعين كانت لا تزال مجهولة فخشيت إنكلترا إن هي وضعت يدها على مصر أن يعقد النصر لفرنسا فتنتقم هذه الدولة الظافرة من إنكلترا انتقاما رهيبا.
ولكن ما أبعد هذا الجواب عن الحقيقة، فإن الحرب أعلنت في يوم 19 يوليو سنة 1870، وفي 2 سبتمبر من السنة نفسها سقطت سيدان ودفنت الآمال وهدأت المخاوف التي كانت متعلقة بتلك الحرب، ومع كل هذا فإن إنكلترا بقيت ساكتة ولم تقدم رجلا نحو مصر، فلو كان الحق ما قال هؤلاء المتقولون وكانت إنكلترا حقيقة تسعى في الحصول على مصر منذ سبعين سنة لما تأخرت لحظة واحدة عن انتهاز هذه الفرصة لتضع يدها على مصر، وقد ثبت للقارئ الآن أن هؤلاء المتقولين هم الذين أساءوا الظن بسياسة إنكلترا ولم يفقهوا ما ترمي إليه تلك الدولة العظيمة.
وقد يعترض علينا معترض ويقول ما هذا المدح للإنكليز، وما تلك المحاباة إذا سلمنا بأن سياسة إنكلترا نحو مصر لم تكن سياسة مكر وخداع، فلماذا أظهرت بريطانيا إباء شديدا ومعارضة قوية عندما أذيع مشروع قنال السويس؟
على أننا لو نظرنا إلى مسألة قنال السويس بنفس المنظار الذي نظرنا به إلى المسألة الماضية لتغيرت المسألة في طرفة عين، فنقول: لا ننكر أن إنكلترا أظهرت استياء شديدا عندما أذيع مشروع ترعة السويس وحاولت جهد طاقتها أن تلقي في سبيل القائمين به كل ما تستطيع إلقاءه من العقبات والعراقيل، فهل لذلك من سبب؟
نعم ... إن لذلك أسبابا شتى؛ منها: أولا الصعوبات الطبيعية التي كانت تعترض القائمين بهذا المشروع؛ سيما في ذلك الزمن الذي كانت فيه فنون الهندسة لم تبلغ ما بلغته الآن، وأن ديلسبس نفسه وهو صاحب المشروع وخالقه كان يتهيب الإقدام على العمل.
وكل معاصريه يذكرون لنا أنه كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فلا يستغرب إذن من المهندسين الإنكليز قولهم باستحالة خروج هذا المشروع من حيز الفكر إلى العمل، وهنا يخطر ببال القارئ خاطر ولكننا نجل مقام هؤلاء المهندسين عن أنهم كانوا يقولون ما لا يعتقدون ...
ومما جعل إنكلترا تظهر معارضة شديدة للمشروع أسباب سياسية أخرى أهمها أن إتمام عمل ترعة السويس كان يقف في طريق سياستها الشرقية؛ لأنه يسهل الطريق من الشرق إلى الغرب على كل الدول، ولنعلم أن نابليون الثالث كان في ذلك الحين في قمة مجده، ولم يكن نابليون الثالث في ذلك العهد بالرجل الذي تستهين به إنكلترا وتصغر من شأنه، وغني عن البيان أن من التف حول نابليون الثالث من السياسيين كانوا يهمسون في آذان بعضهم قائلين لبعضهم: «سيكون لهذا الملك شأن كبير»؛ لأنهم لم يطلعوا على صحف الغيب ولم يقرءوا ما كانت تخبئه الأيام لذلك الملك من مثل الحرب الألمانية التي كذبتهم شر تكذيب، وعكست آمالهم، وقلبت تدابيرهم رأسا على عقب.
وكلنا يعلم أن إنكلترا لم تدخر وسعا في الزمن الماضي في سبيل إبعاد أعدائها عن مصر، فكيف ترضى بافتتاح ترعة السويس مع العلم بأن هذه الترعة تجعل مصر مملكة دولية تتنازعها كل مملكة، وتدعي كل أمة بحق لها فيها؟ بل وكيف ترضى إنكلترا بنابليون الثالث وقد رأيناها أنفقت ما أنفقت من مال وأزهقت ما أزهقت من نفوس رجال في محاربة نابليون الأول ومحمد علي؟ فهل تسمح إنكلترا بأن تذهب أعمال سبعين سنة هباء منثورا؟
بعد هذا كله يتبين للقارئ الكريم عذر إنكلترا في معارضتها الشديدة إبان فتح ترعة السويس وبقي علينا أمر واحد لم نعره لفتة، وآن لنا أن نتناوله بالبحث، وهو أن بعض الجهلة من الوطنيين وغيرهم لا يزالون يحسبون أن إنكلترا أشعلت نيران فتنة عرابي، وسنزن هذا القول بميزان الحكمة والتعقل، فنقول: ستمضي قرون طويلة قبل أن يعلم العالم تاريخ مصر الحقيقي في الثلاثين سنة الماضية؛ لأن وزراء الدول لا يخطر ببالهم أن يفتحوا خزائن أسرارهم لمعاصريهم، وكثيرا ما تبقى بعض دخائل الأعمال الصغرى في أعماق قلوب الذين قاموا بها، فكيف بمسائل السياسة التي تتناول الأمم والشعوب؟
على أننا لا نغالي في المقال إذا قلنا بأنه لو حدث أن بريد سفارات أوروبا يفتح كله لا يتم اليوم حتى تشتعل نار حرب دولية لا يعرف نتيجتها إلا الله، وعلى ذلك فنحن لا ننتظر من الحكومة الإنكليزية أن تفتح خزائنها وترينا أوراقها السرية لأننا لا نرى فائدة في مثل هذا العمل، ولو فرضنا أن الحكومة الإنكليزية نشرت في كتاب من كتبها السياسية كل أسرار المسألة المصرية (إن كان هناك أسرار)، فإن ذلك لا يقنع الجهلة، ولا يخرص ألسنة المتقولين، هذا ونحن لا نعتقد بأن الحكومة الإنكليزية دبرت الثورة العرابية؛ لأن إثبات هذه التهمة السياسية يحتاج إلى أدلة أقوى من الأدلة التي يستند عليها القائلون بهذا الرأي الفاسد.
ويكفي لدحض هذا الرأي كلمة واحدة وهي أن ما قام به الأسطول البريطاني الذي كان تحت قيادة الأميرال سيمور أمام ثغر الإسكندرية لم يكن إلا بإشارة فرنسا ونصيحتها، فكيف يصدق الظن بأن إنكلترا دبرت هذه الثورة مع أنها لو لم تشر فرنسا عليها بضرب الإسكندرية لما حركت ساكنا؟ ألم يكن ذلك السكون يؤدي بالطبع إلى قلب تدابيرها الثورية رأسا على عقب؟
وحقيقة الأمر هي أن احتلال إنكلترا لمصر لم يكن إلا لوضع المسألة المصرية «على الرف» مؤقتا؛ لأن هذه المسألة كانت أبدا تهدد سلام أوروبا تارة وتهدد إنكلترا في الهند تارة أخرى، ولكن لا نحسب أن أحدا يظن أن هذا الاحتلال هو الحل النهائي لهذه المسألة، ولو أن إنكلترا لم تعين ميعادا للجلاء فإنها بلا ريب لم يخطر ببالها أمر البقاء على كر الدهور.
بقي علينا أن ننظر لحظة في الأعمال التي قامت بها إنكلترا في مصر، فنقول: إنه من المحقق أن إنكلترا من عهد احتلالها مصر لم تمثل دور المحب لذاته، ولا ينكر أحد أن عهد الاحتلال كان على الدوام عهد نجاح مادي لم تر مصر له مثيلا في تاريخها الماضي، وأول دليل على ذلك أن إنكلترا عندما استلمت قياد مصر وجدت المالية في حال يرثى لها، وقد ظن كثيرون من الذين شاهدوا فساد المالية المصرية أنه من المستحيل إعادة النظام إليها بعد الفوضى الهائلة التي سادت عليها.
على أن هؤلاء لو عاشوا إلى عهد الاحتلال البريطاني لاندهشوا من التقدم الباهر الذي حازته المالية المصرية تحت المراقبة الإنكليزية، وغني عن البيان أن مثل هذا التغيير لا يتم إلا بالعمل المتواصل الخالي من كل غاية وغرض، ولم تحصل إنكلترا على هذه النتيجة الحسنة إلا بوضع الاقتصاد العادل في موضع الإسراف الفاحش، فلم تقتر ولم تبذر على أن الأرقام في مثل هذه الموضوعات هي أعدل الشاهدين، فنحن ننتخب من كتاب «السياسي» لسنة 1905 ما يأتي عن تاريخ المالية والديون المصرية:
إن دين مصر ابتدأ سنة 1862 عندما عقدت قرضا قدره 4292800ج، ثم عقدت غيره على التتابع وفي سنة 1870 بلغت الديون الأجنبية 38307000، وقد أضيف إلى هذا الدين في سنة 1873 قرض قدره 32000000 لتسديد الدين الأصلي الذي بلغ 28000000، وفي سنة 1875 أعلن الخديوي إسماعيل أنه في ضيق مالي شديد، وفي سنة 1876 أصدر الخديوي قرارا وحد فيه الديون المصرية فصارت كلها دينا واحدا قدره 91000000، وفي سنة 1877 اجتمع مندوبو المداينين الإنكليز والفرنسويين لتوحيد الدين المصري فقسموه إلى قسمين: الدين المفضل وقدره 17000000 بسعر 5 في المائة، والدين الموحد وقدره 59000000 بسعر 7 في المائة.
ووحدت ديون الدائرة السنية في دين واحد قدره 8815430 بسعر 5 في المائة، وفي سنة 1878 عقد قرض على أملاك الدومين قدره 8500000 بسعر 5 في المائة، وفي سنة 1879 ابتدأت مراقبة إنكلترا وفرنسا، وفي يناير 1880 أصدرت هاتان الدولتان تقريرا صرحتا فيه بأن مصر لا تستطيع أن تسوي حسابها، وفي يوليو من هذه السنة ذاتها اجتمعت لجنة من مندوبي الدول العظمى وقررت عمل تصفية مالية؛ وبهذه الطريقة خفض سعر الدين الموحد إلى 4 في المائة، وحدثت تغييرات كثيرة كانت نتيجتها أن الدين الموحد أصبح قدره 60958240ج، وأضيفت ديون شتى لم تكن موحدة إلى الدين المفضل فصار 22743800، وبلغ دين الدائرة السنية 9512880 وخفض سعره إلى 4 في المائة.
وفي سنة 1885 عقد قرض بضمان الدول بمبلغ 9424000 بسعر 3 في المائة. وفي سنة 1888 عقد دين قدره 2330800 بسعر
في المائة لأجل استبدال المعاشات.
وفي سنة 1890 أضيف الدين المفضل إلى دين 1888 الذي ذكرناه آنفا ووحدا في دين مفضل قدره 29400000 بسعر
في المائة، وفصل من هذا الدين المفضل مبلغ 1300000 ج.م لإصلاح الري واستبدال المعاشات.
ثم أصدرت ديون الدائرة السنية البالغة 7299360 بسعر 4 في المائة، وفي سنة 1893 استبدلت ديون الدومين البالغة 8500000 التي كانت بسعر 5 في المائة بدين سعره
في المائة.
وهاك جدول بالديون المصرية في شهر يناير سنة 1904:
الدين
المبلغ
العهدة
الديون المضمونة بسعر 3
8077900
307125ج.م
الدين الممتاز بسعر
31127780
1062556ج.م
الدين الموحد بسعر 4
55971960
2182906ج.م
قرض الدائرة السنية بسعر 4
4952860
198114ج.م
ديون الدومين بسعر
2056420
107962ج.م
المجموع
102186920
3858663ج.م
وتبلغ العهدات على الديون كافة بما فيها الجزية على حساب سنة 1905م 4593602 جنيها مصريا.
وفي سنة 1887 وضعت المبالغ الاحتياطية وحسابها في سنة 1904 كما يأتي:
ما توفر من توحيد الديون
5507055ج.م
المبالغ الاحتياطية
966781ج.م
المبالغ الخاصة
1577381ج.م
مجموع الاحتياطي
8051217ج.م
وهنا لا نستطيع أن نسهب الكلام على الإصلاحات الأخرى التي تمت في مصر على أيدي بريطانيا، وقد يكون ذكرنا لها بعد أن عرفها القاصي والداني تحصيل حاصل؛ لأنه لا ينكر إلا المكابر ما قام به رجال الإنكليز من الأعمال العظيمة في وادي النيل، سيما ما يتعلق منها بإصلاح الري والزراعة، ونذكر في هذا المقام خزان أسوان وقناطر أسيوط التي تشهد لإنكلترا بالفضل على مصر ، وقد وفت الصحف هذين العملين العظيمين حقهما من الوصف والمدح، وذكرت في ذلك الحين أن خزان أسوان يغير مستقبل مصر ولا يجعلها في الأيام الآتية تحت رحمة فيضان النيل، ومهما تكن المبالغ الطائلة التي أنفقت على خزان أسوان، فإن المهندسين قد بنوه بإتقان ما جعل استرداد ما أنفق مضمونا، ولن يضيف هذا الخزان دينا إلى كاهل مصر فوق ديونها التي تئن منها، ولسنا نرى دليلا أقوى من خزان أسوان على حسن نيات إنكلترا في وادي النيل، ويحق لإنكلترا أن تفخر لنجاحها في مشروع خابت فيه آمال غيرها.
الفصل الأول
الدول العظام والمسألة المصرية
ذكرنا فيما مضى من هذا الكتاب الحوادث السياسية التي سببت احتلال إنكلترا لمصر في عام 1882، وشرحنا أسباب هذا الاحتلال وقد بررناه عندما احتاج إلى التبرير.
وثاني مسألة نرغب البحث فيها هي طبيعة هذا الاحتلال، وقد قلنا إنه حتى الآن قد استفادت منه مصر رغما عن كل ما قيل ضده، ولكننا إذا أردنا أن نضع أساسا نستطيع أن نبني عليه بناء حصينا يصور لنا الحال السياسية الحاضرة، ونشرح فيه ما يكنه المستقبل من الأحوال السياسية، يجب علينا أن نوسع دائرة البحث؛ ولذلك فنحن لا نستطيع أن نقصر بحثنا على النفوذ الإنكليزي في القطر المصري مهما كان هذا النفوذ عظيما؛ لأن مثل مصر كمثل الشبكة المختلفة الألوان، فإنها بلا جدال ملك لجميع الناس والممالك لأنها بصفة كونها مركزا للجزء الشرقي من الكرة الأرضية فهي بضرورة الحال محطة يتقابل فيها الشعوب، كما كانت في الزمن الغابر مرمى أبصار الفاتحين ومحط رحال الملوك والسلاطين.
وإذا كانت مصر ملكا للجميع بوضعها الجغرافي، فهي ملك للجميع أيضا من الجهة المالية بالنظر للأموال العظيمة الأوروبية التي أودعت فيها لإنجاحها، فإن كل دولة كبيرة أوروبية وضعت في مصر مبالغ كبيرة فكانت النتيجة أن كل دولة لها في مصر أغراض ذاتية، ورغبة شديدة في أن ترى مصر سائرة في طريق النجاح.
فإذا شئنا إذن أن نتكهن بمستقبل هذه البلاد ونرى بعين عقلنا الطريق التي تسير فيها في المستقبل فلا ينبغي لنا أن نهمل علاقات هذه الدول كلها بمصر؛ بل يجب علينا أن نتعمق في البحث لنعرف بالضبط ما هي هذه العلاقة الدولية؟ وما أهميتها لمصر؟
فإذا بحثنا في ذلك نستطيع حينئذ أن نجد طريقا تؤدي إلى ضمان منافع الدول في مصر وحمايتها، وتؤدي أيضا إلى سعادة وادي النيل وهنائه الدائم.
ولا ينكر علينا أحد أن المسائل التي تهيج ممالك أوروبا وتقلقها قليلة جدا ولكنها من الأهمية بمكان عظيم وقد تفوق المسألة المصرية كل المسائل الأوروبية؛ لأن مصر مبنية على مال جمعته لها أغلب دول أوروبا، وفيها مستعمرات أجنبية كثيرة، وكثير من المحاكم المختلفة المشارب. كل هذا جعل المسألة المصرية أصعب حلا وأعقد إشكالا، وقد يكون حلها مستحيلا، ولكننا إذا أخذنا كل حبل من حبال الشبكة وحللنا كل عامل من العوامل العاملة في مصر فإنا نصل إلى حل مرض.
قد ابتدأنا بالنظر في أعمال بريطانيا في مصر في الماضي وسنقيس الآن المنافع الصغيرة التي تستفيدها الدول في مصر، ثم نجتهد أخيرا في تقدير العاملين القويين المهمين وهما العامل البريطاني والعامل الوطني. وأول مسألة نشرحها هي علاقة تركيا بمصر وتأثيرها، فإن التأثير التركي في مصر هو بدون شك في الدرجة الثانية بعد التأثير البريطاني؛ لأننا إذا نظرنا في الإحصاءات التجارية فإننا نندهش من كثرة الأرقام التابعة لاسم تركيا.
ونحن لا نحتاج هنا إلى البحث في أنواع التجارة، إنما نقصر النظر على كثرتها وعظم أثمانها، فإن الوارد من تجارة تركيا إلى مصر في كل عام لا يقل كثيرا عن نصف الواردات من بريطانيا العظمى، وفي عام 1903 قدرت الواردات إلى مصر من إنكلترا بأقل من 6 ملايين من الجنيهات، وكانت الواردات من تركيا في السنة نفسها تقدر نحو 2400000ج مع أن مصر لا تأخذ من أي دولة أخرى بضائع بمبلغ أكبر من مليون ونصف المليون، وقد يندهش الذي يعلم أن الصادرات من مصر إلى تركيا أقل من ذلك بكثير جدا.
وهذه العلاقة التجارية هي بلا ريب من أهم العلاقات، ولكن لا يجب علينا أن نقدرها أكثر من قدرها؛ لأن التركي ليس بخلقته ميالا للتجارة، وليس في أمياله الطبيعية ميل غريزي للحياة التجارية، والدليل على ذلك أن أغلب التجارة التي ذكرناها ليست إلا تركية بالاسم فقط؛ لأن أغلبها في أيدي تجار الأجانب المشتغلين في بلاد الدولة العلية.
ومعظم هذه التجارة يجيء من مدن آسيا الصغرى وبلادها، ولا يخفى أن هذه البلاد مسكونة باليونانيين والإيطاليين واليهود وغيرهم من سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط، فيظهر من ذلك أن التركي ليست له يد قوية في أهم علاقة بين مصر وتركيا، فليس إذن من الضروري أن تعنينا المسألة التجارية، وينبغي لنا أن ننظر إلى علاقة مصر بتركيا من الجهة السياسية، ومع ذلك فلن نغمض عينينا عن العلاقة الاجتماعية، فنقول: إن التركي لا يزال مجهولا عند الغربي، والكتب التي يقول عنها أصحابها إنها تكشف القناع عن حياة الترك الداخلية، وتظهر في كل آن ويكون غرضها أن تفهم للغربي آراء التركي وطرق أعماله، لم ينجح مؤلفوها إلا نجاحا صغيرا جدا، وقليل جدا من الغربيين اختلطوا بالأتراك.
على أن كتب الأتراك ذاتها تدل على أنهم ليسوا على علم من الحياة والعادات والأخلاق الغربية يسهل لهم الوصف والمقارنة بينهم وبين غيرهم من الأمم، فكانت النتيجة أنهم عجزوا عن نقل صورة الحياة التركية إلينا تماما، وقصروا كتبهم على موضوعات بعيدة وغير مفيدة، فكانت كل تلك الأشياء سببا في إثبات الحكم السابق من أوروبا على الأتراك، وأوروبا غير مستطيعة أن تضع حدا بين حياة التركي السياسية وحياته الاجتماعية، والغربيون القليلون الذين اختلطوا بالأتراك وعاشوا معهم وعرفوا جمال أخلاقهم وحسن طباعهم ووجدوا أنهم أقرب الشرقيين إلى المدنية الحقيقية عجزوا عن أن يقلعوا جذور البغض والاحتقار التي لا تزال في قلوب الغربيين على العموم.
أما في مصر فلا يزال التركي عاملا اجتماعيا مهما يلتف حوله عدد عظيم من الأصحاب، وعدد أصحابه اليوم أكثر من عددهم أيام كان التركي نافذ القوة في القطر المصري.
ويجب أيضا أن لا ننسى أن مصر بلاد إسلامية، فهي مربوطة برابطة قوية جدا للسلطان بصفة كونه خليفة وأميرا للمؤمنين، ولأنه لا تزال في يده قوة تعيين القاضي الشرعي، وناهيك بما لهذه الوظيفة السامية من الأهمية السياسية!
وفوق كل هذا فليس الجناب العالي معينا حاكما لمصر من السلطان فقط؛ بل إن نظام الحكومة ذاته مأخوذ عن جلالة السلطان تقريبا، هذا ولا يظهر للناظر أن العلاقات الحاضرة بين تركيا ومصر تحمل معها بذور البقاء، فإنها إن لم تقطع اليوم فستقطع غدا، ولكن من الغريب أن هذه العلاقات استمرت على حالتها الحاضرة زمنا طويلا في الماضي وليس من المستحيل أن تستمر زمنا أطول في المستقبل، هذا ما لا رأي لنا فيه، ولا تكشفه إلا الأيام الآتية.
على أنا لا نرى في باقي ممالك العالم ودوله سلطة تشبه السلطة التي لتركيا على مصر، ونحن لا نستطيع أن نفهم لماذا تستمر مصر على نزح ثروتها وإعطائها لتركيا مع أن هذه لا ترد الجميل بمثله؟! فهل الدول الكبرى تأمر مصر بتلك الطاعة العمياء؟ إننا لا نرجح مثل ذلك، فإننا لو ألقينا نظرة صغيرة على المسألة الشرقية لرأينا أن الدول ترغب وتحب من صميم فؤادها أن تقطع أسباب ثروة الدولة العلية.
فلنفرض إذن أن تلك العلاقة المختلة بين الدولة العلية ومصر ستنقضي من تلقاء نفسها، فماذا يتم بعد ذلك؟ إنا لا نرى أمامنا إلا أحد أمرين؛ وهما: إما أن مصر تعود إلى خضوع تام للدولة العلية وتعود إلى المركز السياسي الذي كانت فيه قبيل عام 1811، أي أنها تصير ولاية عثمانية، وإما أن تلك العبودية الخيالية تنقضي مرة واحد وتصير مصر حرة من كل الحقوق والمطالب التركية.
ونحن نرى أن الأمر لا يتحمل الجدل لاستحالته؛ لأنه من الواضح أن تركيا لا تستطيع أن تضع يدها على مصر مرة ثانية بالقوة الحربية؛ فلذلك لا تستطيع تركيا أن تعود إلى المطالبة بحقوقها في وادي النيل. على أن مركز مصر الجغرافي يجعلها في معزل عن بلاد الدولة العلية وفي مأمن من الجنود العثمانية، وغني عن البيان أن تركيا منذ ثلاثين سنة لم تتحرك حركة عدائية، ويظهر أن الحكومة العثمانية عالمة ومتيقنة من أن مركز مصر ينجيها من هجوم جنودها؛ لأن تركيا بلا أسطول لا تستطيع أن تتسلط أو تسود على البحر الأبيض أو البحر الأحمر، ومصر لا يسهل الوصول إليها إلا بطريق أحد هذين البحرين لأنها محمية جنوبا بحصون السودان الإنكليزية وغربا بالصحراء الكبرى.
ويبقى الآن لدينا سؤال واحد وهو هل بقاء تلك السلطة الخيالية التي تعترف بها مصر للدولة العالية يرضي الدول العظمى؟ إن الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى نظرة عامة إلى حال مسألة الشرق الأدنى في الحال الحاضرة.
ويجب علينا أن نذكر القارئ بأن مفتاح السياسة الأوروبية هو أن كل دولة تنظر إلى النفع الذاتي الذي يصيبها، ونحن نرى أن مقاصد أغلب دول أوروبا نحو الدولة العلية واضحة بينة.
على أن المسألة لا تحتاج في حلها إلى تعب شديد وأسرار السياسة الأوروبية مباحة للعالم كله، ومثلها كمثل الكتاب المفتوح يستطيع قراءته كل إنسان. إن أوروبا تنظر إلى الدولة العلية بعين الشامت وتسمي حكومتها بالحكومة المريضة، وكثيرا ما تعبت حكومات أوروبا في تطبيب تلك الحكومة وإعادتها إلى الصحة، ولكنها يئست وكثيرات منها تتمنى لتلك الدولة قضاء عاجلا، ولسنا في مقام يسمح لنا باستحسان أو استهجان هذا العمل، لكن يظهر لنا بكل جلاء ووضوح أن أوروبا قررت بأن التركي لا بد أن يذهب ويختفي، وكلنا يذكر العمليات الجراحية التي بترت بها أعضاء جسم الدولة العلية في أوروبا؛ وهذه الأعضاء هي: «الصرب، ورومانيا، وبلغاريا»، ويظهر أن الدول تعد أسلحتها لقطع أعضاء أخرى، ويرى العارفون أن مقدونيا لن تستمر في يد الحكومة العثمانية طويلا.
على أن طرد الأتراك من أوروبا سهل جدا، لكن إذا طرد التركي من أوروبا فإنه يلجأ إلى أملاكه الواسعة في آسيا، ويظهر أن العمليات الجراحية التي عملتها الدول الأوروبية في جسم الدولة العلية بأوروبا لفصل أعضائها لم تسد مطامع هذه الدول ولم تقنعها؛ فلذلك اتجهت أنظارها نحو أملاك تركيا في آسيا، لكن يظهر لنا أن هذه الدول ستختلف كعادتها فيما بينها لأن كل دولة تود من صميم فؤادها أن تستولي على الغنيمة التركية بأسرها؛ وحيث إن هذا مستحيل، فأنت ترى الدول في حيرة لا يعرفن كيف يقتسمن تلك الغنيمة الباردة؛ لأن كل واحدة تتطلع إلى المزيد وتظن أنها بإطالة آلام هذه الفريسة تتحقق آمالها ويجيء الوقت الذي تستطيع فيه أن تنال من أملاك الدولة العلية ما تتمنى.
بيد أن هذه الدول لو استطاع بعضها أن يتحد ويطرد إحداها عن تلك الغنيمة ليستأثر الباقي بها لما تأخرت عن ذلك الاتحاد طرفة عين، ومن المعلوم أن مصر لو خرجت من هذه القسمة لسهل حل المسألة وصار أبسط مما لو بقيت.
ولا يخفى أن فتح آسيا الصغرى يستلزم جيشا جرارا وأعمالا حربية كبرى وفتح مصر يستلزم أسطولا؛ وحيث إن إنكلترا لا تستطيع تجريد جيش كبير خارج بلادها، فهي لا تنظر إلى آسيا الصغرى إنما تنظر لمصر؛ لقدرتها على تجهيز أكبر أسطول في أقرب زمن؛ ولذلك سيكون نصيب بريطانيا أنها تحرم من أي جزء من أجزاء الدولة العلية سوى مصر. والفرنسويون ينظرون إلى سوريا شزرا حيث ساد نفوذهم سيادة عظيمة وقوى هذا النفوذ حقهم في حماية المسيحيين الكاثوليك في الأراضي المقدسة.
أما ألمانيا فقد صار لها نفوذ عظيم في وادي الدجلة والفرات لقيامها بتأسيس سكة حديد بغداد، وروسيا أيضا تدعي بأنها صارت صاحبة الحق الأول في نصف بلاد فارس وما والاها من بلاد الدولة العلية، ولا تبقى لتركيا إلا جزيرة العرب وهي البقية الباقية التي لم تعبث بها أيدي الأغراض الأجنبية ولم تدخلها سموم السياسة الأوروبية.
أما النمسا فستكتفي بوضع يدها على ولاية سالونيكا وشاطئ البحر الإيجيني الذي مدت إليه يدها منذ زمن حتى وصلت إلى نوفي بازار.
نقول: وربما يكذب المستقبل كل تلك التكهنات، وربما تكون دول أوروبا قد تنبأت بما لن يتم وقسمت فريسة لم تسقط بعد، فإن تقسيم تركيا ربما يتم في المستقبل القريب وربما لا يتم إلا بعد قرون طويلة.
ويظهر أنه من صالح دول أوروبا كافة أن تحل المسألة المصرية عن قريب لتسهيل حل المسائل الأخر التي يعرض لهن حلها في المستقبل، وكما أن تقسيم تركية أوروبا يتم باستقلال الولايات البلقانية التي كانت تابعة للدولة العلية، كذلك يتم تقسيم أملاك الدولة العلية في آسيا بفصل مصر عن تركيا فصلا تاما ورفع نير تركيا عن وادي النيل نهائيا، وإذا كانت الحال تسير على المنوال الذي نراه الآن، فإن سلطة تركيا على مصر ستنتهي عن قريب وتذهب كل آثار النفوذ التركي من هذه البلاد.
وسيهم ما قدمناه الآن عن تركيا القراء كثيرا عندما نتكلم عن السياسة التي تتخذها النمسا والمجر عند اتساع الخرق في المسألة المصرية، فإن التقريرات التجارية تدلنا على أن العلاقات التجارية بين مصر والنمسا شديدة جدا، وتدل أيضا على أن هذه التجارة تتسع سنة فسنة، وعدا ذلك فإن في مصر من النمسويين الذين اختاروا وادي النيل وفضلوه عن بلادهم عدد عظيم جدا ربما يفوق عدد المستعمرين الألمانيين عددا، ولندع الآن كل ما ذكرناه عن العلائق التجارية والودية بين النمسا والبلاد المصرية، ولننظر إلى المسألة من وجهة أخرى فنقول إنه من المعلوم أن سياسة النمسا الخارجية كانت ولا تزال إلى الآن ميالة إلى مسألة إنكلترا ومصادقتها، ولم تجد إنكلترا مندوحة من رد الجميل بمثله ومصافاة النمسا، وقد كان الفضل في هذه الصداقة وذلك الاتحاد الودي لمكاتب التيمس وغيره من مكاتبي الصحف الإنكليزية الكبرى في فينا عاصمة النمسا، وقد استمرت هذه العلاقات الودية منذ عام 1840 وظهر منها أنها أحسن سياسة تتخذها الحكومة النمسوية نحو الدولة البريطانية، ولا يسمح لنا المقام بتفصيل أسباب هذه الصداقة غير الرسمية، ولكننا سننظر في نتائجها إذا استمرت؛ لأن اتحاد النمسا وإنكلترا يسهل كثيرا حل المسألة المصرية، وغني عن البيان أن النمسا لن تنال من إنكلترا ربحا ماديا جزاء صداقتها لا سيما في مصر، فما هي الأعمال إذن التي تتحد فيها إنكلترا والنمسا في حل مسألة تركيا؛ لأننا لو عرفنا ذلك سهلت علينا معرفة ما يتم في المسألة المصرية؛ لأننا قررنا أهمية العلاقة المتينة الكائنة بين المسألتين التركية والمصرية؛ ولذلك ينبغي لنا أن نعرف تمام المعرفة آمال النمسا في الغنيمة التركية، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر يعلم أنه منذ هزمت النمسا في سنة 1866 ماتت آمالها في امتداد قوتها فيما وراء نهر «الراين» من الأراضي الألمانية.
ثم قطعت آمال النمسا في إيطاليا بعد تحريرها وانضمام أجزائها المختلفة لتكون مملكة مستقلة، فالنمسا لا تقدر أن تنظر إلى شيء من أراضي إيطاليا بعين شوساء، فلما بان للنمسا أن آمالها خابت في شواطئ البحر الأدرياطيقي الغربية نظرت إلى الشواطئ الشرقية لتحققها من أن سلطتها لا يمكن امتدادها إلا في شبه جزيرة البلقان، فإن هناك ميدانا واسعا لنفوذها وتجارتها معا.
وقد صادقت الدول على هذه السياسة النمسوية في المؤتمر الدولي الذي عقد سنة 1878، ووافقت على كل مشروعات النمسا بشأن الدولة العلية وصرحت لها بوضع يدها على ولايتي البوسنة والهرسك.
أما آمال الروسيا في البلقان فهي آمال وهمية خيالية لا يعتد بها ولا يحسب لها حساب، وسنرى فيما يأتي من هذا الكتاب عندما نفرد فصلا للكلام على سياسة روسيا أن مطامعها في البلقان سوف تتلاشي شيئا فشيئا، وسيجيء عليها زمن لا تكون فيه شيئا مذكورا. ولكن سياسة النمسا وآمالها واضحة بينة ويقويها على السعي وراء تحقيق تلك الأماني أنها مدفوعة بعامل سياسي وعامل استعماري، ومن القواعد المعروفة في السياسة أنه إذا سادت تجارة أي دولة في أي مملكة ضعيفة فإن السلطة السياسية تتبع السلطة التجارية عاجلا أو آجلا.
