تقديم السلسلة
تمهيد
1 - أصول التفكير النقدي
2 - عناصر التفكير النقدي
3 - تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه
4 - أين نذهب من هنا؟
مسرد المصطلحات
ملاحظات
مصادر إضافية
تقديم السلسلة
تمهيد
1 - أصول التفكير النقدي
2 - عناصر التفكير النقدي
3 - تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه
4 - أين نذهب من هنا؟
مسرد المصطلحات
ملاحظات
مصادر إضافية
التفكير النقدي
التفكير النقدي
تأليف
جوناثان هابر
ترجمة
إبراهيم سند أحمد
مراجعة
الزهراء سامي
أهدي هذا الكتاب إلى أمي وأبي؛
لأنهما علماني التفكير!
تقديم السلسلة
تقدم سلسلة «المعرفة الأساسية» التابعة لمؤسسة «إم آي تي بريس» كتبا سهلة وموجزة في حجم الجيب وبديعة الكتابة، تناقش الموضوعات التي تثير الاهتمام في الوقت الحالي. ولما كانت كتب هذه السلسلة من تأليف مفكرين بارزين، فإنها تقدم آراء الخبراء بشأن موضوعات تتنوع بين المجالات الثقافية والتاريخية إضافة إلى العلمية والتقنية.
ففي هذا العصر الحالي الذي يتسم بالإشباع الفوري من المعلومات، أصبحنا نصل بسهولة شديدة إلى الآراء السطحية والتبريرات والتوصيفات. أما الوصول إلى المعارف التأسيسية التي تمدنا بفهم مبدئي عن العالم، فهو أمر أصعب كثيرا. ولهذا؛ فإن كتب سلسلة «المعرفة الأساسية» تشبع تلك الحاجة. ومن خلال تناول الأساسيات للجمع بين عرض المواد المتخصصة في مستوى القارئ غير المتخصص وبين الموضوعات المهمة الشائقة، يقدم كل من هذه الكتب المركزة للقارئ مدخلا سهلا للأفكار المعقدة.
بروس تيدور
أستاذ الهندسة البيولوجية وعلوم الكمبيوتر
بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
تمهيد
في خطاب يركز على سياسة التعليم الوطني ألقاه الرئيس باراك أوباما عام 2009، أطلق الرئيس التحدي التالي:
إنني أدعو حكام أمتنا ومسئولي التعليم الحكومي إلى تطوير معايير ووسائل تقييم لا تقتصر على قياس قدرات الطالب في الإجابة عن أسئلة الاختبار فحسب، بل تهدف إلى قياس إذا ما كان الطالب يتمتع بالمهارات التي يتطلبها القرن الحادي والعشرون مثل حل المشكلات والتفكير النقدي وريادة الأعمال والإبداع، أم لا.
1
تمثل أحد مظاهر هذه الأولوية الوطنية في مبادرة «المعايير الحكومية للأساس المشترك»، وهي مجموعة من المعايير في اللغة والرياضيات نفذت مبدئيا في ست وأربعين ولاية أمريكية؛ وتتمثل أولويتها في «تطوير مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات والمهارات التحليلية التي يحتاج إليها الطلاب للنجاح.»
2
وقبل ذلك بعقدين، أعلنت إدارة الرئيس جورج إتش دبليو بوش عن مبادرة تعليمية أسمتها «أمريكا 2000»، عبرت عن الهدف التالي بصفته جزءا من «الهدف الخامس: محو أمية الكبار والتعلم مدى الحياة»، وهو: «زيادة نسبة خريجي الجامعات الذين يتمتعون بمستوى متقدم في قدرات التفكير النقدي وفاعلية التواصل وحل المشكلات زيادة كبيرة.»
3
تؤكد هذه الأولويات التعليمية الوطنية وغيرها من المبادرات والمشاريع البحثية التي يعود تاريخها إلى ما يزيد عن قرن من الزمان؛ على أهمية «التفكير النقدي»، وهو نوع من التفكير، له سماته التي تميزه عن الذكاء العام أو المناقب الفكرية؛ مثل التأمل والحكمة.
في وقتنا الحاضر، لا ينفك المعلمون والعاملون في مجال إصلاح التعليم بجميع أنحاء العالم يصرحون بضرورة التخلي عن طريقة التعليم بالتلقين، والاهتمام بدلا من ذلك بتنشئة أشخاص يتمتعون بمهارة التفكير النقدي؛ وذلك هو نوع الأشخاص الذي يجد أشد الإقبال من أصحاب الأعمال.
اتضح هذا المطلب في تقرير بحثي أجرته رابطة الكليات والجامعات الأمريكية في عام 2013، وأشار إلى أن «أكثر من 75 بالمائة من [أصحاب الأعمال] الذين اشتركوا في الدراسة الاستقصائية؛ قالوا إنهم يريدون مزيدا من التركيز على خمسة مجالات أساسية، وهي: التفكير النقدي، وحل المشكلات المعقدة، والتواصل الكتابي، والشفهي، والمعارف التطبيقية في بيئات العالم الواقعي.»
4
في عام 2018، دشنت منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي - وهي هيئة دولية تعنى بالتنمية الاقتصادية وتتألف من الدول الأكثر تقدما في الميدان الاقتصادي - مشروعا لدراسة الكيفية التي يمكن تبنيها لتدريس التفكير النقدي وتقييمه؛ دعما لفكرة «الإجماع المتزايد على أن التعليم الرسمي يجب أن يصقل مهارات الإبداع والتفكير النقدي لدى الطلاب كي يساعدهم على النجاح في البيئات الاقتصادية الحديثة ذات الصبغة العالمية والقائمة على المعرفة والابتكار».
5
إضافة إلى ذلك، فإن التغيرات الاقتصادية العالمية المتمثلة في تفضيل الابتكار الفردي على الإنتاج الواسع النطاق، أثارت الاهتمام بتنمية مهارة التفكير النقدي لدى الأشخاص في بلدان مثل الصين، حيث يوجد في التعليم العالي عدد صغير - لكنه متزايد - من برامج التفكير النقدي التي تناهض نظام التعليم التقليدي القائم على سلطة المعلم في نقله لنصوص ثابتة. ومثلما أشار أحد الباحثين: «إن مصطلح التفكير النقدي يستخدم أحيانا في الدوريات الأكاديمية ووسائل الإعلام؛ للإشارة إلى استراتيجية الخلاص اللازمة لخروج الصين من نظام التعليم العتيق، القائم على التلقين والحفظ.»
6
وبخلاف الاقتصاد، فإن جدالاتنا السياسية بشأن «الأخبار الكاذبة» وغيرها من الموضوعات الخلافية الحساسة، تشير إلى أهمية مهارات التبرير المنطقي التي تتيح لنا معرفة الحقيقة واتخاذ قرارات واعية. فقد كان من تداعيات انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016، الشعور بالأزمة فيما يتعلق بقدرة الناخبين على تحديد خياراتهم بناء على التفكير المنطقي، لا الأحكام العاطفية أو العصبية القبلية التي تسم الكثير من السياسات الأمريكية والعالمية اليوم، أو كليهما.
ومثلما توضح هذه الأمثلة، فإن «التفكير النقدي» قد اتخذ في عصرنا الحاضر دورا بارزا في النقاشات التعليمية العالمية، وأصبح الهدف المتمثل في تنشئة المفكرين النقديين من المحاور التي تشكل مبادرات بارزة على غرار مبادرات وضع المعايير الأكاديمية على مستوى الدولة. يمكن حتى الجزم بأهمية اكتساب تلك المهارة وتطبيقها للحفاظ على بقاء مجتمعنا؛ إن لم يكن للحفاظ على نوعنا البشري. وبالرغم من هذا، فلست أدري عدد الأشخاص الذين يستطيعون الإجابة عن السؤال التالي إذا طرح عليهم: ما هو التفكير النقدي؟
تستند محاولتي الخاصة في الإجابة عن هذا السؤال إلى مجموعة من الخبرات التي تتضمن التعاون مع أصحاب الأعمال لتطوير أساليب لتقييم التفكير النقدي وغيره من المهارات الإدراكية وقياسها، إضافة إلى دمج التفكير النقدي في المناهج الدراسية والتقييمات المرتبطة بمحو الأمية الرقمية. وبمرور الوقت، قادني الاهتمام بتطبيق مبادئ التفكير النقدي على نطاق أوسع إلى تأليف كتاب «الناخب النقدي»،
7
وهو منهج دراسي مرفق بمجموعة من المصادر ذات الصلة بالمدرسين، وقد اتخذ من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2012 مثالا لتدريس العديد من مهارات التفكير النقدي الواردة في هذا الكتاب؛ مثل المنطق والمجادلة بالحجة ومهارات اللغة (بما فيها التواصل الإقناعي)، مع تحييد التحيزات.
قبل إصدار كتاب «الناخب النقدي» إلى قاعدة أكبر من الجمهور، اختبرت مبادئه على «نماذج أولية » تتمثل في دروس تدرس لأولادي الذين كان أحدهم سيبدأ المرحلة الجامعية بحلول انتهائي من هذا الكتاب.
إن التحاق ابني بالجامعة لا يعني بالضرورة تحسنه في مهارات التفكير النقدي. فوفقا لما ذكره كل من ريتشارد أروم ويوسيبا روسكا في كتابهما الشهير الذي صدر عام 2011 بعنوان «التخبط الأكاديمي»: «إن تحسن مهارات التفكير النقدي مثل الاستدلال المعقد ومهارات الكتابة (وهي مهارات جامعية عامة) ضئيل للغاية في أول سنتين من المرحلة الجامعية، أو لا يوجد عمليا على الإطلاق بين نسبة كبيرة من الطلاب.»
8
وهذا بالرغم من أن «99 بالمائة من أعضاء هيئة التدريس يقولون إن تنمية قدرة الطلاب على التفكير النقدي هدف «بالغ الأهمية» أو «ضروري» في التعليم الجامعي»،
9
وذلك حسبما ورد في تقرير استشهد به المؤلفان.
لقد أوضح تأثير كتاب «التخبط الأكاديمي» على المناقشات والمناظرات التي تدور عن التعليم العالي في الصحافة الأكاديمية والعامة كلتيهما؛ وجود قبول عام لفكرة أن غياب مهارات التفكير النقدي من العالم، يولد الخوف من هذا العالم. فما الذي قد يدعو إلى ذلك؟
يندرج في صلب الحديث عن التفكير النقدي الذي يجري في الأوساط الأكاديمية وبين النطاق الأوسع من الجمهور؛ افتراض بأن المعرفة وحدها لا تساعدنا على حل المشكلات التي يواجهها الفرد أو المجتمع.
لقد شاهدنا في العقود الأخيرة الماضية تسارعا في إنشاء معرفة جديدة مصحوبة بإمكانية غير مسبوقة في الوصول إلى المعلومات عبر الأجهزة الرقمية التي أصبحت رفيقة لنا على الدوام. وعلى الرغم من ذلك، لم تزل الأخطاء في إصدار الأحكام تصيبنا على المستويين الفردي والاجتماعي.
الأسوأ من ذلك أن عدم قدرتنا على تقييم المعلومات التي تتضمنها «مكتبات الإسكندرية» الموجودة في جيوبنا، من حيث صحة المعلومات وموثوقيتها، تعني أننا معرضون لتصديق معلومات مزيفة، واستخلاص استنتاجات غير صحيحة من تلك «الحقائق» التي يرد بعضها إلينا من أناس يفهمون عيوب التفكير البشري بدرجة تتيح لهم التلاعب بنا.
لم تزل الأخطاء في إصدار الأحكام تصيبنا على المستويين الفردي والاجتماعي.
استخلصت بعض التعليقات بشأن الانتخابات الأمريكية لعام 2016 أن العديد من الأمريكيين يتخذون قراراتهم بناء على العاطفة لا التفكير المنطقي، مما يدل على أن قدرة الجمهور على التفكير النقدي منعدمة أو تعطل بسهولة. لكن المرء لا يحتاج إلى مراجعة السياسة الوطنية كي يرى المشكلات المصاحبة للافتقار إلى التفكير النقدي. كم من مرات شراء اندفاعية، واختيارات سيئة في الحياة المهنية، وجدالات غير ضرورية مع الأحباب، ومشكلات شخصية أخرى، يمكن تجنبها لو دربنا عقولنا على إيجاد البراهين وتقييمها، ووضعها في بنية للتحليل، وتأسيس خياراتنا على قواعد قد شكلت آراء سديدة منذ عصور سقراط وأرسطو؟
ولما كان تحييد أشكال التحيز من مهارات التفكير النقدي المهمة التي أتناولها على مدار هذا الكتاب، فينبغي أن أذكر في البداية اعتقادا هو الذي دفعني خلال سنوات عملي في هذا المجال، وهو أن أهم مشكلات التفكير النقدي التي تواجه العالم اليوم أن قلة من الأفراد فقط هي التي تتمتع بتلك المهارة، وهم لا يمارسونها بالدرجة الكافية، مما يفسر تركيز هذا الكتاب على إمكانية تعلم التفكير النقدي، وممارسته وتقييمه.
إن تعليم أنفسنا وتعليم الآخرين للتحلي بمهارة التفكير النقدي يتطلب إرساء مبادئ أساسية؛ لذا سأقدم للقارئ فيما يلي نبذة عن الموضوعات التي يتناولها الكتاب:
يتناول الفصل الأول «أصول التفكير النقدي»؛ فيشرح أصول المصطلح في سياق التخصصات التي يقوم التفكير النقدي عليها، مثل الفلسفة وعلم النفس والعلوم. يقدم هذا الفصل التعريفات المبكرة لمصطلح «التفكير النقدي»؛ إذ إن المشكلات المتعلقة بالتعريفات أمر يتكرر طرحه عند مناقشة الموضوع. وليس إسهامي في ذلك النقاش محاولة لدعم التعريف الذي أفضله، بل لمساعدة القارئ على فهم المصطلح فهما أفضل عن طريق تعريفه بالأصول الرائعة للتفكير النقدي.
في الفصل الثاني «عناصر التفكير النقدي»، نتناول موضوعات المعرفة والمهارات والسمات الشخصية التي ينبغي توفرها لاكتساب مهارة التفكير النقدي. وعلى الرغم من التنوع الكبير في خيارات المحتوى والممارسات التي وضعها معلمو التفكير النقدي، فأنا أقترح في هذا الفصل وجود إجماع بشأن المعارف التي يجب على المفكر النقدي تحصيلها، والمهارات التي ينبغي له التمكن منها.
يبدأ الفصل الثالث «تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه»، بمناقشة أعمق عن تعريف الباحثين لمصطلح «التفكير النقدي»، وكيفية استخدام المفهوم في أطر أوسع. إنني أزعم أن هذا الكتاب قد أنتج رؤية تكفي للمضي قدما في المشروع الحيوي، المتمثل في زيادة مقدار التفكير النقدي في العالم. ويتناول الجزء الباقي من هذا الفصل الكيفية التي يمكن تحقيق تلك الغاية من خلالها؛ إذ يصف البحوث والممارسات المتعلقة بطريق تعليم التفكير النقدي وتقييمه.
وبالرغم من أن المعلمين هم الفئة الأساسية التي يخاطبها هذا الكتاب، فإن هذه الفئة واسعة من وجهة نظري؛ إذ تشمل المدرسين في مؤسسات التعليم ما بعد الثانوي ممن حالفهم الحظ لتدريس تلك المادة بدوام كامل، ومدرسي التعليم الأساسي من الروضة وحتى المرحلة الثانوية، الذين يحاولون غرس مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب الذين يدرسون الرياضيات والعلوم والقراءة والكتابة، وغير ذلك من المواد التي تتطلب مهارات التفكير العليا. وهي تشمل أيضا أولياء الأمور الذين يريدون تربية أبنائهم على التفكير لأنفسهم. وأخيرا، تشمل هذه الفئة جميع الأفراد في أي رحلة تعليمية من أي نوع، في الصفوف الدراسية أو التعلم الذاتي، ممن يتوقون إلى التفكير بمزيد من الفاعلية والعيش في عالم تتخذ فيه القرارات بناء على التفكير المنطقي والمشاورات المدروسة.
الفصل الأول
أصول التفكير النقدي
من أين نشأت الفكرة القائلة بوجود شكل من أشكال التفكير فريد بما يكفي لوصفه بمصطلح «النقدي»؟
لما أصبحت تنشئة المفكرين النقديين أولوية تعليمية، فقد حاول المعلمون وصناع السياسات والباحثون فهم التفكير النقدي بطرق مشابهة لتلك التي تفهم بها التخصصات الأكاديمية الموجودة بالفعل. إن عملية تعلم مهارات مثل القراءة والكتابة أو تخصصات مثل الرياضيات والكيمياء والأحياء، تنطوي على اكتساب القدرات تدريجيا وفهم مجال المعرفة الذي تتألف منه كل من هذه المواد الدراسية. فأي شخص يدرس الكيمياء على سبيل المثال، يتعلم تعريف المادة الدراسية (وعادة ما تكون هذه التعريفات شبيهة بالتعريفات المعجمية، مثل: «علم يتناول تركيب المواد وبنيتها وخصائصها والتغيرات التي تمر بها».)
1
يتعلم دارسو الكيمياء أيضا عن الذرات والجزيئات قبل الانتقال إلى التفاعلات الكيميائية التي تكسر الروابط بين ذرات الجزيئات وتشكلها.
بدءا من هذا الفصل، سنتطرق إلى عدد من المحاولات لتحديد المقصود بالمفكر النقدي، بينما يخصص الفصل الثاني لوصف مختلف العناصر التي تدخل ضمن بنية التفكير النقدي، ويركز الفصل الثالث على الكيفية التي يمكن استخدامها لدمج تلك العناصر معا في سياق كيفية تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه.
من المهارات التي يتفق الباحثون والمعلمون على ضرورة أن يتحلى بها المفكر النقدي ويمارسها: القدرة على النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة؛ ولذا يتخذ هذا الفصل نهجا تاريخيا تأصيليا من خلال مناقشة مصدر نشأة فكرة التفكير النقدي، وكيفية نشأتها وتطورها منذ ذلك الحين.
والأمر كله يبدأ بالفلسفة. (1) الفلسفة
ثمة ثورة فكرية قد حدثت خلال الفترة ما بين القرن السادس قبل الميلاد وحتى القرن الرابع قبل الميلاد، وحددت العديد من جوانب الحياة التي نراها من المسلمات في الوقت الحاضر. في تلك الفترة على سبيل المثال، وضع كونفوشيوس نظريات عن السلوك البشري السليم والتنظيم الاجتماعي، وهي ما نسميه اليوم بالفلسفة الأخلاقية والسياسية. في الحقبة نفسها، استكشف ممارسو تقليد الفايشيشيكا الهندي أسئلة ميتافيزيقية تتعلق بطبيعة الحقيقة.
في الغرب، وقعت ثورة فكرية مماثلة في اليونان القديمة، وهي أرض سادت فيها الدول ذات المدينة الواحدة الصغيرة مثل أثينا، حيث ولدت الفلسفة الغربية.
توجد ثلاث شخصيات أساسية في قصة نشأة الفلسفة اليونانية. أولى هذه الشخصيات هي سقراط الذي شكك في المعتقدات الثابتة، وسعى جاهدا لعيش «حياة قائمة على التجارب»، وهي الأنشطة التي أكسبته لقب أبي الفلسفة الغربية، إضافة إلى الحكم عليه بالإعدام من رفاقه الأثينيين المنزعجين منه. لم يترك سقراط أعمالا مكتوبة، لكن آخرين قد دونوا أفكاره، لا سيما تلميذه أفلاطون الذي يقدم في كتاب «المحاورات»، أفكار معلمه متداخلة مع أفكاره الخاصة. أسس أفلاطون ما يعد أول مدرسة للفلسفة في الغرب، وهي «الأكاديمية»، حيث درس الفلاسفة مثل الفيلسوف النابغ أرسطو.
إن قدرا كبيرا من الفكر الغربي يستند إلى أفكار هؤلاء المفكرين القدامى، ويتلخص ذلك في مقولة لفيلسوف شهير ورياضي عاش في القرن العشرين، هو ألفريد نورث وايتهيد، الذي وصف تراث الفلسفة الغربية بأكمله على أنه «سلسلة من الحواشي لأفكار أفلاطون.»
2
بالرغم من ذلك، فلكي نفهم أصول التفكير النقدي؛ علينا الاطلاع على الأعمال الرئيسية التي كتبها أرسطو، تلميذ أفلاطون.
بالرغم من ذلك، فلكي نفهم أصول التفكير النقدي؛ علينا الاطلاع على الأعمال الرئيسية التي كتبها أرسطو، تلميذ أفلاطون.
ولفهم فلسفة أرسطو والفلسفة الكلاسيكية بوجه عام؛ يجب مراعاة أن التفريق الحالي بين الفلسفة والعلوم لم يكن موجودا في العصور القديمة. فأعمال الفلاسفة اليونانيين القدامى (يطلق عليهم فلاسفة ما قبل سقراط) على سبيل المثال، قد ركزت على طبيعة العالم المادي. ومع أن أفكارهم، مثل أن الكون يتألف من الماء أو النار أو المغناطيس، تعد في حد ذاتها كائنات حية، تبدو ساذجة اليوم؛ فقد كان هؤلاء المفكرون بمثابة فيزيائيين مبكرين، يصوغون التفسيرات الفيزيائية للظواهر الطبيعية، بدلا من التفسيرات السحرية أو الدينية.
من بين الأدوار التي قام بها أرسطو، دور المنظم الكبير الذي وضع نظاما للعديد من التخصصات التي درسها هو وغيره من المفكرين. والحق أن العديد من المجالات الأكاديمية في الوقت الحاضر مثل علم الأحياء وعلم السياسة، لم تصبح تخصصات منفصلة إلا عندما حللها أرسطو ونظمها.
وقد تمثل نهجه الذي كان فريدا حينذاك، في جمع الأدلة والأمثلة، ومن ثم استخدامها لإنشاء الأنظمة التي تحدد تعريف مجال محدد. فعلى سبيل المثال، أدت دراسة أرسطو للنباتات والحيوانات (وكانت بعض العينات قد أحضرت من الأراضي التي غزاها تلميذه الإسكندر الأكبر)، إلى تطوير نظام تصنيفي يقوم على السمات المادية، وهو الذي مهد الطريق للتصنيف الأحيائي المستخدم اليوم لتصنيف الكائنات الحية. وفي كتاب «السياسة» أيضا، صنف أرسطو دساتير الكيانات السياسية المعاصرة له بصفتها «نماذج» للتنظيم السياسي، ثم دمج نظامه التصنيفي في بنية هي التي وضعت تعريفا لمجال العلوم السياسية.
إضافة إلى ذلك، كتب أرسطو أعمالا أصلية عن علم المنطق قدم فيها نظما لتصنيف المعلومات، وطرقا لتنظيم الحجج المنطقية وتحليلها، وأنواع أخطاء الاستنتاج (المغالطات)، والعديد من المفاهيم الأخرى التي نتناولها في مناقشة الفصل التالي عن موضوع التفكير المنهجي. وفي مؤلفاته عن اللغة التي تأتي تحت عنوان «البلاغة»، يوضح أرسطو أيضا إمكانية اختيار الكلمات والعبارات المستخدمة لطرح الأفكار والحجج وتنظيمها من أجل الإقناع. وسوف نناقش دور اللغة في التفكير النقدي في الفصل الثاني أيضا.
ظل العديد من أعمال أرسطو طي النسيان على مدار قرون. لكنها اكتشفت من جديد في عصور مختلفة؛ ومن ثم استخدمت هي وغيرها من الأعمال الكلاسيكية للمساعدة في تدشين عصور جديدة من الاستكشاف الفكري. ومع ذلك، فحتى حينما لم تكن كلماته المحددة محل الدراسة، فإن الأفكار التي استنبطها، لا سيما الأفكار المتعلقة بالمنطق والبلاغة، كانت هي اللبنات الأساسية للتعليم على مدار قرون.
فعلى سبيل المثال، كان التعليم لدى القدماء من اليونانيين والرومانيين يبدأ بدراسة ما يسمى ب «تريفيوم» («الفنون الثلاثة»، وهي المنطق والبلاغة والقواعد (اللغة وتراكيبها)). وحالما يتقن الطلاب تلك المواد الدراسية، كان الطلاب ينتقلون إلى دراسة «كوادريفيوم» («الفنون الأربعة» وهي الحساب والهندسة والفلك والموسيقى). كانت تلك التخصصات الأربعة إضافة إلى الفنون الثلاثة تشكل الفنون الحرة السبعة في العالم القديم. وعلى الرغم من أن فني المنطق والبلاغة لم يندرجا دوما في إطار الفنون الثلاثة أو الفنون الأربعة؛ فقد ظلت تحدد تعريف «الشخص المتعلم» على مدار العصور الوسطى وحتى فترة كبيرة من العصر الحديث.
عندما كنت في المرحلة الجامعية في ثمانينيات القرن العشرين، كان أحد الأساتذة يقدم دورة دراسية بعنوان «الفنون الأربعة» وكانت بمثابة نهج حديث لتدريس المجموعة الثانية من مواد الفنون الحرة السبعة. وعلى الرغم من وجود تجارب مماثلة في العديد من مدارس الفنون الحرة، فإن الاهتمام بالتعلم على طريقة الفنون الثلاثة، يتضح بالدرجة الكبرى في العصر الحالي في بعض شرائح حركة التعليم المنزلي بالولايات المتحدة؛ إذ يمكن الجمع بين التعليم الكلاسيكي والتعليم الديني بحرية. تلك الإشارات الصغيرة إلى عناصر الفكر القديم، إضافة إلى دور المنطق في كل مناقشة عن التفكير النقدي، توضح جاذبية «حب الحكمة» أو الفلسفة لدى من يسعون إلى غرس ما هو أكبر من المعرفة لدى المتعلمين. (2) عصر النهضة والثورة العلمية وعصر التنوير
اندلعت سلسلة أخرى من الاضطرابات السياسية والفكرية في أوروبا، بدءا من القرن الرابع عشر، وأدت إلى مزيد من الثورات في التفكير قد أسهمت بعناصر أساسية فيما سيعرف بعد ذلك بالتفكير النقدي.
