وإن تمادوا في الغفلة والإصرار على التكذيب مدة مديدة { حتى إذا استيأس } وقنط { الرسل } المبعوثون إليهم بل { وظنوا } من طول الإمهال وعدم الأخذ والبطش { أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا } يقينا، وصاروا كأنهم قد أخلف عنهم الوعد الذي وعدوا به من جانب الحق، وبعدما أزداد بأسهم وقنوطهم، وقد جاءهم نصرنا الذي وعدناهم وعذابنا الذي قد أوعدنا به أممهم، وبعدما جاء أخذنا إياهم { فنجي } ونخلص { من نشآء } إيمانه بنا وبرسلنا وانقياده إياهم { و } بالجملة: { لا يرد بأسنا } الذي قد وعدنا به { عن القوم المجرمين } [يوسف: 110] الذين أجرموا علينا بتكذيب رسلنا وكتبنا، وإن طالت مدة الإمهال.
بثم قال سبحانه تنبيها وحثا لعباده على ما في كتابه من الإشارات { لقد كان في قصصهم } أي: قصص الأنبياء المذكورين في القرآن سيما قصة يوسف عليه السلام { عبرة } اعتبار واستبصار { لأولي الألباب } الذين يتأملون ويتعمقون في لب الكلام، ويعرضون عن قشوره؛ { ما كان } القرآن ما ذكر فيه من القصص والأحكام { حديثا } مختلفا { يفترى } به إلى الله افتراء ومراء { ولكن } وحي نزل من عند الله ليكون { تصديق الذي بين يديه } من الكتب الإلهية، أي: مصدقا أحكامها وآثارها { وتفصيل كل شيء } احتيج إليه في الدين من الأمور المتعلقة؛ لتهذيب الظاهر والباطن { وهدى } من تمسك به وعمل بما فيه أمن من اضلال { ورحمة لقوم يؤمنون } [يوسف: 111] أي: يعلمونه ويصدقون بمقتضاه.
خاتمة السورة
عليك أيها المستبصر، الخبير المسترشد، البصير - بصرك الله بعيوب نفسك، وجنبك عن غوائلها - أن تعتبر من القصة التي ذكرت في هذه السورة، وتحترز عن المكائد المذكورة فيها والمخادعات المصرحة بها والمرموزة إليها، وتصفي أمارة نفسك عن مبادئها وتبرئها حسب طاقتك وقدر وسعد وطاقتك وقوتك عما يؤول إليها ويؤدي نحوها، وتشمر ذيل همتك لتهذيب ظاهرك وباطنك عما يعوقك عن سلوك طريق التوحيد المفضي إلى اضمحلال الرسوم وانقهار التعينات العدمية الأظلال الهالكة، المؤدية إلى الكثرة والتنويه، الحاجبة عن صرافة الوحدة الذاتية بالنسبة إلى ذوي الحجب الكثيفة والغشاوة الغليظة.
وعليك أن تتوجه بوجه قلبك إلى إفناء لوازم تعيناتك الباطلة، وهوياتك العاطلة التي هي شياطين طريقك نحو الحق المنزه عن التغيير والتبديل، المقدس عن الانقلاب والتحويل؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولا يفتره كر الدهور ومر الزمان، بل
كل يوم هو في شأن
[الرحمن: 29]، و
كل من عليها فان
[الرحمن: 26].
وبالجملة: بعدما فنيت عن وجوه تعيناتك رأسا ، يبقى وجه ربك الذي لا انقلاب له أصلا ذو الجلال الذاتي والأزلي، والإكرامم الأبدي السرمدي.
Unknown page