ومن المعلوم أن النمسا صاحبة النفوذ القوي حالا في البلقان، ولا يقاوم ذلك النفوذ مقاوم، على أن رومانيا، وهي إحدى ولايات البلقان المستقلة، تميل إلى النمسا ميلا شديدا وتنظر إلى أعمالها في البلقان بعين الرضى والسرور.
ولا يفوتنا أن إنكلترا ربما تعاند النمسا في سياستها وتقلب لها ظهر المجن، ونحن لا نفرض هذا الفرض لتحققنا من أن إنكلترا تخون صديقها أو تغدر به أو تنقض عهده فتنتهز فرصة لإيذاء النمسا! كلا، ولكننا فرضنا هذا الفرض لنكون على بينة من كل شيء من المقدمات التي تدل على النتائج؛ ولذلك فنحن نقول إنه ربما ترى إنكلترا أنه من فائدتها الخاصة أن تغدر بالنمسا وتناوئها العداء وتناصبها الشر.
ومن المعلوم أن الباب العالي لن يقبل بأن يسلم آخر ما يملك في أوروبا بدون أن يحرك ساكنا، فإذا حدث أن الدولة العلية لم تستطع أن تعمل شيئا فإنها تفرط في كل عزيز لديها لتحدث نزاعا وشقاقا في جيوش عدوها المحارب - وهذه هي السياسة التي اتخذتها في أيام الحرب الروسية التركية - فإن الباب العالي اشترى في ذلك الحين حياد إنكلترا بالتنازل لها عن جزيرة قبرص.
ومن يدري بأن الباب العالي لا يعد أكلة يضعها في فم إنكلترا فتتداخل تداخلا سياسيا أو حربيا لتعوق النمسا عن الاستيلاء على ولاية سالونيكا؟
هل من المستحيل أن تتنازل تركيا لإنكلترا عن حقوق سيادتها في مصر؟
من هنا يظهر أنه من فائدة النمسا أن تجتهد في حل المسألة المصرية حلا أوليا لخوفها من أن تقف هذه المسألة في طريق سياستها المستقبلة.
لقد جرت العادة منذ عهد طويل جدا بالاعتقاد بأن روسيا هي الدولة السائدة في الشرق الأدنى، والعادة طبيعة ثانية، فإنه رغما عن الأدلة الواضحة التي تدل على أن روسيا ليست هي الدولة السائدة (ولو فرضنا أن روسيا هي السائدة، فإن تلك السيادة قد بدأت شمسها بالأفول من زمن بعيد)، فإن الناس لا يزالون معتقدين بالأفكار القديمة فإذا حدث أي حادث مقلق في جنوب أوروبا الشرقي فلا يقولون إلا أن روسيا هي التي سببت ذلك القلق وهي التي أحدثت هذا النزاع.
على أن المتنبه للحوادث السياسية التي تجري في الشرق الأقصى يرى بكل وضوح أن آمال روسيا متجهة نحو غرض واحد ومهما كلفها هذا الغرض من الذهب والنفوس فإنها أبدا تسعى إليه، ولا يخفى أن هذا الغرض هو رغبتها في الحصول على ثغر بين فلاديفوستك وبورآ رثور.
ونحن لا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة الحرب الحاضرة بين روسيا واليابان، ولكن مهما تكن نتيجة تلك الحرب فإن روسيا دائما ستكون مشتغلة بتلك النتيجة عن القسطنطينية.
ولنفرض أن روسيا تفوز على اليابان مع ما في هذا الفرض من الاستحالة في الظروف الحاضرة فإن روسيا لن تنال ظفرا يسحق عدوتها ويجعلها تنام مطمئنة زمنا طويلا؛ لأنه لو حدث أن روسيا طردت اليابانيين من سيبريا ومنشوريا، فإن إمبراطورية اليابان تبقى أبدا عدوا قويا يهدد روسيا في الشرق الأقصى مستعدا لأن ينتهز فرصة اشتغالها بمشاغل السياسة الأوروبية ليشعل نار حرب ثانية وينزل بشواطئ منشوريا مرة ثانية لينتقم للهزيمة الأولى.
ولنفرض ثانيا أن اليابان حازت نصرا باهرا وأرغمت روسيا على التقهقر عن شواطئ المحيط الهادي، فإنا لا نحسب أن هذه الهزيمة تضطر روسيا لأن تترك سياستها القديمة التي عمل لأجلها كبار رجالها قرونا طويلة، فإن روسيا لا يمكن لبالها أن يهدأ حتى تكون حدود أملاكها الشرقية بحرا وهذا هو غرض السياسة الروسية الذي اشتغلت به وسعت لأجله من عهد «إيفان الهائل» في القرن السادس عشر؛ لأن في تلك الأمنية التي تسعى للحصول عليها حياتها وبقاءها دولة قوية بين دول أوروبا وممالكها.
إن الهزيمة لا تضر الروس بل تنفعهم لأنهم يعودون فيقوون أنفسهم ويتقون شر هزيمة ثانية، ويتقدمون بكل سكون وهدوء إلى الغاية المقصودة، ولو فني رجال الروس ومالهم فإنهم لا يرضون من الغنيمة بالقفول، ومن يراجع تاريخ روسيا يعلم أنها صنعت كل ما في وسعها لتتقدم على الشواطئ التي لا تجد فيها مقاومة شديدة، ولكنها فشلت مرارا في محاولتها الحصول على القسطنطينية، فإنها بعد أن تفوز على الأتراك بعد حرب عنيفة تنفق فيها أموالها وتقتل فيها رجالها كانت أوروبا تقف في وجهها متحدة فتعود روسيا إلى الوراء لأنها لا تقدر أن تقاوم بمفردها قارة متحدة لأن باقي دول أوروبا كلها كانت تعمل جهد طاقتها على منع روسيا عن القسطنطينية وكيف لروسيا أن تقاوم هذه الدول كافة؟!
وهناك أسباب أخرى تعوق روسيا عن القسطنطينية؛ منها أن روسيا تنتظر بفروغ صبر نصيبها في الغنيمة التركية عند تقسيمها، وهي تسعى إلى تلك الغاية ببطء وتمهل وترو؛ ولذلك فهي لا تنوي الحصول على القسطنطينية لأنها بحصولها على القوقاز الذي قوى نفوذها في بلاد فارس استطاعت القرب من «ما بين النهرين»، وهناك تطلب روسيا نصيبها لأنها لو تقدمت نحو الغرب قليلا فإنها تمس نصيب حليفتها فرنسا وهو سوريا، ولا ينتظر من روسيا أن تعادي فرنسا إلا بعد قرون طويلة؛ لأن فرنسا هي الدولة الوحيدة في أوروبا التي تستطيع أن تفرج كربة روسيا وقت احتياجها للمال، فإن روسيا وإن كانت تجد النفوس التي تزهقها والدم الذي تريقه في سبيل مطامعها، فإنها لا تجد الذهب الذي يسهل لها أعمالها؛ ولذلك فهي تكتفي من فرنسا بآسيا الصغرى، ولكن دول أوروبا لا تسمح لروسيا بأعمال سياسية إلا في جزيرة البلقان على أن روسيا قد فطنت إلى حيلة الدول الأوروبية؛ ولذلك فهي لن تحاول أبدا أن تمد يدها إلى ولايات البلقان وما والاها إلى القسطنطينية لأنها علمت أنها مهما أحرزت من نصر وفوز فإن أوروبا تضطرها دائما إلى التقهقر.
فلذلك نستطيع أن نتنبأ ونحن متحققين بأن روسيا ستقصر أطماعها على «ما بين النهرين» وعند ذلك تتساوى روسيا مع النمسا في الرغبة في حل المسألة المصرية حلا أوليا لإخراجها من قسمة الغنيمة؛ لئلا تعرقل مساعيها السياسية وتقف عقبة كئودا في سبيل أعمالها الاستعمارية.
وهنا نطلب من القارئ أن يلتفت إلى مسألة واحدة وهي أنه من القواعد المدونة في السياسة الدولية أن كل دولة تخفي مطامعها ولا تظهر رغبة شديدة في الحصول على ما تطلب. ويظهر أن مثل هذه القاعدة لا يقبلها القارئ مجردة عن البرهان لغرابتها، فنقول: إن السياسة إن لم تكن محمية بقوة السلاح فإنها لا تفلح، وبعبارة أخرى: لا تستطيع أي دولة أن تدخل ميدان السياسة الدولية إلا إذا كانت تستطيع أن تعزز أغراضها ومطالبها بقوة السيف والمدفع. فلما تكون الدول كلها على هذا الاستعداد وتعلم كل دولة أن الحرب مع الدولة الأخرى يجلب على كلتيهما الدمار والخراب يمتنعن كافة عن الحروب.
ولتتخذ مثلا رأيناه بأعيننا منذ عهد قريب، ولننظر قليلا إلى أغراض ألمانيا في السنين السابقة لحرب السبعين، فإن غرضها الوحيد كان إذلال فرنسا بفصلها عن كل الدول، ثم إذا نظرنا في مركز ألمانيا الجغرافي نرى أن أهم شيء كان عندها في ذلك الحين هو أن تكون آمنة هجوم عدو من خلفها؛ ولذلك اجتهدت في الحصول على حياد روسيا.
ولو أن روسيا في ذلك الحين أظهرت ميلا إلى مساعدة فرنسا فإن آمال ألمانيا وتدابيرها كانت كلها تذهب أدراج الرياح؛ لأن روسيا إذا اشتركت مع فرنسا في محاربة ألمانيا لكانت تلك الحرب هي الضربة القاضية على ألمانيا، ومما يدل على أن ألمانيا كانت تخشي جانب روسيا من عهد طويل قبل حرب السبعين - أي عندما كانت سياسة ألمانيا الاستعمارية لم تزل في حيز الخيال - هو أن ألمانيا اهتمت اهتماما شديدا بمسألة البحر الأسود مع عدم أهمية ذلك البحر لها مطلقا، وقد كان اهتمامها حقيقة بشأن روسيا فكانت تتساءل هل يفتح البحر الأسود للبواخر والمدرعات الروسية أم يقفل في وجهها؟ على أن ألمانيا لا تلام على هذا الاهتمام لأن قفل باب البحر الأسود في وجه روسيا كان مما صادقت عليه الدول في معاهدة باريس (1856)، ويجدر بكل دولة أن تسعى في تنفيذ منطوق هذه المعاهدة ولكن ألمانيا أظهرت اهتماما فوق العادة. وكانت روسيا تجتهد في كل آن في جس نبض سياسة ألمانيا لترى هلا تزال ألمانيا والدول مصرة على حرمان روسيا من المرور بالبحر الأسود وغل أيديها في الشرق الأدنى، ولكن ألمانيا فاقت روسيا في المكر، فإنها لم تصرح بما يكنه قلبها قبل الأوان؛ وأخبرت روسيا رسميا بأنها لا تهتم كثيرا بمسألة البحر الأسود ففرحت روسيا بذلك وجاملت ألمانيا بأن أعلنت حيادها في حرب السبعين، ونستطيع أن نأتي للقارئ بأمثلة كثيرة من هذا القبيل، وعند ذلك يقف القارئ على سبب اهتمام الدول الكبرى بمسألة الدردنيل اهتماما كبيرا مع العلم بأن هذه المسألة لا تمسهم ولا تمس سياستهم مباشرة.
ونحن نلتمس من القارئ عذرا لاستطرادنا في هذا الموضوع، إنما قصدنا بالإطالة فيه أن نريه وجها من وجوه السياسة الدولية، ونظهر له أنه ليست العادة في السياسة أن تنظر الدولة إلى ما يمسها مباشرة؛ بل كثيرا ما تحسب للمستقبل ألف حساب وتعمل أعمالا يظنها الجاهلون خطأ وهي عين الصواب.
أما وقد شرحنا فيما تقدم سياسة روسيا حيال المسألة المصرية، وأظهرنا أنها لم تستفد بالسياسة الحاضرة في وادي النيل، فما بقي علينا إلا أن نتكلم عما إذا كانت روسيا راضية عن الحالة السياسية في مصر، وهل تستفيد في المستقبل من المسألة المصرية إذا بقيت هذه المسألة على ما هي عليه من التعقيد؟ فنقول لا، فقد عرفنا فيما تقدم كل آمال روسيا السياسية؛ لأن روسيا ترمي إلى أخذ «ما بين النهرين» من الغنيمة التركية ولو اجتمعت قوى الأرض قاطبة لا تعوقها عن أخذ «ما بين النهرين»، ولا نظن أن بريطانيا تحرك لسانها أو ترفع يدها بكلمة أو حركة عدائية ضد روسيا في سياستها الاستعمارية؛ فلذلك تكون روسيا في مأمن من شر إنكلترا فإذا تقرر ذلك علمنا أنها ليست محتاجة إلى رضاء إنكلترا عن سياستها وليست محتاجة إلى مؤزراتها في أخذ «ما بين النهرين»؛ ولذلك فهي لا تخجل من بريطانيا ولا تحسب لها حسابا ولا ترضى أن تجاملها بسكوتها عن المسألة المصرية. ولنتكلم الآن عن علاقة ألمانيا بالمسألة المصرية، فنقول: إن الزمن الذي كانت فيه ألمانيا لا تعد شيئا مذكورا قد مضى وانقضى، فإنها في هذا العهد قد تقدمت تقدما باهرا، فإذا عدت الدول العظمى فإن ألمانيا تكون بلا جدال في مقدمة هذه الدول، ولا ينكر ما نقول من يرى أعمالها التجارية التي تدل على همة الألمان ونشاطهم، وقد عرفت الدول الآن أن ألمانيا تسعى لأن تكون من أكبر دول العالم قوة ونفوذا وثروة، ونحن لا نحتاج إلى الدلالة على نفوذ هذه الدولة في الشرق إلا إلى بعض الجداول التي تحوي الإحصائيات التجارية فنقتنع بعد ذلك بأن تجارة هذه الدولة بلغت مبلغا لم تكن لتحلم به.
وإذا بدأنا بإحصائيات قنال السويس وعددنا السفن والبواخر التي تمر منه نرى لأول وهلة أن السفن البريطانية والتجارة البريطانية كانت في أول أمر هذا القنال تشغل أربعة أخماسه.
ورغما عن ازدياد التجارة البريطانية واتساعها عاما فعاما بالنسبة لنفسها، فإنها في كل سنة تنقص نقصا فاحشا بالنسبة لمجموع متاجر الدول الأخرى، فقد كان معدل التجارة البريطانية التي تمر بقنال السويس بالنسبة لمتاجر الدول يساوي 77 في المائة، ولكن في سنة 1900 انحط هذا المعدل إلى 57 في المائة، وإذا نظرنا نظرا مدققا نجد أن هذا السقوط السريع في التجارة الإنكليزية مسبب عن مزاحمة التجارة الألمانية لها. هذا وعدد السفن الألمانية التي تمر بالقنال الآن لا يفوقه إلا عدد السفن البريطانية.
وهذا يدل على أن ألمانيا تطالب بحق عظيم وهو اشتراكها في كل المسائل التي تؤثر في التجارة في بلاد المشرق، ولكن ألمانيا لا تحسب المسائل التجارية شيئا في جانب منافعها السياسية على شواطئ البحر الأبيض الشرقية (ليفانت).
وأهمية ألمانيا هي في شيء واحد وهو أن شعبها شعب حي ينمو بسرعة شديدة ويحتاج عاجلا أو آجلا إلى مكان فسيح يملؤه بقوته وعمله، فإذا أردنا أن نبحث في سياسة ألمانيا الخارجية ينبغي لنا أن نضرب صفحا عن كل المسائل التي لا تتعلق بألمانيا مباشرة؛ لأن ساسة هذه الدولة يقفون في وجهنا قائلين: «إننا لا نعمل إلا لصالح ألمانيا، ولا يبعثنا على العمل إلا ما يهم بلادنا وينفع أبناءها.» على أن الغرض الوحيد الذي جمعت ألمانيا قواها لتحصل عليه قد أصبح معلوما لدى كل الناس، فإن ألمانيا من زمن بعيد تسعى لجعل آسيا الصغرى ولاية ألمانية، كما جعلت فرنسا في الزمن الماضي مصر ولاية فرنسوية.
ومن أقوى الأدلة على ذلك كون ألمانيا تنفق عن جود وعن كرم على مشروعات السكك الحديدية هناك، وهي تسعى جهدها في توطيد أقدام علمائها الباحثين في تاريخ أسيا الصغرى القديم، وحسبنا على ذلك دليلا ما كتبه علماء الأركيولوجيا الألمان عن أسيا الصغرى وهذه البعثات تعيش في البلاد وتخالط أهلها وتدرس أخلاقهم وتعرف أحوالهم .
ويرى القارئ الملم بتاريخ الاستعمار أن ألمانيا مقتفية في استعمار أسيا الصغرى آثار فرنسا في استعمار مصر، ولكن فرنسا ضربت صفحا عن فتح مصر بعد أن خذل نابوليون في سنتي 1798-1799، فظهر من ذلك عدم موافقة هذه السياسة الاستعمارية التي اتخذتها، ولكن ألمانيا لا ترمي إلى غرض خدمة الإنسانية ونشر المدنية في أسيا الصغرى كما كانت آمال فرنسا في مصر؛ بل هي ترمي إلى توطيد أقدامها على شواطئ البحر الأبيض الشرقية حتى إذا نالت آمالها سعت في نشر نفوذها إلى الخليج الفارسي، فإذا تيسر ذلك كله لألمانيا بطرق سلمية فإنها تحمد حظها وتشكر طالعها؛ لأنها لا تنوي أن تغرر بنفسها في حرب شعواء ربما تجر كل دول أوروبا إلى ميدانها وربما تعود عليها بالخراب والدمار، ولكن حصول ألمانيا على أمانيها بطرق سلمية يستلزم أمرا واحدا وهو رضى كل الدول المعاكسة لها، وجوابا عن هذا السؤال نقول: إن لألمانيا وسيلتين تنال بهما آمالها السياسية، وسنبحث في الوسيلة الأولى نظريا مع علمنا وتحققنا بأنها لا توصل ألمانيا إلى أغراضها، ولكن أقلام كبار الساسة قد اشتبكت في البحث في هذا الموضوع وبحت أصوات الخطباء من كثرة الجدل بشأنه فلا يليق بنا أن نهمله. وهذا الموضوع هو ما يعرف عند الساسة بالاتحاد الألماني، فإن فريقا من السياسيين النظريين يقولون بقرب انحلال إمبراطورية النمسا والمجر، فإذا تم هذا الانحلال تضم ألمانيا إلى نفسها الشعب النمسوي الذي يتكلم اللغة الألمانية وغيره ممن يرغبون في الانضمام إليها.
ونحن نرى أن هذا الأمر لا يتم لصعوبة حدوثه ولكثرة العقبات التي تقف في طريق إتمامه، وأول دليل على صدق ما نقول هو أننا لا نرى أمامنا دليلا واضحا على قرب انحلال إمبراطورية النمسا والمجر، ولو فرضنا أن هذا الانحلال يحدث فنحن لا نرى سببا يستلزم سرور ألمانيا عند حدوثه، فإن مشروع ضم النمسا إلى ألمانيا يضر بها أكثر مما ينفعها وقد صرح بذلك بسمارك نفسه ومن جاء بعده من أكابر ساسة الألمان، فإن ألمانيا تجد صعوبة شديدة في حكم رعاياها الكاثوليك، فهي إذا ضمت النمسا إليها تكون قد ضمت اثنى عشر مليونا من الكاثوليك ، ويستلزم هذا العدد الكبير أن ينتخب منهم لمجلس الريشتاج عدد وافر وهذا ما لا ترضاه ألمانيا؛ لأنه لا يوافق سياستها أن تكون الأغلبية في مجلس الريشتاج للكاثوليك دون البروتستانت، وعدا ذلك فإن ألمانيا تجد أمامها عقبة أخرى وهي حل مسألة المجر؛ لأن هؤلاء لا يمكن أن ينضموا إلى الاتحاد الألماني بطرق سلمية ولو أرغموا بالقوة الجبرية على الانضمام إلى ألمانيا.
على أنهم يكونون عاملا مضرا بألمانيا في داخل بلادها فتقف ألمانيا إذن بين عاملين مضرين يهددانها دائما بخطر عظيم وهما البولونيون والمجريون، ولو فرضنا أن ألمانيا تتغلب على تلك العقبات كلها وتتمكن أخيرا من ضم النمسويين والمجريين بلا مقاومة إلى بلادها، فإن دول أوروبا لا تسمح لها بمثل هذا الاتحاد لأنه تنتج عنه في وسط أوروبا إمبراطورية عظيمة جدا تفوق كل دولة، وتستطيع أن تكون هي الإمبراطورية الوحيدة النافذة الكلمة، المسموعة الأمر في أوروبا كلها، وهذا يؤدي إلى إذلال باقي الدول وعجزها عن مقاومة تلك الإمبراطورية الألمانية العظيمة، على أن باقي الدول تخشى خطرا آخر إذا تم هذا الاتحاد وهو أن ألمانيا تأخذ مكان النمسا في استعمار البلقان وبعد أن تضع يدها على تركية أوروبا تمد يدها إلى سالونيك، فإذا صارت في سالونيك صار وضع يدها على آسيا الصغرى أسهل من السهل.
على أننا أثبتنا استحالة تحقيق هذا الحلم؛ ولذلك نضرب عنه صفحا في كلامنا عن السياسة العملية لأن كل ما ذكرناه ليس إلا نوعا من السياسة اسمه السياسة النظرية وهي سياسة القول وليست سياسة العمل، ولم نكن نقصد أن نشير إلى هذا الاتحاد الألماني وسياسته لو لم يكن ساسة أوروبا قد كتبوا المجلدات الضخمة ليثبتوا إمكان وقوع هذا الأمر وتحقيق ذلك الحلم، وهنا نكتفي بذكر كتاب «شرا دام» الذي كتب في هذا الموضوع.
ولذلك يجب علينا أن نشتغل أولا بمساعي ألمانيا لوضع يدها على آسيا الصغرى بالوسائل السياسية؛ لأن نظارة ألمانيا الخارجية لم تدبر عملا ولم ترسم خطة إلا معتمدة على إتمام هذا المشروع، فإذا نظرنا إلى سياسة ألمانيا الخارجية من هذه الجهة نستطيع حينئذ أن نقدر اهتمام ألمانيا بالمسألة المصرية حق قدره.
إن مصر لا تهم ألمانيا مباشرة وهذا يقلل كثيرا من اشتغال ألمانيا بمستقبل هذه البلاد ما دام نصيبها في الدين المصري مضمونا، ولا نرى أن ازدياد تجارة ألمانيا ونمو عدد سفنها التي تمر بقنال السويس يغير سياسة ألمانيا بشأن مصر؛ لأنه في زمان السلم لا توجد دولة تعوق حرية المرور في قنال السويس، فإن الدول كلها تساعد جهد طاقتها لتسهيل المرور بهذا القنال وفي وقت الحرب، فالدولة القوية تمنع الدولة الضعيفة وتنقلب كل المعاهدات والمحالفات والاتفاقيات ويصير الحق للقوة، فسيرى القارئ أن ألمانيا على كلتى الحالتين آمنة مطمئنة. فيظهر مما قدمنا أن المسألة المصرية لألمانيا ليست إلا مسألة ثانوية في سياستها الخارجية ولا نغالي إذا قلنا إنه من صالح ألمانيا أن يبقى المركز السياسي في مصر كما هو؛ لأن ألمانيا ترمي إلى وضع يدها على آسيا الصغرى بالشكل الذي وضعت إنكلترا به يدها على مصر، وتمتاز ألمانيا على إنكلترا بأنها تريد أن تجعل مركزها في آسيا الصغرى مركزا دائما؛ فلذلك لا نرجح أن ألمانيا تحاول أن تقاوم إنكلترا في مصر لأنها ترغب أن تكون بريطانيا سابقة لها في احتلال مثل احتلالها، وتود أن يستمر احتلال مصر احتجاجا حيا في وجه من يلوم ألمانيا على احتلالها لآسيا الصغرى، ولا يخفى علينا أيضا أن بريطانيا هي الدولة الوحيدة التي تخشى ألمانيا بأسها.
ولا ننكر أن الصحف كثيرا ما تشيع بقرب شبوب نار الحرب بين ألمانيا وروسيا وكثيرا ما يطير البرق خبر توتر العلائق بين برلين وبطرسبرج، ولكن كل هذه الإشاعات وتلك الأخبار ليست إلا من مختلفات الصحف التي تجتهد دائما في استلفات أنظار قرائها بمثل تلك الأخبار. وقد ذكرنا فيما مضى آمال روسيا الاستعمارية معززين قولنا بالأدلة الواضحة ونحن متحققون من أن تلك الآمال هي التي تجعل ألمانيا في مأمن من وقوع حرب بينها وبين روسيا، ونقول هنا إن روسيا قد عقدت آمالها على «ما بين النهرين» وألمانيا على «آسيا الصغرى»، فليس في سياسة الدولتين ما يوجب تزاحم مصالحهما المختلفة.
هذا - ولا ريب في أن تحسن العلائق بين تينك الدولتين هو الوسيلة الأولى لنجاحهما في سياستهما وقد لوحظ في الأيام الأخيرة - فإنه كلما نشأ خلاف بين الدولتين كانتا تسعيان جهد طاقتيهما في إطفاء ناره؛ لأن الروس والألمان مضطرون لأن تكون دولتاهما يدا واحدة لأسباب شتى، منها أن كلتا الدولتين تتألمان من البولونيين الذين يهددون سلامهما، فكل واحدة منهما تسعى في إخماد أنفاس أهل بولاندا لتستريح هي وجارتها، ومنها أن سياسة كل دولة منهما قد اتخذت طريقا مخالفا للطريق التي اتخذتها سياسة الدولة الأخرى، فمن المستحيل إذن أن تصطدم السياستان فتحدثان شقاقا بين الدولتين وقد ساد السلام وتم حسن التفاهم بين الدولتين منذ 1762 ولم يزل سائدا إلى الآن، وهذا من الغرابة بمكان؛ لأن تاريخ السياسة لا يحفظ ذكر دولتين ساد بينهما السلام قرنا ونصف قرن تقريبا بدون أن يحدث ما يكدر صفوه أو يخدش وجهه.
فيرى القارئ من هذا أن ألمانيا لا تخشى معاكسة روسيا ولم تبق إلا بريطانيا العظمى التي تخاف ألمانيا مقاومتها لها في آسيا الصغرى؛ فلذلك تود ألمانيا أن تكون إنكلترا مغلولة الأيدي في مصر لأن في بقائها في وادي النيل حجة عظيمة عليها إذا وقفت في وجه ألمانيا وأقلقت راحتها في أسيا الصغرى، لكن لا يفوتنا أن سياسة ألمانيا لا تزال مقلقلة وكل ما يعرف عنها هو رغبتها في استعمار بلاد واسعة يلجأ إليها أبناؤها الذين تضيق عليهم بلادهم، ولكن لا يمكننا أن نتحقق من معرفة هذا الميدان الذي تنوي ألمانيا استعماره؛ سيما بعد حوادث الصيف الماضي التي قلبت سياسة الشرق رأسا على عقب حتى أصبح إبداء رأي سليم من الخطل عن مستقبل السياسة الشرقية من أصعب الأمور، ومن راقب السياسة الدولية يذكر أنه رأى تغيرا مهما في سياسة ألمانيا الخارجية؛ لأن قليلا من غير الألمان يعرفون التقدم السريع والنجاح الباهر اللذين حازتهما ألمانيا في مراكش في خلال العشر سنوات الماضية.
فإن ألمانيا سلكت في المغرب الأقصى مسلك السكون والتؤدة مع المثابرة والصبر، وهذه هي الصفات التي تمتاز بها ألمانيا والألمان، فإنهم لا يصرخون ويصخبون ولا يملئون العالم جعجعة كغيرهم، ولكنهم يتخذون أبدا سياسة الكتمان والتأني التي تؤدي دائما بهم إلى النجاح والفوز. وكل ما يعمله الألمان لينبهوا العالم ويفتحوا عيونه لمنافعهم هو تأليف الكتب الضخمة التي يشرحون فيها سياستهم ومنافعهم ومصالحهم، والذي يطالع بعض هذه الكتب يرى لأول وهلة أن ألمانيا تسعى لأن تكون دولة بحرية كبيرة، فإن كتاب الألمان ينشرون في كل عام عددا عظيما من الكتب المتعلقة بالبحرية الألمانية والأساطيل والحصون والثغور وما شاكل ذلك، وغير هذه الكتب يشرح آمال ألمانيا في مستقبل بحريتها. هذا ولا يليق بنا أن ننسى القدر العظيم من الكتب الألمانية التي كتبت عن مراكش وحاضرها ومستقبلها، وقد يستغرب كلامنا هذا من لا يعرف أن عدد القراء في ألمانيا عظيم جدا، وأن الشبيبة الألمانية ظمآنة لأخبار الاستعمار والمستعمرات، فيحتاج المؤلفون إلى تأليف كتب كثيرة تتناول كل موضوع استعماري وتسهب فيه إسهابا مشبعا، فلم تدرس شبيبة ألمانيا موضوعا أكثر من موضوع مراكش، فإنها تناولت كل صغيرة وكبيرة مما يتعلق بأمر هذه البلاد وفحصتها فحصا دقيقا. دع ما كتب بأقلام المستنفضين والجغرافيين الذين طافوها من أقصاها إلى أقصاها ورسموا خرائطها، وما كتبه رجال الحرب عن مركزها الحربي وعن الخطر المحدق بها من جهة فرنسا.
نقول وقد قرأنا إن الميزانية التجارية للمغرب الأقصى في عام 1902 بلغت 72000000 مارك؛ أي نحو 4000000ج. ولألمانيا من هذه الميزانية أغلبها.
وفي سنة 1902 أيضا أرسلت ألمانيا 292 سفينة محمولها 252211 طنا، وأرسلت فرنسا 311 سفينة محمولها 202778 طنا. وفي مراكش 61 محلا تجاريا أوروبيا منها 23 ألمانيا و16 إنكليزيا و10 إسبانية و7 فرنسوية، وفي 11 أكتوبر 1902 تأسست شركة ألمانية باسم «الشركة المراكشية» أو «ماروكابيش جسلشافت»، وتعضد هذه الشركة جريدة ألمانية اسمها «نوردافريكا»، ويقصر العد دون الكتب الألمانية التي كتبت عن مراكش وتجارتها وسياستها. ونحن نترك القارئ يستنتج مما تقدم ما يريد.
الفصل الثاني
فرنسا وإيطاليا
من المعلوم أنه إذا عدت الدول التي لها في مصر شأن كبير فإن إنكلترا تعد في مقدمتها ثم تتلوها فرنسا؛ لأن فرنسا بلا ريب هي من أهم العوامل في مستقبل هذه البلاد، ونحن لا نعول فيما نكتبه على ما قيل وكتب عن سياسة تلك الدول في مصر، فإنها قرظت وانتقدت ومدحت وذمت في كتب كثيرة نشرت في أغلب لغات أوروبا، ويلوح لمطالع كل هذه الكتب أن كاتبيها أساءوا فهم سياسة فرنسا في مصر، أو فهموها ثم عكسوا معناها وصحفوها، وقد تتبين صحة ما نقول لمن يعرف حق المعرفة أن فرنسا في كل أعمالها السياسية في مصر لم تزغ مرة في العمر واحدة عن سياستها الأولى التي اختطت خطتها وسارت على دربها منذ ابتدأت علاقتها بمصر.
وبين الذين كتبوا عن مصر عدد عظيم من كبار الساسة الذين يجب احترامهم والإصغاء إلى ما يقولون والنظر في آرائهم بعين الاعتبار، ولكن عندما يكتب هؤلاء الكتاب عن فرنسا فإنهم للأسف يخطئون فيما يكتبون خطأ عظيما، ويظهر لنا أن الذي سبب وقوعهم في الخطأ هو نظرهم بعين الاحتقار لسياسة فرنسا كلها، وقد يدفعنا ما نراه فيما يكتبونه بأن نرميهم بالجهل بتاريخ فرنسا السياسي، وعدم نظرهم إلى هذه السياسة الفرنسوية كسلسلة منتظمة مستمرة، وليس من الحكمة أن هؤلاء الكتاب عندما يكتبون عن سياسة أية دولة أوروبية يبنون حكمهم على ما يبدو لهم من صغائر الأمور المتعلقة بهذه الدولة؛ لأن المتتبع لتاريخ سياسة الدول الخارجية يرى أنها تسير في طريق واحدة وتقصد غرضا واحدا، ومهما عمل كبار الساسة الذين يتولون أمرها لتغييرها وتحويرها فإنهم لا ينجحون لأنها لا تتأثر بأعمالهم؛ ولذلك نرى أن أكابر السياسيين ينتهزون الفرص ويستفيدون من الظروف ولكنهم لا يخلقون الفرص ولا يصنعون الظروف.