تعرف النهضة الأوروبية التي امتدت من القرن الرابع عشر إلى القرن السابع عشر بأنها فترة من ازدهار الفن والعمارة والهندسة. في تلك الحقبة، لم يقتصر ابتكار «رجال النهضة» أمثال مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي على الروائع الفنية فحسب، بل توصلوا أيضا إلى إنجازات هندسية عظيمة؛ مثل التحصينات الحضرية والتصاميم المبكرة لآلات الطيران. إن مصطلح النهضة «رينيسانس» يعني «إعادة الإحياء»، وقد كان أحد المحفزات الأساسية لبعث هذا الاستقلال الفكري هو إعادة اكتشاف كتب الفلسفة الكلاسيكية اليونانية والرومانية التي اكتشفت في الأديرة الأوروبية، أو هربت إلى الغرب من الإمبراطورية البيزنطية المتداعية.
3
ويشير مصطلح «الثورة العلمية» إلى الفترة التي بدأت في القرن الخامس عشر حين أدت التطورات المذهلة في الرياضيات والعلوم الطبيعية، التي اكتشفت من خلال تبني مناهج جديدة في البحث، إلى اكتشافات عظيمة ومثيرة للجدل؛ مثل اكتشاف أن الأرض ليست مركز الكون.
تصف النسخة المختصرة الشهيرة من هذا التاريخ كيف انتهت في أوروبا «العصور المظلمة»، التي سيطرت فيها الكنيسة الكاثوليكية على عقول الناس، حين أصر علماء شجعان أمثال كوبرنيكوس وجاليليو على أن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، وأثبتوا ذلك من خلال الحسابات الرياضية والملاحظات العلمية. إن نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهم آخرين بالتخلص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
إن نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهم آخرين بالتخلص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
وكما هي العادة، لا يكون التاريخ الحقيقي بهذه البساطة. فالعقيدة الكنسية التي حاربها العلماء الأوائل على سبيل المثال، كانت ترتبط بالعلوم اليونانية القديمة والفلسفة، بقدر ما كانت ترتبط بنصوص الكتاب المقدس. فالفكرة المتمثلة في أن الإله غير محدود القدرة ولا المعرفة ولا الخير، أو أن الجنة هي مكان الكمال المنفصل عن عالمنا المادي، لا تجد سوى تأييد واه من الكتاب المقدس العبري أو العهد الجديد. غير أن الأفكار عن «القوالب» المثالية قد ازدهرت في الفلسفة اليونانية، لا سيما في أعمال أفلاطون.
4
وعندما تحولت الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع بعد الميلاد، دخلت العديد من المعتقدات الرومانية الموجودة بالفعل والتي يستند الكثير منها إلى الفلسفة اليونانية، في الشريان الفكري المسيحي. وبالمثل أيضا، وجدت العلوم القديمة ملتجأ في التفكير الكنسي بالقرن الثالث عشر حينما دمج توما الأكويني أعمال أرسطو التي أعيد اكتشافها حديثا في علم اللاهوت المسيحي، وقدم بذلك أساسا فلسفيا وعلميا لما أصبح فيما بعد هو المعتقدات الكنسية المقبولة بشأن كيفية عمل الكون.
من سوء الحظ أن إنتاج أرسطو في العلوم التطبيقية ورؤية الطبيعة التي كان يمثلها، لم يكن بالمتانة نفسها التي اتسمت بها أعماله في علم المنطق. ففي عصر أرسطو، كانت طريقته في استنتاج الحقائق بناء على ما تدركه حواس الإنسان بدلا من تفسير الظواهر الطبيعية على أنها من أفعال الآلهة، إنجازا فكريا هائلا. لكن هذه الطريقة لا تصيب في بعض الأحيان، فالتجربة الحسية تخبرنا على سبيل المثال أن الأرض ثابتة بينما تدور الشمس والقمر والنجوم من حولها. وقد كان هذا ما أنتج نظرية نظام مركزية الأرض التي وضعها بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، بما يتفق تماما مع الإدراك الحسي؛ ومن ثم كانت صالحة وفقا لعلوم زمانه وحتى القرن الخامس عشر بعد الميلاد.
لكن فرضية مركزية الأرض التي وضعها بطليموس لم تشرح كل الظواهر المرصودة. فالمسارات الشاذة التي تتخذها الكواكب في سماء الليل على سبيل المثال، لم تكن تتلاءم مع هذه النظرة للكون. وقد ألهمت مثل هذه التباينات علماء مثل كيبلر وكوبرنيكوس وجاليليو باقتراح نظرية بديلة، وهي مركزية الشمس، التي تتلاءم على نحو أفضل مع كل الملاحظات والبيانات. غير أن قيامهم بهذا يعني أن المعتقدات التي تحدوها كانت أرسطية وبطلمية بقدر ما كانت دينية كنسية. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الثورة العلمية لا باعتبارها هدما للخرافات، وإنما هي تبديل نموذج علمي بنموذج آخر، وهو ما شهدناه في القرن الماضي حين غيرت نظرية أينشتاين في النسبية وعلوم ميكانيكا الكم رؤية نيوتن الميكانيكية للكون، أو أوضحت على الأقل ضرورة تبني نهج مختلفة عند البحث فيما يتعلق بالسرعات العالية للغاية (النسبية) والأحجام البالغة الصغر (ميكانيكا الكم).
5
تجدر الإشارة إلى أن فرضية مركزية الشمس لم تحل محل فرضية مركزية الأرض في الكون تلقائيا حتى بين العلماء. كانت النظرية تحتاج إلى تفسير، وهو ما قدمه إسحاق نيوتن في النهاية عندما اكتشف أن الجاذبية تنطبق على جميع الأجسام بما فيها الشمس والكواكب، وقدم صيغا رياضية يمكن تطبيقها على حركة الأجسام السماوية. ساعدت القوة التفسيرية لنظام نيوتن في صقل فرضية مركزية الشمس حتى بات أبسط من تفسير نظام بطليموس، كما أنه كان تفسيرا أدق للظواهر المرصودة. إن الحاجة إلى تأكيد الأفكار بالأدلة، وإيجاد آليات تشكل حججا يمكن أن تتفق مع الأدلة (مثل ميكانيكا نيوتن)، وكذلك تفضيل التفسيرات الأبسط على التفسيرات الأعقد، كل ذلك قد وضع نهجا جديدا في العلم امتد تأثيره إلى ما هو أبعد من تبني نظرية محددة أو التخلي عنها.
أدت الفلسفة دورا مهما في ظهور هذا النهج الجديد في العلوم. إذا كانت الفروق بين العلم والدين هشة في الفترة ما بين عصر النهضة حتى الثورة العلمية وعصر التنوير،
6
فإن الفروق بين العلم والفلسفة لم تكن موجودة على الإطلاق في تلك الفترة. فعلى مدار جزء كبير من التاريخ الحديث، ظل المشتغلون في المجالات العلمية يوصفون بأنهم من «فلاسفة الطبيعة» لا من «العلماء».
من بين هؤلاء رينيه ديكارت، وهو فيلسوف وعالم رياضيات قدم إسهامات كبيرة في الجبر والهندسة، وكلاهما من أساسيات الرياضيات والعلوم في العصر الحاضر، كما أنه أسس علم الفلسفة الحديثة من خلال تجاربه العقلية القائمة على «الشك الجذري». بدأت تلك التساؤلات بالتشكيك في حقيقة كل شيء، بما في ذلك إدراكه الحسي؛ وذلك لتحديد ما يمكن أن يتبقى ويطلق عليه حقيقة لا شك فيها. استندت إجابته بأنه كائن مفكر (التي أدت إلى مبدأ «الكوجيتو» الشهير: «أنا أفكر، إذن أنا موجود»)، إلى حجة أنه لكي ينخرط في التفكير أصلا، فلا بد من أنه موجود بصفته كائنا مفكرا. امتدت أفكار ديكارت إلى مجال العلوم في أعمال مثل «مقال عن الطريقة الصحيحة في توجيه العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم»، الذي حاول فيه أن يؤسس العلم على نوع اليقين المرتبط بالبراهين الرياضية.
على مدار جزء كبير من التاريخ الحديث، ظل المشتغلون في المجالات العلمية يوصفون بأنهم من «فلاسفة الطبيعة» لا من «العلماء».
ثمة فلاسفة آخرون مثل فرانسيس بيكون وديفيد هيوم، قد اتخذوا نهجا آخر يركز على الأدلة التجريبية أكثر من الاستنتاج المجرد، ويعتبرها مصدر المعرفة الحقيقية. ردد السجال بين المثاليين مثل ديكارت والتجريبيين مثل هيوم، أصداء الجدالات القديمة بين أتباع أفلاطون الذين رأوا أن العقل هو مصدر الحقيقة، واتخذوا من الرياضيات مثالا أعلى، وأتباع أرسطو الذين اتخذوا مجال علم الأحياء القائم على البراهين نموذجا لهم.
لا يتسع المقام في هذا الكتاب لتوضيح كيف أن الفلاسفة المتأخرين مثل إيمانويل كانط ساعدوا في رأب الصدع بين الفريقين (انظر «المصادر الإضافية» للمزيد من المعلومات عن تاريخ العلوم وكذلك عصر النهضة وعصر التنوير)، لكن الأمثلة المذكورة بالفعل توضح كيف أن المفاهيم المنبثقة من الفلسفة: مثل الدور الأساسي للبراهين، والحاجة إلى التفسير (في شكل آليات ونماذج)، ومبدأ الشك باعتباره وسيلة للوصول إلى المعرفة، قد ساعدت في ميلاد شكل جديد من البحث العلمي.
في العصر الحاضر، يتعلم الطلاب على مستوى العالم منهجا تولد من تلك الجدالات يسمى «الطريقة العلمية». يتمثل استخدام هذه الطريقة في طرح سؤال ما، ثم اقتراح إجابة للسؤال (تسمى «الفرضية»)، وتعد هذه الفرضية فكرة مبدئية في أثناء جمع البراهين لإثباتها أو دحضها. وتصبح الفرضيات التي تصمد أمام هذا التدقيق «نظريات» لا يزعم بأنها حقيقة أبدية ولا شك فيها، لكنها تعتبر أساسا قويا يمكن استخدامه قاعدة للأبحاث في المستقبل.
إن العلوم الحديثة التي تستخدم التجارب المدروسة والمصممة بعناية لاختبار الفرضيات، ومراجعات الأقران الرسمية التي يدرس فيها العلماء البراهين التجريبية التي استخرجها علماء آخرون، والتي يحاول علماؤها تكرار تجاربهم ونتائجهم، التي تتسم أيضا بتبني الشك البناء في دراسة التفسيرات والنماذج، هي المجال الذي يجسد الشكل الأكثر تقدما من هذا النوع من التفكير. وبالرغم من أننا قد نتشكك فيما إن كانت الطريقة العلمية التي نعلمها لأطفال المدارس تجسد «الموقف العلمي»
7
الذي يدفع إلى الاستكشافات والتعمق أكثر في الأسئلة التي يطرحها فلاسفة العلم المعاصرون عن قيود النهج العلمية الحالية،
8
فلكي تفهم التفكير النقدي، يمكننا استخدام الفهم الشائع للطريقة العلمية؛ لمعرفة الكيفية التي تساعدنا بها تلك الطريقة لتحقيق فهم يتجاوز نطاق العلم.
هل نتعلم أو ننشأ على تبني معتقدات مشروطة، وإخضاعها لاختبارات صادقة، وعلى أن نكون مستعدين لرفضها إذا لم تتفق مع الحقائق والملاحظات، بغض النظر عن الموضوع قيد الدراسة؟ فبالرغم من كل شيء، لا يتطلب قرار اختيار المرشح الذي ندلي له بصوتنا معدات مكلفة ومعقدة مثلما أن قرار اختيار السيارة التي نشتريها لا يتطلب عملية مراجعة الأقران. لكن اتباع منهج التفكير النقدي في هذه الموضوعات يستلزم منك عدم القفز إلى إجابة مباشرة، بل اقتراح إجابة واختبار وجاهتها، ثم الوصول إلى استنتاج بناء على نتائج تلك الاختبارات. ويمكن وصف ذلك النهج بعبارة «التفكير بعقلية العالم»، لكن الأدق أن نقول إن كل المفكرين النقديين، بمن فيهم العلماء، يعتمدون على طرق مستلهمة من تطور العلوم الحديثة، لكنها في الوقت نفسه وثيقة الصلة بجميع مناحي الحياة.
بحلول القرن التاسع عشر، تأسست على الممارسات العلمية التي تطورت على مدار القرون الأربعة السابقة عليه، تخصصات جديدة، ومنها علم النفس المعني بدراسة العقل البشري. شهد القرن التاسع عشر أيضا ميلاد مدرسة فلسفية جديدة تسمى «البراجماتية»، ولكل من المجالين دور مهم في تشكيل مفهوم التفكير النقدي. (3) علم النفس والبراجماتية
من خلال الاستشهاد بأعمال آر جيه ستينبرج، قارنت الباحثة في التفكير النقدي إيميلي آر لاي بين دور علم النفس في تطوير نماذج التفكير النقدي، وبين دور كل من الفلسفة والعلوم، وأشارت إلى أن علماء النفس «يميلون إلى التركيز على الطريقة التي يفكر بها الناس بالفعل، مقارنة بالطريقة التي يمكن أن يفكروا بها أو ينبغي لهم أن يفكروا بها في الظروف المثالية».
9
ظهر علم النفس بصفته مجالا مستقلا في أواخر القرن التاسع عشر، وهي فترة شهدت - كما ذكرنا - ظهور العديد من التخصصات الأكاديمية الجديدة ووضع تعريفات محددة لها على أسس علمية. في تلك الفترة، نشر سيجموند فرويد فكرة أن العقل البشري ينقسم بين العاطفة والغريزة الحيوانية التي تتصارع مع ذواتنا المفكرة دوما على السيادة. وقد قوبل الكثير من أعمال فرويد بالتشكك، بل بالهجوم الشرس أيضا باعتبارها غير علمية ولا حتى أخلاقية، لكن العديد من أفكاره المستمدة من النصوص الأدبية والفلسفية والدينية، لا تزال تلقي الضوء على الجوانب العقلانية وغير العقلانية في تركيبنا العقلي.
وعلى الرغم من أن العالم الألماني فيلهيلم فونت لا يرتقي إلى شهرة فرويد في الثقافة العامة بالعصر الحاضر، فإنه هو من يعد مؤسس علم النفس العلمي الحديث؛ إذ أكمل التنظير الفلسفي التقليدي عن تكوين الوعي البشري بطرق تجريبية مستمدة من مجالات علمية؛ مثل علم وظائف الأعضاء. فمن خلال الدمج بين قياسات لاستجابات الأشخاص على المحفزات والتعليقات التي جمعت من هؤلاء الأشخاص في حوارات أجريت معهم بعناية، أنشأ طرقا منهجية لا تزال تشكل الأساس للأبحاث المعاصرة في علم النفس. وقد كان لبيير جانيت الفرنسي دور مماثل في استخدام الطرق العلمية لدراسة العقل. ومن أهم إسهاماته تشكيل تسلسل هرمي للميول الذهنية التي تنوعت في نظره ما بين أنشطة لا تتطلب سوى مستوى معرفي منخفض، يشترك فيها كل من الحيوان والإنسان، وبين الملكات العالية المستوى التي يختص بها الإنسان، مثل اللغة والتفكير الرمزي.
على الرغم من أن العالم الألماني فيلهيلم فونت لا يرتقي إلى شهرة فرويد في الثقافة العامة بالعصر الحاضر، فإنه هو من يعد مؤسس علم النفس العلمي الحديث.
في الولايات المتحدة عام 1890، ألف البروفيسور الأمريكي ويليام جيمس، أخو المؤلف هنري جيمس، كتاب «مبادئ علم النفس»، وهو أحد أهم كتب علم النفس في عصره، وكان جيمس أيضا أول من درس علم النفس في جامعة هارفارد.
إضافة إلى أهمية دور جيمس في دراسة علم النفس بناء على مبادئ علمية، فقد كان أيضا شخصية محورية في الفلسفة الأمريكية؛ إذ نشر مدرسة فكرية تسمى البراجماتية، وتعد المدرسة الفلسفية البارزة الوحيدة التي نشأت بكاملها في الولايات المتحدة، وينسب هذا التطور إلى البارع الغريب الأطوار تشارلز ساندرز بيرس.
ترى البراجماتية أن الأشياء تعرف بآثارها العملية لا بخصائصها التجريبية ولا الميتافيزيقية. فالسكين على سبيل المثال حاد، لكن ذلك ليس بسبب عرض حافته القاطعة، ولا لأنه جزء من أحد قوالب الحدة الأفلاطونية. وإنما لأن استخدامنا العملي للسكين (مثل قطع شيء ما)، هو وحده ما يحدد أن السكين حاد. ينطبق الأمر نفسه على الرسومات؛ إذ توصف بالجمال لتأثيرها في الناس، وليس بسبب أي صفات جوهرية فيها.
يستمد الدور الذي أدته الفلسفة البراجماتية في أصول التفكير النقدي من تحليل بيرس البراجماتي للتفكير ذاته؛ إذ لم يكن يراه خاصية للعقل أو الروح، بل وسيلة تؤدي إلى غاية.
وضع بيرس تلك الأفكار في أحد أعماله القليلة المنشورة، وهو مقال نشر عام 1877 في مجلة «بوبيولار ساينس مانثلي» بعنوان «رسوخ المعتقدات»،
10
الذي اقترح فيه أن الشك يحفز تفكيرنا بأكمله، وأننا جميعا لا ننفك عن توليد معتقدات كبيرة وصغيرة لتبديد الانزعاج من الشك. وبعد افتراض هذه المقدمة المنطقية، ذكر الكاتب أربع طرق تترسخ بها تلك المعتقدات في عقولنا.
من هذه الطرق «الاعتقاد المسبق»، التي تتمثل ببساطة في الاستمرار في الإيمان بالأشياء التي يعتقدها المرء مسبقا بالفعل أو الأشياء التي تشعره بالراحة. وتوجد طريقة أخرى تترسخ بها المعتقدات لدى الفرد وهي «السلطة»، مثل سلطة الكهنوت أو أعراف المجتمع التي تحدد المعتقدات والأفكار المحللة والمحرمة. وتلك السلطة غالبا ما تناهضها الأرواح الحرة؛ فالعديد من هؤلاء الأشخاص يشكلون معتقداتهم من خلال «التشبث» الذي يتضمن الركون إلى نظام عقدي والتشبث به بشجاعة، مهما كلف الأمر، وبغض النظر عما إذا كان صحيحا أو خاطئا.
وعلى الرغم من أن هذه الطرق الثلاثة لترسيخ المعتقد (الاعتقاد المسبق والسلطة والتشبث) تتسم بشيء يزكيها، فلا يعد أي منها خيارا ممتازا باعتبارها طرقا حصرية للوصول إلى الحقيقة . إذا كان الهدف الوصول إلى الحقيقة، فإن بيرس يقترح تبني نموذج العلوم؛ لأنها تتعامل مع المعتقدات بصفتها حالات شرطية حتى إن أجري عليها المزيد والمزيد من التجارب، ثم تجمع البراهين كي تقربنا أكثر وأكثر من الأفكار التي يحتمل أنها حقيقة.
وعلى الرغم من الدور المهم الذي أداه كل من بيرس وجيمس في التاريخ الفكري الأمريكي، فإن فيلسوفا براجماتيا آخر يعمل في مجال التعليم يدعى جون ديوي؛ هو من وضع تلك الأفكار في أول بناء ملموس للتفكير النقدي. (4) جون ديوي
درس جون ديوي في جامعة شيكاغو وجامعة كولومبيا بنيويورك منذ تسعينيات القرن التاسع عشر حتى عام 1930، ويعتبر من أهم المفكرين المشهورين في القرن العشرين. وعلى غرار ويليام جيمس، كان ديوي فيلسوفا براجماتيا، ومسهما أساسيا في النظريات المبكرة عن علم النفس البشري.
وبالرغم من ذلك، فأكثر ما يشتهر به ديوي الآن، هي إسهاماته في مجال التعليم. ذلك أن نموذجه التعليمي التقدمي يركز على ضرورة تعلم الطلاب من خلال الأنشطة القائمة على الاكتشاف، بدلا من شرح المعلم والتدريبات القائمة على الحفظ والتلقين، مما وضعه بين صفوف رواد التعليم الآخرين أمثال ماريا مونتيسوري الإيطالية ورودولف شتاينر النمساوي اللذين تؤثر أفكارهما حتى الآن في المدارس التي تتبع طريقة مونتيسوري، وتلك التي تتبع طريقة والدورف في جميع أنحاء العالم.
لا تزال الجدالات بين مؤيدي النموذج التقدمي في تعليم الأطفال وأنصار الطرق التقليدية مستمرة منذ وقت ديوي وحتى وقتنا هذا.
11
وعلى الرغم من اختلاف المفكرين أمثال ديوي ومونتيسوري وشتاينر في قضايا مثل العمر الذي ينبغي أن يتعلم فيه الطلاب القراءة، فإن ما يجمع بين أصحاب النموذج التقدمي هو الاعتقاد بضرورة عدم التعامل مع عقول الأطفال كأنها صفحات بيضاء يمكن أن تكتب عليها الشخصيات التي تمثل السلطة. وبدلا من ذلك، ينبغي التعامل معها على أنها محركات فضولية قادرة على تكوين فهمها الخاص إذا قدم المعلمون التوجيه بدلا من تقديم كل الإجابات.
يعكس الكثير من أعمال ديوي، بما فيها دوره الكبير في السياسة على مدار القرن العشرين، إيمانه العميق بالديمقراطية الذي كاد أن يقترب من الإيمان الديني. غير أن المجتمع الديمقراطي يستلزم أن يتمتع مواطنوه بالقدرة على تولي أدوار ريادية في حياتهم الخاصة وفي حكومتهم، وهو ما يتحقق بعوامل كثيرة؛ من بينها التحلي بالوعي والمعرفة اللازمين لحل المشكلات بطريقة منهجية ومنطقية.
أوضح كتاب ديوي الأشهر «الديمقراطية والتعليم»
12
كيف يمكن تأسيس منظومة التعليم الأمريكية لتنشئة مواطنين ديمقراطيين. لكن لكي نفهم ما كان يتوقعه ديوي من هؤلاء المواطنين، علينا أن نطلع أولا على كتابه الأسبق الذي صدر عام 1910 بعنوان «كيف نفكر».
13
يستند كتاب «كيف نفكر» إلى رؤية نفسية مستمدة من الأفكار البراجماتية التي كان بيرس أول من عبر عنها، وهي تصور التفكير على أنه وسيلة تؤدي إلى غاية تبديد الشك الذي هو حالة عقلية تخلق ألما داخليا يدفع المرء إلى فعل أي شيء كي يتخلص منه.
إن رغبة المرء في التخلص من الشك تفسر سلوك الأطفال وصغار السن وقدرتهم التي لا تضاهى في التعلم؛ إذ يقودهم فضولهم الطبيعي إلى استخدام أي ملكة متاحة، مثل اللمس أو الحركة أو اللغة، كي يفهموا العالم المحيط بهم.
بالرغم من ذلك، فمثلما أشار بيرس في كتاب «ترسيخ الاعتقاد»، يمكن تبديد الشك بطرق كثيرة، وبعضها أقل إيجابية ونفعا من البعض الآخر. يمكن على سبيل المثال تبديد الشك بتصديق أول تفسير يتلقاه الإنسان، أو باعتناق أفكار يطمئن إليها الفرد بالفعل، أو بقبول إجابات تقدمها رموز السلطة.
كانت مشكلة ديوي مع التعليم بنموذج المصنع الذي شهده في زمانه (ونشهده نحن في زماننا)، ويتمثل في أن المدرسين يقدمون الإجابات ويحرصون على أن يتعلمها الطلاب من خلال الشرح والتلقين، ولا يتعلمون غيرها؛ هي أن هذا النموذج في التعليم يكبت مهارة الاكتشاف الذي رأى أنه ينبغي تقديمه للطلاب من خلال أنشطة التعلم التي تتسم ب «الوضوح والفعالية». كانت المشكلة من وجهة نظر ديوي كما قال في كتاب «كيف نفكر» هي أنه «إذا أدخلت الأنشطة أصلا إلى المدرسة [التقليدية]، فإن دخولها يكون خضوعا مكروها للحاجة المتمثلة في توفير استراحة حينية من الإجهاد الناتج عن العمل الفكري المستمر، أو لصخب المطالب النفعية المفروضة على المدرسة من الخارج.»
14
في الوقت ذاته، انتقد ديوي المعلمين التقدميين ممن يرون أن الأنشطة القائمة على الاكتشاف غاية في حد ذاتها؛ إذ أشار إلى أنه: «على النقيض من ذلك، ثمة إيمان حماسي بوجود فاعلية تربوية هائلة لأي نوع من الأنشطة، ما دام نشاطا وليس استيعابا سلبيا للمواد الأكاديمية والنظرية.»
15
وأجاب ديوي على انتقادات من يرون أن التعليم القائم على الأنشطة يفتقر إلى النظام والمنهجية؛ من خلال تحديد سمات الأنشطة التي تؤدي إلى التعلم الفعال، على خلاف التطبيقات غير المدروسة بما يكفي للمبادئ التقدمية التي تفترض أن الأفضلية متأصلة في أي نشاط يلغي عناصر الفصل الدراسي التقليدي القائم على وجود المعلم.
16
ووفقا لديوي، تبدأ الأنشطة التعليمية الفعالة بتوفير أمثلة للطلاب تحفز الشك في عقولهم، مثل المسائل التي ليس لها حل واضح، خاصة في الموضوعات التي تهم كل طفل على حدة. وفور غرس ذلك الشك، تصبح مسئولية المعلم هي توجيه محاولات الطالب إلى تبديد ذلك الشك بطرق منطقية.
لم يستخدم ديوي كلمة «منطق» لوصف النماذج الشكلية المنطقية التي طورها المفكرون منذ أرسطو وحتى الفلاسفة الذين عاصروا ديوي. وبدلا من ذلك، استخدم المصطلح في كتاب «كيف نفكر»؛ للإشارة إلى طريقة الاستنتاج المستلهمة من العلوم، التي تتمثل في اقتراح حل لكنه يظل حلا مبدئيا إلى أن تجمع البراهين وتجرى الاختبارات كي تؤكد محاولة الحل الأولى أو تدحضها. وفي حالة دحض محاولة الحل، تستمر سلسلة من التجارب العقلية المماثلة؛ مما يؤدي في النهاية إلى تعلم عميق ودائم.
