85

Tafkir Naqdi

التفكير النقدي

Genres

بفضل جميع النجاحات التي حققها العلم، غالبا ما يعتبر نموذجا للتفكير المنهجي. بالرغم من ذلك، إذا تخليت عن النظر إلى العلم بصفته نشاطا فريدا لا ينخرط فيه إلا أشخاص مميزون، واعتبرته نهجا ثقافيا مصمما للحد من التحيزات التأكيدية التي عادة ما تدفع كل الناس (بمن فيهم العلماء) إلى تصديق أشياء غير حقيقية، فربما تبدأ في إدراك الفوائد الكبيرة التي تنبع من إجراء تحسينات بسيطة في الطريقة التي نفكر بها.

ومن المخاوف الأخرى التي ينبغي تبديدها هو أن التحول إلى أفراد يتمتعون بمهارة التفكير النقدي في مجتمع يتحلى بالتفكير النقدي سيتطلب منا تحويل الأرض إلى كوكب «فولكان». ذلك أن قاطني عالم «ستار تريك» الخيالي كانوا يزعمون أنهم يحتكمون إلى المنطق بصورة كلية، لكن الوصف الأدق أنهم كانوا يكبتون العواطف التي اعتقدوا أنها تتعارض مع التفكير المنطقي. ومع كل الاحترام لسوراك، المشرع العظيم الذي أسس طريقة كوكب فولكان في الحياة، فإن كبت العواطف خطأ، حتى للمفكرين النقديين الذين يطمحون إلى تعزيز دور المنطق في حياتهم.

قمع العواطف خطأ؛ لأن العواطف وكذلك الغرائز تمدنا بمعلومات قيمة يمكن الاسترشاد بها في مقدمات الحجة المنطقية. إن العديد من الخيارات التي قمت بها بصفتي أبا (بداية من تحديد موعد خلود أطفالي للنوم، وحتى وقت استعدادهم لتعلم التفكير النقدي)، لم تستند إلى التقارير الأكاديمية أو قراءات الرنين المغناطيسي النووي لنشاط دماغ أطفالي، بل على الارتباط العاطفي الذي يتيح لي أن «أقرأ» أفكار من أحبهم من قبل أن يتفوهوا بكلمة. من المهم بالطبع أن ندقق في تلك المقدمات المنطقية للتأكد من أن العاطفة قد أثرتها لا ضللتها، وأن نتحلى بمنطقية القائد «سبوك» عند بناء الحجة التي ستستفيد من تلك المقدمات المنطقية، وتحليلها. فمن خلال تحقيق التوازن بين ذواتنا العاطفية والغريزية والمنطقية، نتفادى عزل أنفسنا عن البيانات القيمة الضرورية لتطبيق التفكير المنطقي بفاعلية في عالم يتألف من بشر لا آلات.

إن تبني معتقدات راسخة، والاصطفاف إلى جانب من يشاركوننا تلك المعتقدات - سواء بالمشاركة في القضايا أو الانضمام إلى حزب سياسي - لا يستلزم منا أن نتخلى عن المنطق لصالح عقيدة أو قبيلة. الحق أن تمحيص الفرد معتقداته قد يعززها إذ يساعده على تحديد إذا ما كانت تلك المعتقدات مبنية على أسس قوية من البراهين والمنطق أم لا. فإذا كانت مبنية على أسس قوية، فإنه يدافع عنها بقوة أكبر مما يزيد من فرص جذب الآخرين إلى صفه. وإذا لم تكن مبنية على أسس قوية، فيمكن للمرء تدعيمها أو حتى تغيير رأيه إذا أدرك في النهاية أن الأسباب الدافعة لمعتقده غير كافية. إن تكريس هذا النوع من النشاط العقلي من أجل المعتقدات التي نعتقد أنها الأهم لنا ينبغي أن يرى على أنه علامة على القوة لا الضعف. وإذا تأملنا المناخ السياسي السائد اليوم، فلا يبدو أن الابتعاد عن مبادئ التفكير النقدي قد منحنا سلطة أكبر أو جعلنا أسعد.

إذا افترضنا أنك تقبل الحجة القائلة بأن التفكير النقدي غالبا ما يحسن الحياة على المستوى الشخصي والجماعي والسياسي، وأننا يمكن أن نصبح مفكرين نقديين من دون تشكيل النوع البشري بأكمله من جديد، فسيظل السؤال الذي يواجهنا هو: كيف يمكننا تحديدا تنشئة أفراد يستخدمون طرقا أفضل للتفكير ويتأنون فيه، مع تنمية مجتمع يدرك أهمية اتباع نهج التفكير النقدي في اتخاذ الخيارات المهمة في الحياة؟

سيظل السؤال الذي يواجهنا هو: كيف يمكننا تحديدا تنشئة أفراد يستخدمون طرقا أفضل للتفكير ويتأنون فيه، مع تنمية مجتمع يدرك أهمية اتباع نهج التفكير النقدي في اتخاذ الخيارات المهمة في الحياة؟

من حسن الحظ أن من نحتاج إلى مشاركتهم في مثل هذا التحول من مؤيديه بالفعل. فمعظم المدرسين والمسئولين الأكاديميين وصناع سياسات التعليم يرون أن تعليم التفكير النقدي يجب أن يصبح أولوية، ويرغب أصحاب الأعمال في توظيف المزيد ممن يتمتعون بمستوى جيد في مهارات التفكير المنطقي. ثم إن الآباء والأمهات لا يرغبون في تنشئة أغبياء لا يتسلحون بالمؤهلات اللازمة للتوظيف، وقد أظهر الأطفال في كل المراحل التعليمية أنهم يستجيبون جيدا عند إدراج موضوعات التفكير النقدي في المنهج. إن الفجوة الكبيرة بين النسبة العالية من المعلمين الذين يدعون إيلاء الأولوية لتدريس التفكير النقدي والنسبة المنخفضة التي يعتقد أصحاب الأعمال أنها تعكس الخريجين الذين تعلموا مهارات التفكير النقدي، تشير إلى وجود الكثير مما يقتضي التحسين، لكنها لا تعني الافتقار إلى الدافع أو الأهداف المشتركة.

ومن الأخبار الجيدة أيضا، أننا لا نحتاج إلى قضاء عقدين آخرين أو ثلاثة للجدال بشأن تعريفات التفكير النقدي حتى نسرع من تبنيه وممارسته. يمكننا في هذا السياق اقتباس تشبيه عالم الحفريات ستيفن جاي جولد: «حلت نظرية أينشتاين عن الجاذبية محل نظرية نيوتن، لكن التفاح لم يظل معلقا في الهواء منتظرا النتيجة.»

1

وبالمثل، لا ينبغي لنا انتظار اتفاق قد لا يحدث أبدا كي نستفيد من المعارف والأساليب المتاحة في الوقت الحالي، وبعضها يعود تاريخه إلى ألفين وخمسمائة عام.

Unknown page