ولنشرح الآن مغزى ما نقول بعد أن نثبت صدقه لئلا يرمى قولنا بسهام الملام ونتهم بأننا ندعي صدق ما نكتب وهو خلو من الصدق، فنقول إننا لا نرى نفسنا في حاجة إلى شرح العلائق السياسية التي كانت بين إنكلترا وفرنسا بشأن المسألة المصرية، وكثيرا ما ظلم كتاب الإنكليز فرنسا بتصويرهم إياها بصورة الحسود لإنكلترا والحاقد عليها لتقدمها ونجاحها لا سيما في مصر، ويتهم هؤلاء الكتاب فرنسا بأنها سنحت لها فرصة ثمينة في مصر فلم تنتهزها، فلما جاءت إنكلترا وانتهزتها واستفادت منها نقمت عليها فرنسا وحسدتها وحقدت عليها.
ويقول المرجفون من هؤلاء الكتاب إن فرنسا وإن لم تحتل مصر فإنها كامنة كمون الفهد الجريح لتنظر الفرصة المناسبة فتقفز من مرقدها وتنشب أظفارها بعدوها، ويقول المرجفون أمهلوا فرنسا ريثما تقع إنكلترا في ورطة وتلقي بنفسها في أزمة لا ترى لنفسها منها مخرجا، عند ذلك تهب فرنسا للانتقام. هذا ما يقوله المرجفون، أما المتقولون من كتاب الإنكليز فيقولون إن فرنسا تظهر دائما استياءها وغضبها من إنكلترا في مصر، وتفرغ جهدها في البحث عن سيئة من سيئات إنكلترا فتقيم الدنيا وتقعدها بمماحكتها ومكابرتها.
ونحن نحمد الله على أنا لسنا في حاجة إلى إظهار كذب كل هذه الادعاءات التي لا أصل لها، فقد دلت الحوادث على كذبها وبرهنت الأيام على أنها سفسطة لا حقيقة وراءها. وكثيرا ما وجدت إنكلترا نفسها في ضيق لا مفر منه وفي أزمة مالية لا مخرج لها منها، وما كانت فرنسا لتصنع إلا ما يساعد إنكلترا على الخروج مما وقعت فيه ولم تظهر يوما أنها في صفوف أعداء إنكلترا الألداء كما يقول المرجفون الذين يتبعهم المتقولون، فما سبب كل هذه الأراجيف والأقاويل إذن؟ لأننا لا نعتقد بأن أمورا كهذه تشاع وتذاع وتملأ الأفواه والأسماع ويعتقدها الصغير والكبير إلا إذا كان لها مكان من الحق ونصيب وافر من الصحة.
يقال جوابا عن هذا السؤال إن سبب ذلك الظن السيئ هو أن آمال فرنسا الاستعمارية تشبه كثيرا آمال إنكلترا، فكأن الدولتين فرسا رهان أو فتيان يستبقان، وقد شاع هذا الظن ولكنه يدل على جهل القائلين به بتاريخ فرنسا السياسي؛ بل بتاريخ سياسة أوروبا كلها.
فإن فرنسا لا تود أن تكون مزاحمة لإنكلترا في سياستها الخارجية لأن مركزها في قارة أوروبا لا يسمح لها بذلك، ولا يمكن القول بأن فرنسا صحت عزيمتها يوما من الأيام على فتح مصر؛ لأن أول بديهيات السياسة الفرنسوية هي أن لا تكلف نفسها في فتح المستعمرات أكثر مما تتحمل من مال ورجال. وقد علمتها الحوادث أن شر افتتاح المستعمرات البعيدة أكثر من خيرها، وقد أبنا ذلك فيما تقدم عندما ذكرنا حملتي مصر والمكسيك.
وقد أسهبنا الكلام فيما مضى من هذا الكتاب عن الصعوبات والعقبات الداخلية التي تعترض الدول الأوروبية عندما تريد إحداها أن تتوسع في سياستها الخارجية، ونحن متحققون من أن فرنسا تحققت من سخافة تلك الأحلام الاستعمارية، ويظهر ذلك لمن يعرف تاريخ فرنسا بالتدقيق ويرى بعينه الفرص العديدة التي سنحت لها لتتوسع في الاستعمار، فلم تنتهزها وضحتها جميعا لأجل سيادة السلام في داخليتها.
وغني عن البيان أن حياة الأمم كحياة الأفراد، والدليل على ذلك وجود وجه الشبه بين سياسة الأسرة وسياسة الأمة، فلو كانت الأسرة في شقاق داخلي فإن رب الدار لا يستطيع أن يتناول من الأعمال الخارجية ما يضمن لأسرته رزقا وعيشة راضية، فما بال ذلك الرجل لو كانت داخليته في شقاق وهو في الخارج مهدد من أعدائه ومبغضيه، وما أصدق ذلك المثل على فرنسا لو نظرنا لحادثة أملاكها في قارة أمريكا الشمالية، وهي «دومينيون أوف كندا» التي سلمتها فرنسا لإنكلترا ثمنا للحرب المشئومة، فإننا نتذكر أن فرنسا لم تعتن بهذه المستعمرة قبل أن تنازعها إنكلترا إياها ولا بعد ذلك، حتى إنها لم تعد مركبا ولم ترسل جنديا بل ولم تحرك لسانا أو ترفع يدا لنجاة بطلها العظيم مونتكام الذي ذهب شهيدا في وقعة «جبل إبراهام» بعد أن جاهد الجهاد الحسن، وكم بطل فرنسوي من رجال البحر ورجال البر مات كسير القلب جريح الفؤاد من إهمال دولته أمره وغضها النظر عن آماله وأمانيه. نعم لقد مات هؤلاء الأبطال كافة وفي نفوسهم أماني لم تتم وآمال لم تتحقق، فضاعت حياتهم هباء وضحيت في سبيل الاختلافات الداخلية. ويحق لنا ألا ننسى في هذا المقام حادثة 1783، وهي أوضح برهان على صدق ما نقول، وقد اخترنا هذه الحادثة لأن أغلب الكتاب لم يذكروها، ولأن المؤرخين الذين ذكروها أشاروا إليها إشارة خفية ولم يفصلوها.
وتفصيل الخبر هو أن أمير البحر «ببلي دي سوفرين» الأميرال الفرنسوي الشهير بقوة عقله وبراعته في فنون البحرية وضع يده على شاطئ الكارنتيك بعد أن لاقى ما لاقى من الأهوال الصعبة التي وضعها الإنكليز في طريقه ليعوقوه عن التقدم. وبعد أن أوشك أن يتنفس الصعداء بعد ذلك الفوز المبين بلغه رسول من فرنسا يحمل إليه خبرا أسود من القار وأشأم من نعيق البوم، وهو أن يسلم للإنكليز شاطئ الكارنتيك وكل ما عداه مما افتتحه عنوة بناء على اتفاقية عقدت بين دولته ودولة إنكلترا، فلم ير سوفرين أمامه إلا الطاعة العمياء، فأذعن وهو يكاد يموت حدقا وغيظا وبإقلاعه من المياه الهندية اختفت أثار الدولة الفرنسوية من تلك البقاع وذهبت أماني «دوبليه» هباء في الهواء. على أن فرنسا لم تطلق الاستعمار مرة واحدة لأنها في حاجة إليه؛ ولذلك نراها إذا عثرت بأرض طيبة لا تبعد عنها كثيرا وتستطيع أن تستمد منها رزقا بشرط أن تضيف هذه الأرض إلى فرنسا في وقت ضعفها قوة، فإن فرنسا تفرغ كل وسعها وتعمل جهد طاقتها لتضم هذه البلاد إليها، وعلى هذا كان احتلال جزيرة كورسيكا من أهم الأمور لفرنسا؛ لأنه من المستحيل عليها أن تترك جزيرة ككورسيكا المتمكنة كل التمكن من شواطئها الجنوبية؛ ولأن هذه الجزيرة إذا وقعت في يد الإنكليز فإنهم لا محالة يخلقون منها جبل طارق آخر ويحصرون مواني فرنسا في أقرب فرصة، فلما قر رأي الفرنسويين على أخذ هذه الجزيرة تقدموا إلى أهل جنوه وابتاعوها منهم على أنهم تعبوا تعبا شديدا في كسر شوكة أهل الجزيرة.
و«الجزائر» هي أهم مستعمرة فرنسوية بعد كورسيكا، فإنها لا تبعد عن ثغر طولون إلا بضع ساعات وقد كلفت فرنسا ما كلفتها من مال ورجال، ولكنها كانت تستحق ما أنفق من المال وما أزهق من النفوس في سبيلها؛ لأنها زيادة عن قربها من فرنسا فإنها بلا شك مورد رزق ومركز حربي لا مثيل له، وعلاوة على ذلك فإن فرنسا تستطيع أن تحشد من جنود الجزائريين في وقت الحرب ما شاءت الأعداء، نقول إننا ذكرنا فيما مضى بإسهاب وشرح طويل المسائل الداخلية والمشاكل الأهلية التي تعوق الدول الأوروبية عن الاندفاع في تيار الاستعمار، وقلنا هناك إن عدم وجود هذه العقبات وتلك الصعوبات في سبيل إنكلترا هو الذي سهل عليها سياسة الاستعمار وجعل نجاح سياستها الخارجية أمرا محققا، وقد أفضنا البحث في هذا الموضوع وأطلنا الكلام في أن دول أوروبا لا تستطيع أن تسابق إنكلترا في سياستها الاستعمارية لأنهن لو حاولن ذلك قضين على حياتهن السياسية، وما أسهبنا الكلام في تلك المسألة إلا دفعا للوهم السائد من أن هذه الدول كلها تنظر إلى إنكلترا بعين الحسود الحاقد لأنها لم تنل سعيها ولم تبلغ شأوها، ولقد يندهش القارئ عندما تذكر له أن الدول الأوروبية الصغرى هي التي تسعى لمسابقة إنكلترا أو سياستها الاستعمارية؛ لأن هؤلاء الدول يؤسسن من المستعمرات ما يقرب مما أسست مالكة البحار، ولا يغيب عن ذهن القارئ أن ألمانيا - وهي تلك الدولة الضخمة ذات الأساطيل والجيوش - ليست قادرة على كبح جماح مستعمراتها الصغيرة في أفريقيا عندما تكون البورتغال - وهي هذه المملكة الحقيرة التي لا يسمع اسمها في العام مرة - قادرة على سياسة مستعمراتها الأفريقية الواسعة بدون أن يشعر بها أحد.
نعم! إن ألمانيا بما لها من العظمة والسلطة لا تستطيع أن ترد قبائل «الهروروس» إلى حظيرة طاعتها، مع أن هولاندا على ما هي عليه من حقارة الشأن وصغر القدر قابضة بيد من حديد على مستعمرات «آشين» على ما عليه أهل تلك المستعمرات من العصيان الدائم، وما ذلك إلا لأن هولاندا مطمئنة في داخليتها.
فكأن حياد هولاندا هو سبب نجاحها، وقد جعلها ذلك الحياد جزيرة سياسية، كما جعل البحر إنكلترا جزيرة جغرافية، ولو أن ثروة هولاندا ليست عظيمة ولكن كل منابعها في يدها وتحت تصرفها، فهي تستطيع أن تحصر كل قواها في مكان الضعف من جسمها، ولكن ألمانيا على ضخامتها وقوتها لا تستطيع أن تجهز أسطولا كبيرا لأعمالها الحربية وراء البحار، ولا تستطيع أن تبعث إلى «الهروروس» بجيش عرمرم يعيدهم إلى فناء الولاء ويعلمهم درسا في الأدب.
ومثل هولاندا كمثل البورتغال، فإن حياد إسبانيا قد ضمن للبورتغال السلامة في بلادها فهي أبدا آمنة مطمئنة فلا من يقلقها من الداخل ولا من يزعجها من الخارج؛ ولذا فهي تستطيع أن تحصر قواها لتحقق أمانيها الاستعمارية.
وعندما نضم هذه الحقائق إلى بعضها يتضح لنا بأجلى بيان أن دولة كفرنسا مهددة من كل حد من حدودها ومحاطة بأعداء أشداء من كل جهاتها، وفي داخليتها ما في جسم العليل من السقام من قبل الكنيسة الكاثوليكية والأحزاب السياسية المختلفة، لا تستطيع أن تعرض نفسها لكل تلك الأخطار لأجل مستعمرة بعيدة مهما كانت تلك المستعمرة غنية عظيمة.
ولو تيسر لفرنسا أن تعثر بمستعمرات لا تكلفها كثيرا ولا تسبب لها انزعاجا فإنها بلا ريب تضع يدها عليها وتحرص عليها ما دام الشرطان السابقان متوفرين، ولو شئنا على ذلك برهانا فإننا لا نجد أقرب لنا من أن ننظر في مستعمراتها الحاضرة، فإن «تونكين» التي يبلغ عدد سكانها أكثر من سبعة ملايين من النفوس ليس فيها إلا عدد صغير جدا من الفرنسويين المستعمرين فلو نهض الأهالي للعصيان فإنهم لا محالة ينالون ما يرغبون، وليست التونكين فقط هي التي تحكمها فرنسا بلا نفقة أو قلق، فإن أملاكها في أواسط أفريقا كثيرة الشبه بتونكين؛ لأن أهل هذه البلاد لو مالوا يوما إلى شق عصا الطاعة فبضع مئين من جنود الفرنسويين يكبحون جماحهم في يوم وليلة.
إذا تقرر ذلك فنحن نطلب من القارئ عندما نتكلم عن سياسة فرنسا أن يصرف عن ذهنه الظن الفاسد الشائع، وهو أن كل حركات فرنسا وسكناتها ليست إلا لتسابق إنكلترا في سياسة الاستعمار، وفوق كل ذلك فيليق بمصر أن تصرف ظنها بأن فرنسا تدافع عن حقوق مصر والمصريين بشدة وقوة.
ولو أن الإنكليز احتلوا مصر ظلما رغم أنف المصريين فإن المصريين يخطئون لو انتظروا من فرنسا خلاصا أو نجاة؛ لأن فرنسا لا إرادة لها ولا قدرة لديها لأخذ مصر لنفسها، فهل جنت جنونا بحب مصر حتى تنفق ما تنفق من ثروتها لتحرير مصر والمصريين؟ ولو أن المصريين رأوا بريق آمالهم في فرنسا فلقد خدعوا أنفسهم إن لم يكن هذا البريق الذي رأوه قد غرهم، وإن كانت شمس فرنسا قد أشرقت على مصر برهة، فلتعلم مصر أن تلك الشمس قد أغربت وغابت إلى الأبد.
على أن مصر لا يحق لها أن تيأس لأنها لو كانت آمالها ترمي إلى الاستقلال، فإن ميدان هذه الآمال لا يزال واسعا كما كان من قبل، وكل ما أردنا تقريره هو أن تلك الآمال لو كانت قد وضعت في فرنسا فقد ضاعت. لقد مضى الزمن الذي كانت الأمم تعمل فيه لأجل الأفكار الخيالية. اليوم يوم المنافع الذاتية والمطامع الشخصية، إن هذا الزمن هو زمن الأنانية والأثره، وقد ولى وانقضى عهد الغيرية، ولو قدر لمصر أن تصير في المستقبل دولة حرة مستقلة فإنها لا تنال ذلك إلا إذا رأت كل دول أوروبا في منحها تلك الحرية وهذا الاستغلال نفعا لذاتها.
ولنعد ثانية إلى فرنسا وسياستها في مصر، فنقول إن الناظر إلى سياسة فرنسا بمنظار الحكمة والتبصر يرى أنها بريئة من كل التهم التي تنسبها لها الصحف التي تردد صدى صوت الأحزاب؛ لأن نظرة واحدة في سياستها الخارجية تقنع الإنسان بأن سياسة فرنسا الاستعمارية لم تشمل مصر، وأن مجال الاستعمار لا يزال واسعا في وجه فرنسا في البلاد المجاورة لها؛ ولذلك لا يخطر ببال عاقل أن فرنسا تترك البلاد القريبة وتمد يدها إلى بلاد بعيدة مثل مصر مع علمها بما يكلفها وضع يدها على هذه البلاد.
وأي دليل أوضح على ما قدمنا من المحالفة الفرنسوية الإنكليزية التي عقدت في 8 أبريل من عام 1904، ولا نحتاج إلا لأن نقرأ صورة تلك المحالفة ضاربين صفحا عما قاله عنها المتقولون والمرجفون، فنراها حينئذ علامة من علامات الاتفاق الودي بين الدولتين، ولكن لا يصح أن يقال عنها إنها نتيجة من نتائج ذلك الاتفاق، ولا يصح أيضا أن نقول عنها إنها ثمرة أتعاب الملك إدوارد السابع الذي لم يأل جهدا في تقريب إنكلترا من فرنسا، إنما يصح أن نقول إن فرنسا لم تعقد هذه المحالفة إلا بناء على سياستها التي رسمتها لنفسها نحو مصر، والدليل على قولنا هذا أن فرنسا قالت في هذه المحالفة إنها لن تتداخل في المستقبل في سياسة بريطانيا العظمى في مصر بما يؤخر أعمال إنكلترا في وادي النيل، ولكنها لم تتبرأ من سياستها الماضية في مصر، فكأن هذه المحالفة لم تكلف فرنسا إلا التصريح بقاعدة ثابتة من قواعد سياستها الخارجية ونالت مقابل ذلك حرية تامة في شمال أفريقا، وهاك المادة الأولى من تلك المحالفة:
إن حكومة جلالة الملك تعلن أن ليس لها إرب في تغيير الحال السياسية في مصر، وتصرح الحكومة الفرنسوية أنها لا تعوق أعمال إنكلترا في هذه البلاد بطلب تحديد أجل للاحتلال البريطاني أو بما شاكل ذلك، وأنها ترضى بمشروع الدكريتو الخديوي الملحق بالاتفاقية المذكورة المحتوي على الضمانات الضرورية لحماية مصالح أصحاب الديون المصرية على شرط أنه ينفذ ولا يتم فيه أقل تحوير بدون رضى الحكومات التي وقعت على معاهدة لندن سنة 1885.
فيظهر من ذلك أن سياسة فرنسا الخارجية قد عادت إلى الانكماش كأن ساستها علموا أنها لا تستطيع أن تمارس مهنة الاستعمار بالبراعة والدقة اللتين تمارس بريطانيا بهما ذلك الفن، ومن عادة الفرنسويين أنهم إذا عملوا لتحقيق أحلام استعمارية ووجدوا معارضة ومقاومة فهم يفضلون أن ينسحبوا على أن يستمروا على مقاومة المعارضين لهم.
ومما يعوق فرنسا عن التوسع في الاستعمار هو كونها غير مضطرة كغيرها من الدول الأوروبية لإيجاد المستعمرات الواسعة لأبنائها الذين تضيق عنهم بلادهم؛ لأن عدد سكانها لا يزيد سنة فسنة كما يزيد عدد سكان سواها من الممالك الغربية، فلا تقوم فرنسا بحروب خارجية إلا إذا كانت هذه الحروب للحصول على بلاد واسعة تضيف إلى اسم فرنسا شهرة وصيتا، فإذا هي خابت وفشلت في حروبها الخارجية فلا تغتم ولا تحزن كما تغتم وتحزن الدول الأخرى التي لا تسع بلادها أبناءها، ويحدث من ذلك فيها من الفقر والفاقة والشقاء ما لا تحمد عاقبته، وكثيرا ما يكون فشل فرنسا في حروبها الخارجية سببا لنفع عظيم تجنيه في داخليتها؛ لأنها تتمكن من إصلاح أمورها وتستطيع أن تضيف إلى قوتها قوة.
وعندما ننظر إلى هذه المسائل من هذه الجهة يمكننا أن نعلم ظلم وجهل الذين صبوا على رأس «الموسيو دي فرسيتيه» وغيره من وزراء فرنسا أمطار الذم والتأنيب والسب؛ لأن الحقيقة تنجلي لنا تمام الانجلاء، ويظهر لنا هؤلاء الوزراء بمظهر الرجال العقلاء الذين فهموا مركز دولتهم فهما حقيقيا، وعلموا مقدرتها حق العلم ووقفوا على مطالبها وحاجاتها، ووجدوا في نفوسهم شجاعة أدبية استطاعوا بها أن يقودوا أمتهم، ناظرين إلى الحقائق الثابتة والظروف السياسية التي تؤدي إلى النجاح المطلوب رغم أنف الأعداء الحاقدين الكاذبين، على أن هؤلاء الوزراء لو رأوا أن في السياسة الاستعمارية لبلادهم خيرا لما تأخروا عنها لحظة واحدة، ولكنهم علموا أنهم إن اتخذوا سياسة الاستعمار، فإن هذه السياسة تفشل في أقرب زمن.
ولا ننسى أن «المسيو ديلكاسيه» وزير خارجية فرنسا سابقا هو الذي قال بأن تاريخ المملكة كتاريخ الحيوان الحي وكما أن للجسم الآلي حدود طبيعية لا يتعداها كذلك للدولة حدود طبيعية لا تتعداها وطرق تنمو بها حتى تبلغ أكثر ما يمكنها بلوغه من النمو والقوة. ولذلك كل من يحاول أن يدفع بالمملكة في غير طريقها الطبيعي، فهو في الحقيقة يرمي بها في هوة الضعف ويقذف بها في بحر من المصائب؛ فلذا كان واجب السياسي الحاذق الأمين أن يعرف الطريق التي رسمتها الطبيعة لمملكته ليقودها فيها فتستطيع أن تنمو وتتقوى، ونحن نعتقد أن كل سياسي فرنسا في العهد الأخير ساروا على هذه السياسة وعملوا بها على قدر طاقتهم.
ومثل هذه السياسة هو الذي ألجأ فرنسا في 1890 إلى التنازل عن حقوقها في سلطنة زنجبار؛ لأن ساستها عرفوا أنهم باحتلالهم جزءا من زنجبار يكونون أبدا في احتكاك مع إنكلترا وكثيرا ما يكون هذا الاحتكاك الاستعماري مضرا غير نافع لأن نتائجه لا توازي أتعاب فرنسا ونفقتها؛ ولذلك تقهقرت فرنسا برشاقة وبراعة وانتظام. وليس تقهقرها عن مصر إلا صورة ثانية من تقهقرها في زنجبار.
وعندما نتكلم عن علاقة إيطاليا بالمسألة المصرية، فيجب علينا أن نخفف الوطأ لرقة الأرض التي نسير عليها ونحافة الموضوع الذي نبحث فيه.
وأول ما نقول في هذا الموضوع هو أن سياسة إيطاليا في مصر في أثناء السنين الأخيرة قد تغيرت تغييرا شديدا، ولا يخفى أن هذا التغيير قد سبب إزعاج الخواطر وجرح إحساسات كثيرين، ومن حسن الحظ أن تغيير تلك العلائق لم يكن مسببا عن مشاكل سياسية؛ ولذلك لم يتعد حدود الكلام المزخرف اللطيف، ولقد اعتاد السياسيون على أن يعبروا عن أشد المعاني بأرق الألفاظ، فهم إذا أرادوا أن يهددوا دولة بالحرب قالوا: «إننا لا نعتبر عملكم الأخير عملا وديا.» فلا يخفى حينئذ بناء على ما ذكرناه أن الألفاظ اللطيفة كثيرا ما تؤدي أشد معاني البغض والكراهية والعداء، ويجب علينا هنا أن نعيد على القارئ رأينا وهو أن السياسة الدولية تختلف كثيرا عن سياسة الأفراد وقد قال: «سبينوزا» إن الدول عندما تتعامل تكون دائما في الحالة الطبيعية، ولم تكذب الأيام والظروف «سبينوزا» فيما قال من يومه إلى يومنا هذا.
وقبل أن ندخل على موضوع بحثنا يجب أن نشير إشارة أخرى وهي أن السياسة التي تتخذها إنكلترا ليست سياسة مكر وغدر وخداع، ولكن ما أكثر ما كتب ضد إنكلترا وسياستها وما أكثر أدلة أعدائها الحاسدين. إنهم يقولون إن إنكلترا غررت بإيطاليا وأغوتها حتى أسقطتها في المصائب التي حدثت لها في أفريقيا لتنال إنكلترا بذلك آمالها وتحصل على الفوائد التي كانت تتمنى الحصول عليها، ولكن ما أقسى هذا القول وما أشده! على أننا لا ننكر أن لهذا القول مكانا من الصحة لأننا نعلم كما يعلم غيرنا أن إنكلترا استعملت إيطاليا آلة في حل عقدة المسألة الكبرى في أواسط أفريقيا، ولكن إنكلترا في عملها هذا لم تتعد حدود السياسة المعروفة بين الدول.
فلو قلنا إن ساسة الإنكليز شجعوا إيطاليا فذهبت ضحية غوايتهم ولقيت في أفريقيا ما لقيت من خذلان وفشل فنحن لا نلقي الذنب على كاهل إنكلترا لأنه ليس المسئول عن مصائب إيطاليا إلا إيطاليا نفسها، فكان ينبغي لها أن تزن تشجيع إنكلترا بميزان التعقل، وأن تنظر إلى النصيحة نظر الحكيم فلا تعمل بها قبل أن يقبلها عقلها. فإن لم يقبلها العقل ضربت عنها صفحا، وكان يجب على إيطاليا أن تعلم أن النصيحة إن عادت بالشر فلا يصيب هذا الشر إلا نفسها.
ويليق بنا في هذا المقام أن نلقي نظرة على تاريخ السياسة الدولية في السنين الأخيرة حوالي منابع النيل؛ لأننا بدون أن نعرف هذا التاريخ حق المعرفة لا نقدر على أن نعرف حقيقة منافع إيطاليا في مصر وعلاقتها بالمركز السياسي الحاضر وبالمسألة المصرية.
على أنا لا نريد أن نذكر الحوادث التاريخية التي ألجأت إنكلترا لتجريد الحملات الحربية التي كان غرضها سحق قوة المهدي في السودان واحتلال أعالي النيل، ولا نريد أن نذكر تاريخ الحملات التي كتب لها أن تفشل وأن لا تترك إلا أسماء قوادها أمثال «غوردون» و«هيكس باشا» وغيرهما، إنما نرغب أن نذكر القارئ بالزمن الذي كانت إنكلترا فيه تجمع قواها الحربية بعد أن عقدت النية على ضربة المهدية ضربة قاضية وإخلاء أم درمان والخرطوم من الدراويش بعد إهلاكهم؛ لأن إنكلترا رأت في ذلك الحين أنها لو نجحت في أعمالها الحربية ونالت بغيتها من السودان فإنها تقف أمام عقبات كثيرة قبل أن تتمكن من أن تضع يدها على أعالي النيل وقبل أن تتغلب على أهل هذه البلاد، وكانت أعظم هذه العقبات عقبتان لم تر إنكلترا للتغلب عليهما طريقا؛ أولاهما: أن الحبشة كانت في الجهة الشرقية تأخذ في القوة شيئا فشيئا بسرعة أدهشت إنكلترا وجعلتها تشعر بخطر هذه الدولة المستقلة الغنية، وثانية العقبتين أن فرنسا كانت مستولية على أراضي بحر الغزال، فكأنها كانت تسابق إنكلترا إلى امتلاك أراضي السودان وأوشكت أن تفوز عليها، فماذا صنعت إنكلترا لتخرج من هاتين الورطتين؟ وما هي التدابير التي دبرتها للتغلب على تلك العقبتين؟
إن إيطاليا كانت واضعة يدها على مخرج مهم على البحر الأحمر، وذلك المخرج على شواطئ «أريترية»، فكانت إيطاليا تحب دائما أن يكون مخرجها في مأمن وأن تكون أملاكها على البحر الأحمر ناجحة غنية، ولم تر أمامها إلا طريقا واحدا لتنال بغيتها وهي أن تقهر ما وراء أملاكها من البلاد الخصبة، ولا يمكن أن يتم هذا العمل إلا ضد إدارة الحبشة، ولم يكن ينقص الإيطاليين إلا التشجيع فأعطتهم إياه إنكلترا بكمية وافرة، وحببت لهم عملهم وحسنته في أعينهم؛ لأنه كان من آمال إنكلترا أن الحبشة تشتغل قليلا بشيء غير مسألة النيل، فكانت الحرب بين الحبشة وإيطاليا خير كفيل لإنكلترا باشتغالها عن أعمال الجنود البريطانية في أعالي النيل وأواسط أفريقية، وكان قصد إنكلترا أنها توجه أنظار النجاشي إلى البحر الأحمر لأنها علمت أنه إذا انتبه إلى هذه الجهة فهي تنجو من شره في أمرين؛ الأمر الأول: أنها تأمن مساعدته وإغاثته للمهدي، والأمر الثاني: أنها تأمن معاندته لها في أعالي النيل، وكان ما كان من أمر الحرب وهزمت إيطاليا شر هزيمة، فساءت تلك الهزيمة إنكلترا لأنها قلبت تدابيرها، ولا نظن أن إنكلترا كانت تعلم بنتيجة الحرب ولا نؤيد القائلين بهذا الظن، ولكن إنكلترا استفادت شيئا كثيرا من المعاهدة التي عقدت بين إيطاليا والحبشة ...
وهكذا أزالت إنكلترا العقبة الأولى من طريقها وبقيت أمامها العقبة الثانية وهي أصعب جوازا وأشد خطرا من الأولى، وهذه العقبة هي وجود فرنسا على ضفاف بحر الغزال، وحالما كانت وزارة إنكلترا الخارجية في غم وتنكيد خطرت ببالها مكيدة بسيطة حلت تلك العقدة وأزالت هذه العقبة من وجه الأسد البريطاني.
وتفصيل تلك المكيدة أن إنكلترا طلبت من بلجيكا وهي صاحبة ولاية الكونجو الحرة أن تضيف أراضي بحر الغزال إلى أملاكها. قبلت بلجيكا هذه الدعوة وقبلت تلك الهدية ولكن فرنسا تنبهت لذلك وضغطت ضغطا سياسيا شديدا على بلجيكا اضطرها إلى التنازل عن حقوقها وما تم بعد ذلك معروف مشهور، فإن إنكلترا جردت حملة أم درمان الشهيرة وتغلبت على دولة المهدي وبعد ذلك كله بلغت «فاشوده» حملة فرنسوية نصف حربية، هي حملة «مارشان» الذي جاء يقود مائتي رجل ضد «كتشنر» الذي كان يقود خمسة وعشرين ألف رجل، وهكذا اضطر «مرشان» إلى تنكيس أعلام فرنسا، وقد سببت تلك الهزيمة المعنوية في فرنسا حركة كبيرة وحدة بلغت حدا عظيما، ولكن رأت فرنسا بعد ذلك أنه خير لها أن تتنازل عن حقوقها من أن تدخل مع إنكلترا في حرب بشأن مستعمرة في أواسط أفريقيا.
فلو حسبت فرنسا حساب المستقبل لاتقت شر تلك الخسارة بأن وطدت قدمها في أعالي النيل قبل سقوط «أم درمان» في الفرصة التي سنحت لها بين سنتي 1894 و1896.
على أن «هزيمة عدوة» الشهيرة التي كانت في الحقيقة صورة ثانية من واقعة «كودين فوركس»، والتي سلم فيها أغلب الجيش الإيطالي للأحباش، أهبطت مساعي إنكلترا في تحويل الحبشة عن النيل، ولكن الحملة الإيطالية جاءت بما كانت ترجوه إنكلترا وزيادة، فكانت نتيجتها أن النجاشي اضطر لتعيين حدود مملكته، فكأن يوم «عدوة» كان يوم موت النفوذ الإيطالي في أفريقيا؛ ولذلك ظهر أثره بسرعة شديدة في سياسة إيطاليا نحو مصر.
فإن إيطاليا بعد «عدوة» يئست من تأسيس إمبراطورية عظيمة في شرق أفريقيا؛ ولذلك أصبح بقاء الحال الحاضرة في مصر على ما هي عليه وتغييرها عند إيطاليا سيان؛ لأنها لا ترجو من مصر فائدة سياسية، وسيرى القارئ في فصل آت أنه لو كانت إيطاليا لا تزال مهتمة بأفريقيا فإن هذا الاهتمام ليس إلا لتحصل في هذه القارة على مخرج يخرج إليه أبناؤها الذين ضاقت عليهم بلادهم، ومن الصعب جدا أن تحصل إيطاليا على غرضها بدون أن تعاكس سياسة إنكلترا في أفريقيا.
وقد ابتدأت إيطاليا تحس بكثرة سكانها وقلة موارد الرزق في بلادها كما ابتدأت ألمانيا تحس بذلك، ولا يخفى أن مساحة إيطاليا تزيد بقليل عن نصف مساحة فرنسا، ولكن أهل إيطاليا إن لم يزيدوا على أهل فرنسا فإنهم يعادلونهم عدا، فإيطاليا لا يمكنها أن تحيا بدون استعمار وأبناؤها في احتياج شديد إلى المهاجرة، ولكن إيطاليا في خوف شديد من أن أبناءها ينزحون إلى أمريكا؛ لأن من ينزح إلى هذه البلاد يفقد وطنيته ولا يستردها مرة ثانية، ولو كان في قدرة إيطاليا أن تتملك أرضا في جنوب أمريكا ما تأخرت، ولكن تعليم «مونرو» القائل بأن: «أمريكا للأمريكيين» يقف في وجه إيطاليا وقوف السد في وجه النهر المندفع.