أطلق ديوي على هذا النموذج اسم «التفكير التأملي»، وأعطاه التعريف التالي: «إمعان النظر الدءوب والمستمر والدقيق في أي معتقد أو شكل مفترض من أشكال المعرفة، في ضوء المسوغات التي تدعمه، والاستنتاجات الإضافية التي يفضي إليها.»
17
وعلى الرغم من أن مؤلفين آخرين استعاضوا في النهاية بمصطلح «النقدي» عن مصطلح «التأملي»، فقد كان ديوي هو من وضع أول تعريف للتفكير النقدي، من بين التعريفات الكثيرة التي سترد في هذا الكتاب، ويمكن رؤية جميع المؤلفات اللاحقة عن هذا الموضوع باعتبارها حوارا مع الأفكار التي طرحت للمرة الأولى في كتاب «كيف نفكر». (5) تطور فهم التعليم والتنمية البشرية والسلوك.
طبق ديوي أفكاره عمليا (أو لنقل إنه أخضعها للاختبار لنكون أكثر تماشيا مع منظومة معتقداته) في «المدرسة النموذجية» بجامعة شيكاغو، وهي مؤسسة ساعد في تأسيسها ولا تزال قائمة حتى الآن، وتضم جميع المراحل قبل الجامعية، من الروضة وحتى المرحلة الثانوية.
على غرار المدارس التي تتبع منهج «مونتيسوري» ومنهج «والدورف»، فإن مدارس التعليم قبل الجامعي مثل «المدرسة النموذجية»، التي تأسست على الممارسات التعليمية التقدمية، قد أثرت في أنظمة التعليم العام التي كانت تتبنى نموذج المصنع، لكنها لم تحل محلها قط خلال القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت توسع أنظمة المدارس العامة على مستوى العالم؛ لاستيعاب عدد أكبر من طلاب ينتمون إلى بيئات كثيرة ومتنوعة. وبالرغم من ذلك، فمثلما انتشرت أفكار ديوي بين المعلمين في القرن التالي، استمرت المفاهيم الواردة في كتاب «كيف نفكر» في التطور، وأضافت إليها إسهامات من مجالات مختلفة تؤثر في تعريفات التفكير النقدي ونهجه السائدة اليوم.
أنتج بعض هذه الأعمال أكاديميون آخرون يعملون في مجال التعليم. ومن بين هؤلاء إدوارد جليسر الذي جاءت أطروحته لكلية المعلمين بكولومبيا عام 1941 بعنوان «تجربة في تطوير التفكير النقدي»، وقدمت الأطروحة أول تعريفات متعددة الأوجه للتفكير النقدي. وقد تضمن تعريف جليسر ثلاثة عناصر؛ هي: «(1) النزعة إلى التفكير المتعمق في المشكلات والموضوعات التي تقع في نطاق تجارب الفرد، (2) معرفة طرق الاستقصاء المنطقي والاستنتاج، (3) التحلي بقدر من المهارة في تطبيق هذه الطرق».
18
وفي العام ذاته، نشر جليسر وأحد أساتذة كلية المعلمين يدعى جودوين واتسون، اختبارات «واتسون-جليسر» للتفكير النقدي (وهو اختبار لا يزال موجودا إلى اليوم باسم تقييم «واتسون-جليسر» للتفكير النقدي)، وقد اعتمد هذا التقييم على أعمال واتسون السابقة في تقييم السمات العقلية المعقدة.
19
ومن الأدوات الأخرى التي صممت لتطبيق المبادئ العلمية على طريقة تفكيرنا: «تصنيف بلوم» الذي نشر عام 1956، ونظم الأهداف التعليمية في تسلسل هرمي يعبر عن مستويات التعقيد العقلي.
20
وقد ابتكرت هذه الأداة في الأساس لدعم المعلمين العاملين في منظومة التعليم العالي بالولايات المتحدة في إدارة التوسع السريع الذي أعقب الحرب، وقد استخدم التصنيف على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة وخارجها على جميع مستويات المراحل التعليمية.
مثلما يتضح في
1-1 ، بدأت النسخة الأصلية من تصنيف بلوم بعنصر «المعرفة» في قاعدة التسلسل الهرمي، ثم «الفهم» متبوعا ب «التطبيق» و«التحليل» و«التركيب» و«التقييم». وفي النسخة المحدثة عام 2001 والموضحة أيضا فيما سبق، يأتي «الابتكار» (أو «ابتكر») على رأس القائمة، مع إجراء بعض الإضافات والتعديلات التي عبرت عن التفكير الجديد بشأن كيفية تطوير الإنسان للمعلومات وتعلمها ومعالجتها.
شكل 1-1:
Courtesy of Leslie Owen Wilson (2001).
https://thesecondprinciple.com/teaching-essentials/beyond-bloom- cognitive-taxonomy-revised/ .
إذا كان نموذج الصفحة البيضاء للعقل البشري قد بدأ ينهار مع بداية القرن العشرين، فقد اندثر تماما بحلول منتصف القرن حينما توصل علماء النفس إلى معلومات جديدة بشأن طريقة نمو الدماغ وعمله.
في مجال علم نفس النمو على سبيل المثال، كان باحثون من أمثال جين بياجيه السويسري يتعلمون من خلال الدراسة الطويلة المدى على الأطفال أن النمو الجسدي والعاطفي والعقلي يحدث في مراحل منفصلة، مما يوضح فائدة تنمية قدرات محددة لدى الصغار في المرحلة المناسبة من نموهم.
شهد القرن العشرون أيضا تطورات في تقنيات الجراحة وتكنولوجيا الطب مما سهل التعرف المباشر على كيفية عمل العضو المسئول عن كل أنواع التفكير؛ نقديا كان أو غير نقدي، ألا وهو الدماغ البشري. فعلى سبيل المثال، ساعدت قدرة الجراحين على إنقاذ حياة المرضى بإصابات حادة في الدماغ، في تحديد وظائف مناطق معينة في الدماغ؛ مما أتاح للعلماء دراسة السلوكيات والقدرات لدى من تعطلت لديهم الوظائف في منطقة أو أكثر من تلك المناطق في الدماغ. إضافة إلى ذلك، فإن التطورات التي سمحت للأطباء بالحفاظ على سلامة المريض مدة أطول، وفرت الفرص لرصد نشاط الدماغ في أثناء خضوع المريض للعملية الجراحية.
على مدار عقود، تطورت تقنيات طبية غير جراحية مثل التصوير بالرنين المغناطيسي وتحليل تخطيط كهربية الدماغ؛ فمنحت الباحثين القدرة على «رؤية» النشاط الفيزيائي والكهربي في الدماغ في أثناء تنفيذه للمهام. ومثلما هو الحال في علم نفس النمو، قدم مجال علوم الدماغ الجديد أفكارا أساسية، مثل العمليات الفيزيائية المعنية بتشفير الذكريات واسترجاعها، وكان لهذه الأفكار دور مهم في فهمنا لطريقة التفكير.
أسهمت الأبحاث التي أجريت بشأن كيفية عمل الدماغ أيضا في وضع طرق تدريس، مبنية على الأدلة التي جمعت بشأن الطريقة التي يبدو أن الدماغ يعمل بها. فعلى سبيل المثال، بينما رأى ديوي نجاحا كبيرا في الأنشطة التي كانت تستلزم من الطلاب استخدام المعلومات والأفكار التي فهموها مسبقا، قدمت الأبحاث في مجال تكوين الذاكرة أدلة علمية على فاعلية البناء على معرفة سابقة.
21
أسهم رائدان آخران بأفكار قيمة عن كيفية عمل العقل البشري؛ وهما عالما النفس الإسرائيليان دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي، اللذان شككت أبحاثهما المبتكرة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته في فاعلية التفكير المنطقي ذاته واستقراره.
منذ زمن أرسطو ساد الافتراض بأن التفكير المنطقي هو ما يميز الإنسان عن باقي الحيوانات. وبناء على هذا الفهم، كان السلوك البشري غير العقلاني يعزى إلى غلبة العواطف أو الغرائز الحيوانية البدائية على التفكير المنطقي. بالرغم من ذلك، فحسبما أوضح كانمان وتفيرسكي من خلال سلسلة من التجارب المثيرة للاهتمام، فإن تفكيرنا المنطقي معيب من عدة مناح مهمة.
يتضح أن العقل البشري لا يستخدم قوته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقا مختصرة كي يزيد من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسنا، ومن ثم تحويل تلك المعلومات إلى فهم تبنى عليه القرارات. تسمى تلك الطرق المختصرة «الحدس المهني» ومن المحتمل أنها نتجت عن الانتقاء الطبيعي. إذا آمن إنسان بدائي من دون أدلة مقنعة أن صوت الحفيف في الأدغال على سبيل المثال، يدل على اقتراب حيوان مفترس، فقد كان سيحظى بميزة تطورية يتفوق بها على من قرروا أن الموقف يحتاج إلى مزيد من الدراسة قبل اختيار الفرار أو البقاء.
يتضح أن العقل البشري لا يستخدم قوته الكاملة من التفكير المنطقي في كل المواقف، بل يتخذ طرقا مختصرة كي يزيد من كفاءة إدارة المعلومات المتدفقة من حواسنا، ومن ثم تحويل تلك المعلومات إلى فهم تبنى عليه القرارات.
لكن هذه الطرق المختصرة نفسها تخلق تحيزات قد تتسبب في فشل التفكير المنطقي. على سبيل المثال، يذكر كانمان في كتابه الأكثر مبيعا «التفكير السريع والبطيء»، إحدى هذه التحيزات ويسمى «تأثير الارتساء».
يحدث هذا التأثير عندما يضع الناس قيمة معينة لكمية مجهولة قبل تقدير تلك الكمية ... إذا سئلت عما إذا كان عمر غاندي عند موته 114 سنة، فسينتهي بك الأمر إلى تقدير عمره عند موته بقيمة أعلى كثيرا مما لو كان سؤال الارتساء يشير إلى موته في سن الخامسة والثلاثين. وإذا فكرت في الثمن الذي ينبغي دفعه لشراء منزل ما، فستتأثر بالسعر المطلوب. إذا كان السعر المدرج مرتفعا، فستبدو قيمة المنزل ذاته أعلى مما لو كان السعر منخفضا، حتى وإن كنت عازما على مقاومة تأثير هذا الرقم ... إن أي رقم يطلب منك اعتباره حلا محتملا لإحدى مسائل التقدير سيحفز تأثير الارتساء.
22
من الأمثلة الأخرى على هذه التحيزات، «التوافر الإرشادي» الذي قد يجعل البشر متحيزين إلى اتخاذ خيارات بناء على المقارنات التي تخطر على بالهم بسهولة. فعلى سبيل المثال، قد يتأثر اختيار أحد الأشخاص للكلية التي يلتحق بها بمحادثة قريبة أجراها مع صديق عن تجاربه في تلك الكلية، أكثر مما يتأثر بالمقارنات التفصيلية التي أجراها سابقا. يوجد مثال آخر أيضا على هذه التحيزات، وهو «الاستدلال العاطفي» الذي يربط التجارب بالحالات العاطفية، وغالبا ما تكون هذه الحالات العاطفية لا تمت بصلة إلى التجربة ذاتها. فقد تزيد نزعة الشخص مثلا إلى شراء بطاقة يانصيب بناء على تجارب سعيدة أو تعيسة مر بها مؤخرا، لا احتمالات المكسب والخسارة في ذلك اليوم بعينه.
إن التحيزات الناتجة من هذه الأنواع من الاستدلال، بمثابة نظائر عقلية للخدع البصرية،
23
لكنها ليست بالخدع البريئة على الإطلاق حين يتعلق الأمر بالتفكير النقدي. فلنتناول المثال الأكثر وضوحا وهو «التحيز التأكيدي»، الذي يتمثل في ميل الإنسان إلى قبول المعلومات التي تؤكد معتقداته الحالية، ونبذ المعلومات التي تتعارض مع تلك المعتقدات، ويمكن اعتباره سببا أساسيا في العديد من السلوكيات غير العقلانية والتصرفات الهمجية المتفشية في الكوكب في عصرنا الحاضر.
إن وجود التحيزات يعني أن القدرة على التفكير النقدي تستلزم ما هو أكثر من فهم الأدوات العقلية مثل المنطق والمهارات التي تتطور بتطبيق تلك الأدوات. وإنما يستلزم أيضا فهم عوامل التعصب التي يتعرض لها تفكيرنا المنطقي، وتدريب أنفسنا على التفكير في تلك النقائص والتحكم فيها. (6) نقطة تحول
وقعت «لحظة فارقة» عام 1983 في تدريس مهارات التفكير النقدي لطلاب التعليم العالي حين ألزم نظام جامعة ولاية كاليفورنيا جميع الطلاب بإكمال دورة تدريبية عن التفكير النقدي قبل التخرج، وكان من شأن تلك الدورة أن تساعدهم في «فهم العلاقة بين اللغة والمنطق؛ مما يؤدي إلى قدرتهم على تحليل الأفكار ونقدها ومناصرتها، والتفكير بالطرق الاستقرائية والاستنباطية، ثم الوصول إلى استنتاجات بشأن الحقائق أو الآراء بناء على استدلالات صحيحة مستمدة من ادعاءات غير غامضة من المعرفة أو الاعتقاد.»
24
كان هذا الشرط ينطوي على افتراضات كثيرة بشأن العناصر التي تشكل مهارات التفكير السديد، مع افتراض إمكانية تدريس تلك المهارات.
كان مؤيدو تشريع ولاية كاليفورنيا، وهم مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة التي شكلت «حركة التفكير النقدي»،
25
يأملون أن تلهم المبادرة الجديدة الولايات الأخرى بوضع شروط مماثلة للتخرج. على الرغم من قلة الولايات التي اتبعت مبادرة ولاية كاليفورنيا، فقد أدى القرار إلى انتشار الدورات التدريبية المعنية بالتفكير النقدي في التعليم العالي بربوع البلاد. أدى هذا التوسع إلى إنشاء مئات المواقع الجديدة لإجراء التجارب في تدريس التفكير النقدي إضافة إلى زيادة هائلة في الأبحاث التي تتناول تدريس التفكير النقدي بداية من ثمانينيات القرن العشرين وحتى وقتنا هذا.
كان العام 1983 أيضا، هو العام الذي نشرت فيه «اللجنة الوطنية للتميز في التعليم» التي كلف الرئيس رونالد ريجان بإنشائها، تقريرا عظيم الأثر بعنوان «أمة في خطر».
26
أوضحت هذه الدراسة أن منظومة التعليم الأمريكي متخلفة عن المنظومات التعليمية في بلدان أخرى، مما قد يعرض اقتصاد الدولة وأمنها العسكري وغيرها من القطاعات إلى الخطر. ونتيجة لعمل اللجنة، أصبح من الأولويات الوطنية تحسين المدارس عبر ممارسات المساءلة التي ترتكز على معايير أكاديمية صارمة، وإجراء تقييمات منتظمة للطلاب في المراحل التعليمية.
ومثلما هي الحال مع العديد من موضوعات هذا الفصل، لا يتسع المقام في هذا الكتاب لسرد جميع التفاصيل المتعلقة بمجموعة المبادرات السياسية التي حفزها تقرير «أمة في خطر»، بداية من سن قانون «عدم إهمال أي طفل» في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، ثم مبادرة «السباق نحو القمة» في عهد الرئيس باراك أوباما، وحتى المناقشات الجارية عن الاعتماد المفرط على الاختبارات القياسية. بالرغم من ذلك، فمثلما أن «عصر الإنجازات»
27
الذي حفزه تقرير «أمة في خطر»، قد حدد أطر السياسات التعليمية عقودا، فإن النقاشات الدائرة عن التفكير النقدي وغيره من «مهارات القرن الحادي والعشرين» مثل التواصل والتعاون؛ أصبحت نقاطا أساسية في السياسات، ويسترشد بها في وضع معايير قائمة على التخصص؛ مثل المعايير الحكومية الأساسية المشتركة.
انطلاقا من مختلف التطورات التعليمية المذكورة فيما سبق، التي تزامنت مع مناقشات السياسات التعليمية على مستوى العالم،
28
حدث الانتقال من الاقتصاد القائم على الصناعة إلى الاقتصاد القائم على المعرفة، الذي يفضل المهارات مثل القدرة على التفكير الفعال والتواصل المقنع والعمل الجماعي؛ على القدرة على استيعاب المعلومات الخام واجترارها. ولما صار الوصول إلى المعلومات الخام سهلا للغاية؛ بنقرة من زر أو تمرير إصبع على الهاتف، فيجب على أفراد المجتمع في «عصر المعلومات» أن يتعلموا كيفية تلك المعرفة بفعالية تلك المعلومات؛ وذلك بالتفكير فيها بوضوح، وبأسلوب نقدي. (7) المواد الدراسية اليتيمة
عام 1892، أوصت مجموعة من التربويين بقيادة رئيس جامعة هارفارد تشارلز إليوت أطلق عليها «لجنة الأعضاء العشرة»، بوضع مناهج قياسية للمراحل التعليمية من الابتدائية وحتى الثانوية، على أن تستند هذه المناهج إلى مواد دراسية مثل القراءة والكتابة والرياضيات والعلوم (مقسمة إلى مواد فرعية مثل الفيزياء والكيمياء)، ولا تزال تلك التوصيات مؤثرة في هيكل التعليم للمراحل قبل الجامعية في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم.
29
اتسع هذا الهيكل للعديد من المواد الجديدة التي تتناول مجالات شاسعة من المعرفة ، لا سيما المعارف العلمية، التي أنتجت منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا. ولكنها خلقت أيضا مواد دراسية يتيمة مثل المنطق والبلاغة، وهي ما كان يشكل حجر الأساس للنماذج التعليمية السابقة.
لم تنبذ المواد الدراسية مثل المنطق من المناهج بالكامل. فلا تزال تخصص لها دورات تدريبية كاملة تدرس في العديد من مؤسسات التعليم العالي، إن لم يكن في معظمها، وإذا اعتبرنا أن برمجة الكمبيوتر وريثة النظم المنطقية الأصلية التي وضعها أرسطو، فسنجد أن عدد الطلاب الذين يدرسون التطبيقات العملية للمنطق أكبر من ذي قبل.
بالرغم من هذا، فإن التفكير النقدي يستلزم من المرء فهم عدد من الأفكار المستلهمة من الأحداث والتطورات المذكورة في التاريخ الفكري والتعليمي الذي تناولناه في هذا الفصل. ثم إن التفكير النقدي مهارة مبنية على تلك المعرفة، أي إنه تجب ممارسة العناصر التي يتألف منها قبل استخدام التفكير النقدي استخداما فعالا في مواقف قد تؤدي فيها القرارات المستنيرة إلى نتائج مفيدة. علاوة على ذلك يتطلب التفكير النقدي اكتساب عادات تلهم الشخص باتباع مسار التفكير النقدي بدلا من اتباع الطرق المختصرة لنبذ الشك الذي قد يؤدي إلى قرارات خاطئة، مثل تصديق أي شيء يقال للإنسان.
مع استمرار السجالات بشأن ما ينبغي إدراجه ضمن قائمة المعرفة والمهارات والسمات اللازمة للتحلي بمهارة التفكير النقدي، يوجد بين دارسي التفكير النقدي ومعلميه إجماع يكفي لتحديد ما ينبغي إدراجه في مناقشة عن التفكير النقدي وما ينبغي استبعاده. وهذا هو الموضوع الذي سنتناوله في الفصل التالي.
الفصل الثاني
عناصر التفكير النقدي
بعد أن تعرفنا على الأصول التي أنتجت مفهوم التفكير النقدي، حان الوقت كي ندرس العناصر التي ينبغي معرفتها والتحلي بها؛ كي يصبح الإنسان مفكرا نقديا.
عند الاطلاع على المؤلفات البحثية عن التفكير النقدي أو حتى بعملية بحث بسيطة على محرك البحث جوجل، ستظهر مجموعة من التسلسلات الهرمية والتصنيفات والمخططات التي تصف المعارف والمهارات والسمات الشخصية التي ينبغي أن يتحلى بها المفكر النقدي، وتوضح ذلك كله. لكن حتى في داخل هذه الأوصاف التي تتداخل وتتنافس في بعض الأحيان، توجد مجموعة من العناصر التي تبدو متسقة بما يكفي للاتفاق على أنها من عناصر التفكير النقدي.
سيتناول هذا الفصل العناصر المتفق عليها، مثل التفكير المنظم أو المنطق، والمهارات اللغوية والمجادلة، مع تقديم بعض المهارات والسمات الأخرى؛ مثل الابتكار والسمات الشخصية، التي يرى عدد كبير من الباحثين والمعلمين أنها ضرورية من أجل التفكير النقدي. (1) التفكير المنظم
لقد فضلت استخدام لفظة «التفكير المنظم» على لفظة «المنطق» لتوضيح وجود عدة طرق مختلفة لتنظيم التفكير، وأن تدريب النفس على التفكير بطريقة منظمة أهم للتفكير النقدي من الطريقة التي نختارها. بالرغم من ذلك، فإن المفكر النقدي يدين للمنطق بالكثير؛ إذ إن نسق التفكير المنظم التالية كلها مبنية على أساس منطقي من أجل الوصول إلى الغايات ذاتها:
التعبير عما نفكر فيه نحن أو الآخرون، أو نحاول إيصاله بوضوح.
التصريح بالأسباب الدافعة لما نؤمن به أو نريد الآخرين أن يؤمنوا به.
القدرة على تحديد ما إذا كان المعتقد له مسوغات أم لا. (2) تعريفات وفروق
قبل تقديم نسق منطقية محددة، يجب مراعاة أن تلك النسق عادة ما تندرج تحت فئتين كبيرتين. الفئة الأولى هي المنطق «الصوري»، تركز هذه الفئة على بنية الحجج، ويقدم العديد من ضروب المنطق الصوري تمثيلات رمزية قوية للعبارات والأفكار التي ثبتت فائدتها الكبيرة (ولتسل أي عالم منطق أو مبرمج كمبيوتر عن ذلك). أما الفئة الثانية وهي «المنطق غير الصوري» فتعنى ببنية الحجج ومعاني الكلمات داخل تلك البنى من أجل تطبيق المبادئ المنطقية على التواصل اليومي.
على الرغم من أن المنطق الصوري، بما في ذلك العديد من النسق التي ابتكرت على مدار القرنين الماضيين، يوفر طرقا جديدة للبحث في المشكلات المعاصرة والقديمة،
1
فإن تدريس التفكير النقدي يركز بدرجة أكبر على المنطق غير الصوري، ويتضح ذلك في اسم الجمعية الأمريكية لمعلمي التفكير النقدي: «جمعية المنطق غير الصوري والتفكير النقدي».
2
يستخدم كل من المنطق الصوري وغير الصوري مجموعة من المصطلحات المشتركة، ومنها ما يلي:
الحجة:
مجموعة من الجمل التي تقدم برهانا يدعم الاستنتاج.
المقدمة المنطقية:
إحدى جمل البرهان الواردة في الحجة.
الاستنتاج:
ادعاء في الحجة بأن المجادل يطلب قبول صحة حجته إذا كانت المقدمات صحيحة.
الاستدلال:
خطوات التفكير المنطقي التي تؤدي من المقدمات إلى الاستنتاج.
الصيغة المنطقية:
البنية المجردة للحجة، ويمكن التعبير عنها رمزيا بصورة مستقلة عن الكلمات التي تتألف منها الحجة.
الصلاحية:
صفة الحجة التي «تأتي في صيغة يستحيل معها أن يكون الاستنتاج خاطئا على الرغم من صحة المقدمات.»
3
الوجاهة:
صفة الحجة التي تتسم بصحة المقدمات وصلاحية الصيغة المنطقية.
مع استخدام هذه التعريفات، يجب الانتباه إلى فرق آخر؛ وهو الفرق بين المنطق «الاستنباطي» والمنطق «الاستقرائي». تتسم الحجج الاستنباطية بأنها «قائمة بذاتها»؛ أي إن كل ما يلزم لتحديد إذا ما كان الاستنتاج صحيحا أم لا، يوجد بالفعل في المقدمات والصيغة التي تتخذها الحجة. ويشير مصطلح «الصلاحية» إلى الحجة الاستنباطية التي تستلزم من الفرد قبول صحة الاستنتاج إذا قبل بصحة المقدمات. وعلى المنوال نفسه، تطلق صفة الوجاهة على الحجة الاستنباطية الصالحة ذات المقدمات الصحيحة بالفعل.
أما في الحجج الاستقرائية، فإن قبول صحة المقدمات قد يدعم احتمالية صحة الاستنتاج لكنه لا يضمن حتمية صحته. وعلى النقيض من طبيعة «الكل أو لا شيء» التي تتسم بها الحجج الاستنباطية، فإما أن تكون صالحة أو غير صالحة، يمكن تقييم الحجج الاستقرائية بدرجات من القوة أو الضعف. قد يعتمد هذا التقييم على احتمالية صحة الاستنتاج، وعلى إمكانية قبول مقدمات الحجة وترابطها وكفايتها.
4
إن حقيقة أن الحجج الاستقرائية غير صالحة جوهريا (بسبب الاحتمالية الدائمة في العثور على مثال مضاد يدفع المرء إلى قبول صحة المقدمات مع رفض الاستنتاج في الوقت ذاته)، قد تصور لك أن المنطق الاستنباطي أفضل من المنطق الاستقرائي. لكن العديد من الحجج التي نتعرض لها في الحياة اليومية، إن لم يكن معظمها، استقرائية لا استنباطية. فالجدالات التي تدور بشأن ما ينبغي فعله في المستقبل على سبيل المثال، كتغيير أحد قوانين الضرائب أو شراء غسالة أطباق من علامة تجارية معينة دون غيرها، تتضمن في الغالبية العظمى من الأحيان مقدمات أو استنتاجا يصف شيئا لم يحدث بعد، فيحول ذلك دون إثبات صحة هذه المقدمات أو الاستنتاج إلا بعد اتخاذ القرار الناتج عن تلك الحجة.
حتى العلوم وهي أحد أنجح تطبيقات التفكير المنطقي في تاريخ البشرية، تعتمد في الأساس على المنطق الاستقرائي. فالحجة المتمثلة في أن الشمس ستشرق غدا على سبيل المثال، يقوم على الرجحان لا اليقين؛ بناء على أن الشمس قد أشرقت كل يوم على مدار التاريخ. وبالمثل، عندما كان شيرلوك هولمز «يستنتج» هذا الاستنتاج أو ذاك من الأدلة المتاحة، فإنه غالبا ما كان يستخدم المنطق الاستقرائي لتحديد التفسير الأرجح لما يرصده.
