{ خالدين فيها } ولصفائها ونضارتها، ودوام لذاتها الروحانية وفيوضاها { لا يبغون } ولا يطلبون بالطبع والإرادة { عنها حولا } [الكهف: 108] أي: انتقالا وتحويلا؛ لكونه مقر فطرتهم الأصلية ومنزل استعداداتهم الحقيقية؛ إذ فوقه عرش الرحمن المفيض لجميع القوابل والاستعدادات مقتضياتها.
ثم لما طعن اليهود في القرآن، وأرادوا أن يثبتوا التناقض في بعض آياته مع بعض؛ حيث قالوا: أنتم تقرأون في كتابكم تارة:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
[البقرة: 269] وتارة تقرأون:
ومآ أوتيتم من العلم إلا قليلا
[الإسراء: 85] وما هو إلا تناقض صريح.
أمر سبحانه حبيبه بقوله: { قل } لهم يا أكمل الرسل كلاما يسقط شبهتهم إن أنصفوا، نحن لا ندعي أن من أوتي الحكمة فقد أوتي بجميع معلومات الله وعلومه، وكيف ندعي هذا وهو ممتنع محال في غاية الامتناع والاستحالة؛ إذ { لو كان البحر } أي: جنس البحر، وهو جميع كرة الأرض { مدادا } أي: ماء يمد به القلم للرقم والكتابة { لكلمات ربي } أي: لثبتها وكتبها { لنفد البحر } وانتهى ألبتة؛ لتناهيه وكونه محددا { قبل أن تنفد كلمات ربي } لكونها غير متناهية { ولو جئنا بمثله } غير محدودة بحد معين، وكيف لا تنفذ وتتناهى { و } أي: بمثل جنس البحر بل بأضعاف أمثاله وآلافها { مددا } [الكهف: 109] إذ لا مناسبة بين المتناهي وغير المتناهي، وإن فرض أضعافا وآلافا.
{ قل } يا أكمل الرسل بعدما بلغت لهم كلمات الله الغير المحصورة كلاما خياليا عن وصمة التفوق، والتفضل المفضي للرعونة ناشئا عن محض الحكمة والفطنة: { إنمآ أنا بشر مثلكم } قابل للعلوم الإدراكات على مقتضى البشرية، لا فرق بيني وبينكم بحسب الفطرة، غاية في الأمر أنه { يوحى إلي } ويفاض إفاضة علم و عين حق { أنمآ إلهكم } ومعبودكم ومظهركم { إله واحد } أحد صمد فرد وتر، ليس له شريك ولا نظير ولا وزير، بل هو مستقل في الوجود والإيجاد والإظهار، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد استقلالا إرادة واختيارا، وإنما امتيازي عنكم بهذا.
{ فمن كان } منكم { يرجوا } رجاء مؤمل بصير { لقآء ربه } مكاشفة ومشاهدة { فليعمل عملا صالحا } قالعا لأصل أنانيته وهويته، قامعا لمقتضيات أوصاف بشريته وبهيميته، مزيلا لذمائم أخلاقه وأطواره { و } مع ذلك { لا يشرك بعبادة ربه أحدا } [الكهف: 110] من خلقه، أي: لا يقصد من عمله وعبادته الرياء والسمعة والعجب والنخوة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
Unknown page