ولسنا في حاجة إلى ذكر كراهية إيطاليا لبريطانيا التي سببها ظن الإيطاليين بأن إنكلترا غررت بهم في حرب الحبشة، ولكننا في حاجة إلى تقرير حقيقة واضحة وهي أنه إذا حدث أن بعض الدول اتفقن ضد إنكلترا فإن إيطاليا تنضم إليهن ولا تناصر إنكلترا أبدا.
أجل إن إيطاليا يهمها كثيرا أن تلحق إنكلترا المذلة والصغار، ولو حان حين إنكلترا فإن إيطاليا لا تتأخر طرفة عين عن الاشتراك مع الدول في اقتسام الغنيمة البريطانية. على أن إيطاليا غير محمية من كل جهاتها، فهي ليست في مأمن من هجوم أي دولة من جهة البحر، فلا ينتظر من إيطاليا أنها تكون راضية عن توطيد أقدام إنكلترا في مصر من هذه الجهة، ولو رأت إيطاليا أن مركز احتلال مصر لا يفيد إنكلترا فإنها كما ذكرنا آنفا لا تهتم بمصر أقل اهتمام؛ لأن إيطاليا لا تريد إلا أن توصل الأذى إلى عدوتها، ولكن منذ سنين قليلة (أي قبل عدوه) لم تكن الحال كما هي الآن، فإن إيطاليا وإنكلترا كانتا على أتم ما يكون من الوفاق في المسألة المصرية، ولكن هذا الوفاق لم يكن إلا لأن منافعهما كانت في ذلك الحين متحدة متفقة، وكانت إيطاليا تريد أن تشد أزر إنكلترا في أعال النيل لأنها كانت تأمل أن تفوز في الحبشة فتتحدان في العمل في أواسط أفريقيا بما تهويان، ومن هنا يظهر سبب مناصرة إيطاليا لإنكلترا عندما طلبت هذه من صندوق الدين المصري نصف مليون جنيه لأجل حملة «دنقلة». وفي هذه الحادثة ضمت إيطاليا صوتها إلى صوتي النمسا وإنكلترا ففازت إنكلترا بذلك رغم أنف عدوتها فرنسا وحليفتها روسيا على أن إيطاليا لا تعود إلى مثل هذا الولاء بغير تعويض يقدمه لها الأسد البريطاني.
الفصل الثالث
سياسة بريطانيا الاستعمارية
قد حاولنا فيما تقدم من هذا الكتاب جهد طاقتنا أن نسير على الخطة التي رسمناها في أوله، ففصلنا كل حبل من حبال الشبكة على حدة فاستطعنا بذلك أن نحل عقدة المسألة المصرية، فوقف بنا البحث على حقيقة واضحة وهذه الحقيقة هي أنه لا يوجد دافع قوى يدفع أي دولة أوروبية لأن تسعى في إبقاء المسألة المصرية في شكلها الحاضر، ونحن نقصد بقولنا دافع قوى الدافع السياسي؛ لأن كل الدول مشتركة في الاهتمام بأمر صندوق الدين ولكن هذا الدافع مالي وسنتكلم عنه فيما يأتي لأن المنافع المالية والمنافع السياسية تختلف اختلافا شديدا، فرأينا من المهم أن نبحث في كل من الأمرين على حدة، ولكن هذه النتيجة السياسية التي ظهرت لنا وهي أنه لا توجد دولة تهتم بمصر لأن لا دافع سياسي شديد يدفعها إلى ذلك ليست إلا نتيجة منطقية تصدق ظاهرا، ولكن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك لأنه للآن لا تزال الدول والأمم تعتبر المسألة المصرية مسألة دولية، ولا تزال مصر أرضا خصبة لزرع القلاقل والاختلافات السياسية، وأن موضوعها موضوع نحيف لا يمكن مسه إلا باحتراس، وخير للدول جمعاء أن لا تمسه.
ويظهر لنا أن المسألة المصرية كالزر الكهربائي لا يمسها أحد إلا وتحدث له هزة ورعشة، وكثيرا ما خشي من ذلك «الزر الكهربائي» على السلام في أوروبا كلها وهذا هو الذي اضطر دول أوروبا للرضى باحتلال بريطانيا لمصر أولا، ويجعل هذا الاحتلال غير محدد الزمن ثانيا؛ لأن احتلال إنكلترا لمصر جعل أوروبا في راحة من جهة المسألة المصرية مؤقتا، فكأن أوروبا حلت المسألة المصرية حلا وقتيا، وقد ساعد على هذا العمل براعة الساسة من الإنكليز الذين عينتهم إنكلترا لينوبوا عنها في مصر.
فإننا مهما حاولنا فلا نستطيع أن نوفي اللورد كرومر حقه من المدح والثناء، ومهما ذكرنا من فضائله فإننا لا نأتي على آخرها، ولسنا نحن وحدنا الذين نقول هذا القول فإن أشد أعداء السياسة الإنكليزية الذين لا تخفى عن أعينهم سيئة؛ لأنهم يلتمسون السيئة أنى وجدوها ليشيعوها ويذيعوها، قد كفوا من زمن طويل عن نقد اللورد كرومر وتوجيه سهام الملام إليه.
أجل إن اللورد كرومر حاز ثناء الكل لأنه تمكن من سلوك مسلك وعر بدون أن يظهر ما يدل على تعبه من المشاغب والمصاعب التي صادفته في طريقه، ولم يتعد كرومر مرة في العمر واحدة حد الملاطفة والملاينة، وقد عرف كيف يذعن بلطف عندما لا يرى في الإذعان شرا لبلاده، وعرف كيف يأمر بشدة بدون أن يمس أحدا بسوء على أننا لم نره يلجأ إلى الأمر الأخير إلا عندما اضطرته منافع السياسة الإنكليزية لركوب ذلك المركب الخشن.
وقد كفانا أن قد كان اللورد كرومر نموذجا لكل المستخدمين الإنكليز الذين تخلقوا بأخلاقه واتصفوا بصفاته طوعا أو كرها، فكانت نتيجة ذلك أن كل شيء سار بسكون وهدوء.
قلنا إن المركز السياسي في مصر قد تغير تغييرا بينا وأن المسألة المصرية أخذت تبرد شيئا فشيئا وابتدأت أهميتها في نظر الدول تقل يوما فيوما حتى أصبحت جميعها ترى أن بقاء الاحتلال البريطاني في مصر وعدمه لديها سيان.
وقد حدثت في السنين الأخيرة أمور جعلت الحرب الدولية في أوروبا مستحيلة، ونعني بالحرب الدولية الحرب التي تجر رجل أكثر من ثلاث دول أروبية؛ وما سبب ذلك إلا أن المسائل الدولية الكبرى كلها قد حلت حلا مرضيا ولم تبق إلا مسألة اقتسام المملكة العثمانية، ومما يحسن ذكره أن أغلب الدول الأوروبية خوفا من القلاقل والاختلافات الصغيرة الشأن التي تشب نارها بينهن اجتهدن في إيجاد ممالك صغيرة مستقلة معتزلة فجاءت هذه الممالك كالجبل يفصل الواديين، أو كالحاجز القوي بين النهرين، وهذه الممالك الصغيرة الحاجرة هي: هولاندا، وبلجيكا، وإمارة لوكسمبرج، وجمهورية سويسرا، فهذه الممالك في الحقيقة لا قوة لها ولا حول ولا تعد بين ممالك أوروبا، ولكن إحداها تستفيد وتفيد أكثر من أية دولة كبرى، فإنها محمية برضاء الكل فلا تستطيع أي دولة معادية أن تمد لها يدها بسوء، وهي أيضا تمنع الدول التي حولها من الاحتكاك ببعضها البعض، وبعد هذا التغيير السياسي الذي نشأت عنه هذه الممالك أصبحت المسائل السياسية المتعلقة بعلاقات دول أوروبا ذاتها في زوايا الإهمال وأركان النسيان، وأصبحت ممالك أوروبا وهي لا يهمها إلا مسائلها الداخلية أو المسائل المتعلقة بمصالحها السياسية والاستعمارية في القارات الأربع، وهكذا صار السلام في قارة أوروبا مضمونا.
فيظهر من ذلك أن دول أوروبا الآن مستعدة لأن تحل المسألة المصرية بلا خوف من عواقبها؛ لأن أهم أسباب النزاع بين الدول قد زالت، وأصبحت «الحرب العامة» من أحلام الماضي ولن يحققها المستقبل أبدا، وانتهى الدور الذي كانت فيه المسألة المصرية مسألة دولية تهم كل دولة بمفردها وصارت المسألة المصرية الآن لا تهم إلا الإنكليز والمصريين دون سواهم.
وبناء على ذلك فسنبحث في منافع إنكلترا في مصر، وقبل ذلك نشير إشارة صغيرة إلى سياسة بريطانيا الاستعمارية ونبدي بشأنها ما نراه موافقا من الملاحظات، وإنا نرى أنه من السهل علينا أن نقارن بين سياسة الدولتين بريطانيا العظمى وفرنسا في الاستعمار، وقد قررنا فيما مضى أن الفتوحات البعيدة لا توافق فرنسا وكثيرا ما تضر بها، وبهذا تختلف سياسة إنكلترا عن سياسة فرنسا الاستعمارية على خط مستقيم، فإن إنكلترا منذ نشأتها كانت ولا تزال دولة فاتحة لأنها بطبيعتها غير قادرة على أن تكون مملكة زراعية كبرى، فهي لا تأمل ولا تتعشم أن تعتمد في رزقها على أرضها وبلادها، فهي بحكم الطبيعة مضطرة لأن تؤسس مستعمرات بعيدة، ومن سوء حظها أنها لا تجد ميدانا موافقا لفتوحها واستعمارها على مقربة منها مثل مستعمرات فرنسا في أفريقيا، وهي: تونس، والجزائر. وزد على ذلك أن إنكلترا منذ القرون الوسطى طلقت فكرة الاستعمار في قارة أوروبا لأنه لا يخطر ببال إنكلترا في الحال أو في الاستقبال أن تضع يدها على ذراع واحد من أراضي قارة المدنية، وليس لدينا دليل على صدق قولنا أقوى من محالفة «فينا» التي عقدت سنة 1815، فإن إنكلترا لم تجرأ في هذه السنة على طلب حصن واحد من حصون فرنسا بقصد وضع اليد أو التملك.
وقد ذكرنا فيما تقدم الوسائل العديدة التي سهلت على إنكلترا النجاح في سياستها الاستعمارية ، وذكرنا أن كل المسائل المتعلقة بالسياسة الداخلية منذ عودة شارل الثاني في أواسط القرن السابع عشر قد صارت كل شيء، ولا ننكر أن إنكلترا بعد ذلك أصيبت بمصائب شتى من الكنيسة والثوريين، ولكن كل تلك المصائب كانت صغيرة ومثلها كمثل الجرح الصغير السريع الاندمال بعكس الممالك الأوروبية الأخرى التي كانت جروحها لا تندمل إلا بعد أن يسيل دمها مدرارا.
ولا نرانا في حاجة للبحث عما إذا كانت كل هذه الظروف قد حدثت لإنكلترا عفوا، أو أن إنكلترا أفرغت جهدها في صفاء داخليتها لتتفرغ لحوادثها الخارجية، إنما نحن في حاجة إلى البحث والنظر في النتائج، ولا نحسب أن إنسانا ينكر أن أول شرط من شروط نجاح بريطانيا هو أن تكون بارعة في فن الاستعمار لتكون لها أملاك واسعة خارج بلادها؛ لأن هذه الأملاك إذا أحسنت بريطانيا إدارتها تكون أبدا سببا في قوتها داخلا وخارجا، ومثل جنون إنكلترا بالاستعمار كمثل القمر كان هلالا ثم صار بدرا ولن يعتريه أفول، فإنك إذا دخلت قلب كل إنكليزي لقيت فيه معبدا للاستعمار فكلهم مستعمرون إنما يختلفون في المذاهب والطرق.
وكل إنسان يتذكر حمى الاستعمار التي أصيبت بها إنكلترا في العشر سنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان سببها أن إنكلترا اكتشفت أنها ليست الدولة الوحيدة بين الدول؛ بل إن لها أندادا يسابقونها إلى فخار الاستعمار وبين هؤلاء الأمة العظيمة والدولة الضخمة ألمانيا، ففزعت إنكلترا لذلك لعلمها بأن ألمانيا لم تتخذ الاستعمار فنا للتلذذ به؛ بل هو لديها ابن الضرورة والاحتياج.
وفي هذا الوقت أشرقت شمس الرودسيزم (مذهب سيسيل رودس) فقام أصحاب مذهب الاستعمار من الإنكليز كشمبرلين وغيره وتعلقوا بأهداب هذا المذهب وناصروه.
ولما تم الفوز لإنكلترا في أم درمان تحققت من أن آمالها سريعة النوال وتحمس الإنكليز تحمسا فوق العادة وجاءت هزيمة الدراويش التي تمت على أيدي كتشنر وحملته التي شهدت بفضل قائدها وذكائه، فأنالها الإنكليز أكثر مما تستحق من المدح والثناء، وقال المرجفون إن بريطانيا قد أصبحت دولة رومانية ثانية، وفي ذلك الحين جن الإنكليز جنونا بحب الاستعمار سيما ولم يروا أحدا يقف في وجه قوتهم، وقال ساسة الإنكليز لأنفسهم إنهم إن لم ينالوا المستعمرات بالحيلة والتدبير فإنهم ينالونها بالقوة، فضاقت الدول بدولة الإنكليز ذرعا ورأين من الشؤم عليهن أن تبقى بريطانيا صاحبة الجبروت بينهن، فقام الكتاب من الغربيين غير الإنكليز يؤلفون الكتب عن بريطانيا، فلم تكن تمر بمكتبة إلا وترى كتابا مثل «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» وغيره من الكتب، ولم ينبه إنكلترا بعد أن ثملت بفوزها على ضفاف النيل إلا فشلها على ضفاف «الفال» و«الأورابخ»، فإن الحملات العظيمة التي جردت على غير طائل، والملايين الكثيرة التي أنفقت، والنفوس البشرية التي أزهقت على هيكل مناجم الذهب في جنوب أفريقيا؛ نبهت شعور الإنكليز وأعادتهم إلى حظيرة التعقل والصحو بعد الجنون والسكر، وبخسارة إنكلترا في جنوب أفريقيا عاد ميزان القوى الأوروبية إلى الاعتدال، وبدأ الناس ينظرون بعين غير التي كانوا ينظرون بها من قبل إلى إنكلترا وسياستها الخارجية، سيما وقد ظهر لهم أنه وإن كانت سياسة الاستعمار نافعة مفيدة ولكنها إذا زادت عن حدها عادت بضرر شديد وأذى، وابتدأ الناس يفهمون أنه توجد طرق شتى للوصول إلى أي غرض، وبعض هذه الطرق سليم العاقبة وبعضها يؤدي إلى الهلاك ولا يؤدي إلى الغرض، وظهر للملأ أن القوة الحيوانية لا تنجح دائما وتكلف أصحابها ما لا يطيقون، وأن اللين ينال ما لا تناله الشدة، وأن بعض الأغراض يستحق السعي والبعض لا يستحقه، وقد امتلأت عقول بعض الناس بهذه الأفكار والآراء امتلاء بدلهم تبديلا، وجعل من عرفهم قبل حرب البوير ينكرهم بعدها، ووضح لساسة الإنكليز في ذلك الحين أن تأسيس الإمبراطورية لا يكون بهضم حقوق الأعداء، وأن البيض لا يذعنون للتهديد ولا يسلمون إلا بعد حرب تشيب من هولها الولدان مهما كانت بلادهم وأوطانهم، كل ذلك جعل إنكلترا تقدر الطرق السياسية القديمة حق قدرها وجعلها تعرف أيضا أن الدولة تستطيع أن تنال من عدوها بالسياسة اللينة أكثر مما تناله برءوس الرماح وحد السيوف، وتحقق الكل صدق قول نابليون «يستطيع الإنسان أن يعمل ما يريد بالرماح ولكنه لا يستطيع أن يركبها ...»
ومن هذه اللحظة ابتدأت إنكلترا تغير خطة سيرها وعادت إلى حظيرة السياسة الأوروبية، فطلقت الوحدة المضرة التي اشتهرت بها لأنها علمت وتحققت بأنها لا تنال شيئا ما دامت تنصب نفسها لمعاداة أوروبا بأسرها، وأنها تنال فوق ما تحب لو دخلت ميدان السياسة الأوروبية وخلعت رداء الانزواء، فقام جلالة الملك إدواردو السابع بهذه السياسة الحكيمة وكان ذكاؤه الخارق للعادة ولطفه سببا في «الوفاق الودي» الذي تم بين إنكلترا وفرنسا.
بيد أن السياسة الخارجية القوية تحتاج إلى تقدير الأغراض حق قدرها وإلى العلم بأن مذهب الحصول على أي شيء بأي ثمن ليس من الحكمة والصواب، وأن الاستعمار يتم بثلاث طرق الفتح أو السياسة أو التقهقر، وأما سياسة «هنا أنا وهنا أبقى» فهي سياسة عقيمة تعود على أصحابها بالضرر الشديد وسنأتي للقارئ بأدلة قاطعة وبراهين حاسمة تدل على أن إنكلترا تحققت من أن كثيرا ينال بالتساهل والتسامح.
ونحن لا نود أن نتعب القارئ بالإتيان بالحوادث العديدة التي تقهقرت فيها إنكلترا من أملاك لها لعلمها بأن بقاءها ليس من السياسة والحكمة في شيء، ونكتفي هنا بمثالين شهيرين أولهما أن إنكلترا تخلت عن جزيرة كورسيكا للفرنسويين وسلمت جزر «ايونيون» لليونانيين، وكلتا هاتين الحادثتين محتاجة إلى نظرة تاريخية لأهميتها، فنقول: لقد خمدت النيران التي كانت متأججة في صدور الإنكليز بعد أن تنازلوا عن كورسيكا ونسيها كلهم وتناساها من لم ينسها، حتى أصبح أغلبهم في شك من أنها حقيقة كانت جزءا من الإمبراطورية البريطانية، ولكن لا يحفظ التاريخ ذكرى براعة سياسية مثل البراعة التي أظهرتها إنكلترا بتسليمها هذه الجزيرة لأصحابها.
فإن إنكلترا بامتلاكها هذه الجزيرة التي تكاد تمس شواطئ فرنسا الجنوبية. كانت تستطيع دائما أن تهدد أعظم مركز بحري لفرنسا وكانت إنكلترا تقدر أيضا أن تتلف تجارة فرنسا في البحر الأبيض أو تجرد حملة حربية تفزع بها فرنسا والفرنسويين.
ولكن احتلال إنكلترا للجزيرة الذي لم يطل أمده أكثر من سنتين وثلثي سنة - أي من نوفمبر سنة 1893 إلى يوليو سنة 1896 - أقنع إنكلترا بأن مركزها في هذه الجزيرة يكون أبدا في خطر رغما عن رضاء أهالي الجزيرة وطاعتهم لها، أضف لذلك أن إنكلترا رأت أنها ما دامت تملك هذه الجزيرة فإنها لا تأمل أن يصفو ما تكدر بينها وبين فرنسا، ورأت إنكلترا أيضا أنها ستنفق على فتح هذه الجزيرة وإخضاع أهلها أكثر مما تطيق ماليتها وجنديتها مع علمها بأنها لن تجني بعد التعب والنفقة إلا ما لا تحب، فلم تر إنكلترا لها بدا من إخلاء الجزيرة وتسليمها لأصحابها فأخلتها وسلمتها.
هذا ومن ينظر إلى خريطة البحر الأبيض لا يستطيع أن يتغافل عن الأهمية الحربية التي لجزر «ايونيون» لا سيما جزيرة كورفو، فإن هذه الجزيرة واقعة إلى غرب الشواطئ اليونانية تجاه «كعب» شبه جزيرة إيطاليا فكأنها حارس يحرس البحر الإدرياتيكي أو رقيب يرقب جنوب إيطاليا، ومن يضع يده على هذه الجزر يستطيع أن يسد باب البحر الأبيض في وجه النمسا بأن يحصر مخرجها الوحيد، وزد على ذلك أنه يقدر أيضا أن يهدد شواطئ إيطاليا الشرقية على الدوام، ولم تكن أهمية جزيرة «زانتي» «وكورفو» لتخفى على أهل فينسنا أيام عزها فوضعوا أيديهم عليهما، ولو ضربنا صفحا عن كل ذلك فإن أمامنا دليلا واحدا هو أهم الأدلة وهذا الدليل هو شهادة نابوليون بونابرت نفسه الذي لا يشك أحد في قدرته النادرة على الحكم على مركز حربي حكما لا يوجد أصدق منه، فإن من يقلب صفحات الكتاب الذي جمعت فيه مكاتيب نابوليون ورسائله التي بعث بها إلى أصحابه في سنة 1796 يرى نابليون يقول في كتاب: «لا بد لي من احتلال كورفو مهما كلفني ذلك الاحتلال»، ويقول في آخر: «إنه من الهين علي أن أضحي فينسيا وشمال إيطاليا بأسره لأجل كورفو فإنها مفتاح الأدرياتيك.»
على أن لكورفو مزايا غير التي ذكرت فإن قربها من ألبانيا يجعلها لمن له يد في مسائل الشرق الأدنى من الأهمية بأعظم مكان لأن مالك كورفو يقدر أن يصنع في البلقان ما يريد بدون أن ينال منه عدوه ما ينال هو منه.
ولا نستطيع هنا أن نأتي على تاريخ جزر إيونيون وعلى ذكر الملوك الفاتحين الذين وضعوا أيديهم على هاتيك الجزر قبل أن أهداها الملك لويس الثامن عشر لإنكلترا في سنة 1814 جزاء على ما قامت به نحوه، ويكتفي أن نقول إن نابوليون استعمل تلك الجزيرة مرقاة ووسيلة وصل بها إلى مصر ولو صنعت له الأقدار على ما أراد لكانت تلك الجزر وسيلة إلى بلاد الهند. على أن نابوليون كان ينوي أن يجعل تلك الجزر قاعدة أعماله الحربية عندما خطر بباله فتح ممالك أوروبا الوسطى، ولكن واقعة أبي قير عكست آمال ذلك البطل الكبير واستولى الأسطول البريطاني على ثلاث جزر من جزر الإيونيون ما عدا كورفو التي ما زالت محافظة على ولاء نابوليون حتى تنازل عن الملك وكان ما كان.
وقد صادق مؤتمر فينا على هدية لويس الثامن عشر لإنكلترا، وبعبارة أخرى قرر هذا المؤتمر إعادة الجمهورية في جزيرة كورفو تحت حماية بريطانيا العظمى، فعينت إنكلترا من قبلها رجلا اسمه «ميتلند» مراقبا على الجمهورية الكورفية، فاتخذ ذلك المراقب سياسة غير حميدة وأسس حكومة توافق أغراضه وعامل أشراف كورفو على ما هم مشهورون به من الجموح والشدة بالغلظة والقسوة ووضع عليهم سيطرة من حديد، ولكنه أصلح إصلاحا كثيرا فمهد السبل في الجزيرة وحصنها، ولما ذهب «ميتلند» وجاء غيره مكانه ضعف نفوذ إنكلترا لضعف ذلك الغير، مع أن من حلوا محل «ميتلند» كانوا على جانب عظيم من الذكاء والبراعة، ونحن لا نستطيع أن نطيل البحث أكثر من هذا إنما نلفت نظر القارئ إلى كتاب «أملاك إنكلترا الضائعة» تأليف المستر لورد فإنه يتضمن كل ما يتعلق بهذه المسألة وغيرها من أمثالها.
هذا وقد استمرت الحال في كورفو على هذا المنوال إلى سنة 1864، ونقول كما قلنا سابقا إنه لم تفتح لنا خزائن أسرار الحكومة فلا نستطيع أن نعلم الأسباب القوية التي اضطرت المستر غلادستون لتسليم هذه الجزيرة في السنة المذكورة آنفا (1864)، ولا يخفى أن أهل كورفو كانوا شديدي الخزوانة، ولكن إنكلترا صرفت خمسين سنة في تهذيبهم وتهدئة خواطرهم وكبح جماحهم ولم ينفد صبرها على طول هذا الزمن، ولا نعتقد بأن إنكلترا اضطرت لتسليم هذه الجزر مقابل إبعاد الدوق «لوكتنبرج» الذي رشحته روسيا وفرنسا للعرش اليوناني.
ولسنا في حاجة إلى ذكر سخط الأمة الإنكليزية التي هاجها هذا التسليم، فإن الإنكليز ظنوا لذلك العهد أن النفوذ الحربي لإنكلترا في البحر الأبيض قد ضاع ولن يعود أبدا، ولكن كذبت الأيام هذا الظن وأخمدت نار ذلك الهياج، ولو أن إنكلترا جادت بهذه الجزر كرما منها لعد ذلك العمل جنونا وجهلا ولا نظنها اقترفت مثل ذلك الذنب، وسنترك أسباب الجلاء ونتكلم عنه وعن طبيعته لأهميته، فنقول: إن إنكلترا رغبت في أن تهب أهل جزر كورفو حريتهم بشروط تجعل كورفو في مستقبل الأيام تنفع إنكلترا أكثر مما تضرها، وأظهرت إنكلترا رغبتها الشديدة في الانسحاب من مكان لا يمكنها الاستيلاء عليه تماما إلا إذا ظلمت أهله وأجحفت بحقوقهم؛ ولذلك فهي لم تكن لتقبل أن تخلي تلك الجزر ليأتي غيرها ويستولى عليها ويستعملها سلاحا يحارب به بريطانيا، وضمت النمسا صوتها إلى صوت إنكلترا وطالبتا كلتاهما بحياد هذه الجزر وأشارتا على حكومة اليونان بإتلاف كل الحصون والقلاع الحربية التي في الجزيرة، وسألتاها أن تعد وعد حر بأن لا تقيم أعمالا حربية في الأرخبيل فأجيب طلب الدولتين وصارت جزيرتا كورفو وباكسو على الحياد، وقد دلت إنكلترا بإخلائها كورفو على عزة نفس وشهامة قل أن يوجد لهما مثيل، ولكن لا نحسب أن تلك الشهامة كانت خالية من نظر سياسي بعيد، فإن إنكلترا بلا ريب كانت في كوفو في «مركز كاذب»، وربما كان يقف هذا المركز في سبيل سياستها حجر عثرة، ومن الغريب أن الأمر الذي أصدرته لاحتلال تلك الجزر كان غريبا جدا، فإنها صرحت فيه بأن تلك الجزر مستقلة تمام الاستقلال ولكنها «تحت أمر المراقب البريطاني العالي»، وقد حاولت إنكلترا سنين طويلة أن تنفذ منطوق هذا الأمر ولكنها لم تنجح؛ لأنه كان من اللازم أن يعلم العالم إن كانت هذه الجزر بريطانية أو غير بريطانيا أي «مستعبدة» أو «مستقلة»، فليس بنافع أن تعذب إنكلترا أهل كورفو برجاء كاذب فإما تمنحهم حريتهم وإما تمنعهم إياها، ولم تكن إنكلترا لتتحمل مجالس الأمة والجمعيات العمومية التي كانت تجتمع في الجزيرة تحت إدارة الوطنيين، ولو هي أغضت عنها فإن ذلك كان يعد منها احتقارا لنظام الحكومة الكورفية.
ثم رأت إنكلترا أنه من المستحيل أن تهزأ بعهود الدول وتعلن امتلاكها للجزيرة لأن ذلك كان يضر بشرفها وبمنافعها السياسية معا.
ولو أننا لم نطلع على الأوراق السياسية السرية ولكننا لا نغالي إذا قلنا بأن مركز إنكلترا الكاذب في كورفو سهل على أعدائها تهديدها، وكثيرا ما اضطروها إلى الإذعان لهم رغم أنفها. وزد على ذلك أن أهل كورفو ذاتهم كانوا في كل يوم يفتحون أعينهم لينظروا إلى استقلالهم الخيالي نظر السجين إلى الحرية الموهومة، فظهر لإنكلترا أنها إذا صحت نيتها على إخضاع كورفو بالسيف بعد أن تنال رضاء الدول، فإن ذلك الإخضاع لا بد وأن يكون سببا في سفك شيء كثير من الدماء الزكية.
ولا يخفى أن إنكلترا لم تخف عليها أهمية المركز الحربي الذي كانت تضحيه بتسليم جزيرة كورفو، ولكن الذي صغر عليها المصيبة هو الحياد الذي منح لتلك الجزر وتركها كالرجل الأعزل، وفوق ذلك فإن نجاة إنكلترا من ذلك المركز الحرج كان أثمن لديها من كل شيء؛ لأن ذلك المركز ربما يكون سببا في تعطيل سياستها وإضعاف قوتها على أن قوة إنكلترا في البحر الأبيض لم تضعف بعد التنازل عن كورفو كما كان يتقول المتقولون، ولو قام بين الدول في المستقبل نزاع فإن إنكلترا تكون أولى الدول باحتلال كورفو.
كل هذا الذي تقدم يرينا أن التقهقر في السياسة الاستعمارية كثيرا ما ينفع عندما ترى الدولة المستعمرة فيه خيرا، ولا يخفى علينا أن القوة ربما كانت تعضد إنكلترا في كورفو إذا ركنت بريطانيا إليها ولكن القوة لا تنتج دائما نتيجة مرضية .
الفصل الرابع
المركز الكاذب
بريطانيا العظمى في مصر
نكون مخطئين إذا قلنا بأن «المراكز الكاذبة» في السياسة تضر ولا تنفع لأن الحقيقة هي أن السياسة لا تعيش إلا بهذه المراكز ونحن نعلم أن العالم الأخلاقي لا يرضى بمثل هذه القاعدة السياسية؛ ولذلك فنحن ننصح القارئ هنا بمثل ما نصحناه به في أوائل هذا الكتاب وهو أن لا يحاول أن يسير بالسياسة في الطريق التي يسير عليها الناس في حياتهم الخاصة؛ لأنه يتعب ويفشل ولا يصل إلى نتيجة ترضيه، فإننا مثلا في الحياة الخاصة نقول بأن كل من يتظاهر بما ليس فيه أو يشغل مركزا كاذبا يكون دائما عرضة للخيبة والسقوط فيجب على الفرد أن يفر من تينك الصفتين وإذا رماه سوء طاله طالعه في مركز كاذب أو اضطر إلى الادعاء بما ليس فيه فينبغي له أن يضحي كل نفيس وغال ليخلص من إحدى الورطتين.
ولكن الأمر ليس كذلك في السياسة، فإن الدول كثيرا ما تضطر للدخول في «مركز كاذب»؛ لأن البساطة والبلاهة في السياسة لا تجدي نفعا. فلنترك العالم الأخلاقي يصرخ بأعلى صوته لأننا لا نستطيع أن نطيع أوامره أو نسمع نصحه؛ لأننا مضطرون إلى أن نقول ما نسميه في الحياة الخاصة «كذبا وبهتانا»، ونسميه في السياسة «تساهلا وتسامحا»، وكل من له أدنى إلمام بتاريخ الأمم يعلم أن كل أعمالها السياسة كانت مملوءة كذبا وبهتانا وكلاما فارغا ومراكز كاذبة؛ لأن هذه الأشياء كلها ربما كانت الطرق الوحيدة لحل العقد التي لا يجسر على قطعها السيف، وكثيرا ما حلت مسائل معضلة بالمراكز الكاذبة والأباطيل والأضاليل ولولا تلك المراكز الكاذبة وتلك الأباطيل لكسرت النصال على النصال بدون أن تصل الدولة إلى غايتها. ولسنا في حاجة إلى أن نتعب القارئ بأن نأتي له بعدة شواهد من التاريخ إنما نسأله أن يلقي نظرة واحدة على الوزارة الإنكليزية، فإنها هي في الحقيقة التي تحكم بريطانيا العظمى، ولكن أوسع الناس علما في تاريخ الحكومات ونظاماتها وأبرعهم قدرة على البحث في الدفاتر والأوراق والقوانين لا يستطيع أن يجد كلمة واحدة مكتوبة تشير إلى الاعتراف بالوزارة الإنكليزية كحاكمة للإمبراطورية البريطانية أو بوظيفة رئيس الوزارة.
على أننا نعلم بلا ريب أن الوزارة هي الحاكمة المطلقة، ولكن شرائع البلاد لا تعترف بها بكلمة واحدة.