ومع مراعاة هذه التعريفات والفروق، لنطلع على طرق التفكير المنطقي وأمثلته ولنبدأ بالنسق التي ابتكرها أرسطو. (3) قياسات أرسطو المنطقية
كما ورد في الفصل السابق، كان أرسطو هو من ابتكر أول نسق منطقي يستخدم على نطاق واسع، وأصبح هذا النسق أساس تدريس المادة الدراسية قرونا.
وقد تمثل حجر الأساس لنسقه في «القياس المنطقي»، وهي حجة تتألف من ثلاث جمل (ثلاث فقط) وهي: «المقدمتان» (الأشياء التي تطلب من المستمع أن يقبل بصحتها)، وجملة «الاستنتاج» (وهي الجملة التي تقولها ويجب على المستمع أن يصدق صحتها إذا قبل بصحة المقدمتين).
في القياس المنطقي، يجب كتابة كل من المقدمات والاستنتاج بإحدى الطرق التالية:
كل س هو ص (عبارة «كلية موجبة»).
لا يوجد س هو ص (عبارة «كلية سالبة»).
بعض س هو ص (عبارة «جزئية موجبة»).
بعض س ليس ص (عبارة «جزئية سالبة»).
وفيما يلي مثال بسيط:
المقدمة المنطقية الأولى:
كل [الكلاب] «حيوانات».
المقدمة المنطقية الثانية:
كل (الكولي) [كلاب].
الاستنتاج:
إذن، كل (الكولي) «حيوانات».
يلاحظ في تلك الجمل أنها مكتوبة بصيغة معينة تتكون من مقدمة منطقية أساسية (الجملة الأولى)، ومقدمة منطقية ثانوية (الجملة الثانية)، والاستنتاج (الجملة الأخيرة). تتضمن المقدمة المنطقية الأساسية «الحد الأكبر» (المكتوب بين علامتي التنصيص)، الذي يرد في إحدى المقدمتين المنطقيتين ويصبح المسند في الاستنتاج. وتتضمن المقدمة المنطقية الثانوية «الحد الأصغر» (المكتوب بين قوسين هلاليين) الذي يرد في إحدى المقدمتين ويصبح المسند إليه في الاستنتاج، بينما يرد «الحد الأوسط» (المكتوب بين قوسين مربعين) في المقدمتين لكنه لا يرد في الاستنتاج.
في هذا المثال، كتبت المقدمتان والاستنتاج بعبارات كلية موجبة (أي بصيغة «كل س هو ص»). ووفقا للنظام الأرسطي، فإن أي حجة مكتوبة بالصيغة المناسبة وبالتنظيم الصحيح للحدود الأكبر والأصغر والأوسط؛ حيث تتألف كلها من عبارات كلية موجبة (يسمى بقياس التوكيد العام “AAA” )، هي حجة «صالحة» مما يعني أن قبول صحة المقدمات يقتضي قبول صحة الاستنتاج.
يمكنك اختبار ذلك بنفسك من خلال طرح السؤال: هل توجد أي طريقة لقبول صحة المقدمتين: («كل الكلاب حيوانات»، و«كل الكولي كلاب»)، مع رفض الاستنتاج بأن «كل الكولي حيوانات»، عن طريق التوصل إلى مثال مضاد يقضي بقبول المقدمتين ورفض الاستنتاج؟ إذا لم توجد طريقة مثلما هي الحال في هذا المثال، فإن المنطق الداعم لهذا القياس المنطقي محكم.
مثلما تبين، يوجد 256 توليفة مختلفة من فئات العبارات: الكلية الموجبة والكلية السالبة والجزئية الموجبة والجزئية السالبة، يمكن تضمينها في قياس منطقي مكون من ثلاث عبارات ومكتوب بصيغة سليمة، لكن أربعة وعشرين قياسا منها فقط هي التي تعطي استنتاجات صالحة. وهذا يعني أن قياسنا المنطقي الذي يتضمن كلاب الكولي والمبني بصيغة التوكيد العام، ليس هو القياس الوحيد الصالح، بل إن أي قياس منطقي تبنى فيه الحدود الأكبر والأصغر والأوسط ببنية التوكيد العام، هو قياس صالح أيضا. وإذا كانت مقدمات تلك الحجج صحيحة بالفعل، فستكون الحجج سليمة.
يوفر التفكير المنطقي القياسي طريقة آلية للتمييز بين الحجج الصالحة وغير الصالحة. والحق أن طلاب المنطق ظلوا على مدار قرون طويلة يدرسون أنواع الأغاني والقصائد كافة، وغيرها من حيل تقوية الذاكرة لحفظ أنواع القياسات المنطقية التي تؤدي إلى الصلاحية. أدى هذا إلى جعل التحليل المنطقي عملية تتمثل في ترجمة الحجة المنطوقة أو المكتوبة إلى قياس منطقي مكون من ثلاث عبارات سليمة البنية، ثم تحديد إن كانت تلك البنية ملائمة لواحدة من الحالات الصالحة الأربع والعشرين أم لا.
على الرغم من أن نظام أرسطو كان إنجازا فكريا كبيرا، فقد قدمت التطورات اللاحقة مثل منطق القضايا، صيغا منطقية أخرى يمكن استخدامها للتعبير عن الحجج الصالحة التي لا يستوعبها القياس الأرسطي المنطقي، مثل الصيغ التي تتضمن أكثر من مقدمتين.
5 (4) صيغ منطقية أخرى
هناك صيغتان منطقيتان صالحتان يتكرر ظهورهما في الحجج المنطقية، وهما «طريقة التأكيد» و«طريقة الإنكار».
تتخذ طريقة التأكيد الصيغة العامة التالية:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا تحقق س، فسيتحقق ص.
المقدمة المنطقية الثانية:
تحقق س.
الاستنتاج:
إذن، تحقق ص.
في هذه الحالة، تضع المقدمة الأولى حالة شرطية عامة مع المقدمة الثانية التي تقول بتحقق هذا الشرط أو عدم تحققه.
وفيما يلي مثال واقعي على حجة بصياغة طريقة التأكيد:
المقدمة الأولى:
إذا هطلت الأمطار، فستلغى مباراة الكرة.
المقدمة الثانية:
هطلت الأمطار.
الاستنتاج:
إذن، ستلغى مباراة الكرة.
فيما يلي حجة أشهر (على الأقل بين معلمي المنطق)، وتلك الحجة يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر بعد الميلاد على أقرب تقدير:
المقدمة المنطقية الأولى:
كل البشر فانون.
المقدمة المنطقية الثانية:
سقراط من البشر.
الاستنتاج:
إذن، سقراط فان.
وإذا كتبنا الحجة بصيغة التأكيد، فستصبح بالشكل التالي:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا كان سقراط إنسانا، فسيكون فانيا.
المقدمة المنطقية الثانية:
سقراط إنسان.
الاستنتاج:
إذن، سقراط فان.
وهذا مثال آخر على الحجج الاستنباطية الصالحة، التي يستلزم القبول بصحة مقدماتها القبول بصحة الاستنتاج. ومثلما هي الحال مع كل الحجج الصالحة، إذا كانت مقدمات الحجة صالحة، فستكون الحجة سليمة.
ومن الأمثلة الأخرى على الصيغ المنطقية الصالحة، طريقة الإنكار، وتتخذ البنية الرمزية التالية:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا تحقق س، فسيتحقق ص.
المقدمة المنطقية الثانية:
لم يتحقق ص.
الاستنتاج:
إذن، لم يتحقق س.
وفيما يلي مثال واقعي على حجة بطريقة الإنكار:
المقدمة المنطقية الأولى:
لو كانت إريكا خريجة جامعية، لحصلت على دبلومة.
المقدمة المنطقية الثانية:
إريكا لم تحصل على دبلومة.
الاستنتاج:
إذن، إريكا ليست خريجة جامعية.
كما هو الحال مع أمثلة طريقة التأكيد، فإن هذه الحجة المصوغة بطريقة الإنكار صالحة. ويمكن تفنيدها بالسؤال مثلا عما إذا كان الحصول على الدبلومة ضروريا للتثبت مما إذا كان الشخص تخرج في الجامعة أو لا (أو ربما توضيح أن عدم حصول إريكا على الدبلومة لا ينفي أنها تخرجت في الجامعة). لكن هذا التفنيد يعالج حقيقة إحدى المقدمتين (المقدمة المنطقية الأولى)، وليس الاستدلال الذي يربط بين المقدمتين والاستنتاج. إذا استطعنا توضيح أن الحصول على الدبلومة ليس من شروط إثبات التخرج في الجامعة؛ فهذا سيبين أن الحجة غير سليمة (لأن إحدى المقدمتين خاطئة)، وإن كانت لا تزال صالحة.
6 (5) أمثلة من الحياة الواقعية
هذه الأمثلة البسيطة التي سبق ذكرها هي النوع الذي قد تجده في كتب المنطق والتفكير النقدي. لكن المنطق جزء لا يتجزأ من التفكير النقدي بشأن العالم؛ لأن جميع عمليات التواصل اليومية يمكن أن تقسم إلى مقدمات واستنتاج، بطريقة تتلاءم مع صيغة أو أكثر من الصيغ المنطقية. على سبيل المثال، لنفترض أنك تحضر حفل عشاء وقال أحد الحضور العبارة التالية:
المنظمات المتعددة الجنسيات خطيرة! وينبغي لأي بلد يحترم نفسه التوقف عن تمويلها على الفور. تلك المنظمات تفوح منها رائحة الفساد وهي مضيعة كبيرة لأموال الضرائب التي يدفعها الشعب، ثم إنها تهدد حق البلد في تقرير مصيره.
بقليل من التعديل، يمكن تحويل هذا الحوار إلى القياس المنطقي التالي:
المقدمة المنطقية الأولى:
كل البلدان المحترمة كيانات ينبغي ألا تمول المنظمات الفاسدة التي تهدر أموال الضرائب التي يدفعها الشعب، وتهدد حق البلد في تقرير مصيره.
المقدمة المنطقية الثانية:
كل المنظمات المتعددة الجنسيات فاسدة وتهدر أموال الضرائب التي يدفعها الشعب، وتهدد حق البلد في تقرير مصيره.
الاستنتاج:
كل الدول المحترمة كيانات ينبغي ألا تمول المنظمات المتعددة الجنسيات.
ويمكن صياغة الحجة أيضا بطريقة التأكيد على النحو التالي:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا كانت إحدى المنظمات فاسدة وتهدر أموال الضرائب وتهدد حق البلد في تقرير مصيره، فينبغي لكل البلدان المحترمة ألا تمولها.
المقدمة المنطقية الثانية:
المنظمات المتعددة الجنسيات فاسدة وتهدر أموال الشعب وتهدد حق البلد في تقرير مصيره.
الاستنتاج:
لا ينبغي للبلدان المحترمة أن تمول المنظمات المتعددة الجنسيات.
لاحظ أن صيغتي الحجة تئولان إلى حجتين صالحتين؛ إذ يقتضي قبول صحة المقدمات المنطقية قبول صحة الاستنتاج. وعلى الرغم من ذلك، فمن السهل تفنيد إحدى المقدمتين المنطقيتين في الصيغتين كلتيهما، وهي تلك التي تنطوي على أن كل المنظمات المتعددة الجنسيات فاسدة وتهدر أموال الشعب وتهدد حق البلد في تقرير مصيره، وذلك من خلال ذكر مثال واحد لمنظمة متعددة الجنسيات ولا تتسم بواحدة من السمات الثلاث السلبية المذكورة. ومن ثم، فإن الحجة التي طرحت في حفل العشاء التي تدين المنظمات المتعددة الجنسيات حجة صالحة، لكنها غير سليمة.
إن تحويل الحجج اليومية إلى صيغ منظمة يوضح طريقة التفكير التي تدعم تلك الحجج، مما يتيح الفرصة لتقييم إذا ما كانت الحجة تقدم أدلة كافية لتصديق الاستنتاج أو لا. وكما رأينا في التحليل الذي يوضح عدم وجاهة الحجة التي طرحت في حفل العشاء بسبب عدم صحة إحدى المقدمتين المنطقيتين، فإن الكلمات التي تتألف منها الحجة تقدم، هي أيضا، معلومات لتحليل رصانة الحجة.
إن طرق المنطق غير الصوري التي تتيح كتابة مقدمات الحجة واستنتاجها بلغة الحياة الواقعية، توفر المرونة في الاستخدام اليومي لمبادئ المنطق، مما يجعل للمنطق غير الصوري دورا بالغ الأهمية في تدريس التفكير النقدي. على سبيل المثال، لنقل إن أحدا رد على الحجة الأصلية آنفة الذكر، بما يلي:
هذا هراء! أعمل لصالح منظمة متعددة الجنسيات، وكل دولار نحصل عليه من الحكومات ينفق في مساعدة الناس؛ لذا فالمنظمة ليست بالفاسدة أبدا. وأموال التبرعات التي توجه إلى منظمات مثل منظمتنا، تنشر الخير على مستوى العالم. لذا فالمنظمات المتعددة الجنسيات تفيد البلدان التي تمولها ولا تضرها.
يمكن تحويل تلك العبارات إلى الحجة المنظمة التالية.
المقدمة المنطقية الأولى:
المنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تنفق كل دولار في مساعدة الناس.
المقدمة المنطقية الثانية:
المنظمات التي تنفق كل أموالها في مساعدة الناس ليست فاسدة.
المقدمة المنطقية الثالثة:
الأموال التي تمنحها البلدان للمنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تعود بالنفع على البلدان المانحة.
المقدمة المنطقية الرابعة:
العمل مع منظمة تعود بالنفع على البلدان المانحة، سيفيد تلك البلدان.
الاستنتاج:
منح الأموال إلى المنظمات المتعددة الجنسيات يفيد البلدان التي تمولها ولا تضرها.
في هذه الحالة، تتضمن الحجة أربع مقدمات واستنتاجا، وجميعها مكتوب بلغة سهلة الفهم. ومع ذلك، فكما هو الحال مع القياس المنطقي، يمكن اختبار صلاحية تلك الحجة الأقل تقييدا بطرح السؤال التالي: «إذا قبلت بصحة كل مقدمة، فهل يستلزم ذلك قبول صحة الاستنتاج؟» في هذه الحالة، يسهل الوصول إلى طريقة لقبول المقدمات ونبذ الاستنتاج؛ فيمكن القول على سبيل المثال، إنه حتى إذا كانت المقدمات صحيحة بشأن منظمة واحدة من المنظمات المتعددة الجنسيات، فهذا لا يعني أن كل تلك المنظمات على القدر نفسه من النزاهة.
ويمكن حل تلك الإشكالية وجعل الحجة صالحة، بإضافة مقدمة واحدة تنطوي عليها الحجة الأصلية بالفعل، لكنها ليست مذكورة صراحة:
المقدمة المنطقية الأولى:
المنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تنفق كل دولار في مساعدة الناس.
المقدمة المنطقية الثانية:
المنظمات التي تنفق كل أموالها في مساعدة الناس ليست فاسدة.
المقدمة المنطقية الثالثة:
الأموال التي تمنحها البلدان للمنظمة المتعددة الجنسيات التي أعمل لصالحها تعود بالنفع على البلدان المانحة.
المقدمة المنطقية الرابعة:
العمل مع منظمة تعود بالنفع على البلدان المانحة يفيد تلك البلدان.
المقدمة المنطقية الخامسة [مقدمة خفية]: «كل المنظمات المتعددة الجنسيات مثل المنظمة التي أعمل لصالحها.»
الاستنتاج:
منح الأموال إلى المنظمات المتعددة الجنسيات يفيد البلدان التي تمولها ولا يضرها.
يطلق أرسطو على المقدمات الخفية اسم «القياسات المضمرة»، ويعد الكشف عن تلك المقدمات غير المذكورة من أكثر الخطوات المفيدة في تحليل الحجة؛ إذ غالبا ما تذكر النقطة الأهم في الحجة ضمنيا لا صراحة. فعلى سبيل المثال، تعتمد الحجج بشأن إذا ما كان الإجهاض عملية جراحية أو قتلا، على مقدمة منطقية لا تذكر في معظم الأحيان، وهي بشرية الجنين من عدمها.
وبالعودة إلى مثالنا وإضافة المقدمة المنطقية الخفية، تصبح الحجة صالحة وتقتضي قبول صحة الاستنتاج في حالة قبول صحة جميع المقدمات المنطقية. وبالرغم من ذلك، فلكي تكون الحجة سليمة، لا بد أن تكون جميع المقدمات المنطقية في تلك الحجة الصالحة صحيحة «بالفعل»، أو يقبل الشخص المتزن بوجاهتها على الأقل.
ففي حجة الرد السابقة الذكر، التي تؤيد المنظمات المتعددة الجنسيات، قد يصعب تفنيد المقدمات المنطقية التي تتضمن تجارب شخصية لصاحب الحجة من دون بحث متعمق. ومع ذلك، فمن السهل تفنيد المقدمة المنطقية المضافة حديثا - وهي المقدمة المنطقية الخامسة الخفية في الأساس - وذلك بتوضيح مثال واحد على منظمة متعددة الجنسيات فاسدة. وبهذا، يسهل رفض المقدمة المنطقية الجديدة، وحتى إذا كانت مقدمة واحدة هي التي تبين خطؤها في الحجة الاستنباطية، فستصبح الحجة بكاملها غير سليمة، وإن كانت صالحة (ومن ثم تصبح غير مفيدة).
ويمكن استخدام هذه الطريقة في بناء الحجج الاستقرائية وتقييمها، وهي حجج لا تقتضي، كما ذكرنا سابقا، قبول صحة الاستنتاج بسبب قبول صحة المقدمات. فعلى سبيل المثال، إذا استمر النقاش عن المنظمات المتعددة الجنسيات، وقال أحدهم:
يحظى تمويل المنظمات المتعددة الجنسيات بشعبية كبيرة بين الناس، ولا يبدو أن الغالبية في الهيئة التشريعية ضده. ولأن الحكومة ظلت تزيد من إنفاقها على المنظمات المتعددة الجنسيات منذ توليها، ولأن ميزانية هذا العام تتضمن زيادة أخرى، أرى أن إنفاق الحكومة على هذه المنظمات سيزيد بدرجة أكبر من العام الماضي.
ستتحول العبارة إلى الحجة التالية، المكونة من أربع مقدمات منطقية:
المقدمة المنطقية الأولى:
ظلت الحكومة تزيد من إنفاقها على المنظمات المتعددة الجنسيات كل عام منذ توليها.
المقدمة المنطقية الثانية:
تتضمن ميزانية هذا العام زيادة في الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات.
المقدمة المنطقية الثالثة:
لا توجد أغلبية في الهيئة التشريعية تعارض زيادة الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات.
المقدمة المنطقية الرابعة:
يحظى الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات بدعم بين جموع الناس.
الاستنتاج:
يزيد إنفاق الحكومة على المنظمات المتعددة الجنسيات هذا العام بدرجة أكبر من العام الماضي.
في هذه الحالة، قد يجد المرء طريقة لقبول صحة المقدمات المنطقية مع رفض الاستنتاج على الرغم من ذلك. فيمكننا أن نجد مثالا مناقضا يتمثل في سيناريو تتمكن فيه إحدى الأقليات من عرقلة تشريع زيادة الإنفاق على المنظمات المتعددة الجنسيات، على الرغم من دعم الأغلبية وعامة الناس لها. وبذلك تصبح الحجة غير صالحة، ولكن لأن هذه الحجة استقرائية وليست استنباطية، فإننا نبحث عما إذا كان الاستنتاج محتمل الصحة أو لا في حال كانت المقدمات المنطقية صحيحة. ولأن الأرجح هو صحة الاستنتاج إذا كانت المقدمات المنطقية صحيحة، فإنه يمكن وصف الاستدلال الذي يؤدي من المقدمات المنطقية إلى الاستنتاج بأنه استدلال قوي على الرغم من أن الحجة برمتها ستضعف إن تبين عدم صحة مقدمة منطقية أو أكثر. (6) المغالطات
غالبا ما «تدحض» الحجج السيئة الصياغة أو توضح أخطاؤها بالطرق ذاتها. ويطلق على هذه الأخطاء التي يتكرر ورودها في الحجج اسم «المغالطات»، ويخصص العديد من الدورات التدريبية التي تناقش التفكير النقدي مقدارا كبيرا من الوقت والاهتمام لتعليم الطلاب كيفية استخراج الأفكار المغلوطة في النقاشات اليومية.
وتنتج بعض المغالطات عن بنية الحجة. فعلى سبيل المثال، قدم وودي ألن في فيلمه «الحب والموت» المحاكي لرواية «الحرب والسلام»، تنويعة على حجة سقراط السابقة تتمثل فيما يلي:
المقدمة المنطقية الأولى:
كل البشر فانون.
المقدمة المنطقية الثانية:
سقراط من البشر.
الاستنتاج:
إذن، كل البشر سقراط.
هذا المثال خطأ لأن بنية الحجة غير صحيحة. في الحجة الجيدة الصياغة، سينظم كل من الحد الأكبر (المكتوب بين علامتي تنصيص) والحد الأصغر (المكتوب بين قوسين هلاليين) والحد الأوسط (المكتوب بين قوسين مربعين) بالشكل التالي:
المقدمة المنطقية الأولى:
كل [البشر] «فانون».
المقدمة المنطقية الثانية: (سقراط) من [البشر].
الاستنتاج:
إذن، (سقراط) «فان».
يلاحظ أن نسخة وودي ألن تورد الحد الأوسط (البشر) في كل من المقدمتين والاستنتاج. وهذه تسمى «مغالطة الوسط غير المستغرق»، وتعاب الحجج التي تتخذ تلك الصيغة (أي تصبح غير صالحة)؛ للأسباب البنيوية ذاتها.
وتوجد مغالطة أخرى تسمى «إنكار المقدمات»، وهي صيغة منطقية غير صالحة، تتخذ البنية التالية:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا تحقق س، فسيتحقق ص.
المقدمة المنطقية الثانية:
لم يتحقق س.
الاستنتاج:
إذن، لم يتحقق ص.
إذا التزمنا بنسخة طريقة التأكيد من حجة سقراط، وهي نسخة غير صالحة تتسم بمغالطة «إنكار المقدمات»، فستتخذ الصيغة التالية:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا كان سقراط من البشر، فسيكون فانيا.
المقدمة المنطقية الثانية:
سقراط ليس من البشر.
الاستنتاج:
إذن، سقراط ليس فانيا.
في تلك الحالة، يسهل الوصول إلى مثال مضاد يثبت أن سقراط ليس من البشر، لكنه لا يزال فانيا. على سبيل المثال، قد يكون سقراط اسم سمكة زينة يربيها شخص ما، ومن ثم تصبح المقدمة المنطقية الثانية صحيحة، لكنها لن تؤدي إلى صحة الاستنتاج.
توجد مغالطة مماثلة تسمى «إثبات التالي»، قائمة على الصيغة غير الصالحة التالية:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا تحقق س، فسيتحقق ص.
المقدمة المنطقية الثانية:
تحقق ص.
الاستنتاج:
إذن، تحقق س.
فيما يلي مثال على حجة تجسد تلك المغالطة:
المقدمة المنطقية الأولى:
إذا قامر تورانس بكل أمواله، فسيصبح مفلسا.
المقدمة المنطقية الثانية:
تورانس مفلس.
الاستنتاج:
إذن، قامر تورانس بكل أمواله.
كما هو الحال في غير ذلك من الحجج غير الصالحة، فمن الواضح أن الاستنتاج لا يستمد من المقدمات؛ ذلك أنه توجد عدة طرق تفسر إفلاس تورانس من دون المقامرة بكل أمواله. ومعنى هذا أنه يوجد العديد من الأمثلة المضادة المحتملة، التي تتسم بخطأ الاستنتاج بالرغم من صحة المقدمات.
وتسمى المغالطات التي تنبع من العيوب البنيوية، كالثلاثة التي قرأتها للتو، ب «المغالطات الصورية». إذا تذكرت الفرق بين المنطق الصوري وغير الصوري، فربما تعرف أن «المغالطات غير الصورية» هي المشكلات التي تنتج عن مضمون الحجة لا بنيتها. فالادعاء مثلا بأن كل البيزنطيين مجرمون لأن جيثرو البيزنطي قد اعتقل للتو بتهمة السطو المسلح، يجسد «مغالطة التركيب»، التي تتمثل في تعيين صفة في أحد أفراد المجموعة على المجموعة بكاملها بالخطأ. ومن المغالطات غير الصورية أيضا، «مغالطة التداعي»، ويشار إليها بوجه عام باسم «الذنب بالتداعي»، وتتمثل هذه المغالطة على سبيل المثال، حينما تتهم امرأة جارتها بأنها مخربة لأن ساعي البريد الآتي إلى زوجة أخي جارتها ضبط وهو يلقي حجارة على نافذة متجر.
وعلى الرغم من أن المثالين الأخيرين يبدوان تافهين، فإن التفكير المغلوط بعيد كل البعد عن أن يكون حميدا. فادعاءات التعصب التي تدين أعراقا بأكملها بسبب سلوك بضعة أفراد، أو طرد شخصيات عامة من مناصبها بسبب سلوك أحد المتابعين على «تويتر» (أو حتى متابعي المتابعين) من أمثلة الضرر التي تلحقها طرق التفكير المعيبة بالعالم.
وبسبب التعقيد اللغوي وتنوع التفاعلات التي تستخدم فيها اللغة بين البشر، تأتي المغالطات غير الصورية في أشكال متعددة. فقد تحتكم مثلا إلى شيء غير التفكير المنطقي مثل الخوف، ويظهر ذلك في مغالطة (الاحتكام إلى القوة) أو الشهرة، مثل مغالطة (الاحتكام إلى الجماهير). وقد تستند الحجج المغلوطة إلى استخلاص استنتاجات من معلومات ضئيلة للغاية (التعميم المتعجل)، أو بتقديم خيار مزيف مثل مغالطة «القسمة الثنائية الزائفة» التي تتضح في المثال: «إما أن تمرر ميزانيتي أو سيتضور الملايين جوعا». «إن التفكير المغلوط بعيد كل البعد عن أن يكون حميدا.»
