290

جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق الفناء، ووفقهم لإفناء ما يعقوهم عن شرف اللقاء، إنه سميع مجيب.

[13 - سورة الرعد]

[13.1-3]

{ المر } أيها الإنسان الكامل اللبيب اللائق لملا حظه رموز آثار التوحيد اللائح عن غرته الغراء مقتضيات لوامع الرشد والرضا عما جرى عليه القضاء { تلك } السورة المنزلة إليك { آيات الكتاب } الجامع للكتب المنزلة أي: من جملة آياته { و } أيضا { الذي أنزل إليك } قبل نزولها { من ربك } من الآيات النازلة كلها { الحق } المطابق للواقع، النازل من عند الحكيم العليم { ولكن أكثر الناس } لانهماكهم في الغفلة والنسيان { لا يؤمنون } [الرعد: 1] أي: لا يصدقون ولا يعتقدون بحقيته وحقية منزله.

وكيف لا يعتقدون حقيته أولئك الحمقى المعاندون؛ إذ هو { الله } المبدئ المبدع الرفعي البديع { الذي رفع السماوات } أي: العلويات معلقا { بغير عمد } واسطين يعتمدون عليها ظاهرا كما { ترونها } في بادئ النظر؛ لتكون أسبابا ووسائل للسفليات { ثم } لما رفعها وصور بها على أبلغ النظام وأبدعها { استوى } باسمه الرحمن { على العرش } أي: على عروش جميع الكائنات بالإظهار والإبرار وأنواع التدبيرات والمتعلقة لحفظها وبقاء نظامها { وسخر } من بينها { الشمس والقمر } لتتميم التدبير { كل } منها { يجري لأجل مسمى } أي: يدور دورة معينة شتاء وصيفا، ربيعا وخريفا، لإصلاح ما يتعلق بمعاشهم وحفظهم، وبالجملة: { يدبر الأمر } على ما ينبغي ويليق بلا فتور وقصور { يفصل } لكم { الآيات } ويوضح لكم الدلائل والشواهد الدالة على توحيده { لعلكم بلقآء ربكم توقنون } [الرعد: 2] أي: رجاء أن تتفطنوا وتتيقنوا بموجودكم ومربيكم.

{ و } كيف لا تتفطنون أيها المجبولون على فطرة الفنطنة والذكاء { هو الذي مد الأرض } وفرشها مبسوطة { وجعل فيها رواسى } وجبالا شامخات؛ لتكون أوتادا لها { وأنهارا } منتشئة منها، جارية على وجه الأرض؛ لإثبات ما تقتاتون وتتقوتون بها { ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين } لتكون سببا لدوامها وبقائها ولإنضاجها وإصلاحها { يغشى اليل النهار } أي: يلبس الليل بالنهار لتسكين البرودة، والنهار بالليل؛ لتسكين الحرارة؛ ليحصل الاعتدال في طبيعة الهواء المنضج { إن في ذلك } الحكم والتدابير { لآيات } دلائل واضحات وشواهد لائحات { لقوم يتفكرون } [الرعد: 3] ويتأملون في حكم الصانع الحكيم والمدبر العليم.

[13.4-6]

{ و } أيضا من بدائع قدرته وغرائب حكمته أنه حصل { في الأرض قطع متجاورات } متماثلة في الطبيعة والمزاج { و } حصلت في بعضها { جنات } وبساتين { من أعناب و } في بعضها { زرع و } في البعض { نخيل } مختلفة أنواعها بعضها { صنوان } أي: نخلات متكثرة، أصلها واحد { وغير صنوان } أي: مترفقات الأصولا مع أنها كلها { يسقى بمآء واحد و } مع وحدة طبيعة الأرض والماء { نفضل بعضها } أي: بعض الثمرات { على بعض في الأكل } لأن بعضها ضار وبعضها نافع، وبعضها حلو وبعضها حامض، إلى غير ذلك من التفاوت والاختلافات { إن في ذلك } الاختلاف مع وحدة طبيعة القابل { لآيات } عظام ودلائل جسام على حكمة الصانع الحكيم ومتانة فعله { لقوم يعقلون } [ارعد: 4] ويستعملون عقولهم في التفكير يمصنوعات الحق والتدبير بمبدعاته ومخترعاته.

{ وإن تعجب } يا أكمل الرسل إنكار الكفار حشر الأجساد مع وضوح دلائله وسطوع براهنيه { فعجب قولهم } أي: فعليك أن تتعجب من قولهم - هذا حال كونهم مستفهمين مستبعدين على سبيل التعجب - أننا { أإذا كنا ترابا } وعظاما رفاتا { أإنا لفي خلق جديد } كلا وحاشا أن نعود أجساما إنسانا بعدما صرنا كذلك { أولئك } البعداء المعزولون عن منهج الرشاد هم { الذين كفروا بربهم } الذين أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة، ورباهم بأنواع التربية مع أن إعادتهم أيسر من إبدائهم وإبداعهم { وأولئك } الضالون المقيدون بسلاسل الطبيعة في النشأة الأولى صار { الأغلال في أعناقهم } في النشأة الأخرى، دائما مستمرا { و } بالجملة: { أولئك } الأشقياء المردودون { أصحاب النار هم فيها خالدون } [الرعد: 5] أبد الآباد.

{ و } من قبح صنيعهمه ونهاية غفلتهم عن الله انتقامه وغيرته { يستعجلونك بالسيئة } المهددة بها والموعودة عليها، أي: يطلبون منك يا أكمل الرسل استعجال إتيانها استهزاء واستنكارا { قبل الحسنة } الموعودة لهم على تقدير إيمانهم { و } الحال أنه { قد خلت } ومضت { من قبلهم } على أمثالهم من الأمم الهالكة { المثلات } أي: القصاصات والعقوبات التي صاتر أمثالا يضرب بها، وحالهم يحفي مؤنة استعجالهم واستهزائهم لو تأملوا { و } هم من غاية إصرارهم وكفرهم وإن استحقوا ما يستعجلونه على أقبح الوجوه، لكن أمهلهم الله الحكيم العليم زمانا بمقتضى جوده { إن ربك } الحليم الرحيم { لذو مغفرة } ستر وعفو { للناس } المنهمكين في الغفلة والنسيان { على ظلمهم } أي: مع ظمهم على أنفسهم باستجلاب عذاب الله إياها { وإن ربك } أيضا على مقتضى عدله وقهره { لشديد العقاب } [الرعد: 6] وسريع الحساب على من خرج من ربقة إطاعته استكبارا واستنكافا.

Unknown page