وبهذه «الطريقة الخيالية» نفسها استطاعت إنكلترا أن تجعل حكومتها دستورية ونصبت لها ملكا مطلقا في يده كل شيء، ولكن هذا الملك يعلم حق العلم أنه لا يقدر أن يستعمل تلك القوة المطلقة، وفي قدرتنا أن نأتي للقارئ بألف مثال لا تؤيد تلك القاعدة «فقط» وتجيز استعمال المراكز الكاذبة في السياسة بل تجعلها واجبة وضرورية أيضا.
وبناء على ذلك يحق لنا أن نترجل عن «جواد الأخلاق الفاضلة»، وأن نكف عن لوم الدول التي اضطرت لاستعمال المراكز الكاذبة ورب مضطر كان غير ملوم.
كلنا يعلم أن إنكلترا وعدت مرارا كثيرة وعودا صريحة بأنها تنوي أن تنجلى عن مصر
1
ولكنها ليومنا هذا لم توف بوعد من وعودها، ونحن لا نريد أن ننظر إلى ما وصمت به إنكلترا نفسها من إخلاف الوعود ونقض العهود من جهة «الفضيلة»، فإن مثل هذا النظر لا يفيد إلا المرجفين الذين يودون تحقير إنكلترا وتصغير شأنها ووصفها بكل الصفات المعيبة، ولكنه لا ينفع الحكيم العاقل الطيب النية الذي يريد أن ينظر إلى الأشياء بعين التعقل والحكمة.
وكل ما نود أن نعلم الآن هو هل بقاء إنكلترا في مركزها الكاذب بمصر يفيدها وينفعها؟
نعم إن المنافع التي تنتفع بها إنكلترا من مصر كثيرة لا يمكن عدها ولا يعرف حدها. ولكن هل الاحتلال هو الذي يساعدها على الاستفادة من مصر ويكثر منافعها وهل إذا تخلت عن مصر تقل تلك المنافع وتتلاشى؟
ولأجل أن نلم بأطراف الموضوع وأن نعرف كل ما يتعلق به يجب علينا أن ننظر إلى المسألة أولا بمنظار المتطرفين من المستعمرين، وأن نرى أدلتهم وبراهينهم التي يقولونها ليقنعوا بها على لزوم استمرار الاحتلال البريطاني في مصر، ثم ننظر إلى المسألة بمنظار الذي يقول بإخلاء مصر وتركها لأهلها. وبعد أن نقف على آراء كل من الفريقين وننقد قول كل منهما على حدة يستطيع القارئ بكل سهولة أن يستخرج النتيجة التي يراها لنفسه.
ولا ننكر أن «الاستعماري المتطرف» متمكن من دليل يظهر له في أول الأمر أنه قوي جدا، فإنه يقول: «أنت تعلم أن مصر واقعة على الطريق إلى الشرق فإذا احتلتها دولة معادية لإنكلترا فإن الهند تضيع في طرفة عين وأنت تعلم أيضا أن مصر وغيرها من البلاد الواقعة على طريق الهند هي رأس عقد الإمبراطورية البريطانية، فيجب علينا أن نحتفظ بها ما استطعنا، وهذا هو السبب الذي يحتم علينا البقاء في مصر.» انتهى كلام الاستعماري المتطرف، نقول إن هذا القول عادل في ذاته ولكن من ينظر فيه بدقة ونقد يراه بغير العين التي يراه بها قائله، وأول ما ينقد هذا القول هو أن مصر ليست في الحقيقة على الطريق إلى الهند؛ لأن الطريق إلى الهند تمر بقنال السويس، فقنال السويس هو رأس عقد الإمبراطورية، ولكن من الغريب أننا لم نسمع بأن أشد المستعمرين تطرفا اقترح على إنكلترا أن تستولي على قنال السويس الذي تكفلت الدول بحياده.
ولا يمكن لأي متطرف من المستعمرين أن يقول بأن احتلال مصر ضروري لإنكلترا لأنه يضمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، فيجب على إنكلترا أن تعرف أنه إذا كانت مصر في يدها أو في يد غيرها فإن البحر الأحمر يكون دائما مفتوحا لسفنها التجارية وأساطيلها الحربية ما دامت صاحبة النفوذ الأعلى في البحار، فإذا دارت الدائرة على قوة بريطانيا البحرية فإن امتلاك مصر وجزيرة العرب أيضا لا يمكنها من أن تقتحم البحر الأحمر.
ومما يدل على ضعف حجة المستعمرين المتطرفين قولهم إن مصر وغيرها من البلاد الواقعة على الطريق إلى الهند هي رأس عقد الإمبراطورية البريطانية، نقول: فيجب حينئذ على بريطانيا أن تفتح شمال أفريقيا كله فتحتاج إلى معاكسة ألمانيا في مراكش ومحاربة فرنسا في تونس والجزائر ثم تعود فتحتل كل جزائر البحر الأبيض كل هذا لتضمن الطريق إلى الهند، ولكن حزب الاستعمار الحقيقي في إنكلترا أظهر أنه لا يميل إلى مثل هذه المغالاة في الخوف والتطرف في القلق؛ لأنه يعلم أن السيادة في البحر الأبيض المتوسط لا تتم بالاستيلاء على جزيرة أو باحتلال شاطئ إنما تتم ببقاء أسطول قوي لا يمكن أن يكسر، وكل من له إلمام بالتاريخ القديم والحديث يعلم أن سيادة البحر الأبيض المتوسط لم تعقد للدولة التي كانت تملك أغلب شواطئه وجزره، فإن الدولة العربية الكريمة رغما عن امتلاكها الشواطئ الشرقية والجنوبية والغربية ورغما عن قوتها الحربية في صقلية وكريت لم تستطع أن توقف حركة التجارة في البحر الأبيض المتوسط أو تعاكس القائمين بأمرها. كل هذا لأن العرب لم يكونوا يملكون قوة بحرية عظيمة، وأي دليل على ضعف العرب في البحر الأبيض مع كونهم كانوا يملكون أغلب شواطئه أقوى من أن الإفرنج الذين قاموا بالحروب الصليبية كانوا يروحون ويغدون وهم يشقون عباب البحر الأبيض آمنين سالمين، مع علم العرب بأنهم ذاهبون إلى محاربة المسلمين، على أننا لا نحتاج إلى الاستشهاد بالتاريخ القديم إذا كان التاريخ الجديد يكفينا مؤنة ذلك، فإن أكبر دليل في التاريخ الحديث هو حملة نابوليون بونابرت على مصر، فإنه رغما عن امتلاك نابوليون لما كان للعرب بدون السيادة على البحر نال منه أعداؤه الإنكليز فوق ما كانوا يؤملون وظهر لنابوليون أنه لا يصل إلى غايته في البحر إلا إذا كانت له أساطيل قوية، وظهر أيضا أنه ما دامت سيادة البحر الأبيض في يد أي دولة فاحتلال مصر بدون رضاها محال ولا يخفى أن لا فائدة في احتلال مصر لمن يريد أن يكون صاحب النفوذ الأول في مياه البحر الأبيض.
على أن إنكلترا في القرن الثامن عشر كانت أقوى دولة في البحر الأبيض مع أنها لم تكن تملك غير جبل طارق ولم تتم لها تلك القوة إلا بواسطة أسطولها القوي، وقد يرد علينا بأن الاستيلاء على القواعد البحرية الكثيرة في الزمن الحاضر قد أصبح ضروريا؛ لأن الأساطيل كلها تحتاج إلى التصليح والفحم بعكس الحال في الزمن الغابر فإن الهواء كان كل ما تحتاج إليه السفن، فنقول إن إنكلترا بلا ريب تكتفي بجبل طارق ومالطة وقبرص، وقد برهنت بتنازلها عن جزر كورفو بأنها تكتفي بجبل طارق ومالطة فقط.
وفي ختام هذا الكلام الذي حاولنا به أن ننقد كلام المستعمر المتطرف نقول إنه ما دامت إنكلترا هي صاحبة النفوذ في البحر الأبيض فطريقها إلى الهند مفتوحة في وجهها على الدوام، أما إذا كان المستقبل يخفي في طياته مصيبة دهماء للبحرية الإنكليزية، فإن البقاء في مصر يكون على بريطانيا من المستحيل ولو تيسر لما عوض عليها خسارتها.
وربما يقول بعضهم إن منافع إنكلترا التجارية في مصر تضطرها لوضع يدها على مصر، نقول: الحقيقة هي أن إنكلترا لا تطلب إلا حرية التجارة المصرية، وهذه الحرية يمكن الحصول عليها بدون ذلك الاحتلال الإلزامي، ولا نظن أن إخلاء إنكلترا لمصر يسبب زيادة المزاحمين للتجارة الإنكليزية في وادي النيل، فإن إنكلترا لم تفز بالسيادة التجارية إلا لأنها حازت السيادة البحرية منذ زمان، والواقف على الحقيقة يعلم أن إنكلترا لم تحز مركزها التجاري في مصر إلا لبراعة تجارها في إرسال البضائع ووسقها، لا لأنها هي الدولة المختارة. وستستمر مصر على شراء كل ما تحتاج إليه من الأسواق الإنكليزية زمنا طويلا لا خوفا من إنكلترا أو رهبة من نفوذها؛ بل لأنها لا تجد في غير الأسواق الإنكليزية ما يوافقها ولا تجد أثمانا معتدلة مثل أثمان البضاعة الإنكليزية، ومن هنا يظهر أن السياسة لا تؤثر في التجارة أدنى تأثير.
على أن المطالب بإخلاء مصر يقف حائرا ويسأل نفسه قائلا لماذا تتمسك إنكلترا بمصر هذا التمسك؟! على أنه لا يسأل هذا السؤال إلا لأنه لا يرى أن إنكلترا تحصل على منافع عظيمة من احتلال مصر. بيد أن احتلال مصر يساعد إنكلترا على استخدام بضع مئين من الإنكليز في الحكومة المصرية، ولكن لا نظن لحظة واحدة أن سياسة إمبراطورية كبرى كالإمبراطورية البريطانية تدور على مثل هذا المحور الصغير الحقير، فما سبب هذا التمسك إذن بعد أن برهنا أن الجلاء لا يؤثر في إنكلترا تأثيرا حربيا أو تجاريا؟ مع العلم بأنه لا توجد في أوروبا دولة تمد يدها إلى ما تتنازل عنه بريطانيا، فإن فرنسا قد صرحت على رءوس الأشهاد بأن منافعها في جهة غير هذه الجهة، وقد بحثنا بحثا طويلا خرجنا منه بأن فرنسا لا تنوي أن تمد يدها إلى مصر، وأنها لو كانت تضمر لمصر شرا لا تستطيع أن تنفذ ذلك الشر إلا إذا دارت الدائرة على البحرية الإنكليزية فتخرب عن آخرها، وقد ذكرنا أيضا أن ألمانيا لا يخشى منها وعززنا قولنا بالأدلة والبراهين، وبرهنا أن الدول الصغرى الأخرى لا يخشى منها أبدا فلماذا تبقى إنكلترا في مصر؟
هل ذلك لأن إنكلترا لا تزال تسعى لتحقيق حلم «سيسيل رودس» الذي تمتد بعد تحقيقه السلطة البريطانية من القاهرة إلى الكاب؟
إنا لا ننكر على إنكلترا التمسك بذلك الأمل لأن مثل هذه الرغبة طبيعية ولا يمكن لأحد أن يطلب منها التخلي عن تلك الفكرة، ولكن كما قلنا فيما تقدم إنه توجد طرق شتى للحصول على غاية واحدة، فليس من الضروري أن تمر السكة الحديدية من الكاب إلى القاهرة بمستعمرات مطيعة كلها رغم أنفها للتاج البريطاني، فإن الحكومة الإنكليزية عرفت من زمن بعيد قاعدة بسيطة وهي أنه لا ينبغي أن تكون المستعمرات البريطانية بأسرها على شاكلة واحدة، ونحن نرى بين مستعمراتها مستعمرات محالفة لها مثل كندا وأستراليا، وهذه المستعمرات لا تربطها بإنكلترا إلا رابطة الوداد ومستعمرات يطلق عليها اسم الولايات؛ مثل الهند ومستعمرات محمية مثل قبرص وما شاكلها. وغير تلك المستعمرات توجد في الهند ولايات وطنية لا تربطها بإنكلترا إلا رابطة الصداقة، ولكن تلك الولايات هي وإنكلترا على بساط المساواة وتسمى «محالفات الإمبراطورية»، فلماذا لا تكون مصر على شاكلة تلك الممالك المحالفة مع أننا نعترف بأن مصر لم تصل إلى هذه الدرجة التي يمكنها بها أن تكون محالفة للإمبراطورية العظمى إلا بعد وصاية إنكلترا عليها، فهل تنكر إنكلترا على مصر قدرتها على القيام بهذه الوظيفة مع أنها هي التي ربتها وهذبتها وسهلت عليها الوصول إلى هذه الدرجة؟
نعم إن مصر إذا كانت حرة وأمامها إنكلترا تنظر إليها نظر الحارس المحب فإنها تكون أنفع لإنكلترا منها الآن وأصدق ودا وأكثر إخلاصا وخضوعا إذا كان الخضوع مطلوبا ... وسنأتي فيما يأتي من هذا الكتاب على شرح المركز الذي تشغله مصر بعد تحريرها.
عندما نتكلم عن إخلاء مصر فإننا لا نقصد تركها مرة واحدة. وقد أثبتنا فيما تقدم أنه لا توجد دولة أوروبية تجسر على أن تضع يدها على مصر خوفا من إنكلترا لا خوفا من مصر، فإذا حدث في المستقبل ما يضر بإنكلترا فإن الضرر يعود بلا ريب على مصر. ويمكننا في كليمات قليلة أن نبرهن للملأ أن مصر إذا كانت حرة لا يمكنها أن تتخذ سياسة عدائية نحو إنكلترا، فإنها إن حاولت ذلك فلا يكون جزاؤها إلا التنكيل الشديد، وعندما تسحب بريطانيا حاميتها (التي نقصت الآن حتى أصبحت لا تعد في الحقيقة قوة حربية) من مصر، فإن مصر ترجع دائما إلى إنكلترا وتكون في المسائل الخارجية تحت سيطرتها ونفوذها؛ لأنها محدودة من جهتين ببحرين ومحدودة من الغرب بالصحراء وأما من الجنوب فليست محدودة بحد طبيعي كالبحر والصحراء؛ لأن ما وراء حدودها يقع في السودان. فمصر محاطة بقوة إنكلترا من كل جهة على أننا إذا طالبنا إنكلترا بإخلاء مصر فإنه لا يخطر على بالنا أن نسألها أن تتنحى عن السودان، فإننا نترك مسألة السودان جانبا كما يتركها أي وزير عاقل هذا لأن مركز إنكلترا في السودان غير مركزها في مصر، فإن السودان في الحقيقة ملك بريطانيا بأقدس الحقوق وهو حق الفتح بالسيف والمدفع، فليس السودان إلا قطعة من بريطانيا، ونحن لا نقصد بقولنا هذا أن ننسى بأن هناك شركة اسمية بين إنكلترا ومصر في السودان، ولكن هذه الشركة ليست إلا صورة رسمية وليس وراءها شيء ...
وغني عن البيان أن مخابرات قليلة مع الحكومة المصرية تخرج معاهدة جديدة وبها ينتهي كل شيء، ولا نظن أن المستقبل يخفي وراءه صعوبة في طريق هذا العمل، فقد اعترف سياسيا منذ زمن بعيد بأن إنكلترا هي المالكة الوحيدة للسودان، ولم يتم الاعتراف الرسمي لأن إنكلترا كانت تهاب فرنسا، ولا يزال كلنا يذكر المخابرات التي دارت بين اللورد سالسبوري والحكومة الفرنسوية، بشأن حدود أملاك إنكلترا وفرنسا في أواسط أفريقيا وتعيين دائرة نفوذ كل من الدولتين، ولا يزال كلنا يذكر الأراضي الواسعة التي تنازل عنها سالسبوري لفرنسا ومنها «واداي»، وبذلك تمكنت إنكلترا من تعيين حدود السودان بالضبط، فلو لم يكن السودان ملك إنكلترا المطلق لما اكتفت فرنسا بأن تتخابر مع مندوب إنكليزي في شراء حدود السودان؛ بل كانت تطلب من ينوب عن مصر أيضا لينوب عنها في هذه المخابرات، ولكن فرنسا لم تحرك لسانها بكلمة في هذا الشأن وهذا يدل على أنها تعترف بملكية إنكلترا للسودان.
وحيث إن المصريين اشتركوا في فتح السودان فينبغي لنا أن ننظر إلى حقيقة هذا الاشتراك فنقول إن كسر شوكة المهدي وإخماد أنفاس نهضته كانا من أهم الأمور لمصر؛ وذلك لأن حدودها الجنوبية كانت أبدا في خطر شديد من هجوم المهدي وجنوده ودخوله مصر، أضف إلى ذلك أن الطرق التجارية في أواسط أفريقيا كانت مقفلة في وجه مصر، وهكذا حرمت من مورد رزق شرعي لها.
فلما جاءت إنكلترا رأت أن كبح جماح المهدي ضروري لأمرين الأول مراعاة لمصلحة التجارة المصرية التي تستفيد هي منها كثيرا، والثاني لأغراض أخرى كانت ترمي إليها فإن قوة المهدي ونفوذه أتعبا إنكلترا على حدود أملاكها في غرب أفريقيا وكانا سببا في تعطيل أعمالها هناك لأن دعوة المهدي كانت انتشرت حتى «بنين» و«كوماسي» فنتج عن ذلك أن تجارة أواسط أفريقيا وقعت بين نارين، وكانت إن فاتها الخطر لا يفوتها التعطيل، وهكذا لم تجرد حملة السودان إلا بناء على رغبة إنكلترا رغما عن معاندة فرنسا وحليفتها روسيا، وقد ذكرنا فيما مضى الطريقة التي حصلت بها إنكلترا على موافقة إيطاليا ونالت بها 500000ج من صندوق الدين المصري، على أننا لم نذكر الفائدة التي حصلت عليها إنكلترا بموافقة إيطاليا لها، فإن إنكلترا بعد أن حازت رضاء إيطاليا قامت فرنسا وروسيا ورفعتا دعوى في المحاكم المصرية ليعرقلوا مساعي إنكلترا، فاضطرت إنكلترا حينئذ لأن تعتمد على ماليتها هذا وليس من المهم إذا كان الجيش الذي حارب في السودان مصريا أو إنكليزيا فإن الجنود المصريين أكثر جنود الأرض استعدادا لهذا العمل، وقد برهنوا على ذلك بالأعمال الجليلة التي قاموا بها في السودان والتي كانت في الحقيقة الخطوة المهمة في سبيل فتحه، ولكن الحقيقة هي أن الفكرة كانت إنكليزية والمال الذي أنفق على الحملة كان إنكليزيا والقواد والضباط كانوا من الإنكليز، فلسنا بعد هذا كله محتاجين إلى القول بأن السودان هو ملك حلال للإنكليز. ولنتقدم الآن للبحث في أهمية السودان بصفة كونه مستعمرة إنكليزية فنقول: إذا كانت مصر هي أحسن قاعدة حربية لأجل فتح السودان فليعلم القارئ أنه منذ فتوحه قد أصبح الوصول إليه من الجنوب سهلا وهذه السهولة تزداد يوما فيوما.
وفي مستقبل الأيام سيستغني القادم إلى السودان عن المرور بطريق مصر لعدم الاحتياج إليه فإذا كانت في الخرطوم حامية إنكليزية فلن يخشى عليها من مصر؛ لأن مصر لا تستطيع أن تقطع عنها الذخيرة ما دام طريق الجنوب مفتوحا في وجه القادم بذخيرة أو نجدة لحامية الخرطوم، ولكن لا يخفى أن مصر لا تكون أبدا في مأمن ما دامت إنكلترا أمامها في البحر الأبيض بأساطيلها وخلفها في السودان بجنودها. هذا بقطع النظر عن المنافع المتحدة بين إنكلترا ومصر التي تجعل السلام ضروريا في وادي النيل، وبقطع النظر عن أن المصريين لا يستطيعون أن يعادوا إنكلترا خوفا من أنها تحصرهم من كل الجهات.
ولا ينكر علينا أحد أهمية السودان لمصر، فإن السودان ومصر توءمان لا ينفصلان، وحسبنا على ذلك دليلا أن الفراعنة لم يدخروا وسعا في فتح هذه البلاد وإخضاعها، ولا نشك في أن الأسباب التي دعت هؤلاء الملوك الأقدمين إلى فتح السودان هي نفسها التي دعت المصريين المحدثين إلى كسر شوكة المهدي وكبح جماحه؛ هذا لأن حياة مصر معلقة بخيط دقيق جدا وهذا الخليط هو نهر النيل، والقوة التي يكون إقليم أعالي النيل في يدها تكون مصر لا محالة رهينة أمرها وليس على من يريد أن يغير تاريخ مصر إلا أن يغير مجرى النيل .
وقد وصلنا بعد هذا البحث إلى نتيجتين؛ أولاهما: أن إخلاء مصر لا يضر بالتجارة البريطانية، وثانيتهما: أنه لا يضر بالسياسة الإنكليزية لا من مصر مباشرة ولا من أي دولة أوروبية، فلا يوجد حينئذ سبب معقول يمنع إنكلترا عن ترك مصر كما تركت غيرها واستفادت من هذا الترك، ولا نظن أن السياسة البريطانية تدور على محور القوة أو أنها اتخذت شعارا «هنا نحن وهنا نحن نقيم».
وقد بحثنا في سياسة بريطانيا الاستعمارية بحثا عاما، وسنبحث فيها الآن بحثا خاصا لنرى هل حدث في تاريخ إنكلترا أنها وجدت نفسها في مثل مركزها في مصر، وسنرى هل اتخذت إنكلترا في مثل هذه الحال حلا مثل الحل الذي نشير به عليها، فنقول: إذا نظرنا في خريطة ملونة من خرائط الهند نرى جزءا كبيرا من الولايات الهندية مكتوبا عليه «مستقل تحت حكم أمراء وطنيين»، وهذه الولايات المستقلة هي في الحقيقة في مركز يشبه مصر بعد تحريرها تمام الشبه، فإن هذه الولايات محاطة من كل جهاتها بولايات تحت الحكم البريطاني ولكن بريطانيا رأت من الحكمة وحسن السياسة أن لا تستولي على تلك الولايات، ولم تقبل ثمنا لإعفاء هذه الولايات من الاحتلال أو الامتلاك إلا حسن السلوك فإن حسن سلوك هذه الولايات هو الذي استطعن به أن يحفظن استقلالهن.
على أن إنكلترا تستفيد من إخلاء مصر فائدة عظمى وهي خلاصها من مركز كاذب كثيرا ما وقف في طريق معاملاتها السياسية، وإنا لا نشك في أن إنكلترا اضطرت مرارا للإذعان لأعدائها خوفا من تهديدهن لها بمركزها الكاذب، وإننا لا نريد بهذا التلميح أن نلوث الاتفاق الودي بين إنكلترا وفرنسا أو نرميه بما يعد عارا، ولكننا لا نتمالك أنفسنا من السؤال الآتي، وهو: ما هي الفائدة العظمى التي عادت على إنكلترا من تنازل فرنسا عن حقوقها في مصر؟
رب مجيب يقول إن إنكلترا تنوي أن تحتل مصر احتلالا نهائيا جبريا فحصلت على هذه المعاهدة؛ لأنها لا تود أن يحرك عملها هذا غيظ فرنسا فتسعى هذه في وضع العقبات في طريق إنكلترا، على أننا قلنا وعززنا قولنا بالبرهان إنه لو تم لإنكلترا احتلال مصر بدون معارضة أو معاكسة من فرنسا فإن هذا الاحتلال لا ينفع إنكلترا أبدا؛ لأن محالفة باريس التي عقدت في 8 أبريل سنة 1904 تحرم علينا الظن بأن ساسة إنكلترا ينوون شيئا من هذا القبيل، فإن مواد هذه الاتفاقية توضح هذه النقطة خاصة توضيحا لا يحتاج إلى تفسير، وفي هذه المعاهدة تصرح إنكلترا بأنها لا تنوي أن تغير المركز السياسي الحاضر في مصر. فنسأل ثانيا: ما هي الفوائد التي استفادتها إنكلترا من تنازل فرنسا عن حقوقها في مصر؟ إن فرنسا استفادت فائدة كبرى بتصريحها بعدم تداخلها في المسائل المصرية في المستقبل وقد بالغ كتاب الإنكليز في تقديرهم أهمية المنافع الإنكليزية في مراكش، وقد رأى القارئ فيما تقدم أن ألمانيا هي الأولى بين الدول صاحبة المنافع والحقوق التجارية في البلاد المراكشية، ولا ننكر أن إنكلترا كانت لها منافع تجارية في مراكش أهم من منافع فرنسا، ولم يكن أحد يعرف الحد الذي تصل إليه هذه المنافع؛ لأن بلاد المغرب الأقصى لا تزال عذراء ولا يعرف أحد منابع ثروتها الحقيقية.
ونحن لا نعارض في رضاء إنكلترا بتضحية نصيبها في خيرات مراكش بانسحابها منها، وتصريحها لفرنسا بوضع يدها عليها كما وضعت يدها على الجزائر، إذا كانت إنكلترا ترى لنفسها نفعا في التساهل مع فرنسا في هذه المسألة؛ لأن الكرم في السياسة لا وجود له، فإن السياسة كلها في كلمتين «خذ وهات»، وإذا حدث أنك أعطيت أكثر مما أخذت فالويل لك، فيظهر من هذا أن إنكلترا بانسحابها من مراكش حيث كانت تعمل لمنافعها التجارية بجد واجتهاد قد أعطت لفرنسا شيئا عظيما وأخذت منها ورقة رسمية، وإذا أخلت إنكلترا مصر فإنها توفر على نفسها مثل ذلك الضعف الذي ألجأها لعقد المحالفة الفرنسوية الإنكليزية، ونحن لا نود أن نتكلم هنا عن المضار التي تعود على إنكلترا في السياسة الدولية من إشغالها المركز الكاذب، ولكننا سنتكلم عن المضار التي تعود عليها في مصر ذاتها، فنقول: من الواضح أن المستخدمين الإنكليز في مصر يملكون قوة عظيمة، ولكن من المحقق أيضا أن هذه القوة لا أساس لها، ومن الواضح أن تحققهم من ثبات مراكزهم يجعلهم على الدوام عرضة للضعف الأدبي الذي يلجئهم للانتقام من أي إنسان يبغضونه بحق أو بغير حق، وقد ثبت كثيرا أن بعض هؤلاء المستخدمين الإنكليز عجزوا عن تبرير أعمالهم عندما سئلوا أمام سلطة عليا.
وحدث كثيرا أن بعض المستخدمين الإنكليز أوعز لهم بالاستعفاء وبعضهم رفض طلبه لوظيفة في الحكومة المصرية رغما عما كانوا مزودين به من الوصايا العظيمة، وما أرغم هؤلاء على الاستعفاء، وما رفض طلب هؤلاء الطالبين؛ إلا للابتعاد عن المشاكل والمشاغب، وقد قلنا إن كل شيء في مصر سائر على محور السكون والهدوء، وما ذلك إلا لذكاء اللورد كرومر وحسن سياسته وبعد نظره، ولكن المركز الذي يعتمد على الذكاء والفطنة وحسن السياسة لا يعد مركزا ثابتا إنما هو مركز كما ذكرنا كاذب، فإن كل عاقل يفضل أن يتم كل شيء في المسائل السياسية باللين واللطف أحيانا، ولكن تحدث أمور تجعل التصريح والتأكيد والشدة ضرورية، فإذا حدثت مثل هذه الأمور في مصر واضطرت القابضين على زمام السياسة من الإنكليز إلى التصريح والتأكيد فإنها تختفي بسرعة غريبة، ويقول الذين كانت لهم علاقات خاصة بالحكومة المصرية إن هذه الظروف الحرجة التي تدل على سياسة خرقاء تحدث كل يوم.
ولا يخفى أن من يشغلون الوظائف في الحكومة المصرية من الإنكليز ما عدا من يشغل وظيفة المستشار المالي ليس لهم حق رسمي في مصالح الحكومة المصرية، ولا توجد وظيفة واحدة يجب فيها وجود إنكليزي، ومع هذا فإن الإنكليز سائدون تمام السيادة في مصالح الحكومة الكبرى، لماذا؟ إننا لا ندري وهم أيضا لا يدرون ...
لماذا كل هذا الحذر وكل ذلك الخوف من التصريح بالحقيقة التي لا تزال مكتومة؟ وكل هذا التردد في إيضاح حقيقة المركز السياسي؟ إن ذلك لا يليق بحكومة إمبراطورية عظيمة كإمبراطورية بريطانيا. لماذا كل هذه المواربة والمماحكة التي لا تعود في الآخر إلا بالكراهية والبغض والنفور وترمي أصحابها بما يفرون منه؟
وليت مضار ذلك المركز الكاذب تقف عند حد المقلقات الوقتية، ولكن للأسف نحن نرى أنه يعود بعواقب وخيمة مؤلمة دائمة، فإن هذا المركز كان سببا في اشتهار سياسة إنكلترا في مصر بالتردد الممقوت ووضعها في موضع كانت غير محتاجة إليه؛ نعم! إن ذلك المركز السياسي أسدل على إنكلترا شبكة من الريب والشك مع أنها بريئة طاهرة الذيل.
ونحن نشير بهذا الكلام إلى الرواية المحزنة التي مثلت على ملعب الخرطوم وذهب بطلها العظيم الجنرال غوردون شهيد سياسة خرقاء وعزة نفس شماء، ولقد أشار أعداء إنكلترا كثيرا إلى حادثة غوردون وكيف أن أهل وطنه هجروه مع علمهم بحرج مركزه، ولا غرو، فقد وجد الأعداء من ذلك الحادث المؤلم ما فتح أفواههم وحرك ألسنتهم بقولهم: «ليس هذا الحادث إلا نتيجة خيانة لا غفران لها»، وقد تطرفوا فقالوا: «إن إنكلترا غررت بغوردون وصنعت ما صنعت لتجد لها عذرا إذا أرادت فتح السودان.»
على أننا لا نتردد لحظة واحدة في تكذيب هذه الإشاعة التي ليس لها من الحقيقة مكان، لأن نجل مقام الحكومة الإنكليزية والمستر غلادستون عن مثل هذه الجريمة السوداء - هذا إذا صدقنا بأن غلادستون وحكومته قدروا على تدبير مثلها - ولكننا لا نستطيع أن نمدح سياسة أدت إلى مثل هذه النتيجة.
على أن مذكرات غوردون تلمح تلميحا بسيطا إلى حل هذه العويصة، فإننا نرى في مذكراته صورة الرسائل التي بعث بها يطلب المعونة وكأن الحكومة الإنكليزية وضعت أناملها في أذانها لئلا تسمع صراخ هذا البطل الشهيد، وما كان أسهل على الحكومة الإنكليزية أن تبعث بألفي رجل ينجدون غوردون من أسره ويخرجونه من غمرته؟
على أننا نعلم أن الحكومة الإنكليزية أضاعت ذلك الوقت الثمين في الجدل الباطل والنزاع الفارغ فيمن يبعث النجدة، ومن يتحمل نفقاتها التافهة فكأن الحكومة الإنكليزية كانت مغلولة الأيدي غير قادرة على العمل، وما ذلك إلا لأن مركزها كان في وادي النيل كاذبا، فيظهر من ذلك أن المركز الكاذب الذي يجلب على حكومة عظيمة كل تلك المصائب جدير بالترك والهجر مهما ضحت الحكومة في سبيل تركه من المنافع والفوائد!