إضافة إلى ذلك، يوجد عدد من المغالطات التي تحاول تشتيت القارئ أو المستمع عن تفاصيل الحجة؛ عن طريق مهاجمة صاحب الحجة (وتسمى بمغالطة «الشخصنة»)، أو بتقديم نسخة مبالغ في تبسيطها أو مشوهة من حجة الخصم، ومهاجمة تلك المحاكاة الساخرة بدلا من الحجة ذاتها (وتلك هي مغالطة «رجل القش»). وتوضح بعض هذه الأخطاء في المنطق غير الصوري، صعوبات في تحديد الحجج المغلوطة بالفعل. ففي بعض الحالات مثلا، تجسد مهاجمة صاحب الحجة مغالطة «الشخصنة»، لكن مهاجمة شخص الخصم قد تكون مبررة في حالات أخرى (إذا سبقت إدانته بارتكاب شهادة الزور على سبيل المثال، أو أن يكون له باع في الكذب).
تضم قائمة المغالطات المذكورة في الكتب ومواقع الويب (بما فيها المغالطات المدرجة في قسم المصادر الإضافية) مئات المغالطات، والغالبية العظمى منها يندرج ضمن المغالطات غير الصورية وليس الصورية. ويشير هذا إلى وجود أخطاء كثيرة تتعلق بمحتوى الحجة كما هو الحال مع بنيتها. ولهذا، فمن المفيد جدا في دراسة التفكير النقدي، أن نتناول المبادئ المستمدة من المنطق بنوعيه: الصوري وغير الصوري. (7) الاستنتاج بالرسومات
لا تقتصر أدوات تحديد جودة الحجج على الكلمات. فيمكن على سبيل المثال، استخدام «مخططات فن» الشبيهة بالمخططات التي يتعلمها تلاميذ المدرسة الابتدائية عند دراسة المجموعات، من أجل توضيح العبارات في شكل حجة، مثل
2-1 .
شكل 2-1
تلك العلاقات لتوضيح حجج كاملة، كمثال سقراط الموضح في
2-2 .
شكل 2-2
في هذه الحالة، توضح استحالة أن يكون سقراط من البشر لكنه ليس فانيا، بطريقة بصرية من خلال إدراج سقراط الممثل بالحرف «س» ضمن مجموعة البشر المندرجة بكاملها داخل مجموعة الفانين.
وبالطريقة نفسها أيضا، يمكن توضيح مثال الحجة المذكورة في حفل العشاء كما يظهر في
2-3 .
شكل 2-3
شكل 2-4
في هذه الحالة، لا يوجد تداخل بين مجموعة الأشياء التي تتسم بالفساد وتهدر الأموال وتهدد حق البلد في تقرير مصيره، وبين مجموعة الأشياء التي ينبغي أن تنفق عليها البلدان المحترمة كي تدعمها. ولأن المنظمات المتعددة الجنسيات تقع بالكامل داخل المجموعة الأولى (على الأقل في حجتنا هذه التي نقر بأنها غير سليمة)، فما من طريقة تتيح تقاطع المجموعة الفرعية الممثلة في الأشياء التي تتسم بالفساد وتهدر الأموال وتهدد البلد (المنظمات المتعددة الجنسيات)، مع مجموعة الأشياء التي ينبغي أن تنفق عليها البلدان المحترمة كي تدعمها. وهذا يوفر توضيحا بيانيا أننا نتعامل مع حجة صالحة.
ومن الطرق الأخرى المشهورة لتمثيل الحجج بصريا، طريقة ابتكرها الفيلسوف البريطاني ستيفن تولمين. بدلا من البدء بمقدمات تؤدي إلى استنتاجات، تبدأ «مخططات تولمين» «بالأسباب» التي تؤدي إلى «ادعاء» كما هو موضح في
2-4 .
شكل 2-5
شكل 2-6
يوضح السهم الصادر من مربع الأسباب إلى مربع الادعاء أن الأسباب لا بد أن تؤدي إلى دليل أو توفره كي تدعم الادعاء. وإذا استخدمنا طريقة تولمين لتوضيح الحجة المطروحة في حفل العشاء، فستأتي على النحو الوارد في
2-5 .
في مخططات تولمين، يجب تبرير العلاقة بين الأسباب والادعاء باستخدام عنصر آخر يسمى «الضمان». استمرارا مع المثال، يوضح شكل الحجة مضافا إليها الضمان في
2-6 .
للوهلة الأولى، قد يبدو أن هذا النوع من المخططات يضيف الكثير إلى الطرق السابقة في تقسيم الحجة المنطقية إذا رأيت أن الأسباب ليست سوى بديل «للمقدمة المنطقية»، وأن الادعاء بديل الاستنتاج، وأن الضمان يوفر التبرير الذي يربط بينهما. لكنك تلاحظ أن هذا الشكل من التخطيط البياني للحجة يقتضي التعبير الصريح عن الاستدلال المنطقي بين المقدمة المنطقية والاستنتاج (أو الأسباب والادعاء)، في شكل الضمان، وهذا الرابط لا يذكر دائما بوضوح في الحجة التي لا يعبر عنها إلا بالكلمات.
فور التصريح بهذا الرابط المنطقي، يمكن اتخاذه بمثابة نقطة أخرى للتحليل أو الهجوم، من خلال إنشاء فرع جديد للحجة؛ حيث يؤدي الضمان الأصلي دورا مزدوجا؛ إذ يؤدي مهمة الضمان في فرع من الحجة، ومهمة الادعاء في فرع جديد، مثلما يرد في
2-7 .
شكل 2-7
إن هذه القدرة على إنشاء الفروع لإدراج أبعاد متعددة من التفكير المنطقي من المزايا الأخرى لتخطيط الحجج بيانيا؛ لأن القيام بذلك يتيح فهم أنواع التبادلات الديناميكية التي تحدث في المناظرات الواقعية التي قد تسلك اتجاهات متعددة.
يوجد أسلوب آخر لتخطيط الحجج بيانيا، وهو أسهل في الفهم من طريقة تولمين (مما يجعلها معروفة بين أوساط صغار المتعلمين) وهي «خريطة الحجة» الموضحة فيما يلي لتمثيل تفنيد الحجة الواردة في مثال حفل العشاء، كما يظهر في
2-8 .
شكل 2-8
في تلك الخريطة، نجد أن الاستنتاج الذي يقع في القمة (ويسمى أيضا «الادعاء الأساسي»)، مما يوضح أن الادعاء الذي تقتضي منك الحجة قبوله إذا قبلت بصحة المقدمات المنطقية لا يأتي في نهاية الحجة على الدوام، مدعوم بخطين من الاستدلال. وعلى الجانب الأيسر، تعمل المقدمتان المنطقيتان الأولى والثانية معا (وتسمى «مقدمات مشاركة»)، لتقديم سبب واحد يدعم الادعاء الأساسي، وينطبق الأمر نفسه على المقدمتين الأخريين الموضحين على جهة اليسار. وعلى غرار مخططات تولمين، توفر خرائط الحجج وسيلة لتمثيل الحجج المعقدة التي تتفرع أفقيا ورأسيا. وعلى خلاف طريقة تولمين الأعقد، يسمح هذا الأسلوب بتحليل الحجج من خلال طرح السؤال البسيط ذاته الخاص بكل جزء من الحجة: هل تقدم عبارات المربع السفلي أسبابا لتصديق ما يظهر في المربع العلوي؟
تقدم هذه الأمثلة لمحة سريعة عن مجموعة كبيرة من البدائل التي تدعم التفكير المنظم، وقد أوردت المزيد من المعلومات عن هذه النسق المنطقية وغيرها في قسم «المصادر الإضافية» من هذا الكتاب. كثيرة هي الأدوات والطرق التي يمكن استخدامها لفهم الحجج وتحليلها، وإذا كنت مهتما بتدريس التفكير النقدي أو تعلمه، فما من خيار صحيح وخيار خاطئ بشأن النسق الذي تستخدمه أو تبتكره. فالخيار الوحيد غير المطروح هو عدم تنظيم الأفكار. (8) المهارات اللغوية
نظرا إلى أن البشر ليسوا بآلات تتواصل بالكامل عبر جمل ذات بنية صورية، فلا بد أن يتحلى المفكر النقدي بمهارة ترجمة لغة البشر العادية إلى مقدمات منطقية واستنتاج، تتألف منها الحجة المنظمة لتستخدم هذه الجمل أساسا للتحليل المنطقي. (9) الترجمة
لقد تناولنا بالفعل أمثلة على الترجمة، مثل نقاش حفل العشاء الذي اختصرنا فيه الحوار اليومي إلى مجموعة من المقدمات المنطقية التي تؤدي إلى استنتاج، وذلك عن طريق استبعاد الكلمات غير المرتبطة بالموضوع، وتحويل اللغة الغامضة المصاحبة للمحادثات العادية بين البشر إلى جمل واضحة تتفق مع التنسيق المنظم الذي يمكن أن تطبق عليه القواعد المنطقية.
ونظرا إلى أن قواعد المنطق تصبح طبيعة مكتسبة في كثير من الأحيان عند استيعابها تماما، فإن جزءا كبيرا من العمل الذي ينطوي عليه التفكير النقدي، يتمثل في ترجمة عمليات التواصل اليومية بين البشر، مثل المقالات الافتتاحية والإعلانات والمناقشات الإقناعية، إلى لغة واضحة ومنظمة. ومثل أي عملية ترجمة أخرى، فإن صب عمليات التواصل المعقدة في قالب منطقي من ضروب الفن؛ مما يجعل القدرة على القيام بهذا النوع من الترجمة إحدى مهارات التفكير النقدي التي تتطلب قدرا كبيرا من الممارسة.
لا تستطيع الآلات تنفيذ مهمة الترجمة هذه حتى الآن، مثلما أنها لا تستطيع ترجمة الروايات الروسية إلى اليابانية بدقة مائة بالمائة. لكن حتى إذا تعذر إجراء الترجمة المنطقية باستخدام الخوارزميات، توجد بعض المبادئ التي ينبغي للمفكر النقدي اتباعها في تنفيذ عمليات الترجمة تلك. «يتمثل جزء كبير من العمل الذي ينطوي عليه التفكير النقدي، في ترجمة عمليات التواصل اليومية بين البشر.»
الحفاظ على دقة الترجمة:
قد تتسلل الأخطاء إلى عملية الترجمة بعدة طرق. وتتمثل إحدى هذه الطرق في الخطأ المتعمد (أي تعمد الخطأ في قراءة كلمات الآخر أو التضليل في عرض أفكاره الخاصة)، وهذه الطريقة لا تجتاز اختبار مبدأ الإحسان الذي سأتناوله بعد قليل. وبالرغم من ذلك، فحتى الأخطاء غير المتعمدة التي تحدث نتيجة الجهل يمكن أن تؤدي إلى إساءة فهم الحجة. على سبيل المثال، إذا فسر أحدهم «المنظمات المتعددة الجنسيات» المذكورة في الحجج التي ضربنا بها الأمثلة على أنها «الشركات المتعددة الجنسيات الهادفة إلى الربح»، فقد يؤدي ذلك إلى إساءة فهم الحجج التي تتحدث على الأرجح عن المنظمات غير الحكومية ذات الجنسيات المتعددة والمنظمات الخيرية؛ مثل الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية.
الإيجاز في الترجمة:
لا تتطلب جميع الترجمات المنطقية الاختزال في عدد الكلمات. وقد سبق أن تناولنا مثالا استلزم إضافة كلمات في صورة مقدمة منطقية خفية (قياس مضمر) كي تكون الحجة منطقية.
ونظرا إلى أهمية وضوح الكلمات التي نستخدمها، ينبغي أن تكون البساطة التي تراعي الدقة هي الهدف دوما. وتتمثل إحدى طرق تبسيط الحجج في استبعاد العبارات غير الضرورية من الحجة (مثل «هذا هراء!» إذ إنها تعبر عن عاطفة ولا تضيف معنى جوهريا)، إضافة إلى اختيار أقل عدد من الكلمات للتعبير بدقة عن النقاط التي ترد أصلا في حديث مسهب يحتمل أن يكون غامضا.
ينطوي الإيجاز أيضا على محاولة التعبير عن الحجة بأقل عدد ممكن من المقدمات المنطقية. وبناء على ما تعرفه الآن عن اختبارات الصلاحية والوجاهة، لعلك تفهم السبب والمغزى من ميزة الإيجاز. فمقدمة واحدة سيئة الصياغة، هي كل ما يلزم لإثبات عدم وجاهة حجة استنباطية ما، أو إضعاف حجة استقرائية؛ لذا فإن قلة عدد المقدمات يقلل من احتمالية فشل واحدة أو أكثر من المقدمات.
وعلى هامش الحديث عن البساطة، أود الإشارة إلى مبدأ فلسفي ذي صلة يسمى «الاستدلال إلى أفضل تفسير». يستخدم هذا المبدأ عند التعامل مع الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بشكل قاطع، مثل السؤال عن وجود الإله من عدمه، أو عما إذا كنا جميعا شخصيات في رواية ما كتبها كائن فضائي يعيش في كون بديل.
7
لا يمكن حل هذه المسائل بالطرق التجريبية (من خلال الإدراك الحسي أو إجراء التجارب)، لكننا نستطيع الجدال بشأن إجابات مختلفة على نوعية تلك الأسئلة، واختيار الخيارات التي نجدها أكثر ترجيحا من غيرها.
بوجه عام، فإن الاستدلال إلى أفضل تفسير يفضل التفسيرات الأبسط على التفسيرات المعقدة. على سبيل المثال، يقتضي قبول نظرية الروائي الفضائي المذكورة سابقا، الإيمان بوجود كونين. وعلى النقيض من ذلك، فإن عدم قبولها يقتضي الإيمان بوجود كون واحد (الكون الذي ندركه)؛ مما يجعله هو الخيار المفضل حتى مع غياب الأدلة. لقد أثار هذا النهج في الاستدلال إلى أفضل تفسير بين الفلاسفة جدالات وسجالات على مدار أكثر من قرن من الزمان بشأن ما يمكن معرفته وطبيعة الاعتقاد. وبالرغم من ذلك، ففي سياق تنمية التفكير النقدي، تصبح الرسالة أبسط وهي: التبسيط قدر الإمكان من دون التضحية بالدقة.
تبني مبدأ الإحسان في الترجمات:
يضرب الفيلسوف نايجل ووربرتون المثال التالي على ما يسميه الفلاسفة «مبدأ الإحسان»:
في مناظرة عن رفاهية الحيوان، قد يذكر المتحدث ضرورة أن تتساوى كل الحيوانات في الحقوق. ويرد أحدهم على كلام المتحدث قائلا إن هذا الكلام سخيف؛ لأنه لا معنى له؛ فلا معنى مثلا لإعطاء الزرافة الحق في التصويت وامتلاك العقارات؛ لأنها لن تفهم أيا من المصطلحين. أما نهج الإحسان الذي يمكن تطبيقه في هذا المثال، فهو تأويل الادعاء: «المساواة بين كل الحيوانات في الحقوق» على أنه إيجاز للادعاء: «المساواة بين كل الحيوانات في حق الحماية «من الضرر»»، ثم معالجة هذه النقطة في النقاش.
8
من حيث الظاهر، قد يبدو مبدأ الإحسان نسخة بديلة للدعوة إلى الدقة، لكنه أشمل من أمانة الترجمة؛ إذ يستلزم التفاعل مع النسخة الأقوى للحجة بدلا من تعمد إضعافها بعدم الإحسان في ترجمتها.
ولمعرفة عواقب غياب مبدأ الإحسان من الحوار المتمدن بين الناس، لا يحتاج المرء إلا إلى الاطلاع على المعارك التي تندلع باستمرار في أقسام التعليقات في المواقع الإخبارية أو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يختصم المتحاورون بشأن أخطاء نحوية أو إملائية، أو يحاجون بمحاكاة ساخرة لمواقف خصومهم. وبالرغم من ذلك، فإن فوائد اتباع مبدأ الإحسان أشمل كثيرا من المساعدة في عملية الترجمة.
وأولى هذه الفوائد أن معالجة أقوى نسخة ممكنة من حجة الخصم، والعدول عن الثرثرة بشأن خطأ غير جوهري أو البحث عن طريقة للمجادلة بشأن صيغة أضعف، يتيح للمرء أن يقوي خلايا عقله مثلما أن الرياضيين يستفيدون بدرجة أكبر عندما يتنافسون مع خصوم أقوى منهم لا أضعف. وفي حالات عديدة، توجد بعض الأخطاء في الحجج القوية وبعض نقاط الضعف، لكن الانخراط في نقاط القوة أولا يسهل معالجة الأفكار بمزيد من القوة والأمانة، وهذا على خلاف المشاجرات الفوضوية المليئة بالمغالطات التي ترى في «المجادلات» على شبكة الإنترنت كما ذكرت من قبل. «لا يقتصر تطبيق مبدأ الإحسان على أمانة الترجمة؛ إذ يستلزم التفاعل مع النسخة الأقوى للحجة بدلا من تعمد إضعافها بعدم الإحسان في ترجمتها.»
إن تطبيق مبدأ الإحسان في عملية الترجمة يقتضي منك التصرف كما لو أنك ستعرض ترجمتك المنطقية لحجة شخص ما، إلى هذا الشخص نفسه، ثم تسأله إن كنت قد نقلت ما يحاول قوله بصدق وأمانة أم لا، وذلك قبل الاستمرار لمناقشة الموضوع. إن هذه العملية تستلزم «التقمص الفكري»، وهي القدرة على الدخول إلى عقل شخص آخر لمعرفة ما يؤمن به وسبب إيمانه به. بالإضافة إلى تيسير إجراء المناقشات بمزيد من الأمانة، يتضح أيضا أن التقمص الفكري أداة قوية لتحييد التحيز التأكيدي، وهو ميل عقل الإنسان إلى قبول الأفكار التي تتوافق بالفعل مع ما يؤمن به، ونبذ الأفكار التي تتعارض معه، وهذا عيب في التفكير المنطقي يعرض الإنسان إلى إساءة الفهم والتلاعب. (10) التواصل الإقناعي
على خلفية الحديث عن التلاعب، توجد مجموعة أخرى من المهارات اللغوية المتعلقة بالتفكير النقدي تتضمن التواصل الإقناعي المعروف تاريخيا باسم «البلاغة».
لعلك تتذكر أن البلاغة من الموضوعات التي نظمها أرسطو ونسقها في كتابه عن هذا الموضوع، حيث أشار إلى وجود طرق في عمليات التواصل الكتابية أو الشفهية تؤثر تأثيرا كبيرا في الجمهور بغض النظر عن الموضوع محل الحديث. ومن هذه الأساليب البلاغية، السجع الابتدائي (وهو تكرار الحرف الأول في كلمات متتالية مثلما فعلت سابقا حين وصفت «المشاجرات الفوضوية المليئة بالمغالطات
fallacy-filled free-for-alls »)، أو السجع في مجمله، وهي أدوات تحرك القارئ والمستمع، سواء استخدمت هذه الأساليب في القصائد أو الأغاني أو الخطب السياسية.
وبخلاف تلك الأساليب الأدبية المعروفة، فهناك عدد من الأساليب البلاغية التي تفيد للغاية في جعل الخطاب مقنعا. ومن تلك الأساليب «التكرار التوكيدي»، وهو التكرار المتعمد لكلمات من أجل التأثير. على سبيل المثال، حينما ناشدت المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون الشعب في خطبتها قائلة: «مؤيدي، أبطالي ... أخواتي!» كان لتكرار «ياء الملكية» هذا تأثير قوي ومقنع في النسخة الشفاهية، وإن بدا غريبا في القراءة. ويمكن استخدام العبارة السابقة ذاتها أيضا لتوضيح أسلوب بلاغي آخر وهو «التثليث»، الذي يتمثل في ترصيع جزء من الخطبة بمجموعة من ثلاث كلمات أو عبارات؛ إذ إن لهذه المجموعات الثلاثية تأثيرا كبيرا عند إلقاء الخطب. ومن الأمثلة الأخرى أيضا على تلك الأساليب البلاغية، أسلوب «المقابلة العكسية» وتعني تعمد تغيير ترتيب الكلمات في العبارة أو الجملة، ولعل أفضل ما يجسدها هو تلك الجملة الافتتاحية المؤثرة والخالدة لجون إف كينيدي حين قال:
Ask not what your country can do for you, ask what you can do for your country.
وهي تعني بالعربية «لا تسأل عما يمكن أن يفعله من أجلك البلد، بل اسأل عما يمكن أن تفعله أنت للبلد.»
توجد أيضا أساليب بلاغية أخرى لصياغة الخطب أو غيرها من أنواع الحديث، ومن تلك الأساليب البدء بعبارات افتتاحية بسيطة ممتعة (وتسمى «الديباجة»)، ومنها أيضا الوصول بالخطبة إلى ذروة حماسية (تسمى «الخاتمة»). إن جميع الخطابات الرئاسية التي رأيتها قد استخدمت هذه الأساليب على الأرجح، ويمكن تتبع تاريخها إلى القدماء أمثال أرسطو والخطيب الروماني شيشرون؛ مما يدل على أن البلاغة قوية للغاية، وهي أيضا لا يحدها زمان.
ويعد الدور الذي ينبغي أن تؤديه البلاغة في التفكير النقدي موضعا للجدال، وربما يعود سبب ذلك إلى أن معظم معلمي التفكير النقدي من الفلاسفة الكبار، أو على الأقل من المتمرسين في علم الفلسفة، والعداء بين مدرسة الفلسفة ومدرسة البلاغة قديم يمتد حتى العصر الذهبي في أثينا.
وحينما عرف سقراط الفلاسفة بأنهم «محبو الحكمة»، كان من بين أهدافه أن يميزهم عن فئة أخرى تسمى السفسطائيين. كان السفسطائيون معلمين رحالة يدرسون للأثرياء والطموحين خدعا لفظية تزيد من فاعلية الحديث؛ أي تجعله مقنعا بدرجة أكبر. وفي أثينا الديمقراطية، كان مفتاح السلطة يكمن في تحريك الجماهير؛ مثل هيئات المحلفين ومجلس الحكم. ولهذا السبب، أصبحت مساعدة الناس على إتقان التعامل مع الحشود عملا مربحا. لكن رغبة السفسطائيين في مساعدة الآخرين على تعلم إظهار الحجج الضعيفة بمظهر القوة قد وضعهم في مرمى نيران الفلاسفة الذين كانوا يسعون إلى الحقيقة الصادقة لا مظهرها فحسب.
9
على الرغم من مرور ألفين وخمسمائة عام من الجدال بين أهل الفلسفة وأهل البلاغة، فإن فهم دور البلاغة في التواصل الإنساني يمكن أن يدعم دراسة التفكير النقدي. فالكثير من العبارات الإضافية التي قد يلزم استبعادها من الحجج النثرية لتصفيتها إلى مقدمات منطقية واستنتاجات تخلو من الغموض، هي على الأرجح من الأساليب البلاغية المخصصة للإقناع، لكنها لا تقدم معلومات بالضرورة (مثل العبارة المذكورة سابقا «هذا هراء!»). ولهذا؛ فإن فهم اللغة الإقناعية مفيد في تحديد ما يمكن تضمينه في الحجة المنطقية وما يمكن استبعاده.
علاوة على ذلك، إذا كانت البلاغة تستخدم لإظهار الحجة الضعيفة بمظهر القوة، فإن فهم الأساليب البلاغية يزود المفكر النقدي «برؤية ثاقبة» من أجل تبديد الغموض اللفظي وتحديد ما يكمن فيها من استدلال فقير أو مقدمات زائفة.
وأخيرا، إذا كان للبلاغة أن تظهر حجة ضعيفة بمظهر أكثر إقناعا، فتخيل ما يمكن أن تفعله لحجة قوية. حتى إذا كانت المقدمات صحيحة والاستدلالات المنطقية التي تؤدي إلى الاستنتاج رصينة، فلا يزال المرء بحاجة إلى جذب انتباه الناس إلى ما يقوله. إن استخدام أساليب الإقناع التي لا تزال تحرك الجماهير منذ قرون مع الحجج الصالحة السليمة القوية (التي ينبغي أن تكون أخلاقية فاضلة)، لا يجعلها مقنعة فحسب، بل يصعب دحضها للغاية أيضا. «إن استخدام أساليب الإقناع التي لا تزال تحرك الجماهير منذ قرون مع الحجج الصالحة السليمة القوية (التي ينبغي أن تكون أخلاقية فاضلة)، لا يجعلها مقنعة فحسب، بل يصعب دحضها للغاية أيضا.» (11) الحجاج
ثمة مغالطة لم أذكرها في الأجزاء السابقة هي «الاشتراك اللفظي»، وتنبع من اللبس (المتعمد أو العرضي) الذي ينتج عن وجود العديد من الكلمات التي تتخذ أكثر من معنى واحد. ومن هذه الكلمات التي تتخذ معاني عدة، كلمة تكررت كثيرا في هذا الفصل، وهي «الحجة».
من ناحية ما، يمكن تعريف الحجة على أنها مجموعة جمل تتضمن أدلة (في شكل مقدمات منطقية)، واستنتاجا واستدلالات منطقية تربط بين المقدمات المنطقية والاستنتاج. وبناء على هذا التعريف، يعتبر قياس أرسطو المنطقي - في مجمله - حجة واحدة، وينطبق الأمر نفسه على الحجة المطروحة في حفل العشاء التي تناولها الكتاب بصياغات مختلفة.
وبالرغم من ذلك، يمكن تعريف الحجة بمعنى أشمل؛ إذ وصفها أحد الباحثين بأنها تشمل «التعبير عن الأفكار والخواطر والمشاعر والافتراضات، وجمع تلك الأفكار والمفاهيم بعضها مع بعض في تسلسلات منطقية وشبه منطقية، مدعوما (في العادة وعلى وجه الإفادة) بالأدلة، إضافة إلى تحديد موقف الدارس من حيث المعارف الحالية».
10
وبناء على هذا التعريف، فإن «حجة» معقدة بين مؤيدي مواقف سياسية مختلفة قد تتضمن العديد من «الحجج» المنطقية المرتبطة بعضها ببعض، يدلي بها كل طرف مشارك في الجدال.