وبعد أن فحصنا السياسة الاستعمارية البريطانية في قارات العالم كله رأينا أن بقاء إنكلترا في مصر على الدوام لا يفيدها فوائد حقيقية؛ لأنه ليس من الضروريات لأجل نجاح سياستها الاستعمارية، وقد رأى القارئ أن إخلاء مصر لا يعود على إنكلترا بأدنى ضرر فإن مصر مع كونها حرة تبقى في دائرة النفوذ البريطاني الذي يحيط بها من البحر والبر، ونظن أن هذه الإحاطة تضمن لإنكلترا حسن سلوك مصر، ورب قائل يقول سلمنا جدلا بأن الجلاء يعود على بريطانيا ومصر بفوائد شتى، وإن الاحتلال النهائي ربما يسبب صعوبات شتى وربما ينتهي بحرب شعواء تضر إنكلترا ولا تنفعها، ولكن ما هي مضار المركز الحالي؟ فجوابا عن هذا السؤال نقول: لقد ذكرنا بالتلميح والتصريح أنواع الضعف السياسي الذي سببه احتلال مصر لإنكلترا من أنها كثيرا ما تذعن لأعدائها خوفا من تغييرها وتهديدها بمركزها الكاذب، وذكرنا المراكز الحرجة التي تقع إنكلترا فيها لعدم توضيح السلطة البريطانية الحقيقة في وادي النيل، وسنتكلم الآن على مضار شتى تتحملها إنكلترا من احتلال مصر وتكفي هذه المضار التي نذكرها ونذكر نتائجها لأن نخرج منه بنتيجة واحدة، وهي أن إخلاء بريطانيا لمصر في نظر الإنكليز أنفسهم ليس عملا طائشا وليس مضرا كما يتقول المتقولون المرجفون، فنقول: من الأضرار العظيمة التي تئن منها مصر في الزمن الحاضر الفوضى السائدة على نظام القضاء المصري، على أننا لا نود أن نقصر بحثنا على القضايا المنطقية والأبحاث الخيالية بل نريد أن نفحص الحقائق الثابتة التي لا يمكن إنكارها أو تغييرها، وبذلك يمكننا أن نظهر للملإ المضار المادية والأدبية التي تعود على إنكلترا ومصر من هذه الفوضى السائدة على نظام القضاء المصري، ولا يخفى أن البلاد التي لا يمكن الحصول فيها على الحكم في القضايا وتنفيذ أوامر العدالة بسرعة تكون دائما عرضة للخراب والدمار لأن أهلها يفقدون الثقة في بعضهم البعض وتقل الأمانة من بينهم، وكل تلك المصائب تعود على التجارة بالتعطيل والضرر البليغ. على أن الغريب الذي ينزل بمصر أياما معدودة ثم يرحل عنها لا يستطيع أن يقف على العقبات الكثيرة التي تعوق العدالة عن أن تجري مجراها والطرق العديدة التي تزهق الحق فداء للباطل، ولكن الذي يعيش في البلاد ويعاشر أهلها ويقف على كل شيء فيها يمكنه بكل سهولة أن يتحقق صدق ما نقول.
أجل إنه يكاد يكون من المستحيل في هذه البلاد أن تقتص العدالة من الجناة المذنبين، ومن نكد الدنيا على مصر أنها بلاد لا يخفى الجناة فيها أنفسهم ولا يتبرأون من جرائمهم، كأنهم يفتخرون بها.
ولا نقول إن العدالة مفقودة في مصر لقلة المحاكم وندرة دور القضاء، كلا، فإن المحاكم كثرت كثرة عظيمة حتى يوشك أن يضل طالب العدالة عن مكانها ولا يدري أين يلتمسها.
غير أن مصر لا تزال خارجة عن حدود الأمم الراقية، ونقصد بذلك أنها لا تزال محرومة من أقدس حق أي أن أمر العدالة في بلادها ليس في يدها، فإن القنصليات في مصر ليست قنصليات فقط بل هي أيضا محاكم مستقلة تحاكم كل منها أمامها من يذنب من أبناء الدولة التابعة هي لها، وعدا ذلك فإنه توجد في مصر محاكم مختلطة نصبت للفصل في القضايا بين الوطنيين والأجانب وبين الأجانب المختلفي الجنسية والوطنيين، وغني عن البيان أن هذه المحاكم لا تزال سببا للمتاعب والمشاكل، هذا ولسنا في حاجة إلى ذكر الارتباك الذي ينشأ عن اختلاف تلك المحاكم وكثرة أنواعها وطرق رفع الاستئناف من بعضها إلى بعض إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها المتقاضون في كل بلد، وهذا جزء من كل من الاضطراب السائد على نظام القضاء المصري مع العلم بأن القضاء هو أهم شيء في الحكومة لأنه يتناول أعمال الحياة والمعيشة القومية في كل وقت؛ بل هو النظام الوحيد الذي يجب أن يكون نظامه أبسط نظام وترتيبه أسهل ترتيب ليعرفه البعيد والقريب .
ويرى القارئ في هذا الكتاب من أوله إلى آخره أننا ابتعدنا جهد طاقتنا عن مواطن الملام وأماكن الاتهام لننفي عن ذهن المطالع الظن بسوء قصدنا، وأن نصرف فكره عن الحسبان بأننا نسر ونطرب عندما نظهر للملأ أن فساد نظام القضاء المصري ليس إلا من نتائج الحكم البريطاني، فإن مثل هذه التهمة وإن كانت قد وجهت إلى السياسة البريطانية مرارا فإنها في الواقع ونفس الأمر خالية من الصدق.
وكما اجتهد الإنكليز في إصلاح المالية وترتيبها ونظامها ترتيبا ونظاما حق لمصر معهما أن تفاخر بها أية دولة أوروبية كذلك اجتهدوا في إصلاح القضاء وسعوا جهد طاقتهم في تمهيد سبل الوصول إلى العدالة، ولكن صادفتهم في طريقهم صعوبات شتى أكبر من أن يتغلبوا عليها وعقبات أعظم من أن تجاز، فكانت النتيجة أن الفوضى والفساد والظلم لا تزال في المكان الذي ينبغي أن يكون نموذج النظام والترتيب والعدل، وأي إنسان ينكر علينا ذلك؟ بل من يقدر أن يشير إلى خطوة واحدة سارها القضاء المصري في طريق التقدم. ويحق لنا أن نأسف أسفين؛ أسفا على ما ذكرنا، وأسفا جديدا لا على أن الجرائم لا تزال تنخر عظام العدل والأمن فقط بل على أنها في ازدياد سنة فسنة وشهرا فشهرا.
نقول - ولا يخفى على اللبيب - إن كل الطوائف الأجنبية التي أتت لتسكن مصر لم تأت حبا بطيب هوائها وصفاء سمائها؛ بل أتت كلها لتجمع أعظم ثروة في أقصر وقت، فتراهم يبررون الوسائل ما دامت تلك الوسائل تؤدي إلى كسب المال، فإن رغبتهم الوحيدة هي أن يكوموا المال تكويما ويربوا ثروة طائلة بسرعة فائقة، ولا يخفى أن الثروة الطائلة لا تربى في زمن قصير إلا على «كيس الغير»، فينتهز هؤلاء الخونة فرصة ارتباك القاضي واضطراب القضاء ويسلبون وينهبون كما يرغبون ويفرون بلا عقاب؛ لأن أعمالهم الشيطانية تغيب عن فكر القضاء المصري، ولو حدث أن يد العدالة مدت نحو أحد هؤلاء فإنه يجد لنفسه مهربا بين زوايا القوانين المتناقضة المتباينة وأركان الإدارة المختلة المعتلة.
وليس في مصر غير قوة واحدة يهابها هؤلاء الخونة ويحترمونها وهي إنكلترا، ولكن كثيرا ما يقف «المركز الكاذب» في وجه إنكلترا فيعوقها عن العمل السريع، وقد يعلم هؤلاء الشريرون أن إنكلترا لا تملك الحق الذي يخول لها إيصال الأذى إليهم فيستفيدون من هذه الحقيقة فوائد كبرى، وهكذا سنة بعد سنة تستمر تلك الحال غير المرضية على ما هي عليه والمحاكم القنصلية تعمل كما تريد فتعدل وتظلم لا علما ولا جهلا، وفي المحاكم المختلطة تقوم قيامة القوانين فيتحارب القانون الفرنسوي مع القانون الإنكليزي والقانون الإنكليزي مع الشريعة الإسلامية، فتقنن قوانين جديدة لتحل عقدة الارتباك، فتجيء تلك القوانين الجديدة ضغثا على إبالة، هذا ولا يعلم نتيجة ذلك الارتباك المستمر والاضطراب الدائم إلا الله.
وهناك وسيلة واحدة لإصلاح الحال وهذه الوسيلة هي إلغاء المحاكم القنصلية وإقامة قانون واحد يطيعه الكل ويذعن له الجميع، ولكن هذا العمل فيه صعوبات كثيرة ورغما عن هذا، فأين اليد القوية التي تجسر على القيام بهذا العمل؟ على أنه ليس من السهل إيجاد قانون كامل يوافق مطالب هذا الشعب المختلط.
أجل كيف يوجد نظام قانون يقنع المصريين والإنكليز والفرنسويين والطليان والأتراك والسوريين واليهود واليونان وكثيرين غيرهم؟ وإذا فرضنا وجود مثل هذا النظام فمن يستطيع أن يقدم ذلك النظام للتصديق عليه وقبوله، ولو فرضنا زوال كل تلك العقبات، فإن إلغاء المحاكم القنصلية
2
يكون من المصائب الكبرى من الوجهة السياسية على مصر.
ولقد رأينا فيما مضى أن تنظيم المالية المصرية لم يسبب أتعابا وصعوبات كثيرة؛ لأن أغلب أوراق الديون المصرية كانت في أيدي الإنكليز والفرنسويين، وبهذا تحول الأمر إلى مسألة فرنسوية إنكليزية، ولكن مسألة القضاء تختلف كثيرا عن المسألة المالية فإن حقوق القضاء التي في يد كل دولة أجنبية يرجع أصلها إلى ما يسمى بالامتيازات، وهذه الامتيازات هي عبارة عن معاهدات معقودة بين كل دولة أجنبية وبين الدولة العلية التي لا تزال تعتبر صاحبة السيادة الحقيقية على مصر.
نقول وللأسف إن هذه المعاهدات لا تحتوي تفويضا تاما ممنوحا من قبل السلطان للدول في بعض الأعمال القضائية فقط؛ بل إنها أيضا مملوءة بجمل معقدة ومعاني ملتبسة ومحشوة بالألغاز السياسية التي تعجز الجن عن حلها، ومكتظة بالتلميحات والإشارات، ولكن على هذه المعاهدات يتوقف حل مسائل الشرق الأدنى، فإذا حاولت إنكلترا أن تمس تلك المعاهدات هبت الدول المختلفة في وجهها كما يهب النحل من خليته في وجه من يجني الشهد. وما أغنى إنكلترا عن تلك اللذعات إذا كانت لا تحتاج إلى الشهد؟ ولكن بدون إلغاء هذه الامتيازات لا يمكن حل عويصة القضاء المصري، ولو فرضنا أن هذه الامتيازات ألغيت ففي يد من توضع قوة القانون والقضاء؟ مع العلم بأن إنكلترا إذا طالبت بهذا الحق فإنها لا تلقي إلا مقاومة وإباء، ويرى القارئ مما تقدم أن المسألة القضائية أكثر تعقيدا من المسألة المالية، ولا يمكننا أن نفكر بأنها تحل بعقد مؤتمر دولي يجتمع فيه مندوبو الدول ويقررون بشأن القضاء المصري ما يريدون، فيسعى هذا المؤتمر لتوحيد القانون بأن يضع قانونا رسميا يطابق أغراض الجميع وينفذ على رعايا الجميع، ولكن عقد مثل هذا المؤتمر بعيد الحصول جدا لأنه لو اجتمع لاختلف أعضاؤه اختلافات شتى؛ لأن لكل طائفة دينا ولغة ومبادئ تخالف دين ولغة ومبادئ غيرها، ولا يغالي من يقول إن مثل هذا المؤتمر لا يوشك أن يجتمع حتى يفترق، على أننا لا نرى لهذه المسألة إلا حلا واحدا فقط، وهذا الحل هو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها في يدها، يجب عليها أن تسأل الدول أن يسمحن لها بالدخول في صفوفهن وأن يعددنها منهن لتستطيع أن تنفذ عدالتها بيدها. أليس من العجيب أن تبقى مصر كل هذا الزمن محرومة من الحقوق التي منحت لجمهورية سان دومنجو وجمهورية سان سلفادور، وكلتاهما حكومتان حقيرتان سادت فيهما الفوضى؟! أليست مصر قادرة على القيام بما تقوم به هاتان الحكومتان الصغيرتان اللتان يحكمهما العبيد؟!
هل ينكر علينا أحد أن أهل مصر تعلموا في مدارسهم المنتظمة التي تفوق بعض المدارس الأوروبية كل ما يتعلمه الغربيون في مدارسهم؟ فلماذا إذن يحرمون من التمتع بالحقوق المتمتع بها العبيد السود في جمهوريتهم الحقيرة؟ عندما كنا نبحث في المسائل المهمة التي نريد بعد البحث فيها الوصول إلى حكم على مستقبل مصر أغفلنا رأينا في مسألة من أهم المسائل التي يجب حلها قبل تغيير المركز السياسي في مصر، وقد نظرنا إلى المسائل المصرية التي بحثنا فيها بنظر السياسي إلى السياسة الأوروبية، وقد رأى القارئ كيف أن الدول جمعاء لا يهمها حل المسألة المصرية لأنهن رأين أن حلها لا يؤثر في مستقبلهن الحاضر مباشرة، على أننا لم نذكر شيئا واحدا عن المصريين الوطنيين أنفسهم، ونرجو أن لا يظن أحد أننا أغفلنا ذكرهم لعدم اهتمامنا بمستقبلهم.
وغني عن البيان أن أوروبا لا تعترف بحقوق المصريين ولا تنيلهم إياها إلا إذا علمت أن الاعتراف بتلك الحقوق وإعطاءها لأصحابها لا يضر بمصالحها ومنافعها، وقد أظهرنا للقارئ سياسيا أنه لا توجد دولة أوروبية تستفيد مباشرة من بقاء الحال على ما هي عليه في مصر، وأظهرنا أيضا أن إنكلترا لا تستفيد من احتلال نتيجته إخماد أنفاس استقلال مصر والمصريين، وذكرنا أيضا المصاعب والمتاعب والمشاق التي تصادف إنكلترا في مصر، ووصفنا العقبات التي تقف في طريقها وتنغص عليها سياستها، وتحرج عليها مركزها المقلقل في وادي النيل. وبرهنا على أن الجلاء لا يكون مناسبا لسياسة إنكلترا فقط؛ بل إنه يكون جديرا بشرفها ويقوي مركزها السياسي الذي أصبح ضعيفا مراعاة لمركزها الكاذب في مصر، وقد آن لنا أن نبحث في المسائل المالية المصرية التي تهم المصريين الوطنيين مباشرة، على أننا لم نغفل ذكر المصريين عند بحثنا في السياسة الدولية إلا لعلمنا بأنهم لا يؤثرون في هذه السياسة تأثيرا محسوسا، ولكننا في بحثنا في المالية المصرية نستطيع أن نذكر الوطنيين ونذكر منافعهم فيكون ذكرهم بفائدة لهم. وأول ما نبتدئ بالبحث فيه هو صندوق الدين، ولكن القارئ بلا ريب يعلم أنه بعد التغييرات التي تمت بناء على الاتفاقية الأخيرة بين إنكلترا وفرنسا أصبح حال صندوق الدين مخالفة بالمرة لما كانت عليه منذ أشهر قليلة، وأحسن ما يمكننا أن نشرح به هذا التغيير هو أن نستشهد بكلام المركيز لانسدون - وزير خارجية - إنكلترا في كتاب بعث به إلى سفير إنكلترا في باريس ملحقا باتفاقية 8 أبريل سنة 1904؛ قال بعد أن ذكر الأعمال التي قامت بها إنكلترا في مصر:
ورغما عن تلك الأعمال التي غيرت السياسة الدولية في مصر بسرعة فإن نظام المالية والإدارة السائد ليس إلا أثار نظام طال عليه القدم.
دع ما فيه من الارتباك والاضطراب والخلل، وهذا النظام مبني على قانون التصفية (1880) ومعاهدة لندن (1885)، وناهيك بشرط هذا القانون وتلك المعاهدة وما فيهما من التعقيد والالتباس، وإنا نرى أن تلك القوانين في عهد الإصلاح الحديث تضر أكثر مما تنفع وتعطل إنماء ثروة البلاد بدل أن تساعد، وكثيرا ما ذكر اللورد كرومر الارتباكات والمتاعب بل الخسارة المالية التي تعود على مصر من هذا النظام في تقاريره السنوية، وما أحسن وصف هذا النظام بقلم اللورد ملنر في كتابه العظيم عن مصر، فإنه يقول:
إنه من المضحك المبكي أن يرى الإنسان خزائن مصر مملوءة بالذهب والبلاد محرومة من أن تمد يدها إليه لتستعمله فيما يضيف إلى ثروتها وأرباحها، وكل سنة تزيدنا علما بأنه من الظلم بقاء ذلك الضغط على الحرية المالية في مصر، فإننا إذا فهمنا سبب ذلك الضغط في الزمن الغابر زمن إملاق الحكومة المصرية وإفلاسها، فإننا لا نفهمه في الأيام الحاضرة التي أصبح سداد الديون المصرية فيها مضمونا. إنا لا نعارض في بقاء النظام الذي بمقتضاه يدفع بعض الدخل إلى صندوق الدين مباشرة؛ وحيث إن ما يدفع بهذه الطريقة يكفي لتغطية أرباح الدين ويكفي لدفع المال الذي تراه الدول كافيا لاستهلاك الدين؛ فيجب أن تمنح الدول الحكومة المصرية حق التصرف فيما بقي كما تشاء، ويجب إلغاء قانون «المصروفات المصرح بها والمصروفات غير المصرح بها»، وأرى أن مصر في حاجة ماسة جدا إلى هذا الإصلاح، فإنها بلاه لا تستطيع أن تستفيد من إصلاح ماليتها التي لم تصلح إلا بعد مشاق شديدة. ا.ه. (كلام ملنر).
على أن امتيازات صندوق الدين التي كانت تخول له حق الحصول على قدر معلوم بالنيابة عن أصحاب الديون قد أصبحت عظيمة جدا، فقام أعضاؤه يطالبون الحكومة المصرية بحق سيطرتهم في تنفيذ كل الاتفاقات الدولية المتعلقة بالمالية المصرية بالنيابة عن الدول الأوروبية، وأضف إلى ذلك أن قبولهم ورضاءهم قبل استعمال أي مبلغ من المال من أهم الأمور. ومن الغريب أن كل الأموال المقررة تدفع لهم مباشرة بدون أن تمر بنظارة المالية، وعلاوة على ذلك فإن وصولات مصالح السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية التي تديرها لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء فرنسوي وإنكليزي ومصري تدفع كلها بعد خصم المصروفات إلى صندوق الدين. على أن الحكومة الفرنسوية لم تعارض في الإصلاح الذي طلبناه، وقد أظهرت أنها مستعدة للاتفاق معنا فيما يصلح هذا النظام الفاسد ويجعله موافقا للوقت الحاضر. ا.ه. (كلام لنسدون).
ونحن لا نرى بيانا أبلغ من هذا البيان للوظيفة التي ادعاها صندوق الدين منذ سنين قليلة، ولا يخفى أيضا أن صندوق الدين أصر على العمل بمقتضى تلك الوظيفة المدعاة، ومن الصعب علينا أن نحلل الدور الذي لعبته إنكلترا لتضع صندوق الدين في ذلك المركز القلق المرتبك إلا إذا ذكرنا القارئ بما قلناه عن السياسة الدولية الأوروبية، فإنه من الواضح أن إنكلترا لم تكن تستطيع أن تأخذ في يدها زمام الأعمال في صندوق الدين بدون أن تهيج سخط فرنسا وتحرك مرجل غضبها وتشعل نار عدائها، وغني عن البيان أن إنكلترا كانت تسعى أبدا في الابتعاد عن الحرب مع فرنسا بشأن مصر، فلم تر إنكلترا طريقة لإبعاد المراقبة الدولية عن صندوق الدين ووضع يدها عليه وجعل المسألة المصرية بينها وبين فرنسا ومصر أو بالاختصار بينها وبين مصر إلا طريقة مساعدة المصريين على تسديد ديونهم بأسرع ما يمكن، وما كان أبسط هذه الطريقة وأسهلها، ولكن إنكلترا رأت أن سداد الديون المصرية بسرعة يحرمها من حق البقاء في مصر، سيما وقد علمت أن فرنسا تنوي أن تحل محلها في وادي النيل، فنتج من هذا أن إنكلترا لم تر منفعتها الحقيقية في إنماء ثروة مصر بسرعة شديدة، ويذكر القارئ قول المركيز لنسدون إن المالية المصرية كانت مقيدة مرتبكة من تشديد صندوق الدين ومن تداخله في كل مسألة مالية تتعلق بمصر، على أن إنكلترا وجدت طريقة أخرى للضغط على التقدم المالي الذي حازته مصر، وذلك أنها أيدت الدولة العلية في مسألة الجزية. وهكذا قضى على مصر أن تفقد في كل سنة 750000ج بلا سبب واضح. ونحن لا نعتقد أن إنكلترا اضطرت مصر لدفع هذا المبلغ الطائل مراعاة لاحترام السيادة التركية التي أصبحت أرق من إيمان الكافر. ولم تحتفظ بدفع هذه الجزية إلا لأنها كانت فيما مضى تتعلق بمنافع الدول الأوروبية في مصر، وقد كانت الدول جمعاء تود أن تبقى في وادي النيل، وقد رأينا أنه لم يسبب الاختلاف فيما بينها إلا ما حدث أخيرا من التغيير في السياسة الدولية. على أن رغبة إنكلترا كانت أن تتفق مع فرنسا وتعملا لإضعاف التأثير الدولي في وادي النيل حتى تتغير المسألة المصرية ولا تصير مسألة دولية. وعلى هذه السياسة سارت إنكلترا في مسائل القضاء فنجحت في تحديد وظيفة المحاكم المختلطة، ومن سنة 1884 إلى 1889 أسست إنكلترا المحاكم الأهلية التي تبلغ الآن ستا وأربعين محكمة ولهذه المحاكم حق الفصل في المسائل المدنية التي لا تزيد على مائة جنيه، ولها الحق في نظر قضايا المخالفات والجنح التي يعاقب فيها بالغرامة المالية وحق الفصل في الجنايات التي يعاقب عليها بالسجن حتى ثلاث سنوات.
ومن الواضح أن مصر لو منحت الحرية التامة في اتخاذ طريق التقدم بلا تعطيل ولا تأخير وأعطيت حق التمتع بماليتها وتدبيرها كيفما شاءت لما طالت عليها أيام دينها التي تخول غيرها حق المراقبة الشديدة عليها، وربما كان يلتمس لبقاء مصر تحت سيطرة دولة أوروبية عذرا لتعليمها وتدريبها، ولكن غيرة هذه الدول بعضها من بعض كانت تجعل إخلاء مصر من أضر الأشياء على السلام العام في أوروبا، أما الآن فقد تغير كل شيء ونحن لا نرى بدا من الاقتباس من كلام المركيز لانسدون الذي قال:
لقد ظهر منذ حين أنه من الضروري إدخال تغييرات كثيرة على الترتيبات الدولية التي عملت في مصر لأجل ضمانة الديون الأجنبية على أن الدول إذا قبلت الأمر الخديوي الذي قبلته الحكومة الفرنسوية فإن مصر تكون من الآن فصاعدا حرة في إدارة ماليتها ما دام دفع المبالغ المقررة لصندوق الدين منتظما مضمونا، وسيستمر صندوق الدين كما هو ولكن وظيفته ستعين وستحدد له مبالغ خاصة تدفع لخزينته بالنيابة عن أصحاب الديون المصرية، وعندما ينفذ الأمر الخديوي ستغل أيدي صندوق الدين عن العمل والتداخل في إدارة البلاد بعد أن غيرت أنواع الدخل التي كانت تدفع لتسديد الدين واستبدلت رسوم الدخوليات ووصولات السكة الحديد بضرائب الأطيان، ومن فوائد هذا التغير أن أموال المداينين قد أصبحت مضمونة ضمانة قوية لأن سدادها الآن أصبح موقوفا على أثبت وأغنى مورد مالي في البلاد. ومن جهة أخرى فإن الحكومة المصرية لن تلاقي صعوبات في إدارة الدخوليات والسكك الحديدية لأنها ستلغي اللجنة المختلطة التي كانت تراقب مصالح السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية، وسيسلم القدر البالغ 5500000ج الذي كان مكوما في خزائن صندوق الدين بدون فائدة، وهو نتيجة الاقتصاد الذي تم بعد تغيير (1890) وستستعمله الحكومة فيما يعود على البلاد وأهلها بالخير العميم.
وإن كنا لا نزال محافظين على رأينا في أن الحكومة المصرية لها الحق في تسديد دينها في أي وقت بعد عام 1905، فإن الحكومة الفرنسوية لا تزال مصرة على مساعدة أصحاب الدين المصري في مسائل متعلقة بتاريخ الدين القديم. وبناء على مطالب هؤلاء المداينين حدث الاتفاق على أن تغيير الدين المضمون والدين الممتاز يؤجل إلى سنة 1910، ويؤجل تبديل الدين الموحد إلى سنة 1912، وهذا التأجيل يفيد أصحاب الديون فوائد عظمى فلعلهم لا يصخبون عندما يحل الميعاد وتبدل تلك الديون.
وقد ألغى الأمر الخديوي شروطا كثيرة من القانون القديم التي دلت التجارب على أنها غير ضرورية وغير مناسبة للزمن الحاضر؛ وأهم هذه الشروط التي ألغيت رضاء صندوق الدين، فمن الآن فصاعدا لن يكون رضاؤه ضروريا عندما تريد الحكومة المصرية عقد قرض جديد لأجل مصروفات نافعة أو غير ذلك، وألغي أيضا النظام الذي صدق عليه في معاهدة لندن ومؤاده وضع حد للمصروفات الإدارية في الحكومة المصرية وقد ذكر اللورد كرومر مرارا المصاعب والارتباكات التي تنشأ عن هذا النظام في بلاد لا تزال «تحت تجربة» التقدم ولا تزال مطالب إدارتها كثيرة.
إن جنابكم تلاحظون أن الأمر الخديوي الذي يتضمن كل هذه التغييرات لا يخرج من حيز القول إلى حيز الفعل إلا بعد مصادقة النمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا على أن المبالغ المدينة بها مصر لهذه الممالك صغيرة جدا؛ لأن أغلب الدين هو في الحقيقة لبريطانيا العظمى وفرنسا ما عدا جزءا صغيرا منه في مصر ذاتها، فنرجوا أن لا تعارض تلك الدول في الإصلاح الذي رأته الحكومتان الإنكليزية والفرنسوية أضمن لحقوق المداينين، وأخذتا على كاهليهما تعضيده وتأييده. وإذا حدث في المستقبل ما يوقف سعينا ويعوق سيرنا فإننا نستند على مساعدة فرنسا التي تخولها لنا الاتفاقية التي عقدت بيننا. ومن الضروري أن أقول كلمات قليلة بشأن حقوق الحكومة المصرية المعرضة في داخل البلاد إلى التداخل الأجنبي. فإن هذا التداخل ليس إلا نتيجة النظام المسمى بالامتيازات وهو يشمل المحاكم القنصلية والمختلطة، والمحاكم المختلطة سائرة على حسب قوانين ونظامات موضوعة لا يمكن تغييرها أو تحويرها بدون رضى الدول الأوروبية جمعاء وغيرها من الدول الأجنبية. ويرى اللورد كرومر أن الحين لم يحن بعد لمحاولة أي تغيير جوهري في هذه الجهة؛ فلذلك لم تطلب حكومة جلالة الملك في الحال الحاضرة أي تغيير في المحاكم المذكورة، على أنه عندما يأتي الزمن الذي تستعد فيه مصر لنظام قضائي يشبه النظامات القضائية المتبعة في باقي الممالك المتمدنة فإننا نعتمد على مساعدة فرنسا في الأخذ بناصرنا في عمل التغييرات الضرورية. ا.ه.
لقد رأينا إذن ما ترمي إليه مواد الاتفاقية الجديدة، فإن صندوق الدين الذي كان في الحقيقة يحكم مصر قد حرم من كل حقوقه وامتيازاته؛ لأنه ظهر أن شعبا عدده اثنى عشر مليونا لا يليق به أن يكون في أيدي جماعة من المرابين. نعم، لقد اكتشف الإنكليز سر الخدمة العظيمة التي كان هؤلاء المرابون قائمين بها نحو مصر، وهي أن يقتصدوا لها مالا تستطيع به أن تخرج من غمرتها التي وقعت فيها، فجاءت إنكلترا بالحجج والبراهين لتعوق عمل صندوق الدين، فتقول: «الآن قد تغير كل شيء وصارت مصر مملكة ناجحة بواسطة الإصلاحات والتغييرات التي تمت في ماليتها؛ وحيث إنه مضت سنون عديدة وفوائد الدين تدفع بانتظام؛ وحيث إن أصحاب الديون لا يمكنهم أن يدعوا بأن ديونهم غير مضمونة وأن مركز مصر المالي مقلقل فإنكلترا لا ترى لهم حقا في إدارة شئون مصر، وقد جاء الأمر الخديوي بضمانات قوية لدفع الأرباح بانتظام وصار صندوق الدين من الآن كأي مصلحة من مصالح الحكومة، ولا نظن أن دولة من الدول تعارض في تنفيذ الأمر الخديوي بعد أن صادقت عليه ألمانيا وبتنفيذ هذا الأمر تخرج مصر من تحت نير صندوق الدين.» وفي اتفاقية 8 أبريل سنة 1904 تنازلت فرنسا عن كل حقوقها في مصر وهي الدولة الوحيدة التي كانت تخشى إنكلترا معارضتها وتهاب مسابقتها في وادي النيل، وسيبقى النائب عن فرنسا في صندوق الدين جالسا على كرسي الرئاسة ليراقب صندوق الدين، ولكنه غير مأذون بأن يقول كلمة واحدة تضر بمصلحة إنكلترا في مصر.
ومن كلامنا المتقدم عن تلك الاتفاقية ترى أن المسألة المصرية قد تغيرت منذ 8 أبريل سنة 1904 تغييرا كبيرا يشبه التغيير الذي طرأ عليها يوم احتلال إنكلترا لها في سنة 1882، فإن فرنسا تنازلت عن حقوقها في سنة 1882 تنازلا حقيقيا ولكنها بهذه الاتفاقية تنازلت تنازلا رسميا، ولكن لهذا التغيير معاني شتى فإذا وفقنا إلى فهم المعنى الحقيقي لهذا التغيير فإننا نكون في الحقيقة قد وفقنا إلى معرفة مستقبل مصر والمصريين. أما «المستعمر المتطرف» فإنه لا يرى لهذا التغيير إلا معنى واحدا واضحا، ومن سوء حظه أن هذا المعنى يعميه عن كل المعاني الأخر فيهملها. إنه المسكين لا يرى إلا تنازل فرنسا عن حقوقها لأنه يظن أنه لم يعق إنكلترا عن وضع يدها على مصر تماما إلا خوفها من معاداة فرنسا، وحيث إن هذه المعاداة قد زالت فلن تعود إنكلترا إلى التكتم والتستر في سياستها وسوف ينهض الأسد البريطاني من ربضته ويهزأ بباقي الدول الصغرى ويضع يده القوية على فريسته التي كان ينتظرها من زمن، نقول - وبقطع النظر عن أن إنكلترا تبرأت من مثل هذه النية السيئة وبقطع النظر عما أبناه من أن امتلاك مصر يضر بإنكلترا ولا ينفعها - فإننا نقول إن هذا المستعمر المتطرف نسي المصريين الوطنيين أو تجاهل وجودهم.
الفصل الخامس
المصريون و«حياد» مصر
منذ عشرين سنة مضت كان يمكن لبعض الناس أن يتجاهلوا وجود المصريين أو يتناسوهم بدون خوف من هذا التناسي أو ذاك التجاهل، ولكن مصر الفتاة قد تغيرت تغيرا عجيبا وتحورت تحويرا مدهشا، فإن عشرين سنة قضاها المصريون تحت حكم دولة أجنبية عادلة ساعدتهم على إحياء فكرة الوطنية وإنمائها، والمصريون اليوم يعلمون حق العلم أن لهم وظيفة وطنية تطالبهم بواجبات يؤدونها، وغني عن البيان أن الطبقة العالية من المصريين تعلمت تعليما متقنا وتمكنت من التشبع بروح المدنية الغربية، ومن حسن حظهم أنه لم تختلط روح المدنية التي تشربوا بها بماء الذل الذي يقتل النفوس الزكية ويخنق العواطف الشريفة؛ ولذلك تربت فيهم غرائز حب فضائل المدنية الغربية التي احتك بها أغلبهم في حياتهم المدرسية في مرسيليا ونيمز وباريس، فكانت نتيجة ذلك أنهم تحققوا من أن أمتهم مطلوب منها أن تمثل دورها كأمة حية حرة كأي أمة أوروبية، وهم يحسون بأن وقت تعليمهم قد انقضى وأنهم قد استغنوا عمن يتولى شئونهم غير أنفسهم. وقد يصعب على مراقب أحوال الأمة المصرية أن يغض الطرف عن تلك العواطف الشريفة، وقد يدفعنا ذلك إلى القول بأن أمة دبت فيها هذه الروح لا يمكن أنها تقف ساكتة راضخة عندما تحاول بريطانيا أن تمتلك بلادها نهائيا.
وقد قلنا عن الأمة المصرية إنها أمة حية ونرجو أن لا يظن القارئ أننا أتينا بهذه الصفة في وسط الكلام لأنها صفة ترن وتطن في الأذن بلا معنى حقيقي، ولا نود أن يظن القارئ بأننا نأتي بهذه الألفاظ لنظهر قدرتنا في الكتابة كما يحاول المبتدئ إظهار بلاغته ليظهر للملإ غروره وإعجابه بنفسه، إنما نحن نعني ما نقول ونقول ما نعني، ونسأل القارئ أن يعيرنا ذهنه لحظة نفسر له فيها معنى كلمة «أمة حية» عندما يطلق ذلك الوصف على أمة أوروبية، لا نرى لنا مثالا أحسن من أمثلة علم الأعضاء، ولا بد أن يكون القارئ قد سمع بالتجارب العديدة التي عملت على أعصاب السمع والبصر، ولعل القارئ أيضا يعلم أن أعصاب هذين العضوين لا تختلف شكلا وتركيبا، وأنها مصنوعة من نسيج واحد، ومع كل ذلك فإن أعصاب السمع لا تبصر وأعصاب البصر لا تسمع، وكل قائم بوظيفة خاصة به، وعندما نصف هذه الأعصاب بأنها أعصاب حية فنحن نعني بذلك الوصف أن كل عصب قادر على تأدية وظيفته الخاصة به، ولا يتمكن أبرع طبيب من أن ينيب هذا عن ذلك في العمل.
فلنتحول إذن إلى التاريخ الأوروبي فإننا نشاهد أنه مبني من عدة وحدات حية وكل وحدة خلقت لتقوم بعمل خاص ولتؤدي وظيفة معينة، ولا يمكنها أن تقوم بوظيفة غير وظيفتها، أو عمل سوى عملها. هذه هي الحقيقة التي تفسر لنا سبب فشل كل الذين قاموا يرغبون تأسيس إمبراطورية عظيمة في أوروبا تأخذ تحت أجنحتها كل تلك الوحدات المختلفة في المشارب المتباينة في المذاهب، فلما نصف أمة بأنها حية فنحن نعني بهذا الوصف أنها فاتت الدور الذي كانت لا تعد فيه إلا قطعة أرض على الخريطة الجغرافية، إن الأمة الحية هي الأمة التي تقدر أن تسير في طريق خاص بها تصل منه إلى القوة والعظمة، ولا يمكن لأي أمة ثانية أن تجرها خلفها. وفي هذه الدرجة من حياة الأمة تكون قد حصلت على غرائز سياسية وفنية واجتماعية ربما يمكن الضغط عليها بقوة خارجة مؤقتا، ولكنها لا تموت أبدا ولا تطفأ شعلتها، وأن القوة التي تحاول أن تعوق أمة عن طريق تقدمها الحيوي أو تسعى في خنقها فإنها بلا شك تخيب في سعيها وتفشل في عملها ولا تنال ما ترغب.
إن تاريخ أوروبا ليس إلا تاريخ ثلاثين وحدة من هذه الوحدات التي لم يمكن تحويلها عن طريق التقدم والارتقاء الطبيعي، ولدينا شواهد لا تعد ولا تحصى عن أمم ضغطت عليها القوى الأجنبية القرون الطويلة وسحقتها تحت نير الظلم والاستبداد لتقتل سجاياها الوطنية ولتمزجها بنفسها وتحرمها نعمة الوجود الحقيقي، ولكننا لم نعثر حتى الآن على ذكر أمة فاتحة نجحت في سحق أمة ثانية وإخفائها من الوجود، فإنه حالما تحس الأمة المضغوط عليها بأن اليد الغريبة قد ضعفت عن القبض عليها، إما لهزيمتها في حرب خارجية أو لضعفها وضجرها من القلاقل الداخلية، فإنها تهب وتعيد إلى نفسها القوة التي فقدت في أسرع فرصة.
وقد دلنا التاريخ على أن صفات بعض الأمم التي ظن أنها ذهبت وتلاشت تعود ثانية بقوة أعظم من القوة الأصلية، وربما كان تاريخ جزيرة البلقان كافيا للاستشهاد على ما نقول، فإنه لا يشك أحد في أن الأتراك استعمروا أملاكهم البلقانية ببراعة وحذق ولا يخفى أن الأمة العثمانية أمة حرب وطعن وضرب، فلما جاءت إلى جنوب أوروبا لقيت في جزيرة البلقان أمما شتى صغيرة لا تقل عنها شدة وشهامة وعزة نفس وصبرا على الحرب والضرب، فلم يستعمل الأتراك الشفقة والرحمة الواجبتين في استعمار تلك البلاد، ولولا القوة التركية الحربية العظيمة التي كان أقل ما فيها فرق الانكشارية المنتظمة لما نجح الأتراك في إخضاع ولايات البلقان مؤقتا، على أن الأتراك لم يدخروا وسعا قرونا طويلة في تقوية قبضتهم على تلك الولايات وطمس معالم ما ليس تركيا ومحو آثار الوطنية البلقانية، ولكن من تحت ذلك الخضوع الظاهري الذي أظهرته تلك الأمم الصغيرة خرجت قوة مدهشة عندما بدأ الأتراك يضعفون، وكلنا يعلم أن تلك الولايات قامت الواحدة بعد الأخرى تطالب بحريتها مع كونها لا تزال حافظة لمزاياها الأصلية وسجاياها الوطنية، وربما قد صارت اليوم أشد بها احتفاظا من الأمس، والذين يتكهنون بانقسام المملكة العثمانية يقولون بأن السبب الوحيد لذلك الانقسام هو كونها قاومت النظام الطبيعي ولم تتبع قواعده، فكلما تنقص الدولة العلية ولاية يكون ذلك النقص دليلا على أن أمة هبت بعد طول الرقاد، وتحركت فيها صفاتها الوطنية، فنهضت تطالب بحياة حرة مستقلة عندما سنحت لها فرصة الخروج من تحت نير الظلم والاستبداد.
ولا ندهش حينئذ إذا رأينا أن نقص الدولة العلية لا يزيد في أملاك الدول الأوروبية الأخر، إنما يضيف إلى الخريطة الأوروبية أسماء أمم قديمة نسيناها ولم ينسها التاريخ، ولا يعقل أن هذه الأمم بعد خروجها من تحت نير الأتراك تقبل صاغرة أن تدخل تحت نير أي دولة أوروبية أخرى؛ لأنه لا معنى للخروج من مذلة إلى مثلها ومن صغار إلى صغار ... على أنه كانت أمام تركيا قبل فتحها تلك الولايات عقبة عظيمة جدا غير وطنية هذه الأمم وهي اختلاف الدين، فإن إسلام الأتراك ونصرانية البلقان لا يتفقان، فكان ذلك النفور أيضا سببا لتقوية إحساس الوطنية في تلك الأمم المظلومة. فإذا نظرنا إلى تاريخ الأمم من هذه الجهة فإننا لا نجد تاريخا ألذ وأفيد من تاريخ استقلال رومانيا وبلغاريا والصرب وولايات الرومللي.
وغني عن البيان أنه توجد في أوروبا ممالك أصغر شأنا وأحقر أمرا من ولايات البلقان المستقلة، وقد نجحت هذه الممالك الصغيرة الحقيرة في الحصول على حريتها الوطنية، وهنا نذكر القارئ بحكومة سان مارينو التي تفتخر بأنها أقدم مملكة في أوروبا، ثم نذكره بجمهورية أندورا التي لا يزيد سكانها على 6000 نسمة، ثم بأمة الجبل الأسود التي هزأت بكل من حاولوا أن يبتلعوها أو يخنقوها. فإن تأليف هذه الوحدات الحية هو الذي يجعل تاريخ أوروبا مخالفا لتاريخ أي قارة من قارات العالم. على أن كلمة «حية» هي مفتاح الوادي العظيم الذي يفصل بين وحدة أوروبية صغيرة كصربيا وبين مملكة آسيوية كبيرة كمملكة «تيبت»، فإن قوى تركيا الحربية والسياسية لم تستطع أن تقتل روح الوطنية الصربية ولكن قبضة من الجنود الإنكليزية ومثلها من الجيش الهندي لم تفشل في إخضاع التيبت وخنق روح وطنيتها ...
إن أوروبا عامة وإنكلترا خاصة لا تتخيل أن مصر لا تزال في درجة «تيبت»، فإن الأجيال التي مضت على الأمة المصرية وهي تتعلم التعليم الغربي وتفكر بالطريقة الغربية قد أنارت عقلها وجعلتها تحس بوطنيتها كما يحس الأوروبي بوطنيته، ولقد أقنعت الحرب الأخيرة بين إنكلترا والبوير كل إنكليزي بأن كل شعب سائر على النموذج الغربي لا يمكن إطفاء جزء من شعلته إلا بعد إنفاق القناطير المقنطرة من الذهب وإزهاق الآلاف المؤلفة من النفوس الزكية. هذا وإذا بلغت المسألة بين مصر وبريطانيا إلى الحرب فإننا نحقق للقارئ أن إنكلترا تلقى في محاربة مصر صعوبات شتى مخالفة للصعوبات التي لقيتها في محاربة جمهوريات جنوب أفريقيا.
ولنترك الآن البحث في المسائل الحربية جانبا ولنفرض أننا بلغنا نهاية الحرب وأن النصر عقد لإنكلترا على مصر وأن الوقت جاء لعقد محالفة الصلح فتكون إنكلترا حينئذ قد أحست بوجود وطنية مصرية فلا تحاول أن تنال حق الحكم بالقوة الجبرية لعلمها بأن مثل هذا العمل يخضع الشعب الهائج طرفة عين حتى يستعد لنهضة ثانية، على أن إنكلترا لم تتخذ في حياتها سياسة مثل هذه السياسة الخرقاء، ولم تحاول مرة في العمر واحدة أن تحكم الأمم بالتهديد والشدة، إنما هي تسلك طريقا واحدة وهي أنها بعد أن تحوز النصر على عدوها تستميله بإكرامه وتقديره حق قدره وهذه هي الطريق التي سارت عليها بعد عقد معاهدة «فيمر ينينج»، فإنها صرحت للبوير بأن نوالهم الحكومة النيابية متوقف على حسن سلوكهم لمدة معينة، فإذا انقضت هذه المدة يصير الشعب البويري أمة محالفة لإنكلترا، فيكون مثلهم كمثل أستراليا وكندا، يدبرون حكومتهم الداخلية بأنفسهم ولكن يضعون سياستهم الخارجية في أيدي بريطانيا العظمى، ولا يسمح لنا المقام بالبحث فيما إذا كان الوصول إلى هذه النتيجة من الممكن بدون ما أنفق من المال ومن قتلوا من الرجال أم لا.
ولنفرض أن إنكلترا تحققت من الوطنية المصرية وأرادت أن تعامل الشعب المصري كما عاملت غيره من الشعوب التي كانت خاضعة لها - أي معاملة الصديق الأكبر للصديق الأصغر - فما هي المكافأة التي تعطيها إنكلترا لمصر تعويضا لها عن استقلالها الذي اغتصب منها زمنا؟ فهل تمنحها استقلالا إداريا؟ وإذا منحتها فما يكون نوع هذا الاستقلال ؟ إنا لا نرى لمصر نفعا في تأسيس حكومة نيابية في بلادها لأنها لا تفهمها ولا نريد أن تفهمها، فإن العقل المصري لا يزال شرقيا والعقل الشرقي عاجز بطبيعته في الزمن الحاضر عن فهم الحكومات النيابية ... نعم! إننا نعلم أن في مصر مجلسين نيابيين يشبهان مجلس العيان ومجلس العموم، ولكن هذا النظام النيابي في مصر ليس إلا خيالا للنظام النيابي الحقيقي، على أن الأمم المختلفة توافقها نظامات مختلفة، وقد أنكر الساسة منذ زمن الرأي القائل بأن مثل الأمة ونظام الحكومة كمثل الشخص والكساء يمكنك أن تلبسه إياه كيف شئت، فإن بريطانيا منحت البوير حق الحكومة النيابية لأنها رأت أن هذا الشعب أظهر قدرته على فهم هذا النظام في استقلاله، فمنح إنكلترا لهذا الشعب هذا النظام يعد منها كرامة وفضلا، ولكن ما معنى مثل هذه المنحة لمصر ومصر لم تظهر ميلها لها ولم تحتج إليها إلى الآن، على أن منح الحكومة النيابية لا يخفف آلام مصر ولا يذهب بالمذلة التي سببها احتلال الأجانب لها، ولا يعوق المصريين عن المطالبة بحقوقهم عندما يرون في نفوسهم الكفاءة لذلك.
نظن أننا قد استطردنا كثيرا ويجب علينا أن نذكر سنة 1912 التي ربما تكون من أهم السنين في تاريخ القطر المصري، فإن القارئ يذكر النبذة التي اقتطفناها من كتاب المركيز لانسدون التي يشير بها إلى أن مصر بعد هذه السنة ستكون قادرة على سداد ديونها كلها، وغني عن البيان أن ثروة مصر الآن تمكنها من وفاء ديونها، فإذا فرضنا أنها لم تصنع ذلك فإنها بلا ريب تكون قادرة على تبديل ديونها وتوحيدها لتقلل من ربح تلك الديون، فتضيف بذلك مبالغ طائلة إلى ثروتها، وإذا لم يستطع المصريون أن يسددوا كل ديونهم فإنهم على الأقل يغيرون مركزهم المالي حيال أوروبا تغييرا كليا. ولنفرض إذن أن المصريين سددوا أغلب ديونهم فإذا تم ذلك فنحن لا نرى أن لأحد حقا شرعيا في منعهم عن تقديم عريضة إلى إنكلترا أو من ينوب عنها في مصر فحواها ما يأتي:
نحن المصريين نعترف من صميم أفئدتنا بكل الأعمال النافعة التي قامت بها الحكومة البريطانية نحونا، ونحن لا نود أن نصغر من شأن الخدم الجليلة التي قامت بها إنكلترا في سبيل إدخال الترتيب والنظام في إدارتنا ومساعدتنا في حماية حدودنا من هجوم الفاتحين. ولا نود أن نخفي اعترافنا بجميلها، وإننا متحققون من أن الحكومة الإنكليزية لم تحاول مرة أن تقتل الوطنية المصرية أو تمسها بسوء، ونحن نحترم عهد الاحتلال الإنكليزي الذي كنا ننظر إليه نظر القاصر إلى ولي الأمر أو نظر المتعلم إلى الأستاذ؛ لأن إنكلترا لم تستفد في الحقيقة مباشرة من مالية مصر أو قوتها، مع أن بلادنا تقدمت تقدما باهرا ولا تزال سائرة في طريق النجاح، وقد يجرؤنا اعتقادنا بأن علاقة إنكلترا بنا لم تكن إلا علاقة ودية على أن نذكر بريطانيا العظمى بأننا في زمن حمايتها قد سلكنا سلوكا حسنا وعملنا جهد طاقتنا في الوصول إلى الغاية التي كانت تتمناها لنا إنكلترا، ونرى أننا قد بلغنا رشدنا، وجاء الوقت الذي يمكننا فيه أن نطلب فيه حكم أنفسنا بأنفسنا، وقد حررنا بلادنا من أغلب ديننا، وبذلك رفعنا الحمل الثقيل الذي أنقض ظهرنا، ونعشم أن نجاح بلادنا الماضي ونظام ماليتها يضمنان لنا دفع المتبقي من الدين والفائدة، ونحن نكرر شكرنا وثناءنا على بريطانيا العظمى ونذكر لها أن الساعة قد أتت التي يمكن للإنكليز فيها أن ينسحبوا بسلام، فيستفيدوا ويفيدوا ويتركوا مصر تحكم نفسها بنفسها، ونود أن نحيط الحكومة البريطانية علما بأننا لا ننوي أن ننكر على إنكلترا حق ملكيتها للسودان ولا نود أن نمس هذه الملكية بما يضعفها أو يقلل نفوذها.
فلو عرض المصريون عريضة مثل هذه العريضة، وشرحوا فيها حقيقة الحال، وتأدبوا في ألفاظها كل التأدب حتى لا تشتم منها رائحة مس الكرامة، فإننا لا نظن أن الغيظ يلحق بساسة الإنكليز، ولا نظن أنهم يجيبون بغير ما يرضي مصر والمصريين، على أن المسألة قبل اتفاقية 8 أبريل 1902 كانت مختلفة كل الاختلاف، وكان من الممكن أن يرمي الإنكليز فرنسا بتدبير مكيدة هذه العريضة، أما الآن فهذا الظن أبعد من القطبين؛ لأنه لا مكان للشك في إخلاص الفرنسويين وحسن نيتهم بعد تنازلهم عن حقوقهم في مصر، فقد رأينا أن انسحاب فرنسا من مصر؛ ليس فقط لأن هذا الانسحاب يوافق خطة سياستها الخارجية؛ بل لأنها أخذت له ثمنا عظيما جدا.
وفي هذه الحال لا يستطيع أي أن يهمز الأسد البريطاني ويوعز إليه بأن هذه العريضة ليست إلا هجوما أدبيا على أملاكه وغنائمه؛ لأن الأسد البريطاني يرى أنه بمنح المصريين ما التمسوه لا يفقد شيئا بل يستفيد كثيرا.
قلنا فيما مضى أن حربا بين إنكلترا ومصر ربما تعود بمصائب لا يهزأ بها ولم تكن للإنكليز في الحسبان. على أنه لو شبت نار تلك الحرب وفاز فيها الإنكليز فإنها لا تفيد إنكلترا ولا تنتج لها نتيجة محمودة؛ لأنها تخرب التجارة المصرية وتدمر المركز المالي الذي شادته إنكلترا في مصر. على أننا رأينا أن إنكلترا لا تمارس صناعة الاستعمار إلا بتساهل وتسامح. فما تكون نتيجة تلك الحرب التي تضعف إنكلترا وتفقر مصر، فهل تعود إنكلترا وتطالب برجوع الحالة السياسية في مصر إلى ما كانت عليه مع علمها بأنها لا تنال حقوقا تجارية أكثر من الحقوق التي تنالها لو كانت مصر مستقلة ومفتوحة لتجارة الأمم كلها، ونحن لا نرى للحرب معنى إلا إذا كانت إنكلترا سائرة في سياستها الاستعمارية على الدرب الذي تسير عليه فرنسا، أي أنها تضم البلاد التي تفتحها إلى الإمبراطورية فتصير تلك المستعمرات ولايات خاضعة تمام الخضوع، فإن الحرب حينئذ يكون لها سبب معقول، كأن تكون مصر قد شقت عصا الطاعة فجاءت إنكلترا تعيدها إلى حظيرتها. ومع ذلك فإن الحال إذا كانت كما ذكرنا أي أنه لو كانت مصر ولاية خاضعة منضمة إلى الإمبراطورية البريطانية، فإن إنكلترا يجب عليها أن تنظر في نفقات الحرب وتقارنها بالمنافع التي تحصل عليها بعد الفوز الكبير، ولكن حيث إن إنكلترا تمنح رعاياها الحرية والاستقلال الداخلي بعد أن ترى فيهم الكفاءة؛ لذلك فنحن لا نرى الفائدة التي تستفيدها بعد الحرب، وهذا هو ما حدث بعينه في جنوب أفريقيا، ولا نظن أن إنكلترا تعود إلى محاربة البوبر ثانية؛ لأن الشعب الإنكليزي الذي قام في أول الأمر بنفقات الحرب لا يقوم الآن لعلمه بأن العاقبة الثانية تكون كالعاقبة الأولى عقيمة وخيمة.
نقول: ولو أن العريضة التي ذكرناها سابقا تؤدي إلى قطع العلائق بين إنكلترا ومصر فمن الصعب جدا أن نتكهن بنتائج الحرب ونحن لا ندري أي طريق تتبعها مصر، ولا نستطيع أن نتنبأ بالقوة الحربية التي يستطيع المصريون دفعها إلى ميدان الوغى، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن مصر لا تلبث أن تحس بعداء إنكلترا حتى تطلب من الحبشة مساعدتها، ولا نظن أن الحبشة تعيرها أذنا صماء، فإن الأحباش يعلمون حق العلم أن استيلاء إنكلترا على مصر إن لم يكن الخطوة الأولى في سبيل الاستيلاء على بلادهم، فإنه بدون شك يؤدي إلى سلب حرية الحبشة وإخضاعها؛ لأنهم يكونون حينئذ محاطين بأملاك إنكلترا من كل جانب، دع ما تكنه صدور الأحباش من الكراهية والاحتقار للأوروبيين عامة، سيما بعد يوم «عدوه»، ولا يبعد أن يستنهض المصريون قوة المهدي المنتشرة في أواسط أفريقيا التي لحقها سبات عميق لا بد أن تفيق منه. كل هذه مسائل لا نستطيع الآن البحث فيها، إنما نقول إن حربا مصرية إنكليزية تؤدي إلى صعوبة جمة، ولو أن إنكلترا تغلبت على تلك الصعوبات فإن ثمرة الحرب أن تعادل ما تقوم به من النفقات. •••
قد بدأت نهاية العمل الذي انتدبنا أنفسنا للقيام به، وقد نظرنا إلى المسألة المصرية من كل جهاتها واعتبرناها عاملا مهما من عوامل السياسة الأوروبية، وفحصنا نتائج الأعمال التي قام بها الاحتلال، ومع أننا ذكرنا الفوائد والمنافع التي استفادت وانتفعت بها مصر في عهد حماية بريطانيا، فإننا أشرنا إلى الصعوبات الهائلة التي تعترض من يود بقاء الحال الحاضرة على ما هي عليه زمنا طويلا، وقد رأى القارئ أننا حاولنا جهد طاقتنا أن نقف موقف الحكم العادل المحايد الذي لا يميل عن الحق لينصر الباطل أو يمدح فردا ليذم آخر، ونظرنا إلى المسألة من جهة المنافع والمضار السياسية ضاربين صفحا عما يلتبس على القارئ من الأبحاث، ومن حسن الحظ أن كل أبحاثنا في أي جهة كانت أدت كلها إلى نتيجة واحدة وهي أن المسألة المصرية لا تقبل إلا حلا واحدا مهما طال الزمن، وهذا الحال زيادة عن أنه يفيد كل الدول التي لها علاقة بالمسألة المصرية، فإنه يكون أبدا ثابتا، ولقد رأينا أن ارتباك النظام القضائي من أهم الصعوبات التي تجعل الحال السياسية الحاضرة في مصر لا يحسن السكوت عليها، وقد أظهرنا أنه لا توجد دولة أوروبية قادرة على تحسين حال ذلك النظام لتزيل مكان الشكوى الكبرى من الحكومة المصرية؛ لأن القضاء إذا لم يكن على أحسن ما يرام فإنه بلا شك يقف عقبة كئودا في طريق التقدم المالي.
على أن التنافس الدولي يعوق دول أوروبا جمعاء عن أن يتفقن ويتنازلن عن امتيازاتهن وحقوق قنصلياتهن في القضاء لإنكلترا، ويبعد كثيرا أن إنكلترا تطلب منهن التنازل عن تلك الحقوق؛ لأن مثلها يكون كمثل الملتمس قبسا في الماء زيادة عما يسببه ذلك الطلب من الكراهية والعداء.
وقد أظهرنا خطأ حرمان مصر من حقوقها التي تمنح للأمم الحية مع أن تلك الحقوق تمنح لأمم غيرها لا تدانيها في المدنية، وكثيرا ما تكون هذه الأمم مسيحية، ونحن لا نظن بأن الدول المتحدة يرفضن طلب مصر إذا سألتهن أن تنضم إليهن وأن يعاملنها كواحدة منهن، ولكن هذا الطلب لا يكون له وقع حسن إلا إذا كانت مصر مستقلة، ونحن لا نزال مصرين على النتيجة التي استدللنا عليها بالبحث الطويل، وهي أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الحقيقة الواضحة لكل إنسان وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي أن مصر قد بلغت الدور الذي يخول لها حق أن تكون عضوا حيا من ممالك أوروبا، وقد ذكرنا أنها إذا بلغت ذلك الدور من القوة والنمو فلا توجد في العالم كله قوة تقدر على تحويلها عن طريق تقدمها الطبيعي.
ولا نظن أن من له اختلاط بالدوائر الوطنية في مصر ينكر في قلبه أن الأمة قد تنبهت إلى وظيفتها الوطنية، ولا ينكر السرعة الشديدة التي ترسخ بها أقدام ذلك التنبه في قلوب الشبيبة المصرية، رب قائل يقول إنه من الممكن أن تكون فكرة «حق البقاء كأمة مستقلة» لم تتمكن من عقول المصريين ولم ترسخ في أفئدتهم بدرجة تضطرهم إلى المطالبة بحقوقهم حالا مهما كلفتهم تلك المطالبة، نقول: نحن لا نشك في أن كر الأيام ومر الأعوام يؤديان إلى إنماء تلك الفكرة في عقولهم، وذلك يصل بهم إلى النتيجة المقصودة على أن السياسي البارع هو ينتهز الفرصة ويقبض عليها من ناصيتها فلا يفوتها ولا يدعها تفر منه؛ لأنه لو تأنى لرأى ما لا يسره مع طول الزمن فيلتمس من ورطته مخرجا فلا يجد، فخير له أن ينظر بمنظار الحكمة إلى المستقبل فيرسم خطته وفقا لما يراه آتيا ... ولقد أظهرنا بكل ما في وسعنا بواسطة البحث المنطقي والأدلة القاطعة والبراهين الحاسمة أن الاحتلال البريطاني يضر بمصر في المستقبل كما نفعها في الماضي، وأن بريطانيا بعد تنازل فرنسا عن حقوقها فقدت كل حق في وادي النيل، وقد أظهرنا أن إبدال هذا الاحتلال بامتلاك دائم يضر بمصلحة إنكلترا لو أنها نجحت في ذلك. وعددنا الفوائد الجمة التي تستفيدها إنكلترا من انسحابها من ذلك المركز الكاذب الذي يستفحل خطبه يوما فيوما، ويلوح لنا أن الساعة التي تستطيع إنكلترا أن تنسحب فيها قد حانت، فإذا انسحبت بريطانيا العظمى بدون ضغط فيكون ذلك الانسحاب أكبر دليل على حسن نيتها نحو مصر قبل الاحتلال وبعده.
وسنبحث فيما بقي من هذا الفصل في الخطة التي تسير عليها مصر في المستقبل وسنستشهد بحوادث الأمم والممالك التي حدث لها ما حدث لمصر تماما، ونشرح الطرق التي حلت بها مسائل تلك الأمم، وبعد ذلك نكون قد حصلنا على قانون عام نستطيع أن نستخرج منه قاعدة خاصة نطبقها على الحال الحاضرة في مصر، وغني عن البيان أن بحثنا في هذا الموضوع سيكون بحثا تاريخيا، فنستميح القارئ عذرا إذا أتعبناه بذكر بعض المقدمات التاريخية ؛ لأنها هي الأساس الوحيد الذي يمكننا أن نبني عليه بناء متينا، وقد ابتعدنا عن تقرير الحقائق العقلية لأنها كثيرا ما لا تقنع القارئ ولا تترك في نفسه أثرا. ونحن نشاء أن نظهر بوضوح تام أنه لم يوجد للمسائل الأوروبية التي تشبه المسألة المصرية إلا حل واحد يمكن الاعتماد عليه. على أن هذا الحل الذي حلت به تلك المسائل لم يكن نتيجة بحث علمي؛ بل كان نتيجة الضرورة السياسية؛ ولذلك كان معقولا مقبولا أضف إلى ذلك أنه أدى إلى الغاية المطلوبة.
إن أول نظرة في ميدان تاريخ أوروبا تقنع الناظر بأنه ينظر إلى وادي التيه؛ لأنه يرى كل شيء مرتبكا مضطربا متناقضا متباينا ييأس من الخروج من هذا الوادي بفائدة تذكر لأنه لا يجد قاعدة يستطيع بها أن يحكم على الحوادث والحقائق، ولكن بعد زمن قليل تزول تلك الغشاوة عن ذلك المنظر التاريخي وتبتدئ عين الناظر ترى صورة واضحة فتختفي من أمامه المسائل الصغرى وتتوارى في أخريات الصورة، وتقف أمامه المسائل الأولية الكبرى بوضوح وجلاء يرى الناظر أن الجدير بالإمعان هو دولتان أو ثلاث، ليس إلا، وأن ما يطرأ على تلك الدول الثلاث من الجذب والدفع ليس إلا نتيجة التغير الذي يلم بها، فمنذ أوائل القرن السادس عشر كانت تلك الدول الثلاث؛ هي: فرنسا، وإمبراطورية ألمانيا، وإسبانيا وبعد ذلك بقليل بدأت روسيا بالظهور، ومن الغريب أنه مهما طرأ على تلك الدول من التغيير فإن عددها لا يقل، على أن تلك الدول دائما في حرب عوان لتزاحم منافعها واشتباك مطامعها، فترى مرة فرنسا تتحد مع إسبانيا على ألمانيا ثم ترى مرة أخرى إسبانيا وألمانيا متحدتين على فرنسا، وقد يظن غالبا أن الدولة الثالثة المهجورة التي تتحد عليها الدولتان الأخريان تئول إلى الفناء، ولكن هذا الظن لا يصدق أبدا، فإننا لم نر دولة أوروبية كبرى أثمر سعيها وتحققت أمانيها بسحق عدوتها.
فكانت النتيجة أن احتياج تلك الدول المتحاربة إلى السلام يشتد كثيرا لما يلحقها من الضعف، وإن لم يكن السلام سلاما نهائيا فإنه يكون على الأقل هدنة، ولم يكن يعقل حينئذ أن أحد المتحاربين يسلم لعدوه فيما كانا يتحاربان من أجله، وكان البعض يحسب أن هذه الحروب الأوروبية تدوم إلى الأبد حتى تفني الأمم بعضها بعضا، ولكن الزمان لم يحقق هذا الحسبان ولم تنجح أمة أوروبية في سحق أمة أخرى، ولم تجد أوروبا حينئذ لمسألة الحروب إلا حلا واحدا، وهو أن يتنازل المتحاربان عما سبب النزاع بينهما وتترك كل دولة حقها فيه لتضمن سلامة ذاتها وسلامة جارتها، وهذا هو تفسير ما نراه على الخريطة الأوروبية من الأسماء الصغيرة التي لا تعد شيئا، هذه الممالك الصغرى هي هياكل السلام والسكون التي كانت تحوم حولها عفاريت الشر وشياطين الحرب والنزاع، وكل ناظر إلى خريطة أوروبا يرى أنه بين كل دولتين أو ثلاث من الدول الكبرى «منطقة على الحياد» مثل سويسرا وبلجيكا وغيرها، وتستفيد الدول من تلك المناطق فائدتين: الأولى أنها تحتمي بها من الاحتكاك ببعضها، والثانية أن في تلك المناطق المحايدة من المواقع الحربية ما لو كان في يد دولة لجعل جاراتها في هلع وفزع، ويعجز القلم عن عدد الحروب التي قامت للحصول على هذه المناطق، ولكن بعد أن أنفقت كل دولة مالها وقدمت رجالها للموت في ميدان الوغى واقتنعت باستحالة الحصول على الأرض المتنازع عليها رأت أن تغمد الحسام ليسود السلام.
وليس تاريخ أوروبا إلا صحيفتين: صحيفة كتبت بدماء الأبطال، وصحيفة كتبت بحكمة الحكماء الذين نصحوا إلى دولهم فكفت عن حروب لم يكن وراءها إلا الخراب. ولنتقدم الآن إلى الاستشهاد بالحوادث التاريخية، فنقول: لو نظر القارئ معنا لحظة في سياسة فرنسا من أوائل القرن السادس عشر إلى يوم عقد معاهدة فينا سنة 1815، يرى أن السياسة الفرنسوية لم تكن تسعى إلا إلى غرض واحد، وهذا الغرض هو الذي وضعه لويس الرابع عشر، وهو أنه يجب على الفرنسويين أن يبسطوا فرنسا إلى حدودها الطبيعية، وهي الحدود التي وضعها لها يوليوس قيصر. ولا ينقص فرنسا من تلك الحدود إلا أنها تمتد إلى نهر الرين شرقا ومن ينظر في الخريطة لا يرى أن هذا العمل شاق أو صعب التنفيذ؛ لأن المساحة المطلوبة ليست عظيمة جدا، ولكن فاتت ثلاثمائة سنة طويلة لم يقف فيها العمل نحو هذا الغرض يوما واحدا ولا تزال الأمنية بلا تحقيق، ولم يكن هذا الفشل لاحتياج فرنسا لكبار العقول؛ لأن ساستها في ذلك العهد كانوا من أكبر وأبرع ساسة العالم، ومن منا لا يحفظ اسم «ريشيلو» و«مازاران» ومن جاء بعدهم من الذين رفعوا شأن فرنسا وجعلوا سياستها نموذجا لسياسة العالم، حتى إننا لا نزال حتى الساعة نرى في السياسة الأوروبية آثار عقول جيانين وديافوكس وليون.