وبناء على مدى شمول تعريف المصطلح، يمكن القول بأن التفكير النقدي يدور برمته حول توليد الحجج وتحليلها، وغالبا ما تركز العديد من دورات التفكير النقدي التدريبية في مناهجها على الحجاج. وبالرغم من ذلك، نظرا إلى توسيع نطاق تعريف التفكير النقدي بحيث أصبح يشمل مجموعة من العناصر غير المعرفية، ومنها السمات الشخصية مثل حب الاستطلاع والانفتاح الذهني، فالأفضل أن ننظر إلى الحجاج باعتباره عنصرا حيويا في التفكير النقدي، لكنه غير مرادف له.
يوجد العديد من التعريفات لمصطلح الحجة في المعاجم «غير المتخصصة»، ومن أقرب هذه التعريفات صلة إلى مشروع التفكير النقدي: «سلسلة مترابطة من الأسباب أو الجمل أو الحقائق، التي تهدف إلى دعم وجهة نظر ما أو إثباتها»،
11
ومن هذه التعريفات أيضا: «شكل من التعبيرات البلاغية التي تهدف إلى الإقناع».
12
تبين هذه التعريفات الهدف الأساسي من الحجاج في التفكير النقدي، وهو تبرير المرء إيمانه بشيء ما لنفسه، أو تبرير الإيمان بشيء ما للآخرين؛ كي يعتنقوا فكرة ما أو يغيروا آراءهم.
وتتناقض هذه التعريفات مع مفهوم شائع آخر لمصطلح «الحجة»، وهو «احتدام الشجار أو عدم الاتفاق».
13
هذا هو التعريف الذي يميل إلى السلبية، ويتبادر إلى الذهن عندما يفكر الناس في الحجج للوهلة الأولى؛ فيربطون الكلمة بالسجالات المحتدمة بين أفراد العائلة أو الخصوم السياسية أو مرتادي الحانات.
إن وجود اللغة المحتدمة لا يعني بالضرورة أن الحجاج لا يجري وفقا لتعريفنا للتفكير النقدي. فقد تتضمن الطرق المستخدمة كي يغير الناس آراءهم شيئا من الدراما أو البلاغة المشحونة بالعاطفة. بالرغم من ذلك، ينبغي تحري الدقة عند التمييز بين الحقيقي من الحجج، وإن كانت صاخبة، وبين الحجج التي تنتمي إلى نشاط من نوع آخر هو الشجار.
14
وفي الشجار، يقدم الفوز ونيل المراد على إقناع الآخر بتغيير معتقداته.
يعد استخدام الإرغام الجسدي علامة على أن ما يجري شجار لا حجاج. فاستخدام العنف لكي يفعل الآخرون ما يطلب منهم لا يستلزم من أحد تغيير رأيه، بل كل ما عليه هو تغيير سلوكه فحسب؛ تجنبا للأذى. وثمة طرق أخرى أيضا لتحقيق الهدف من دون إقناع صادق، ومنها ابتزاز الشخص (بما في ذلك الابتزاز المعنوي)، أو حتى رفع مستوى العاطفة في المواجهة بدرجة عالية؛ فيضطر الأشخاص إلى فعل أي شيء؛ هربا من موقف غير مريح، بغض النظر عما يعتقده.
ولما كان الهدف من التفكير النقدي إيجاد أسباب تدعم المعتقدات، فإن الأنشطة على غرار الشجار، التي لا تقدم سوى أسباب لتجنب أذى جسدي أو نفسي، لا تندرج ضمن تعريف الحجاج الذي يستخدمه المفكرون التأمليون. وبالرغم من أن مناشدة العاطفة ليست محظورة على المفكر النقدي عند الحجاج بشأن قضية، ينبغي قياس أفعال الإقناع المدروسة وتركيزها على جعل الآخرين يرغبون في تصديق ما نخبرهم به.
وتوجد أشكال أخرى من التواصل لا تنطوي على الحجاج أو الشجار. فالنشرات الرياضية المقدمة في الصحف على سبيل المثال، تعرض مجموعة من الحقائق، لا أسبابا تدفع إلى تصديق شيء ما، فهي تندرج بذلك في فئة «التفسير» وليس الحجة. ويصبح الفرق بين الحجة والتفسير غامضا في بعض الأحيان. على سبيل المثال، تقدم النشرة الجوية حقائق بشكل عام، لكن هذه الحقائق يمكن أن تستخدم لدعم تنبؤات، وفي هذه الحالة تصبح تلك الحقائق بمثابة مقدمات في حجة تضم تنبؤا أو أكثر يكون بمثابة استنتاج في الحجة. وقد لخص أحد الفلاسفة هذا الفرق في قوله: «يهدف الشرح إلى زيادة فهم المستمع، أما الجدال فيهدف إلى تحسين إمكانية قبول إحدى وجهات النظر.»
15 (12) الخلفية المعرفية
بالرغم من أن العديد من التدريبات المهمة في المنطق قائم على الصور التجريدية (كالمتغيرات في عبارة مثل: «إذا تحقق س، فسيتحقق ص»، ويمكن أن تشير س وص في مثل هذه العبارات إلى أشياء مختلفة)؛ فعادة ما يطبق التفكير النقدي على أحد الموضوعات بسبب تركيزه على التفكير المنطقي غير الصوري. ولهذا، فإن الإلمام بالمعرفة عن هذا الموضوع الوثيق الصلة، عنصر بالغ الأهمية في تدريبات التفكير النقدي.
ويلخص أستاذ علم النفس المعرفي بجامعة فيرجينيا دانيل تي ويلينجهام، مدى ارتباط التفكير المنطقي بالمحتوى الذي يطبق عليه، من خلال الأمثلة التالية:
لقد لاحظ المعلمون منذ أمد بعيد أن الحضور في المدرسة وحتى النجاح الأكاديمي لا يضمنان أن الطالب سيتخرج متسلحا بسمات التفكير الفعال في كل المواقف. وثمة نزعة غريبة تجاه ارتباط بالتفكير الدقيق ببعض الأمثلة أو أنواع معينة من المسائل. ونتيجة لذلك، قد يتعلم الطالب تقدير قيمة الحل لمسألة رياضية قبل البدء في العمليات الحسابية باعتبارها طريقة للتحقق من دقة إجابته، لكن في مختبر الكيمياء، يحسب ذلك الطالب نفسه مكونات مركب ما من دون ملاحظة أن مجموع تقديراته يصل إلى أكثر من 100 بالمائة. وقد يتعلم الطالب التأني في مناقشة أسباب الثورة الأمريكية من وجهتي النظر البريطانية والأمريكية، لكنه لا يفكر حتى في أن يتساءل بشأن منظور ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. فلماذا يتمكن الطلاب من التفكير النقدي في موقف ما، ولا يتمكنون من ذلك في موقف آخر؟ تتلخص الإجابة عن هذا فيما يلي: ترتبط عمليات التفكير ارتباطا كبيرا بالموضوع محل التفكير.
16
عند النظر من خلال عدسة البنى المنطقية التي تناولها الكتاب، يمكن رؤية الحقائق باعتبارها عاملا يصوغ المقدمات المنطقية لحجة ما، أو يوفر معلومات بشأن هذه المقدمات؛ دعما للاستنتاج. ومثلما أن صياغة المقدمات المنطقية تحتاج إلى فهم الموضوع، فإن تحليل تلك المقدمات لتحديد الأخطاء أو نقاط الضعف يتطلب معرفة بمحتواها. (13) فجوة المعلومات
في الفصل التالي، سنتناول دور الخلفية المعرفية في المناقشات المتعلقة بأماكن تدريس مهارات التفكير النقدي وكيفية تدريسها. لكن قبل معالجة هذه المسألة، علينا دراسة سؤال يتخلل نقاشات الخلفية المعرفية في عصر الإنترنت: ماذا يعني الوصول إلى المعلومات في عصر لا يبعد فيه كم هائل من تلك المعلومات عن كثير من الناس سوى بضع لمسات على الهاتف أو نقرات بالفأرة؟
يعد تفاوت الموارد التكنولوجية بين الأغنياء والفقراء، وحتى على مستوى البلدان الغنية والفقيرة، أحد عناصر هذه الفجوة الجديدة في المعلومات، التي هي في حقيقتها فجوة في الوصول إلى المعلومات. وقد يتضمن هذا التفاوت أجهزة مثل الكمبيوتر والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة. لكن فيما يتعلق بالوصول إلى المعلومات، فلن تفيد هذه الأجهزة ما لم تتصل بالإنترنت، ومن ثم تظهر فجوة تكنولوجية أخرى بالغة الأهمية ينبغي سدها، وهي توفير خدمات الاتصال بالإنترنت بسرعات عالية وخالية من قيود الحكومة.
ومن دون الحد من مسائل التفاوت الآنفة الذكر، فحتى «أثرياء» التكنولوجيا يواجهون مشكلة صعبة؛ وهي: كيفية التنقل في عالم البيانات الدائم التوسع (الكثير من تلك البيانات صحيح وقيم، لكن أكثرها زائف وبعيد عن الموضوع)؛ وذلك من أجل الوصول إلى المعلومات الصحيحة، وتقييم جودتها، واستخدامها استخداما ملائما. (14) الدراية المعلوماتية
نأتي إلى مهارة حديثة أخرى، وهي عنصر تتزايد أهميته في التفكير النقدي، ألا وهي الدراية المعلوماتية. ظهر المجال في سبعينيات القرن العشرين، وشهدت تلك الحقبة نفسها ظهور مجال مماثل وهو الدراية الإعلامية لمساعدة الطلاب وعامة الناس في التعرف على كيفية تقييم المحتوى الذي تقدمه وسائل الإعلام التقليدية، مثل الصحف والراديو والتلفزيون . وخارج نطاق هذه الوسائل الإعلامية ذات الانتشار الواسع، كان المصدر الأساسي للمعلومات خارج المنزل هو المكتبات العامة أو الأكاديمية، مما يفسر سبب ظهور مجال الدراية المعلوماتية من مجال علوم المكتبات.
ظلت المكتبة على مدار التاريخ هي المكان الذي يضم مصادر المعلومات الثمينة والصعبة المنال، مثل مجموعات الكتب والنشرات الدورية والمجلات، وكانت تلك المصادر تجمع وتتاح لفئات معينة؛ مثل طلاب الجامعات أو الجمهور عموما. وحتى مع توفر وسائل الإعلام الجديدة مثل الميكروفيلم وقواعد البيانات على الأقراص المدمجة الصلبة ومصادر المعلومات عبر الإنترنت، ظلت المكتبة هي المكان الذي يضم هذه المصادر القيمة والثمينة، ويستطيع كل من يحمل بطاقة المكتبة الاطلاع عليها.
ولما استمر أمناء المكتبات في دعم مصادر المعلومات التي يزيد تعقيدها وتطورها التقني، فقد أعادوا تشكيل مهنتهم، وتحولوا من جمع الكتب والمخطوطات وحفظها إلى اختصاصيين في المعلومات. والحق أن مجال الدراية المعلوماتية الذي أنشئوه، يوفر إطارا للتعامل مع المعلومات التي نحتاج إليها جميعا اليوم؛ إذ توسعت هذه المصادر توسعا كبيرا، ودخلت إلى الفصول الدراسية والمنازل وأماكن العمل عبر أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المحمولة الموجودة في كل مكان.
وعلى مستوى أعلى، تتمثل الدراية المعلوماتية في «القدرة على تحديد المعلومات اللازمة، وفهم طريقة تنظيم تلك المعلومات، وتحديد أفضل مصادر المعلومات، وإيجاد تلك المصادر وتقييمها تقييما نقديا، ومشاركة تلك المعلومات. إنها معرفة طرق البحث الشائعة الاستخدام».
17
وسوف نجد أن من يتمتعون ب «الدراية المعلوماتية»، يفهم الخطوات التالية ويطبقها:
إيجاد المعلومات:
تتضمن تلك الخطوة استراتيجيات للبحث عن أفضل المصادر باستخدام أساليب متنوعة، لا تقتصر على عمليات البحث البسيطة على شبكة الإنترنت.
تقييم المعلومات:
تتضمن تلك الخطوة تطبيق مجموعة من الاختبارات لتحليل جودة المعلومات، من حيث دقتها، وصلتها بالموضوع، وملاءمتها للعصر، وغيرها من العوامل.
تنظيم المعلومات:
تنطوي هذه الخطوة على تنظيم مجموعات المعلومات في ترتيب يتيح تحديد أنماط المعلومات، ويزيد من فائدتها لمهمة محددة (مثل كتابة الأبحاث).
تجميع المعلومات:
تتمثل هذه الخطوة في توظيف المعلومات التي جمعت، وتقييمها وتنظيمها؛ بغية إنجاز مهمات مثل الإجابة عن الأسئلة، أو إنشاء «منتجات للعمل» مثل الأبحاث التي ذكرناها سابقا.
توصيل المعلومات:
تتضمن تلك الخطوة مشاركة ما ابتكر، مثل إجابات الأسئلة أو الأبحاث، مع الآخرين حيث يمكن لتلك المعلومات أن تصبح جزءا من نظام المعلومات الذي يتصفحه من يتمتعون بمهارات الدراية المعلوماتية.
يوفر مجال الدراية المعلوماتية إطارا للتعامل مع المعلومات التي نحتاج إليها جميعا اليوم؛ إذ توسعت هذه المصادر توسعا كبيرا، ودخلت إلى الفصول الدراسية والمنازل وأماكن العمل عبر أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المحمولة الموجودة في كل مكان.
وإذا اطلعت على قسم «المصادر الإضافية» الذي صار الآن مألوفا، فسيساعدك ذلك في معرفة المزيد من الجوانب العملية لكل خطوة من هذه الخطوات، وعن الدراية المعلوماتية بوجه عام.
وما ينبغي تذكره هو أنه سواء أكانت الخلفية المعرفية مستمدة من الكتب المطبوعة أم من المصادر الرقمية، وسواء أكانت نابعة من سنوات في دراسة موضوع ما أم من عمليات البحث السريعة عبر الإنترنت التي تناسب أغراضا بعينها؛ فإن الأمر بشأن التفكير النقدي أننا لا نستطيع تطبيق التفكير النقدي على موضوع ما، إذا لم نكن على علم بما نتحدث عنه. (15) الابتكار
إذا كان التفكير النقدي لا يرتبط إلا بالحقائق والمنطق، فقد يبدو الابتكار في محله إذا اعتبر من مهارات التفكير النقدي الأساسية. وبالرغم من ذلك، فمثلما تناولنا النسخة الأحدث من تصنيف بلوم في الفصل السابق، صار الابتكار (وصيغته الفعلية: «ابتكر») على رأس الهرم؛ أي إنه يمثل أسمى مهارات التفكير العليا. والأرجح أن كل من ناضل حتى تمكن من بناء برهان منطقي أنيق أو اشتقاق كيميائي، سيجادل دفاعا عن أهمية دور الخيال والأنشطة والسمات الإبداعية في هذه الجهود العقلية.
وإضافة إلى ذلك، يعد انتشار استخدام الابتكار في عملية التفكير النقدي، منطقيا في سياق منهج حل المشكلات الذي ذكره جون ديوي في كتابه «كيف نفكر». ويتمثل هذا المنهج في اقتراح فرضية واختبارها، ورفضها إذا لم تجتز هذه الاختبارات، أو قبولها إن نجحت فيها.
وبالرغم من أن هذه العملية التي ذكرها ديوي منهجية بالتأكيد، وهي عملية مستلهمة من العلوم لكنها تقبل التطبيق على كل المشروعات التي تتطلب التفكير التأملي، فإنها تنطوي على عنصر إبداعي أيضا. فكيف عساها أن تنتج الفرضيات المزمع اختبارها وتجربتها إلا أن يتمتع الشخص بالقدرة على تخيل الاحتمالات التي ربما لم تقترح من قبل أو تختبر؟
فبالرغم من كل شيء، لا يستمد العلماء أفكارهم من الحقائق أو الملاحظات فحسب. وإنما يبحثون أيضا عن أنماط، أو يبتكرون تجارب قد تؤدي إلى ظهور أنماط وملاحظات جديدة. وكأي شكل من أشكال الفنون، فإن البحث عن أنماط قد لا تكون واضحة أو تطوير شيء جديد، سواء أكان ذلك لوحة فنية أم تجربة علمية، فهو في جوهره عمل إبداعي.
وفي العقود الأخيرة، أدى الدور الذي لعبه التصميم في نجاح المنتجات المشهورة مثل «آيفون» من شركة «أبل»، إلى تشجيع الاهتمام بالعمليات القائمة على التصميم في مجالات متنوعة مثل الأعمال التجارية والتعليم، وظهر مصطلح «التفكير التصميمي» ليكون بمثابة مصطلح شامل للمناهج التكرارية القائمة على التجارب والآخذة في التوسع الخاصة بتكوين المعرفة واكتشافها و«صنعها».
18
علاوة على ذلك، فقد أدت محاولات تضمين الآداب، ومنها الفنون العملية مثل التصميم، فيما كان يعتقد من قبل أنها مناهج علمية ورياضية فقط هي التي حولت الاختصار
STEM (الذي يشير إلى العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات)، إلى الاختصار
STEAM (إذ أضيف الحرف
A
إشارة إلى الآداب).
19
ومن الطرق التي يمكن استخدامها لدراسة دور الإبداع في التفكير النقدي أنه مصدر لمادة جديدة تقبل تطبيق التفكير المنطقي المنظم (الذي توفره أدوات التفكير النقدي الأخرى التي تناولها الكتاب)، وهي في تلك الحالة مادة قد لا توجد مبدئيا إلا في التخيل. فمثلما كتب ديوي منذ ما يزيد على قرن في كتاب «كيف نفكر»: «تنطوي القصص التخيلية التي يرويها الأطفال على جميع درجات الاتساق بين أجزاء القصة؛ حيث إن بعضها مفكك وبعضها محكم. عند ربط تلك الأجزاء ببعضها، فإنها تحفز التفكير التأملي؛ وعادة ما تحدث بالطبع في عقول تتمتع بقدرات التفكير المنطقي. غالبا ما ينتج الأطفال هذه القصص التخيلية قبل أن يكتسبوا القدرة على التفكير المتماسك، وهي تمهد له الطريق . وبهذا المعنى، تكون الفكرة صورة عقلية لشيء ليس موجودا في الحقيقة، والتفكير هو توالي تلك الصور.»
20 (16) السمات الشخصية
لقد تحدثت قبل ذلك عن السمات الشخصية التي ينبغي أن يتحلى بها المفكر النقدي؛ مثل حب الاستطلاع والتقمص الفكري والإبداع، التي قد يبدو أنها تليق بوصف للشخصية أكثر مما تليق بمنهج دراسي أو مجموعة من المعايير الأكاديمية. وتتعلق هذه المصطلحات «بالسمات» البشرية، وتسمى أيضا بالصفات أو الخصال السلوكية، وهي تصف ما ينبغي أن يتحلى به المفكر النقدي عند تطبيق المعرفة والمهارات المرتبطة بالتفكير المنطقي المنضبط على مواقف الحياة الواقعية.
ومع انتشار دورات التفكير النقدي لا سيما في التعليم العالي بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، حدد المعلمون المعنيون بتدريس هذه الدورات التدريبية وكذلك الباحثون في مجال التفكير النقدي مجموعة كبيرة من السمات المطلوبة للتفكير الفعال والتأملي، وكذلك الاستعداد لتطبيق تلك القدرة عمليا، لا سيما في المواقف التي قد لا يكون التفكير العميق هو الخيار الوحيد فيها لدى الشخص، أو استجابته التلقائية الأولى.
تأسست «مؤسسة التفكير النقدي» غير الهادفة للربح في كاليفورنيا بالولايات المتحدة في ثمانينيات القرن العشرين، وكانت قوة رئيسية في تقديم الدعم لتدريس التفكير النقدي في الولايات المتحدة.
21
وتضمنت أعمال المؤسسة وضع أطر تحدد صفات المفكر النقدي، ومنها مجموعة «السمات الفكرية القيمة» المماثلة للعديد من القوائم الأخرى التي تضم السمات الشخصية التي يجب على المفكر النقدي التحلي بها.
22
وتتضمن القائمة التي وضعتها المؤسسة السمات التالية:
التواضع الفكري:
إدراك الشخص حدود معرفته والأخطاء المحتملة في تفكيره.
الشجاعة الفكرية:
قدرة الشخص على المحاجة دفاعا عن معتقداته بثقة، وعدم السلبية في القبول بصحة ما يقال له حتى مع وجود الضغط الاجتماعي.
التقمص الفكري:
الاستعداد لأن يتخيل الشخص نفسه متبنيا التوجه العقلي للآخرين، كي يفهم مواقفهم على نحو أفضل.
الاستقلال الفكري:
قدرة الشخص على التفكير لنفسه، مع التحكم في تفكيره المنطقي أيضا.
النزاهة الفكرية:
الأمانة في التفكير والجدال بحيث يلزم الشخص نفسه والآخرين بالمعايير الفكرية الصارمة ذاتها، وأن يكون على استعداد للاعتراف عند الخطأ.
المثابرة الفكرية :
الاستعداد لبذل الجهد الفكري الشاق للتغلب على العقبات؛ من أجل الإجابة عن الأسئلة، أو الحجاج دفاعا عن مواقفه.
الثقة في المنطق:
الإيمان بأن الأفضل للجميع بمرور الوقت، هو الالتزام بالتفكير المنطقي؛ باعتباره وسيلة لاكتساب المعرفة وإيجاد حلول المشكلات.
الإنصاف في التفكير:
الاجتهاد لتحري حسن النية في معاملة جميع وجهات النظر بإنصاف، بغض النظر عن المعتقدات الشخصية، أو الاستجابة العاطفية تجاه القضايا المطروحة للنقاش، أو أعراف المجتمع (مثل ضغط الأقران للموافقة على وجهة نظر واحدة).
ستلاحظ أن مجموعة السمات السابقة تضم العديد من الجوانب البشرية غير الجانب العقلي، ومنها الجوانب العاطفية والأخلاقية والاجتماعية في تكويننا. وبذلك، يمكننا استخدام هذه السمات - جملة أو تفصيلا - لتعريف المفكر النقدي. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام التواضع الفكري (الذي يطلب من الشخص احترام حدوده)، والشجاعة الفكرية (التي تطلب من الشخص الدفاع عن معتقداته عند وجود ما يسوغها من المبررات) بمثابة قطبين، وبينهما يوجد توازن السمات الذي يحدد الاستقامة الفكرية.
23
ولهذه السمات أبعاد أخلاقية أيضا. فالتقمص الفكري والإنصاف في المنتصف على سبيل المثال من التنويعات الفكرية القائمة على مبدأ «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك»، وهو الفحوى الذي ورد أيضا في «القاعدة الذهبية» لخلق المبادلة، ويرتبط بجميع التقاليد الدينية والأخلاقية. وبالمثل، تفترض النزاهة الفكرية - مثل غيرها من أشكال النزاهة - وجود مجموعة من الثوابت الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم خيارات الجميع على قدم المساواة.
يمكننا استخدام هذه السمات - جملة أو تفصيلا - لتعريف المفكر النقدي.
وتعد قائمة السمات الفكرية التي وضعتها المؤسسة، واحدة من القوائم العديدة التي وضعها المعلمون والباحثون لتحديد جميع السمات التي ينبغي للمفكر النقدي التحلي بها. وعلى مدار العقود، ظهرت بالفعل مجموعات كثيرة مختلفة من الخصال الفكرية؛ حتى إنها احتاجت إلى جهد إضافي لمحاولة جمعها في مجموعة شاملة تضم صفات تتخذ أسماء مختلفة مثل «حب البحث» و«حب الاستطلاع»، أو كلمات وعبارات قد تمثل جوانب مختلفة للمفهوم ذاته؛ مثل «احترام وجهات النظر البديلة» و«الانفتاح الذهني».
24
وكما سيرد في الفصل التالي، توجد نقاشات كثيرة بشأن كيفية توظيف دراسة التفكير النقدي في أنظمة التعليم الحالية في المراحل الابتدائية والثانوية وما بعد الثانوية. وبالرغم من ذلك، فحتى إذا كان النظر إلى التفكير النقدي باعتباره أولوية تعليمية يعطي لموضوعات مثل المنطق والحجاج مكانة جديدة بارزة في المنظومة التعليمية، فإن مكانة «التربية الأخلاقية» المرتبطة بتدريس الخصال الفكرية ليست واضحة في تلك المنظومة، وليس واضحا أيضا كيف يمكن أن تدمج فيها، ولا إن كانت ستندرج ضمن تلك المنظومة أم لا. (17) واحد من كثير
بالرغم من أن الكتاب لا يهدف إلى اختيار مفضلات من بين مختلف قوائم الخصال أو التعريفات المتنافسة للتفكير النقدي، فحري أن نشير إلى إجماع مهم يشاركه جميع من يعملون في المجال تقريبا، وهو أن التفكير النقدي يتكون من ثلاثة أجزاء مترابطة:
المعرفة:
تشمل معرفة عناصر التفكير النقدي مثل المنطق واللغة والحجاج.
المهارات:
القدرة على استخدام عناصر التفكير النقدي عمليا في المواقف الواقعية.
السمات:
الخصال الشخصية اللازمة لتقديم التفكير المنطقي على غيره من طرق التعلم واتخاذ القرارات، والاستعداد لاستخدام أدوات التفكير النقدي، والالتزام بمراعاة الأمانة والأخلاق عند استخدام قدرات التفكير النقدي.
ينطوي هذا التعريف وغيره من تعريفات التفكير النقدي وشروحه على توقع أن المفكر النقدي يعي ما يدور في رأسه. ومن ثم يصبح «إدراك الإدراك»، أي وعي الإنسان بعمليات التفكير التي تجري في ذهنه وفهمها، مهارة أخرى ينبغي أن يكتسبها المفكر النقدي، وكذلك فإن استعداد الشخص لتأمل أفكاره سمة أخرى ينبغي أن توجد في شخصية المفكر النقدي.
وعلى الرغم من وضوح دور المهارات الأساسية مثل المنطق في تحسين التفكير المنطقي، فإنه يمكن للسمات غير المعرفية مثل الانفتاح الذهني والتقمص الفكري أن تؤدي دورا بالغ الأهمية وضروريا للتفكير على نحو جيد.