ولسنا في مقام يسمح لنا بذكر النظام العجيب الذي سارت عليه جندية فرنسا وجيوشها، وهل على ذلك دليل أكبر من أن الاصطلاحات الحربية الفرنسوية لا تزال مستعملة في الجيوش الأوروبية إلى يومنا هذا؟ ولسنا في حاجة إلى ذكر أسماء أبطال فرنسا وقادة جيوشها العظام؛ أمثال كونديه، ولوكسمبرج، وفيلارس، وكايتنان، وفندوم وغيرهم ممن يعطر ذكرهم صحف التاريخ، وبهذه العقول وهذا الترتيب وهؤلاء القواد مع ما يتبع ذلك من النفقات لم تستطع فرنسا أن تصل إلى حدها الطبيعي، فكانت إذا دنت من الرين من جهة أقصاها أعداؤها عنه من جهة أخرى ولم يظهر للعدوين المتحاربين أن مسألة الرين تحل حلا يرضيهما كليهما، ولم يهدأ روع فرنسا ساعة لأنها لم تكن لتقنع بحد غير نهر الرين؛ لأن ذلك كان يجعلها دائما في خوف وقلق من عدو مهاجم يلحق بها ضررا قبل أن تتنبه لأمرها. وهكذا استمرت الحرب وكانت إذا انقطعت يوما دامت عاما، ولم يكن هذا الانقطاع إلا ليتنفس المتحاربان الصعداء، ويأخذان أهبتهما لما تأتي به الأيام، وبعد أن كانت الأرض المتنازع عليها طيبة خصبة أصبحت قاحلة جدبة بعد أن أنهكها مرور الجنود وحرق الشجر واستقت أرضها دماء البشر.
ولم تأت أمة قوية تستطيع أن تسحق فرنسا فتتخلى عن أغراضها، ولم تكن فرنسا بما لديها من الحول والطول قادرة على أن تسحق عدوها فلا يبقى على إضراره في مقاومتها وعنادها. واستمرت الحال على ذلك حتى جاء نابوليون بونابرت. ومن الغريب أن نابوليون بقوته وقدرته وعزمه وحزمه لم يستطع أن يستولي على البلاد المتنازع عليها إلا أمدا قصيرا، ففي عام 1810 كانت هولاندا وبلجيكا كلتاهما تابعتين لفرنسا، ولكن معاهدات 1814 و1815 حلت ما ربطه نابوليون وقلعت ما زرعه ولم تحل هذه المشكلة المعضلة إلا في سنة 1831؛ لأنه في هذه السنة انتهى الزمن الذي كانت فيه تخوم فرنسا ملاصقة لحدود ألمانيا تمام الملاصقة، وما كان أحوج هاتين الدولتين العظيمين إلى مملكة صغيرة بينهما تمنعهما من الالتصاق والاحتكاك؟ ففي عام 1831 باتفاق الخمس دول العظام (النمسا، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا) منحت بلجيكا حريتها وصارت مملكة محايدة. وبهذه الوسيلة سد باب كبير في وجه من يود مهاجمة فرنسا. وفي عام 1839 قبلت هولاندا بحياد بلجيكا وصادقت عليه بعد أن اعترفت به.
وفي سنة 1867 اتفقت الدول العظام السابق ذكرها ومعها إيطاليا ومنحت الحرية والحياد لدوقية لوكسمبرج. فسد باب ثان في وجه أعداء فرنسا، وغني عن البيان أن هولاندا ممنوحة حق الحرية والحياد إن لم يكن رسميا فعرفيا. على أن إنكلترا على أهبة الاستعداد لمحاربة من يحاول سلب حرية هذه المملكة أو يمس حيادها، وما حدث في حدود فرنسا الشمالية حدث في أمكنة أخرى، ولا يخفى أن حول هولاندا وبلجيكا ولوكسمبرج توجد إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وبحيادها سلمت تلك الدول الصغرى وسلم ما حولها من الدول الكبرى. وكأن هذه القاعدة قد صارت من قواعد السياسة الطبيعية، فإنك حيث ترى ثلاث دول كبرى ترى أنه من الضروري وجود مملكة حرة محايدة بينهن لولاها لاستمر النزاع والعراك بين دول أوروبا وبقي سلامها مهددا. وسنشرح فيما يأتي معنى حياد هذه الممالك. ومن أهم تلك الممالك المحايدة في أواسط أوروبا جمهورية سويسرا، وقد منحت هذه الجمهورية حريتها وحيادها في أواسط القرن السابع عشر تقريبا، وصودق على معاهدة حيادها أخيرا في معاهدة فينا سنة 1815، وقد جاءت سويسرا فاصلا بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ومما يدل على احترام هذه الدول الكبرى لحياد تلك الجمهورية الصغيرة أن القائد بورباكي لما عاد ببقية الجيش الفرنسوي في عام 1871 لم يمر بسويسرا وفي جيشه سيف مجرد أو رمح مشروع.
لا يخفى على القارئ أنه بموت تشارل الثاني ملك إسبانيا وارتقاء أسرة بوربون إلى العرش انحلت عروة الاتحاد التي كانت تربط إسبانيا بالإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد أسرة الهابسبرج وحل البغض محل العداء بينهما. وكان شمال إيطاليا بين الدولتين فكانت أملاك إسبانيا الإيطالية عرضة لضربات الإمبراطورية الرومانية كما كانت أملاك الإمبراطورية الرومانية تحت رحمة إسبانيا، وكما أن فرنسا والإمبراطورية عجزتا كلتاهما عن الحصول على هولاندا وبلجيكا، كذلك عجزت إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة كل عن وضع يدها على الأرض المتنازع بشأنها في شمال إيطاليا. فكانت النتيجة من هذا النزاع تشبه كل الشبه النتيجة التي حدثت عن النزاع الذي قام بين فرنسا والإمبراطورية فساد، الصلح بعد أن تنازلت الدولتان عن حقوقهما وتركتا مكان النزاع حرا محايدا.
وهنا لا نغفل ذكر جمهورية البندقية، فإن هذه كانت أيضا سببا للنزاع بين إسبانيا والإمبراطورية؛ لأن مركزها الحربي كان لا يترك إسبانيا في مأمن من الأذى إذا كانت فينيسيا في أيدي الإمبراطورية والعكس بالعكس. ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر الدنمرك وما أشيع بشأن منحها الحرية والحياد قريبا. فإن هذه المملكة الصغيرة هي في الحقيقة مفتاح بحر البلطيق فهي تصلح قاعدة حربية للدخول إلى هذا البحر من بابه الخلفي المسمى «قنال كيال»، ولا يخفى أنه ما دامت الدنمرك قادرة على العمل بمفردها فإنها تكون أبدا من أسباب قلق ألمانيا وفزعها، فإن أي دولة تفوز بالاتفاق مع الدنمرك تستطيع في الحال أن تضع يدها على مدخل «بوغاز الكاتيجات» فتصير على قيد ذراع من مدخل قنال كيال وحينئذ تستطيع أن تقطع المراسلات الألمانية البحرية بين بحر الشمال وبحر البلطيق.
ولو فرضنا أن ألمانيا اتحدت مع الدنمرك وكانت قوتها البحرية تكفي لتنفيذ أغراضها فإنها تغلق باب البلطيق في وجه من لا تحب، فيرى القارئ أن حياد الدنمرك من أنفع الأمور لكل الدول الواقعة حول هذه المملكة الصغيرة، وأقل منافع هذا الحياد أنه يهدئ بال الدنمرك ويجعلها في مأمن من الأخطار التي تتهددها في كل حين، وتتمتع ألمانيا بحرية العبور في البلطيق والخروج منه والدخول إليه، وهذه النعمة لا تنال إلا بحياد الدنمرك، فإنها إن لم تكن حرة محايدة يتيسر لها في أسرع وقت أن تحبس أساطيل ألمانيا في البلطيق أو تحرمها من الدخول إليه. وإذا منحت الدنمرك حيادها وحريتها فإنها تكون حلقة من سلسلة الحياد الأوروبي المركب من لوكسمبرج وهولاندا وبلجيكا وسويسرا. دع ما تستفيده الروسيا وألمانيا وإنكلترا من هذا الحياد لأنه يفصلهن ويعوقهن عن الاحتكاك والالتصاق. وقد اقترح في تلك الأثناء أيضا حياد السويد والنرويج، وقوبل هذا الاقتراح في مجالس هاتين الدولتين بالرضاء والسرور، ولكن الأمر يحتاج إلى رضاء دول أوروبا جمعاء.
وسنظهر للقراء أنه حيث توجد ترعة كقنال السويس ممنوحة حق الحرية والحياد يجب أن تكون المملكة المجاورة لهذا الترعة أيضا حرة محايدة، ويلوح لنا أن المسألة المصرية ابتدأت تعيد نفسها بشكل جديد في أمريكا الوسطى. وذلك بفتح ترعة بناما التي تصل المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي وتريح السفن من السفر حول قارة أمريكا كما أراح قنال السويس السفن من السفر حول أفريقيا. ولا يخفى أن إنفاذ هذا المشروع قد تأجل مرارا كثيرة لحاجة القائمين به إلى المال، ولكن كل هذه الصعوبات المادية قد زالت وسيخرج المشروع من حيز الخيال إلى حيز الحقيقة بعد زمن قصير، ولا نظن أن الاهتمام بفتح هذا القنال من كولون إلى باناما باتخاذ نيكاراجيوا قاعدة للقنال أنفع للعالم من الاهتمام بنتيجة هذا العمل السياسة، فإن أمريكا الوسطى ستصير بعد فتح القنال مركز مسألة سياسية كبرى، وسيكون هذا القنال شرعة الوارد ونجعة الرائد ممن يأتون من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق، والمستقبل كفيل بتحقيق ظننا بأنه إن لم يكن هذا القنال أهم نقطة في العالم فإنه لا محالة سيكون من أهم المراكز السياسية. ولا نحتاج إلى القول بأن الدول ستطلب منح هذا القنال حرية الملاحة والمحايدة على أن أوروبا لا ترضى بأن تسلم للولايات المتحدة مفتاح التجارة الأوروبية، وأوروبا لا تصل إلى النتيجة التي ترضاها إلا إذا أبعدت الولايات المتحدة بقدر ما تستطيع عن الأراضي الواقعة حول القنال المشار إليه، وليس لذلك إلا وسيلة واحدة وهي منح الحرية والحياد للممالك التي يمر بها هذا القنال، فليس من المهم حينئذ إذا كانت هذه الممالك هي نيكاراجيوا وكوستاريكا أو كولومبيا. ومن المستحيل أن تمنح تلك الدول استقلالا غير مقيد لأنهن بذلك يستطعن أن يعبثن ما شئن وما شاءت الأهواء، أضف إلى ذلك أن تلك الدول تصير مقرا للمكائد السياسية وملعبا للدسائس الدولية. هذا ولا تستطيع دولة أوروبية حينئذ أن تنال من إحدى هذه الممالك ما تريد؛ لأنها بذلك تعرض نفسها إلى غضب الدول الأخرى وسخطهن، ولا يئول ذلك أخيرا إلا إلى حرب دولية.
وغني عن البيان أن الثورات والحروب التي تشب نارها الآن في ممالك أمريكا الوسطى ليست في الحقيقة إلا شعلة من النار الحقيقية التي ستلتهم كل شيء بعد فتح ترعة بناما، وبعد أن تصير أمريكا الوسطى مجمع الأمم ومحط رحال الشعوب، ونحن لا نشك في أن تلك القلاقل الدولية التي تحدث في الممالك التي أشرنا إليها ليست إلا من أثر مكائد دول أوروبا ودسائسها التي تمهد لنفسها السبيل بما تدبره من الثورات وتشعل نيرانه من الحروب الداخلية، فمثل هذه الجمهوريات الصغرى الواقعة حول قنال بناما كمثل الوارث الجاهل الذي لم يبلغ سن الرشد، ومثل أوروبا كمثل من يلتف حول الوارث من أهل الختل والغش والخداع يملقونه تارة ويدللونه أخرى ويفتأون يداهنونه ويخدعونه حتى يقع في أيديهم فيسلبونه ويتركونه.
على أن هذه الثورات والقلاقل التي تديرها أوروبا في هذه الجمهوريات الصغيرة لن تدوم طويلا؛ لأنها تعود على البلاد وأهلها بالخراب والدمار وتعطيل التجارة، وهذا ما لا يرضي الولايات المتحدة أو غيرها من دول أوروبا الكبرى فتتداخل، وعند ذلك تصير حرية القنال وحياده في خطر شديد، فلا يكون حينئذ لهذه المسألة إلا حل واحد وهو منح الحياد لتلك الجمهوريات وإخراجها عن دائرة السياسة الدولية؛ فتقل المكائد وتتلاشى الدسائس وتتمكن تلك الجمهوريات من التمتع بالنعمة العظيمة التي خول لها مركزها الجغرافي التمتع بها، وبذلك يسود السلام والنجاح ويعم الخير البلاد المجاورة لترعة بناما.
تكلمنا فيما مضى عن طرق الحياد في أوروبا وأمريكا، وسنبحث الآن عن طريقة تحل بها المسألة الأفريقية التي تركت أوهام الساسة حائرة. عندما قام بسمارك في سنة 1888 ونادي بتقسيم أفريقيا، فإن دول أوروبا رأت أنها ستقع في أفريقيا في مثل ما وقعت فيه في آسيا وأمريكا بشأن الاستعمار، واعتبرت بالخسائر التي تحملتها في القرن الثامن عشر، وخشيت أن يجرها تقسيم أفريقيا إلى حروب شعواء تفني مالها ورجالها، فقررت أن تمنح الحرية والحياد جزءا كبيرا من القارة الأفريقية لأجل أن لا تختلف الدول في أمره ويقع النزاع بينها بشأنه، بعد أن ألفت أوروبا أن هذه هي أحسن طريقة لضمان السلام بين ممالكها وأسهل وسيلة للاحتفاظ بمنافع الجميع.
وكانت نتيجة هذا الرأي أن جزءا عظيما من أواسط أفريقيا منح الحرية والحياد وصار في مأمن من مطامع المستعمرين، وهذا الجزء العظيم الذي نشير إليه هو ولاية الكونجو الحرة التي تزيد في المساحة عن أملاك بريطانيا في جنوب أفريقيا، ومن الغريب أن الكونجو لم تمنح الحياد فقط بل سلمت لإحدى ممالك أوروبا الصغرى وهي بلجيكا، ولا يخفى على القارئ أن بلجيكا نفسها ممنوحة الحرية والحياد. ونحن نرى أن حياد الكونجو هو أكبر دليل على ميل أوروبا لتطبيق تلك القاعدة بعد أن رأت أوروبا منافعها، ونحن واثقون من أنه إذا حدث في جنوب أوروبا الشرقي (البلقان) ما يفزع أوروبا ويقلقها فلن يبهت الوزراء ويقف الساسة حائرين كما كانت حالهم في الماضي؛ لأنهم يستطيعون الآن أن يخرجوا ولايات البلقان كلها من دائرة النزاع والخصام الدولي إلى دائرة الحرية والحياد، وبذلك تحل المسألة الشرقية العويصة، بيد أن روسيا قد فازت بجزء عظيم من بلاد فارس، وهي كغيرها عاقدة آمالها بوادي الدجلة والفرات. أما آسيا الصغرى فستكون سبب التخاصم والتنازع بين ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من ممالك البلقان. ولكنا نرى أنه لا بد من حدوث أمر قبل أن تحل المسألة الشرقية وهو أن أوروبا سترى ضرورة منح بعض ممالك الشرق الأدنى الحرية والحياد. وأي مملكة أجدر بهذا الحق من مصر؟ أي مملكة أكثر استحقاقا للتمتع بحق الحرية والحياد من وادي النيل؟ وغني عن البيان أن إنكلترا ستكون أول الدول المهتمة بمشروع منح الحرية والحياد، ولو لن يعميها خداع المستعمرين المتطرفين عن حوادث تاريخ أوروبا في الثلاثة قرون الماضية، فإنها تستفيد من حياد مصر فائدة كبرى. وجدير ببريطانيا أن تعلم أن أهم شيء لأية إمبراطورية كبرى هو أن تتنازل عن المستعمرات السريعة الانثلام عن رضى وطيب خاطر قبل أن تجبر وتضطر.
إن مصر لو كانت حرة فإنها بلا ريب تقوم لبريطانيا بأعمال لا تقوم بها في أسرها؛ لأنها تخشى إن سعت في خير إنكلترا وهي في قبضة يدها أن تتهم بالمداهنة وترمي بالتمليق فتمتنع عن صنع الخير وربما يعوقها البغض الذي يحس به العبد نحو سيده، فلا يسعى في خير له أبدا، ويكفينا أن نقول إن كل الساسة علموا منافع الحرية والحياد اللذين تمنحهما الممالك الكبرى للأمم الصغرى عن جود لا عن اضطرار. وهنا نشير إلى مسألة من الأهمية بمكان، وهي أن إنكلترا إذا منحت مصر الحرية والحياد وصادقتها وحالفتها فإنها تستطيع أن تنال أغراضها في الشرق الأدنى بأسهل مما تنال أغراضها فيه ألمانيا والنمسا وإيطاليا.
الخاتمة
تحرير مصر ومستقبل أفريقيا
لقد بلغنا غايتنا من هذا الكتاب، وقبل أن نودع القارئ نود أن نسر له في أذنه كلمتين، فنقول: لقد تناولنا مسائل هذا الكتاب ناظرين إليها من جهة الحقيقة ضاربين صفحا عن الخيال، فكنا نقارن المنفعة بالمضرة، والحسنة بالسيئة، وقد حاولنا جهد طاقتنا أن نظهر للقارئ ما تم لمصر من النجاح والتقدم في الماضي، كما أننا أبنا له مواقع الشك ومواطن الريب في أن استمرار الحال السياسية الحاضرة واتخاذ الطرق التي اتخذت في الماضي للعمل بها في المستقبل يؤديان إلى نجاح مصر في السنين الآتية كما أديا إلى نجاحها في السنين الغابرة، وكنا نكتب للقراء ونحن نعتبرهم سياسيين محنكين ونسينا أنهم بشر، فكان ذلك الاعتبار وهذا النسيان سببا في أننا قررنا حقائق ينفر منها «علماء الأخلاق»، وقد استلزم ذلك أن يكون الكتاب جافا خلوا مما يروح عن القارئ ويروضه، وقلنا إن تلك الحقائق هي أثمن ما لدى السياسيين.
وقبل أن نطرح القلم جانبا ونترك للقارئ الحق في إصدار حكمه علينا نستأذنه في أن نضرب له على نغمة غير التي ضربنا عليها في صفحات هذا الكتاب الماضية، وهذا يضطرنا إلى الكلام عن الديانات والاعتقادات، فنحن ملزمون بأن نخفف الوطأة لأن أديم الأرض التي سنسير عليها رقيق لا يتحمل الضغط، فنحن نعلم أن الغضب يستفز أي إنسان عندما يسمع ما يسوءه عن دينه ومعتقده، ونحن أبعد الناس عن طرق هذا الباب، ولكننا نعلم أيضا أن الجراح مهما كان حاذقا ومهما كان سلاحه دقيقا فإنه لا محالة يؤلم.
ويلاحظ القارئ علينا أننا كنا نحترس في هذا الكتاب من الوقوع في الخطأ أو الاندفاع في اللوم احتراس الأبي من المذلة؛ لأننا لا نود أن نوصف بأننا مسيئون مذنبون. ولعله يخطر ببال القارئ أننا لا ننظر إلى مستقبل الأمم والدول إلا من الجهة السياسية لأننا لم نتناول إلا المسائل السياسية الجافة الجافية.
على أن السياسيين لا يرون للوصول إلى أغراضهم إلا الطريقة التي سرنا عليها، وليس عليهم إلا أن يقولوا؛ لأن الأمر والنهي في يد الرأي العام، فهو الذي يقبل ما يشاء ويرفض ما يشاء. ومما يجدر بالذكر هنا أن الرأي العام كثيرا ما ينظر إلى المسائل من غير وجهة الربح والمنفعة. ومن يود أن يتطال إلى الحكم على مستقبل الأمم والشعوب يحتاج إلى قوة تمكنه من النظر فيما تكنه الأيام، ومن يريد أن ينظر في مستقبل قارة لا يهتم بأمر مملكة، فنحن سنترك الآن الكلام عن مصر وننظر إلى مستقبل قارة أفريقيا بأجمعها وما يئول إليه أمر أهلها الوطنيين، ويليق بنا أن ننظر إلى مصر لا بصفة كونها مملكة قائمة بذاتها، ولا من جهة علاقتها بأوروبا، بل بصفة كونها جزءا صغيرا من قارة عظيمة، فقد أصبح الواجب على كل سياسي أن ينظر إلى القارات لا إلى الممالك، فنقول: ألا يحسب من يرى أن كل مسعى سعاه المرسلون في سبيل نشر الديانة المسيحية بين أهل أفريقيا قد خاب وفشل ولم يصادف نجاحا يذكر. إن محنة هؤلاء الأفريقيين لم تنته بعد، وإن القدرة الإلهية لا تراهم أهلا لانتحال الدين المسيحي؟ إننا لا نجيب عن هذا السؤال، ونترك الإجابة عليه للقارئ، إنما نقول إنه لا ينكر أحد أن أتعاب المرسلين المسيحيين في أفريقيا قد ذهبت أدراج الرياح، وإن أهل أفريقيا لا يزالون كلهم وثنيين عباد أصنام، ولا نرى في أواسط أفريقيا وشمالها دينا مستحكما غير الدين المحمدي، فكأن الإسلام فاز حيث خابت النصرانية؛ لأن في الإسلام ما يجذب الأفريقي مما لا يوجد في النصرانية، وهنا نذكر أن أوروبا لم تر نور النصرانية إلا بعد أن اقتبست المدنيتين اليونانية الرومانية. نقول ذلك ولعل الأفريقي لا يزال عاجزا عن الأخذ بالمسيحية لأنه لم يستعد لها تمام الاستعداد.
ولا يخفى أنه لم تسكن أفريقيا أمة أوروبية سوى أمة البوير، وهي الأمة الوحيدة التي تمكنت من العيش في جو أفريقيا واستنشاق هوائها، ولكنها على قدرتها وذكائها لم تفلح في مصادقة الوطنيين ولم تخضع منهم أحدا لدينها ومدنيتها؛ ذلك لأن المدنية الغربية لا تدخل إلا في مكان دخلته المسيحية، ولا حاجة لأن نقول إن شعوب أفريقيا بأسرها لم تتعلم من أوروبا شيئا استفادت به أو ساعدها على التقدم في طريق المدنية؛ لأن المستعمرين لم يشدوا رحلتهم إلى أفريقيا إلا ليغنموا ويربحوا، فهم إذا نزحوا عن مستعمراتهم تركوها خالية خاوية، وغادروا الدار تنعى من بناها، وما ذلك إلا لأن بين الوطني والأجنبي حاجزا منيعا لا يمكن جوازه، ولا شك في أن النفور والبغض السائدين بين الوطنيين والأجانب يؤديان أخيرا إلى انقراض سكان أفريقيا الأصليين واستئصال شأفتهم لا محالة، وأن الإنسانية لترجو في أوروبا أن لا تعيد في أفريقيا تمثيل الرواية المحزنة التي مثلتها منذ قرون في أمريكا ...
إن تاريخ استعمار العالم الجديد يحرج صدر الحليم ويسيل مدامع أجمد الناس عينا ويلين فؤاد أقسى الناس قلبا، وما سبب فشل أوروبا في أمريكا إلا لأنها لم تستطع الوقوف على أخلاق شعب الهنود الحمر وعاداته وديانته وصفاته وسجاياه. أضف إلى ذلك أن الأوروبيين لم يحاولوا تغيير دين أهل أمريكا الأصليين أو يصلحوا حالهم، ولا ندري إذا كانوا ينجحون لو حاولوا إدخال النصرانية أم لا، ولكن ما نعلمه هو أنهم لم يحاولوا ذلك، بل جاء الرجل الأبيض وأزاح بيده القوية كل ما تمثل أمامه من آثار مدنية أمريكا الأصلية، وتناول سيفه وذبح هنود الشمال والجنوب والشرق والغرب، حتى أصبحت قارة الدنيا الجديدة بحرا من الدماء الطاهرة، فكأن الرجل الأبيض كان يفرح لرؤية الدم ويطرب لإزهاق النفوس. وعندما كان هؤلاء الوطنيون المساكين يخضعون للذل ويسلمون للأوروبيين كانت تصيبهم أمراض أوروبا فيموتون بها، فكان مثلهم كمثل من فر من الموت إلى الردى، وكأن المستعمرين الأوروبيين رفعوا علما كتبوا عليه «لا رحمة عندنا، ومن يقف في طريقنا فليس له إلا الموت الأحمر»، وا أسفي فقد نجحت أوروبا في إبادة ذلك الشعب الهندي الكريم ولا يوجد منه الآن إلا أفراد قلائل يراهم الناس كما يرون الغرائب والنوادر. وقد تمكن الجبن واحتوى الخوف بعض القبائل المنحطة ففرت إلى جنوب أمريكا لاجئة إلى حراجها وأحراشها كما يلجأ إليها الوحش الطريد.
وإن قلبنا ليخفق عندما يخطر ببالنا أن ما تم في أمريكا سوف يتم في أفريقيا، سيما ونحن نرى ما بين البيض والسود في تلك القارة من البغض والنفور، ولا داعي لهما، إلا أن المستعمر الأبيض عاجز عن فهم طبيعة الوطني الأسود فيعوقه جهله بطبيعته عن منحه نعمة المسيحية والمدنية، وأي دليل أصدق على قولنا من أن نصف سكان جنوب أفريقيا فنوا أو نزحوا عن أرضهم؟ ويليق بأوروبا المتمدنة أن يصبغ الخجل وجهها ألف مرة كلما تسمع الأخبار المعيبة والقصص الشائنة التي ينقلها البريد في كل يوم من أواسط أفريقيا إلى عواصم المدنية، فقد عرف العالم أنه عندما يصل الأوروبي إلى تلك البلاد ينسى نفسه ويسقط سقوطا معيبا، فيحيا الحيوان القذر الساكن في جسمه، وتموت عواطف العفة والشرف فيه، فلا ينظر إلى الوطنيين إلا نظرا شهوانيا محضا، ولا يعتبرهم إلا وسائل لتنفيذ أغراضه السافلة وإطفاء نار شهوته الحيوانية. وأمثال تلك الأخبار لا تنقطع عن أوروبا أسبوعا واحدا، وكثيرا ما تزيد ذنوب أحد هؤلاء المتمدنين المتوحشين فيسأل عن أمره ويحاكم، ولا تحمل الصحف وصف الجرائم التي ارتكبها والذنوب التي اقترفها في البلد التي ذهب لتهذيبها وتمدينها إلا وترتجف أوروبا كلها من ذلك!
على أن لدينا في شمال أفريقيا مثالا واضحا كل الوضوح يدل على عجز الأوروبي عن ابتلاع الوطني أو جلبه إلى حظيرة المدنية الأوروبية، فإن الفرنسويين على ما هم عليه من الصفات التي تميزهم عن سواهم خابوا في الجزائر كما خاب غيرهم في غيرها. فقد قضى الفرنسويون ثماني عشرة سنة يجردون الحملات ويعبئون الجنود ويحشدون الجيوش، حتى انتصروا على عرب الجزائر، ومضى عليهم سبعون سنة في تلك البلاد، ولا يزال العرب يكرهونهم وينتظرون فرصة تمكنهم من خلع نير فرنسا وطرد أهلها من بلادهم. وطالما حاولت فرنسا أن تبث فيهم النصرانية ففشلت فشلا قبيحا، فإذا أصر العرب على البقاء على دينهم ورفضوا المدنية المسيحية فإنهم لا محالة يبيدون.
وإن نظرنا في أفريقيا فإنا نرى مستقبل أهليها أسود قاتما؛ إذ لا نرى في أوروبا لأفريقيا أملا، وليس أمامنا إلا وسيلة واحدة وهي أن قوة إسلامية تنهض وتختلط بتلك الشعوب فتستطيع أن تصل إلى أعماق قلوبهم، وبذلك تتمكن من أن تمنحهم مدنية إن لم تكن أحسن مدنية فإنها بلا ريب تجهزهم إلى ما هو أرقى منها من المدنيات. ولا نرى قوة إسلامية قادرة على القيام بذلك العمل الجليل إلا مصر، فإنها تعلمت في ذلها من أوروبا ما تستطيع به في عزها أن تصلح من شأنها وشأن غيرها، ولكن مصر لا تنهض هذه النهضة إلا إذا كانت أمة حرة؛ لأن الحرية تجعلها تقدر ذلك العمل العظيم حق قدره.
لماذا لا نعترف بأن مصر قد بلغت سن الرشد وأنها تعلمت ما يكفيها، وأن الساعة قد أتت لتقوم الأمة المصرية بشأن نفسها وتدبر أمرها بعقلها؛ لأن بها وحدها معقودة آمال قارة أفريقيا بأسرها؟
هنا نترك القارئ ليخلو بنفسه ويسأل قلبه قائلا: هلا يوحي صوت الإنسانية إلى قلبي ما أشارت به السياسة على عقلي؟
رأي الطان في «تحرير مصر»
نشرت جريدة الطان الفرنسوية الشهيرة في عددها الصادر في 27 يناير سنة 1906 ما عربه لنا صديقنا محمد كرد علي منشئ المقتبس بما يأتي:
من العادة أنه يتعذر تحرير المرء من أوهام عصره ومحيطة وجنسه، وإليك مع هذا إنكليزيا جاهد في التخلص من تلك الأوهام حق الجهاد فاستحق الحمد والثناء على كتاب نشره بلا اسم مؤلفه، وقد أراد أن ينظر إلى المسألة المصرية في ذاتها دون النظر إلى ما يذهب إليه أهل وطنه أو خصومهم في أمرها، فلا هو في كلامه بإنكليزي ولا فرنسي؛ بل إن الحقيقة هي ما يرمي إليها أولا، ومن رأيه أن قد دعت إلى مسألة مصر في تاريخ السياسة الإنكليزية ضرورة الاحتفاظ بجعل طريق الهند حرا، فلم يحفل الإنكليز بامتلاك مصر إلا لذلك، وهذا الذي دعاهم إلى الاستيلاء عليها حتى لا يحول حائل دون اتصالهم بمستعمراتهم العظمى، ولقد سعى بونابرت في أن يقطع عليهم الطريق ولذلك قاتلوه. ولما جعل محمد علي سنة 1840 القطر المصري إقطاعا لفرنسا ... اضطرت إنكلترا في هذا العهد إلى المداخلة، ولما نشبت ثورة عرابي أيضا عمدت بريطانيا إلى تلك الطريقة بعينها. وما كانت الغاية إذ ذاك فتحا؛ بل لمحض حفظ ترعة السويس من غارة الأعداء، وكان هذا الأمر غاية السياسة الإنكليزية الوحيدة حتى إنها طلبت مساعدة فرنسا لها في هذا الشأن.
وقد اغتنم المؤلف الفرصة ليذكر ما قامت به فرنسا لمصر وما أتاه الفرنسويون من الخدمات العديدة للمصريين، فذكر أننا أتيناهم بحضارتنا ورءوس أموالنا وبالمهذبين من أبنائنا وبلغتنا، وما برح العلم الفرنسوي منذ عهد شامبوليون إلى عهد المسيو ماسبرو يجلو ماضي مصر. ولم يوافق الكاتب الإنكليزي على ذلك بإخلاص شديد فقط؛ بل إنه تعدى ذلك إلى أن اعترف بما تم على يد فرنسا لمصر من الخير، ولم يبد في نتائج مؤلفه غير هذه الحرية الفكرية العظيمة ، وهو يرى أنه ليس من مصلحة إنكلترا البقاء في مصر وأنها في مركز ملفق مزور يخالف وعودها السابقة، ويذهب إلى أنه لا حاجة للإنكليز إلى مصر بتة، وأنها تجلب عليهم ضررا كثيرا، وتفتح عليهم صعوبات جمة يخلصون منها إذا جلوا عنها، وأهم مسألة لهم هي ترك برزخ السويس حرا، ولكن هذه الحرية ليس لها تعلق بمصر بتاتا؛ بل هي تابعة أبدا لدرجة قوة إنكلترا البحرية في البحر المتوسط، وما دام لها في البحر الأبيض أسطول يفوق غيره فلا تخشى شيئا من ناحية مصر، على شرط أن لا تكون هذه في أيدي دولة أوروبية بالطبع. وقصارى القول أن الإنكليزي الذي كتب هذا الكتاب الجديد المشف عن إقدام وحرية صرح بالجلاء كل التصريح لأنه لا يجد لأمته فيه إلا نفعا، ومن رأيه أن إنكلترا قد أتمت عملها بعد أن أصلحت المالية المصرية وقامت بأعمال عظيمة في إصلاح الري، وأن منزلتها تسمو إذا تركت مصر للمصريين بعد أن تقيم فيها حكومة وطنية. ا.ه. (حديث الطان).
Unknown page