ولفهم السبب، علينا دراسة الرؤى المستمدة من علم النفس، والمذكورة في الفصل الأخير، وهي تتضمن فكرة يعرفها الجميع من خبراتهم في الحياة؛ وهي أن عقل الإنسان ينقسم إلى أجزاء متخاصمة، تتضمن التفكير والعاطفة والغريزة. إضافة إلى ذلك، يتفاعل الأفراد وهم يمتلكون تلك العقول المنقسمة، مع أفراد آخرين باعتبارهم جزءا من نظام اجتماعي ما. ومما يعقد الأمور أكثر أننا حتى حين نحاول إعمال العقل لاتخاذ خيارات مدروسة غير مدفوعة بالعاطفة ولا الضغط الاجتماعي، يتضح أن التفكير البشري معيب، ومن ثم فهو عرضة للوقوع في الخطأ والتلاعب الناتج عن التحيزات التي ربما تكون متأصلة في عقولنا.
وعلى الرغم من أن البعض يقولون إن طبيعة العقل تجعل من الصعب على الناس أن يتصرفوا بعقلانية إن لم يكن من المستحيل، فإن سمة الثقة في المنطق تمنحنا النزعة للبحث عن أسباب المعتقدات العقلانية والتفكير فيها بدلا من تصديق ما يقال لنا فحسب أو الوقوع فريسة لأخطاء التفكير، وجميعنا عرضة لها. وبالمثل، توفر السمات الأخرى طرقا قوية لضبط العواطف والغريزة والتحيزات التي قد تحيد بتفكيرنا عن مساره الصحيح.
إن الانفتاح الذهني على سبيل المثال يعني الاستعداد لتقبل الأفكار، حتى التي لا نتفق معها. فقد تؤدي العاطفة إلى انزعاج داخلي حين نضطر إلى التفكير في وجهات نظر معارضة (أو حتى عند الاستماع إليها)، بينما يسهل الانحياز التأكيدي من قبول الأدلة والحجج التي تدعم وجهة نظرنا وتقدمها على الأدلة المعارضة. لكن من خلال التحلي بعقل متفتح، نصبح مستعدين لتعلم المزيد عن الآراء التي لا نقبل بها حاليا.
ينبغي أن توازن سمة الانفتاح الذهني بين القدرة على تمييز الحجج غير المنطقية ونبذها، مثل النظريات العرقية الغريبة أو اقتراح وجود الآلات الأبدية الحركة، وبين عدم النظر إلى كل حجة لا نتفق معها على أنها مكافئة لنظرية مؤامرة. إن استيعاب سمة الانفتاح الذهني جيدا يمكن أن يؤدي بالإنسان إلى تغيير آرائه بشأن شيء كان يظن أنه مؤمن به، أو يزوده بالرؤى اللازمة لإقناع الآخرين بتغيير آرائهم. وقد يؤدي تحلي الطرفين المشاركين في جدال ما بالانفتاح الذهني، سواء أكانوا أفرادا أم مجموعات أو حتى في سياق المجتمع ككل، إلى انبثاق إجابات وأفكار جديدة لم يكن يعرفها أحد من قبل المشاركة في عملية تداولية مدفوعة بما يرتبط بالتفكير النقدي من معرفة ومهارات وخصال.
انطلاقا من هذه الرؤية التي تتسم بالتفاؤل، يمكن للتفكير النقدي تقديم حلول للعديد من المشكلات التي نواجهها، بداية من السياسات القائمة على القبلية والعواطف السلبية وحتى الكوارث البيئية أو الاقتصادية التي تنتج عن طرق التفكير غير العقلانية بشأنها، أو تتفاقم بسبب ذلك. وبالرغم من ذلك، فقبل تناول الفوائد التي قد يجلبها التفكير النقدي للأفراد أو العالم، ينبغي مناقشة التحديات التي تقف في طريق جعل قدرات التفكير النقدي محورا في قطاع التعليم، إن لم يكن في المجتمع ككل. وهذا هو الموضوع الذي سنعالجه في الفصل التالي الذي يناقش طرق تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه.
الفصل الثالث
تعريف التفكير النقدي وتدريسه
وتقييمه
تناولنا فيما سبق أصول التفكير النقدي؛ باعتباره مفهوما مستقلا، وناقشنا كيف أن زيادة قدرتنا على التفكير المنطقي قد صارت غاية اجتماعية مهمة، وأولوية تعليمية. وتعرفنا أيضا على المعارف والمهارات والخصال التي قال الباحثون والتربويون بضرورة توفرها في المفكر النقدي.
بسبب اتفاق الأغلبية على ضرورة استخدام التفكير النقدي بدرجة أكبر في معالجة مشكلات العالم، فإن معظم النقاشات التي تدور عن الموضوع فيما بين المعلمين وأصحاب الأعمال وواضعي السياسات، تركز على كيفية تحقيق الزيادة المطلوبة في القدرة على التفكير النقدي. إن التحليل السابق الذكر الذي يقول بأن أكثر من ثلاثة أرباع أصحاب الأعمال يعتقدون بافتقار الخريجين الذين يوظفونهم إلى تلك القدرة المهمة، التي زعم معظم المعلمين وأساتذة الجامعات أنهم يمنحونها الأولوية؛ يعكس فجوة ينبغي دراستها في مناقشتنا للقضايا المهمة المتعلقة بطرق تعريف التفكير النقدي وتدريسه وتقييمه. (1) هل يمكن تعريف التفكير النقدي؟
في الفصل الذي يناقش أصول التفكير النقدي، ذكرت أن محاولات تعريف المصطلح ألقت الضوء على عدد من المسائل المهمة التي ترتبط ارتباطا مباشرا بكيفية تدريس التفكير النقدي وتقييمه، أو بما إن كان ذلك ممكنا أم لا. (2) تعريفات مختلفة
إن عدم الإجماع على تعريف لا يعني أن الآخرين لا يعرفون ما نتحدث عنه عند ذكر مصطلح «التفكير النقدي». وإنما يعني وجود العديد من التعريفات المتنافسة التي صيغت في أوقات مختلفة وتركز على أولويات مختلفة.
لقد تناولنا بالفعل بعض المحاولات لتعريف المصطلح ، ومنها تعريف جون ديوي للتفكير التأملي الذي وضعه عام 1910، وهو: «إمعان النظر الدءوب والمستمر والدقيق لأي معتقد أو شكل مفترض من أشكال المعرفة، في ضوء المسوغات التي تدعمه والاستنتاجات الإضافية التي يفضي إليها»، وتناولنا أيضا تعريف إدوارد جليسر الذي صاغه عام 1941، وقدم فيه وصفا متعدد الأوجه للتفكير النقدي على النحو التالي: «(1) النزعة إلى التفكير المتعمق في المشكلات والموضوعات التي تقع في نطاق تجارب الفرد، (2) معرفة طرق الاستقصاء المنطقي والاستنتاج، (3) التحلي بقدر من المهارة في تطبيق هذه الطرق.»
تردد صدى هذه التعريفات في الشرط الذي وضعته ولاية كاليفورنيا عام 1983، الذي يتمثل في إلزام جميع الخريجين من كليات وجامعات الولاية بإكمال دورة تدريبية في التفكير النقدي على أن تتناول الدورة «فهم علاقة اللغة بالمنطق، مما يؤدي إلى القدرة على تحليل الأفكار وانتقادها والدفاع عنها، والتحلي بالقدرة على التفكير الاستقرائي والاستنباطي، والوصول إلى الاستنتاجات الواقعية أو تكوين الآراء، بناء على استدلالات سليمة مستمدة من عبارات غير غامضة تعبر عن المعرفة أو الاعتقاد».
ثمة تعريف آخر صاغته مؤسسة التفكير النقدي السابقة الذكر، وهي مؤسسة غير هادفة للربح توجد في كاليفورنيا وقد ظلت تعنى بمجال تدريس التفكير النقدي على مدار عقود؛ والحق أن تعريفها يدمج عدة أولويات ومنها: إدراك الإدراك (أي التفكير بشأن تفكيرك)، والتغلب على التحيز الذي توضح المؤسسة أنه ينشأ من داخل الإنسان (الأنانية)، ومن خارجه (الأعراف المجتمعية). ويرد تعريف المؤسسة للتفكير النقدي على النحو التالي:
نمط للتفكير، في أي موضوع أو محتوى أو مشكلة، يعمد فيه المفكر إلى تحسين جودة تفكيره عن طريق تحليل الموضوع أو المحتوى أو المشكلة ببراعة؛ ومن ثم تقييم ما كان يفكر فيه وتشكيله من جديد. ويتسم التفكير النقدي بذاتية التوجيه والانضباط والمراقبة والتصحيح. إنه يقتضي الالتزام بمعايير صارمة للتميز والتحكم الواعي في استخدام تلك المعايير. وينطوي التفكير النقدي على التواصل الفعال وحل المشكلات، والالتزام بالتغلب على الأنانية الفطرية والأعراف المجتمعية.
1
في إحدى مراجعات مصنفات الأعمال الأكاديمية، تتناول إيميلي لاي، الباحثة لدى مؤسسة النشر التعليمية «بيرسون»، ما يزيد على عشرة تعريفات مختلفة للتفكير النقدي، وهي تعريفات مستمدة من مجالات الفلسفة وعلم النفس والتعليم.
2
ومن هذه التعريفات ما يلي: «التفكير التأملي والمنطقي الذي يركز على تقرير ما يؤمن به الإنسان أو يفعله»
3 «تفكير قصدي موجه لهدف محدد، وهو «تفكير يهدف إلى تكوين رأي» على أن تستوفي عملية التفكير ذاتها معايير الملاءمة والدقة»
4 «العمليات الذهنية والاستراتيجيات والتمثيلات التي يستخدمها الناس لحل المشكلات واتخاذ القرارات وتعلم مفاهيم جديدة».
5
اشترك كل من لاي وماتيو فينتورا وكريستين ديسيربو، وجميعهم يعمل لدى مؤسسة «بيرسون»، في مبادرة تعليمية غير هادفة للربح بعنوان «شراكة من أجل التعلم في القرن الحادي والعشرين»، ونشروا بحثا بعنوان «مهارات العصر الحاضر: ما نعرفه عن تدريس التفكير النقدي وتقييمه».
6
تقترح تلك الوثيقة إطارا كاملا لطريقة التفكير بشأن التفكير النقدي، ويركز هذا الإطار على المهارات القابلة للقياس، أكثر مما يركز على الخصال التي يصعب تقييمها سعيا لتحقيق غاية عملية تتمثل في وضع مناهج وطرق لتقييم برامج تدريس التفكير النقدي.
يأتي أحد تعريفات التفكير النقدي التي يستشهد لها على نطاق واسع، من دراسة بحثية أجريت عام 1990 بقيادة الدكتور بيتر فاسيون. تعاون الدكتور فاسيون مع ستة وأربعين معلما للتفكير النقدي من الولايات المتحدة وكندا، نصفهم من المتخصصين في الفلسفة والنصف الآخر من المتخصصين في العلوم الطبيعية والاجتماعية، من أجل صياغة تعريف متفق عليه للتفكير النقدي، وما يرتبط به من ممارسات وصفات ضرورية كي يصبح الفرد مفكرا نقديا. وتشكل هذا التعريف المتفق عليه من خلال عملية ممنهجة لاتخاذ القرارات والتنبؤ، تعرف باسم «طريقة ديلفي»، وهي التي أدت إلى إنتاج «تقرير ديلفي»،
7
الذي ورد فيه تعريف التفكير النقدي على النحو التالي:
حكم هادف وذاتي التنظيم يفضي إلى إجراء عمليات التأويل والتحليل والتقييم والاستدلال والشرح للاعتبارات الإثباتية أو المفاهيمية أو المنهجية أو القياسية أو السياقية، التي يبنى ذلك الحكم على أساسها.
وعلى الرغم من تنوع تلك التعريفات وتقديم بعضها لعناصر معينة على عناصر أخرى، فمن المبالغة القول إنها تختلف للغاية بعضها عن بعض، وبعدم وجود اتفاق في الآراء بشأن ماهية التفكير النقدي. فلا شك أن الطبيعة الثلاثية للتفكير النقدي، متمثلة في المعرفة والمهارات والخصال، التي ناقشها الفصل السابق، تضم معظم التعريفات المذكورة فيما سبق.
بعض التعريفات (مثل تعريف بيرسون)، تقدم المعرفة والمهارات على الخصال، بينما تؤكد تعريفات أخرى (مثل تعريف مؤسسة التفكير النقدي) على مسئولية الفرد عن مراقبة طريقة تفكيره وتحسينها. وبالرغم من هذا، فإنه ينبغي رؤية هذا التنوع في الأولويات على أنه دلالة على وجود جدال صحي، لا حالة محبطة من الافتقار إلى تعريف. فحتى المواد التقليدية مثل اللغة والرياضيات، تتفاوت طرق تدريسها وتتطور، مثلما يشير إلى ذلك تغير المعايير التعليمية على مر العقود، ثم إن العناصر التي تتلاءم مع تعريفات مختلفة للتفكير النقدي، أقل كثيرا من العناصر التي تشكل مجالات أوسع، مثل علم الأحياء.
إن ما «يندرج» تحت مظلة التفكير النقدي وما «يخرج»، هو العنصر الجوهري في تلك الجدالات التعريفية. ولقد طرحنا بالفعل بعض الحجج بشأن السبب في ضرورة أن تتسع عباءة التفكير النقدي لبعض الموضوعات (أو موضوعات فرعية) مثل الدراية المعلوماتية والبلاغة والإبداع. ورغم أن البعض قد يختلفون بشأن مقدار تضمين تلك الموضوعات، فإن ذلك لا يهدد الهدف من مشروع التفكير النقدي وهو: تنمية أفراد فاعلين مستقلين قادرين على التفكير بطريقة منهجية ومستقلة.
لكن ماذا عن الأفكار التي تشكل تحديا أمام هذه الغاية؟
الهدف من مشروع التفكير النقدي وهو: تنمية أفراد فاعلين مستقلين قادرين على التفكير بطريقة منهجية ومستقلة. لكن ماذا عن الأفكار التي تشكل تحديا أمام هذه الغاية؟ (3) مقارنة بين التفكير الفردي والتفكير الجماعي
يعمل بيتر إلبو أستاذا فخريا للغة الإنجليزية بجامعة ماساتشوستس، ويدرس الكتابة عبر عملية مكونة من خطوتين. تتألف الخطوة الأولى من «الكتابة الحرة والكتابة الاستكشافية السريعة» التي يصفها بقوله «تأجيل اليقظة والتوجيه في المرحلة الأولى من الكتابة» لصالح إطلاق العنان للإلهام واستكشاف الحدس الداخلي. وبعد اكتمال عملية الكتابة غير المنظمة، يتبنى الكاتب نهجا منظما لعمله، وغالبا ما يكون من خلال جلسات النقد الجماعي التفاعلية المصممة على غرار العمليات المرتبطة بالعلاج الجماعي.
8
وبدلا من تقسيم هاتين المرحلتين إلى مرحلة غير منضبطة/إبداعية، ومرحلة منظمة/نقدية، يشير إلبو إليهما باسم «تفكير المرتبة الأولى وتفكير المرتبة الثانية»، ولكل مرحلة منهما فوائدها ودورها في الكتابة، وفي عملية التفكير بوجه عام. وفي أعماله التالية، طور الفكرة القائلة بأن التفكير النقدي، الذي يؤكد على أن يبحث الفرد عن أوجه القصور في تفكيره أو تفكير الآخرين، يمثل «مرحلة من الشك» تحتاج إلى أن تكملها «مرحلة من الإيمان»، وفيها يحاول الإنسان إيجاد أوجه القوة حتى فيما يبدو سيئ الصياغة من الأفكار (أو الكتابات).
9
وعلى الرغم من أن أفكار إلبو لها ما يناظرها في ممارسات التفكير النقدي التقليدية، مثل دور الإبداع ومبدأ الإحسان، إلا أن فوائد تفكير المرحلة الثانية، الذي يحدث في شكل جماعي توضح أن التفكير قد يصبح عملا اجتماعيا ويحدث فيما بين الناس، لا نشاطا يحدث بالكامل في رءوس أفراد مستقلين. ويضيف الفيلسوف كوني ميسيمر أن التفكير الاجتماعي يوفر «رؤية تطورية لا تتخذ مصطلحات مثل: الجيد والسيئ، والملائم والمنطقي والتفكير النقدي، أي معنى فيها من دون نقاط مرجعية تاريخية واجتماعية»،
10
مما يوضح الدور الذي يمكن أن تؤديه الأعراف المجتمعية حتى لدى من يحاولون التفكير باستقلالية.
وللفكرة القائلة بأن عمليات التفكير واتخاذ القرارات الجماعية يمكن أن تكافئ التفكير الفردي أو حتى تتفوق عليه، أفكار سابقة عليها تمتد من تجارب الديمقراطية على مر القرون، وصولا إلى نظام القضاء في العصر الحالي. فعند إجراء عملية تقديرية على سبيل المثال (كتخمين عدد حبات حلوى الهلام الموجودة في وعاء)، نحصل من حساب متوسط عدد كبير من التخمينات، على عدد هو أقرب إلى الحقيقة من الأعداد التي تنتجها الاستراتيجيات التي يختارها الأفراد لتحديد العدد الصحيح. في كتابه «إنفوتوبيا: عدد العقول التي تنتج المعرفة» الصادر عام 2006، يستكشف كاس سانستاين، التفكير الجماعي هو أيضا، وكان سانستاين قد شارك في تأليف كتاب «الوكزة»
11
الذي يدعم توجيه تحيزات معرفية محددة لدى الإنسان تجاه أهداف مثمرة في السياسات.
12
واستلهاما من الانتشار السريع لقدرات التواصل والتعاون بفضل الإنترنت، حاول سانستاين أن يحدد أي أنواع ديناميكيات الجماعات أدى إلى تفكير منطقي أفضل، وأيها قد يؤدي إلى «تفكير جماعي» هدام.
وعلى الرغم من أننا لا نفهم الآليات الداعمة للتفكير الاجتماعي بمقدار ما نفهم قواعد المنطق التي يعود تاريخها إلى ألفي سنة، فثمة دور لا يخفى للتواصل والتعاون في عملية التفكير النقدي. لكن لأغراض صياغة التعريفات، فإن سكب فئات جديدة بالكامل (ومعقدة) من المساعي البشرية في دلو التفكير النقدي؛ قد يهدد بفيضان الدلو بالعناصر التي ليس لها سوى علاقة جزئية بهدف تنشئة مفكرين نقديين. (4) صورة أكبر
ثمة طريقة بديلة لإضافة المزيد والمزيد من العناصر إلى بنية التفكير النقدي، وهي جعل التفكير النقدي ذاته جزءا من شيء أكبر.
ومن أشهر المحاولات لتحقيق هذا الدمج، مبادرة «إطار العمل
لمهارات القرن الحادي والعشرين»،
13
التي أنشأتها المبادرة السابقة الذكر «الشراكة من أجل التعلم في القرن الحادي والعشرين» التي نظمت في عام 2002 ائتلافا من المعلمين وأصحاب الأعمال والقيادات الحكومية، لتحديد جميع المهارات التي يحتاج إليها الطلاب في الألفية الجديدة. وكان إطار العمل الذي وضعوه شاملا فلم يضم مهارات التفكير فحسب، بل ضم أيضا طرقا لمعالجة المحتوى وأصول التربية والتقييم. وفيما يتعلق بأغراض هذه المناقشة، حددت مبادرة «إطار العمل
» التفكير النقدي باعتباره واحدا من «المهارات الأربع»، وهي التفكير النقدي والتواصل والتعاون والإبداع، ونظمت تلك المهارات في شكل نطاقات متداخلة.
حددت مبادرة «إطار العمل
» التفكير النقدي باعتباره واحدا من «المهارات الأربع»، وهي التفكير النقدي والتواصل والتعاون والإبداع.
شكل 3-1
إن التفكير في هذه المهارات الأربع على أنها مهارات تتقاطع معا، ولا تترتب في فئات تستوعب إحداها الأخرى، يمدنا بطريقة عملية لفهم الأدوار التي قد تؤديها تلك المهارات بعضها تجاه بعض، أو لا تؤديها. فالتقاطع بين التفكير النقدي والتعاون والتواصل على سبيل المثال، يمكن أن يحدد المهارات اللازمة للمشاركة في التفكير المنطقي الاجتماعي، مع إتاحة المجال لمهارات التفكير النقدي الفردية خارج هذا التقاطع في الوقت ذاته. وبالمثل، قد يتضمن التقاطع بين التفكير النقدي والإبداع، أنشطة إبداعية وثيقة الصلة بالأفكار التأملية والعلمية مثل تصور الفرضيات والتجارب، مع السماح في الوقت ذاته بمساحة كبيرة في دائرة الإبداع تخصص بالكامل للمهارات ذات الصلة بالمساعي الفنية الخالصة.
ومع تطبيق التحليل النقدي على التفكير النقدي ذاته، يتطور إطار عمل مختلف موسع وجدلي بدرجة أكبر. ويقر أنصار هذا الإطار أهمية ممارسات التفكير النقدي التقليدية، مثل المنطق والحجاج، التي ترتبط بما يسمى في كثير من الأحيان، ب «حركة التفكير النقدي»، لكنهم يدركون في الوقت ذاته أن تلك الممارسات ليست سوى خطوة واحدة من بين خطوات عديدة ضرورية كي يفكر المرء تفكيرا منطقيا.
وثمة خطوة لاحقة يشار إليها في كثير من الأحيان باسم «علم أصول التعليم النقدي»، ويعود بعض الفضل في تشكيلها إلى الحركات الفلسفية الحديثة مثل حركة ما بعد الحداثة وحركة التفكيك، التي تتضمن القضايا التي تناقشها، طرح الأسئلة بشأن ما يمكن أن نعرفه بالفعل في ضوء محدودية الأدوات المتاحة لدينا، لا سيما اللغة. فعلى سبيل المثال، يضع المنخرطون في حركة التفكير النقدي، ومن يكتبون في علم أصول التعليم النقدي تعريفات مختلفة لكلمة «نقدي»، مثلما يشير إلى ذلك مارتن ديفيس ورونالد بارنيت في مقدمة كتاب «دليل بالجريف للتفكير النقدي في التعليم العالي»:
استخدم منظرو حركة التفكير النقدي صفة «النقدي» بمعنى «الانتقاد» (أي إدراك نقاط الضعف في ادعاء أو حجة). وكان هدفهم هو أن يخدم المنطق التفكير الواضح. وعلى الجانب الآخر، استخدم منظرو علم أصول التربية، كلمة «النقدي» بمعنى «التحليل» (أي تحديد أبعاد المعنى الذي قد يكون غائبا أو مستترا في مطالبة أو اعتقاد أو بناء.)
14
وقد تتضمن هذه المعاني الغائبة أو المستترة هياكل خفية من السلطة أو افتراضات مغروسة في النظام الاجتماعي لثقافة ما؛ ومن ثم لا تلحظ التحيزات التي تولدها. لذا من وجهة نظر عالم أصول التعليم النقدي، تتمثل مهمة المفكر النقدي في فهم هذه الافتراضات، واستخدام تلك المعرفة لكشف الهياكل الخفية التي تستند إليها. وفي مقدمة كتابهما «دليل بالجريف»، يعرض ديفيس وبارنيت خطوات أخرى يمكن أن تحدد هذا المسار المتطور الموسع، ومنها «الفعل النقدي» الذي يطلب ممن تمكنوا من رفع الحجاب عن الأنماط التي تخفي وراءها بعض جوانب كيفية عمل العالم بالفعل؛ للتصرف بناء على تلك المعرفة كي يغيروا المجتمع إلى الأفضل.
فما أنواع الافتراضات التي ربما تكون مستترة خلف هذا الحجاب؟ سنتناول نوعا وثيق الصلة بهذا الكتاب، وهو أن معظم المجالات التي ألهمت التفكير النقدي (الفلسفة الكلاسيكية، والعلوم الحديثة، وعلم النفس) وأدوات المفكر النقدي (مثل المنطق والحجاج)، قد نشأت في الحضارة الإغريقية القديمة وأوروبا قبل العصر الحديث وفي العصر الحديث، أما مفهوم «التفكير النقدي» فقد نشأ في الأساس بالولايات المتحدة. فهل أدت صياغة مفاهيم «التفكير النقدي» إلى الكشف عن حقائق كونية عن طبيعة الإنسان، مثل الاكتشافات العلمية كالجاذبية أو الطبيعة الذرية للمادة، أم ينبغي اعتبار تلك المفاهيم وليدة ثقافة معينة (غربية)؟ إذا كانت الإجابة هي الخيار الثاني، فهل يمكن أن توجد طرق فعالة للتفكير مستمدة من ثقافات أخرى وينبغي مراعاتها عند تدريس مهارات التفكير، أم يمكن لأشكال المنطق التي ندرسها أن تعبر عن إبداعات ثقافية (أو حتى فروض) لا حقائق كونية؟
إضافة إلى هذه الأسئلة الثقافية، كتبت بعض الباحثات في مجال النسوية، مثل كارين جيه وارن تحليلات للتفكير النقدي تناقش، على غرار تحليلات مماثلة للعلوم، إذا ما كانت الفروق والتسلسلات الهرمية وطرق التمييز بين الأدلة «السيئة» والأدلة «الجيدة» وكذلك التفكير المنطقي، تمثل نهجا ثنائية للمعرفة قد نتجت عن هياكل مثل الفلسفة أو العلوم أو المجال الأكاديمي ذاته، والتي سيطر عليها الرجال على مر التاريخ.
15
إن من يتفقون مع مناهج حركة التفكير النقدي بدرجة أكبر، ليسوا مستعدين لاختزال طرق علم أصول التعليم في الصور الميكانيكية من المنطق ومنهجيات الحجاج، لا سيما أنهم يتبنون الفئات غير الميكانيكية مثل الإبداع والخصال الشخصية والأخلاقيات. ثم إن البرامج السياسية التي يختارها بعض أنصار علم أصول التعليم النقدي والعمل النقدي، يثيرون في أنصار المناهج الأشهر التساؤلات عما إذا كان علم أصول التعليم النقدي والعمل النقدي، هما الخطوات الطبيعية التالية في تطور تدريس التفكير النقدي، أم إنها محاولات للاستعاضة عن تدريس كيفية التفكير، بتدريس ما نفكر به.
سنتوقف الآن عن مناقشة هذه الموضوعات المثيرة للاهتمام، وليس ذلك لأنها مشحونة بالسياسة؛ بل لأن النقاش بشأنها سرعان ما يتحول إلى أسئلة معقدة عن نظرية المعرفة، وهي فرع الفلسفة الذي يناقش كيف لنا أن نعرف أي شيء من الأساس. وبالرغم من ذلك، إذا اطلعت على المزيد من تلك الجدالات
16
فستلاحظ، حتى هذه المرحلة على الأقل، أن أنصار كل جانب لا يزالون يستخدمون الأدوات العامة للمفكر النقدي (المنطق، الحجاج، التواصل الإقناعي) لعرض آرائهم والدفاع عنها. (5) هل يمكن تدريس التفكير النقدي؟
مثلما هي الحال مع الأسئلة المتعلقة بتعريفات التفكير النقدي، فإن الجدالات المتعلقة بتدريس التفكير النقدي تدور بشأن أفضل طرق تدريسه، أكثر مما تدور بشأن إمكانية تدريس مهاراته من عدمها. فبالرغم من كل شيء، تدرس بعض أهم عناصر التفكير النقدي مثل المنطق، منذ ما يزيد على ألفي عام، أي إن هذه المادة أقدم كثيرا من أي مادة دراسية أخرى تشكل الآن جزءا من المناهج الدراسية التقليدية. لذا، ينبغي أن تركز النقاشات المتعلقة بتدريس التفكير النقدي وتعليمه على توقيت تدريس مهارات التفكير النقدي، وأماكن تدريسها وكيفية تحقيق ذلك، بدلا من التركيز على إمكانية تدريس مهارات التفكير النقدي من عدمها. (6) التوقيت المناسب للبدء
سنبدأ بمعالجة عنصر التوقيت، في كتاب «دماغ المراهق: دليل علمي لتنشئة المراهقين والشباب»،
17
وهو الكتاب الأفضل مبيعا لعام 2015، وفيه توظف الدكتورة فرانسيس جنسين، أستاذة علم الأعصاب في كلية الطب بجامعة بنسلفانيا، خبرتها المهنية في مهمة استكشاف النمو العقلي والسلوكي لدى الشباب، بمن فيهم ولداها المراهقان.
وبعد عرض تحليلي للأبحاث التي تتناول كيفية نمو أجزاء الدماغ وطريقة عملها منفردة ومجتمعة، وذلك بالاستفادة من تقدم التكنولوجيا في مجال تصوير الدماغ، أوضحت جنسين أنه مثلما تتسم مرحلة الطفولة بتوسع هائل في القدرات الإدراكية في مجالات مثل اللغة والمهارات الحركية، تتسم المراهقة أيضا بالنمو السريع لأجزاء الدماغ التي تتحكم في التفكير المنطقي. وعلى الرغم من أن الدماغ قد لا ينمو من حيث الكتلة بينما يصل الأطفال إلى تلك المرحلة في حياتهم، فإن الوصلات المشبكية العصبية الموجودة بين العصبونات، التي تحدد تعقيد الدماغ وتحكم مستويات القدرات العقلية، تستمر في التمدد بسرعة وإن لم يكن ذلك بالتساوي، بينما يبلغ الأطفال مرحلة المراهقة.
إن نمو الوصلات التي تدعم التفكير المنطقي يسهم في تفسير النمو السريع في قدرة الشباب على الجدال والحجاج في انتقالهم من مرحلة المراهقة المبكرة إلى الشباب، سواء أكان ذلك في كتابة الواجبات المدرسية أو المناظرات التنافسية أو التوسل من أجل تأخير موعد النوم أو أخذ مفاتيح السيارة. ويسهم عدم التساوي في النمو الذي توثقه جنسين، في تفسير السبب في أن مهارات التفكير المنطقي التي غالبا ما تظهر لدى المراهقين، لا تترجم إلى أحكام أفضل على نطاق شئون الحياة اليومية.
مثلما تتسم مرحلة الطفولة بتوسع هائل في القدرات الإدراكية في مجالات مثل اللغة والمهارات الحركية، تتسم المراهقة أيضا بالنمو السريع لأجزاء الدماغ التي تتحكم في التفكير المنطقي.
لقد اتضح للعلماء أن نمو الدماغ يجري على نحو «معكوس»؛ بمعنى أن قشرة الفص الجبهي، التي تقع خلف مقدمة الرأس، وهي جزء مرتبط باتخاذ القرارات والتحكم في النفس، لا «تتصل» كليا بأجزاء الدماغ الأخرى التي تتحكم في التفكير المنطقي المنهجي إلى أن يبلغ الفرد ما بين أوائل العشرينيات من عمره إلى أوسطها. ويساعد هذا في تفسير سلوك الطلاب؛ إذ يقضون وقت الصباح في أداء اختبارات يتفوقون فيها ويحاجون عن مواقفهم بمهارة في مناقشات الفصل الدراسي، بينما ينخرطون مساء في تصرفات تتسم بالمخاطرة أو يتخذون خيارات حمقاء.
وعلاوة على مساعدة الأطفال والآباء في فهم الأنماط السلوكية التي تظهر مع مرحلة المراهقة فهما أفضل، توضح هذه الاكتشافات النفسية أن مرحلة المراهقة هي التوقيت المثالي كي يتعرف الطلاب على أنماط منظمة من التفكير المنطقي والحجاج للاستفادة من القدرات الطبيعية التي تزداد بالفعل في تلك المرحلة من حياتهم.
وبالرغم من أن الأبحاث المتعلقة بنمو الدماغ تحدد فترة معينة (المرحلة الثانوية)، هي التي يمكن أن يستوعب الطلاب فيها مهارات التفكير النقدي، فلا يوجد حد أدنى واضح بشأن العمر الذي تبدأ فيه قدرات التفكير النقدي في النمو لدى الأطفال.
فعلى سبيل المثال، اكتشفت دراسة أجريت عام 2013 في المملكة المتحدة أن تدريس الفلسفة لطلاب المرحلة الابتدائية كان له وقع إيجابي ملحوظ على مختلف مقاييس التحصيل التعليمي، بما في ذلك مجالات مهارات القراءة والكتابة والرياضيات، وقد برز هذا التأثير على وجه الخصوص بين المتعلمين ذوي الدخول المنخفضة.
18
وكان برنامج «الفلسفة من أجل الأطفال» الذي فحصته الدراسة السابقة الذكر، من تصميم جمعية النهوض بالبحث الفلسفي والتفكير في التعليم (SAPERE) . وتضمن البرنامج إشراك الطلاب في مناظرات فلسفية حقيقية بشأن أسئلة مثل «ما الحقيقة؟» أو قضايا أخلاقية مثل التنمر. خلال إحدى المراحل التجريبية، عقدت المناقشات على مدار عدة أشهر بمعدل مرة في الأسبوع (في المتوسط)، وكان يوجهها معلمون تلقوا التدريب في منهجية برنامج «الفلسفة من أجل الأطفال».
ومثلما ذكرت الدراسة البحثية التي أجريت على برنامج «الفلسفة من أجل الأطفال»، التي تضمنت ما يزيد على ثلاثة آلاف طالب فيما يقرب من خمسين مدرسة، «يهدف البرنامج إلى مساعدة الأطفال في أن يصبحوا أكثر استعدادا وقدرة على التساؤل والتفكير المنطقي وبناء الحجج والتعاون مع الآخرين.» على الرغم من أننا لا نمتلك فهما كاملا للآليات الدقيقة التي جعلت النقاشات الفلسفية المنتظمة تؤدي إلى زيادة الدرجات في المواد الدراسية مثل اللغة والرياضيات، فلا شك بأن المنهجيات المرتبطة بالفلسفة، مثل صياغة جمل واضحة وإيجاد أسباب تبرر الاعتقاد بشيء ما والتعبير عنها، تسهم في تدريس اللغة والرياضيات وكل المواد الأخرى وتعلمها. وعلى أقل تقدير، فإن التأثير الإيجابي للبرنامج على مجموعات متنوعة من المتعلمين الصغار، يوضح إمكانية تدريس التفكير النقدي في المراحل المبكرة، وهو هدف يتبناه المشتغلون بالفلسفة العامة الذين يسعون إلى نشر الفلسفة بين نطاقات أوسع من الجمهور.
19
وثمة دراسات أخرى تدعم فكرة أن محتوى التفكير النقدي المناسب للمرحلة العمرية يعزز التقدم في تطوير التفكير النقدي على مدار السنوات التي يقضيها الأطفال في المدرسة.
20
وقد بنيت مبادرات تعليمية مهمة يسترشد بها في تعليم ملايين الطلاب في معظم الولايات الأمريكية، على أساس زيادة فهم تقدم النمو القائم على المراحل التعليمية، ومن تلك المبادرات مبادرة المعايير الأساسية المشتركة لآداب اللغة الإنجليزية، ومعايير الرياضيات.
ومن الأمثلة على ذلك، يستلزم المعيار الأول للكتابة من المعايير الأساسية المشتركة لآداب اللغة الإنجليزية أن يكتب الطلاب في المراحل المبكرة (من رياض الأطفال حتى الصف الخامس الابتدائي) موضوعات تعبر عن الرأي، تتطور إلى مقالات جدلية في الصفوف من السادس إلى الثاني عشر. وفي كل مرحلة، تزيد المتطلبات فيما يتعلق بفهم البنية المنطقية للحجج وتقييم جودة الأدلة، إلى أن تصبح معايير الكتابة الخاصة بمبادرة المعايير الأساسية المشتركة لآداب اللغة الإنجليزية في الصف الثاني عشر أقرب إلى هدف تعليمي لإحدى دورات التفكير النقدي في المرحلة الجامعية:
تقديم مزاعم دقيقة مبنية على المعرفة، وعرض أهمية المزاعم والتمييز بين المزاعم والمزاعم البديلة أو المعارضة، وإنشاء بناء يضع المزاعم والمزاعم المضادة والتبريرات والأدلة في تسلسل منطقي.
21
إن هذه المناقشة بشأن المعايير الأكاديمية والمناهج التعليمية تطرح سؤالا آخر بشأن تدريس التفكير النقدي؛ وهو: أي موضوعات المناهج الدراسية ينبغي تدريس التفكير النقدي فيها؟ (7) في أي المواد الدراسية ينبغي «إحياء» التفكير النقدي؟
في المراحل التعليمية بعد الثانوية، التي تدرس فيها الدورات التدريبية المختصة بمجال معين جنبا إلى جنب مع الدورات التعويضية والدورات المتعددة التخصصات، توجد دورات تدريبية لتدريس مهارات التفكير النقدي في أنظمة العديد من الكليات والجامعات. فلا يزال نظام جامعة كاليفورنيا يشترط إكمال دورة في التفكير النقدي قبل التخرج، وعلى الرغم من أن مبادرة كاليفورنيا لعام 1983 لم تحفز على فرض شروط مماثلة في أنظمة الكليات الحكومية الأخرى، فقد أسهمت في زيادة عدد دورات تدريس التفكير النقدي في المرحلة الجامعية زيادة كبيرة، حيث كان يقدمها في كثير من الأحيان وليس كلها، قسم الفلسفة بالكلية.
بدلا من تصميم دورات تدريبية مخصصة للتفكير النقدي، يمكن دمج تدريس التفكير النقدي في مواد دراسية معينة مثل الكتابة والعلوم والتاريخ. وستتيح هذه الاستراتيجية لمدرسي تلك التخصصات تضمين مهارات التفكير النقدي الملائمة للمحتوى الذي يتعلمه الطلاب بالفعل. فعلى سبيل المثال، نجد أن معيار كتابة المقالات الجدلية وفقا لمبادرة آداب اللغة الإنجليزية، يمنح الطلاب الفرصة لتعلم البنى المنطقية وجودة الأدلة في سياق الكتابة عن موضوعات تثير اهتمامهم. وينطبق الأمر نفسه على معلمي العلوم الذين يدرسون المنهجية العلمية؛ إذ يستطيعون الجمع بين الرؤى العلمية وأصول التعليم في التفكير النقدي كي يوضحوا للطلاب كيفية صياغة الفرضية واختبارها، وتطبيق ذلك على أي شكل من أشكال الاستقصاء.
في حالات كثيرة، تتخذ القرارات المتعلقة بالمواد التي ينبغي تدريس التفكير النقدي فيها لأسباب عملية لا لأسباب تربوية. فبالرغم من كل شيء، يمكن للكليات والجامعات تقديم مواد دراسية اختيارية تركز على موضوعات محددة، وهي فرصة للمرونة لا توفرها معظم أنظمة التعليم الحكومي التي تركز على المواد الدراسية التقليدية (لا سيما اللغة والرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية) التي تدرس وفقا لمعايير محددة تزيد حسب كل صف دراسي.
في عام 1989، حث روبرت إتش إنيس، فيلسوف التعليم بجامعة إلينوي، المعلمين والباحثين على تفادي تبني نظرة ثنائية فيما يتعلق بالدورات التدريبية المخصصة للتفكير النقدي مقابل دمج تدريس التفكير النقدي في المواد التقليدية.
22
واقترح بدلا من ذلك إطار عمل يتمثل في أربعة نهج لتدريس التفكير النقدي، وهي: «النهج العام» و«نهج التشريب» و«نهج الغمر» و«النهج المختلط»:
ما أعنيه ب «النهج العام» هو محاولة تدريس قدرات التفكير النقدي وسماته بصورة مستقلة عن عرض محتوى دروس المادة الدراسية، بغرض تدريس التفكير النقدي ...
أما «نهج التشريب» المتمثل في تدريس التفكير النقدي ضمن المادة الدراسية، فهو تدريس المادة الدراسية على نحو متعمق ومدروس ومفهوم للغاية، يشجع الطلاب على تبني التفكير النقدي في المادة، ويعرض هذا النهج المبادئ العامة لسمات التفكير النقدي وقدراته «بطريقة مباشرة». ومن ناحية أخرى، يعد نهج «الغمر» نوعا مماثلا من تدريس المادة الدراسية على نحو يبعث على التفكير، وفيه يتعمق الطلاب في المادة الدراسية وينخرطون فيها، لكن المبادئ العامة للتفكير النقدي «لا تقدم بطريقة مباشرة» عند استخدام هذا النهج ...
أما النهج «المختلط» فيتمثل في الجمع بين النهج العام ونهج التشريب، أو الجمع بينه وبين نهج الغمر.
ووفقا لهذا الإطار، تندرج الدورات التدريبية المخصصة لتدريس التفكير النقدي في الجامعة ضمن فئة النهج العام، بينما يندرج دمج تدريس التفكير النقدي في دورة تدريبية لمجال محدد ضمن فئة النهج المباشر (التشريب)، أو في فئة النهج الضمني (الغمر)، وقد يجمع أيضا بين هذا وذاك في النهج «المختلط».
وبهذا الإطار، يؤكد إنيس أنه لما كان التفكير النقدي يطبق في كثير من الأحيان على مواد دراسية، فإن تضمين محتوى التفكير النقدي في المواد الدراسية التقليدية (سواء من خلال نهج التشريب أو نهج الغمر أو النهج المختلط)، لا يعني بالضرورة أنه أدنى مرتبة من تدريس التفكير النقدي بمفرده (النهج العام). ويعارض إنيس أيضا الفكرة القائلة بأن التفكير النقدي يختلف على نطاق واسع بين مختلف مجالات المعرفة، ومن ثم فمنهج الغمر وحده هو القادر على معالجة تلك الاختلافات. ويوضح ذلك قائلا:
يوجد العديد من القواسم المشتركة في مجال التفكير النقدي، مثل الاتفاق على أن تعارض المصالح يقدح في مصداقية المصدر، والاتفاق على أهمية التفريق بين الشروط الضرورية والشروط الكافية. صحيح أن المجالات يختلف بعضها عن بعض، لكنها ... تنطوي أيضا على جوهر مشترك من المبادئ الأساسية التي تنطبق على معظم المجالات (بالرغم من عدم صلاحية تطبيق جميع المبادئ على كل المجالات).
23 (8) الإحالة
إن الأسئلة التي تدور بشأن النهج الذي ينبغي تبنيه، ترتبط ارتباطا وثيقا بأحد الأهداف الرئيسية من تدريس التفكير النقدي وهو: «الإحالة»، وتعني قدرة الطلاب على استيعاب المعلومات والمهارات التي تعلموها في مادة دراسية ما، وتطبيقها على مادة دراسية أخرى أو غيرها من أنماط الحياة، بخلاف المجال الأكاديمي.
وعندما يدافع المعلمون عن صلة المحتوى الذي يدرسونه بالحياة خارج الفصل الدراسي، فإنهم يقدمون ادعاءات بشأن إمكانية تطبيق المعلومات والمهارات التي يدرسونها على المجالات الأخرى، وهي سمة تمنح الطلاب مزايا تستمر معهم في أثناء انتقالهم إلى المراحل التعليمية الأكثر تقدما، أو الحياة المهنية.
ومع تحول الأولويات التعليمية إلى مواد العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات على مدار عدة عقود مضت، صار معلمو العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية يحاجون في كثير من الأحيان بأن حصصهم الدراسية تزود الطلاب بالوسائل لتنمية قدرات التفكير النقدي التي يمكن تطبيقها على مجالات أخرى. فبالرغم من كل شيء، لا تعنى معلمة الكتابة بتدريس طلابها كتابة مقال واحد ببراعة، بل بتدريبهم على مهارات الكتابة والتفكير التي يمكن تطبيقها في العديد من المواقف في حياتهم. وبالمثل أيضا، تعد القدرة على مناقشة المواقف في حصة التاريخ والدفاع عنها بناء على الأدلة الوجيهة والتفكير المنطقي، مهارة بالغة الأهمية لاتخاذ القرارات والإقناع خارج الفصل الدراسي.
وتشير هذه الادعاءات المتعلقة بإحالة المعرفة إلى أن الأنشطة التعليمية المحددة، مثل الكتابة والمناقشة، تؤدي إلى تعلم مهارات التفكير النقدي العامة، مثل المنطق والحجاج وتقييم الأدلة والتواصل الإقناعي، ويحدث ذلك مباشرة من خلال نهج التشريب الذي وصفه إنيس، أو ضمنيا من خلال نهج الغمر. غير أن هذه الإشارة تطرح أمامنا سؤالين. أولا؛ هل يتمتع المعلمون الذين يحاولون تنمية تلك المهارات القابلة للنقل لدى الطلاب بالتدريبات والخبرات الكافية لتدريس عناصر التفكير النقدي مباشرة ضمن عملية التشريب؟ ثانيا؛ هل تصبح أدوات التفكير المنطقي المكتسبة تلقائية بدرجة تكفي لأن يؤدي غمرها في حصص مواد دراسية معينة تدرس جيدا، إلى تنمية مفكرين نقديين عن طريق التأثر التدريجي؟
وتنطبق هذه الأسئلة نفسها أيضا على معلمي الرياضيات والعلوم الذين قد يقولون إن مجالاتهم تمنح الطلاب الفرصة لتحسين قدرة التفكير النقدي لديهم وممارستها. فعلى سبيل المثال، من أولى الفرص التي يتعين على الطلاب فيها معرفة الحجج المنطقية، هي عندما يتعلمون البراهين الهندسية في مادة الرياضيات. لكن كم عدد معلمي الرياضيات الذين يستفيدون من هذه الفرصة ويشرحون للطلاب كيفية تطبيق المقدمات التي تقدم أسبابا لتصديق الاستنتاجات على أي شكل من أشكال الحجج، بما في ذلك الحجج غير القائمة على المنطق الاستنباطي، على العكس من الحجج الرياضية؟ وكم عدد معلمي العلوم الذين يؤكدون على إمكانية تطبيق الطرق التي يدرسونها على المواقف التي لا تتضمن التجارب المنضبطة المرتبطة بالعلوم، مثل اختيار الكلية التي ينبغي الانضمام إليها أو اختيار المرشح الذي يستحق الانتخاب؟
إن هذه الأمثلة على طرق استخدام تدريس محتويات مواد دراسية محددة من أجل تدريس مهارات التفكير القابلة للإحالة، تأخذنا إلى السؤال التالي: كيف ينبغي تعليم التفكير النقدي؟ (9) طريقة تدريس التفكير النقدي
أتى المقال الذي اقترح فيه إنيس إطاره المكون من أربعة أجزاء، تحت العنوان الفرعي: «التوضيح والأبحاث المطلوبة». وانتهى المقال باقتراح خطة بحثية طموحة، تهدف إلى تحديد أفضل الطرق فعالية من بين الطرق التي يصفها. وفي السنوات التي تلت نشر المقال، أجريت أبحاث كثيرة للاستفادة بها في «التحليلات التلوية» التي تحلل نتائج العشرات - إن لم يكن المئات - من الدراسات المتعلقة بممارسات تدريس التفكير النقدي لتحديد التوجهات والرؤى.
درس أحد تلك التحليلات
24
نتائج 117 من «التدخلات» لتحسين مهارات التفكير النقدي وتضمنت التدخلات في مجملها ما يزيد على عشرين ألف طالب من المراحل الابتدائية والثانوية وما بعد الثانوية والدارسين الكبار. والحق أن استخدام هذا النطاق الواسع من الفئات العمرية والثقافات والمواد الدراسية والطلاب في تلك التدخلات، يصعب التوصل إلى إجابات عامة أو طرح إجابات قاطعة بشأن الممارسات الناجحة وغير الناجحة. وعلى الرغم من ذلك، قدمت البيانات من التحليل أفكارا مهمة، ومنها ما يلي:
كان للنهج المختلط الذي يدرس فيه التفكير النقدي في صورة مسار مستقل ضمن محتوى مادة دراسية محددة؛ أكبر تأثير [إيجابي]، بينما كان لمنهج الغمر الذي يعد التفكير النقدي فيه ناتجا ثانويا للتدريس؛ أصغر تأثير. أما النهج العام الذي تكون مهارات التفكير النقدي فيه هي الهدف الصريح المباشر من الدورة التدريبية، ونهج التشريب الذي يتمثل في دمج مهارات التفكير النقدي في محتوى المادة الدراسية وتذكر صراحة ضمن أهداف الدورة التدريبية؛ فقد كانت تأثيراتهما متوسطة.
ووجد الباحثون أيضا تحسنا كبيرا فيما يتعلق باستعداد المعلمين، ولاحظوا ما يلي:
عندما تلقى المدرسون تدريبات خاصة متقدمة استعدادا لتدريس مهارات التفكير النقدي، أو عندما حصلوا على ملاحظات مكثفة بشأن إدارة الدورة التدريبية وممارسات تدريس التفكير النقدي؛ حققت التدخلات أفضل نتيجة لها في التأثير. وعلى النقيض من ذلك، كانت تأثيرات التفكير النقدي ضئيلة عندما كانت نية تحسين مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب مدرجة في أهداف الدورة التدريبية فحسب، ولم تبذل جهود في التطوير المهني أو تحسين تصميم الدورة التدريبية وتنفيذها.
تتسق هذه النتائج مع المثال المذكور سابقا عن تجربة ناجحة في المملكة المتحدة، تمثلت في حصول المعلمين على تدريب متعمق عن كيفية تنفيذ برنامج «الفلسفة من أجل الأطفال». وإضافة إلى ذلك، فإن الملاحظات المستقاة من هذا التحليل التلوي الواسع النطاق، تدعم أيضا المفاهيم البديهية التالية: (1) كي يتعلم الطلاب شيئا ما، ينبغي أن يتلقوا تعليما مباشرا للموضوع، لا أن يتعرضوا له فحسب، (2) ينبغي أن يتقن المعلمون محتوى الموضوع الذي يدرسونه (وهو المحتوى المرتبط بالتفكير النقدي على وجه الخصوص في هذه الحالة) والمنهجيات التعليمية المحددة المتعلقة بكيفية تدريس التفكير النقدي.
لا بد لمحاولات تنشئة مفكرين نقديين من خلال المدارس أن تراعي الاعتقاد الواسع الانتشار الذي سنتناوله في الفصل الأخير، وهو يتمثل في أن التفكير النقدي ليس محتوى يدرس فحسب، وإنما يتكون من ثلاثة عناصر مترابطة؛ وهي: المعرفة والمهارات والسمات الشخصية. وهذا يعني أن التمتع بمهارة التفكير النقدي لا يقتصر على الاستيعاب المتعمق لموضوعات مثل المنطق والحجاج، بل يستلزم أيضا استخدام تلك المعرفة باستمرار.
إن التمتع بمهارة التفكير النقدي لا يقتصر على الاستيعاب المتعمق لموضوعات مثل المنطق والحجاج، بل يستلزم أيضا استخدام تلك المعرفة باستمرار. (10) الممارسة المدروسة
في عملي الخاص في مجال وضع محتوى المناهج الخاصة بالتفكير النقدي، الذي استفاد من سياسات الحملة الرئاسية لتدريس مهارات مثل التفكير المنطقي والحجاج والبلاغة، فوجئت بضآلة الوقت المستغرق لتناول أساسيات هذه الموضوعات وغيرها، مثل الإعلام والدراية المعلوماتية وعيوب التفكير المنطقي والعاطفي التي تؤدي إلى التحيز في التفكير. مررت أيضا بتجربة مماثلة حينما شاركت في برنامج لتدريس مهارات تخطيط الحجج لطلاب المرحلة الثانوية. لم يستغرق الوقت اللازم لشرح تخطيط الحجة سوى نسبة ضئيلة من الوقت الذي احتاج إليه الطلاب للتطبيق. ففي هذه الحالات وغيرها من حالات تدريس التفكير النقدي، ينبغي التركيز بدرجة أكبر على تطوير المهارات من خلال الممارسة المدروسة، والتركيز على التدريس البسيط بدرجة أقل.
ويمكننا فهم السبب في هذا عندما نتخيل النطاق الواسع من المواقف الواقعية المتنوعة والمعقدة، التي يمكن تطبيق التفكير النقدي فيها. إن فهم طريقة تحويل حجة بسيطة في تمرين ورقة عمل إلى قياس منطقي أو خطة حجة لا يستغرق على الأرجح سوى بضع دقائق، لا سيما إذا كان التمرين مصمما بحيث تكون له إجابة صحيحة. غير أن الحجج «في الظروف الطبيعية» نادرا ما تحدد بهذه السهولة والوضوح. فقد تتضمن إحدى المقالات الصحافية أو الإعلانات أو إحدى المناظرات عدة حجج مترابطة، بعضها قوي وبعضها ضعيف، وتتفرع في كل الاتجاهات. وربما يقتضي إمعان النظر في تلك البنية المنطقية تقوم عليها عمليات التواصل أو الأحداث، إجراء قدر لا بأس به من الترجمة لإزالة الحشو اللفظي من الحجة وتجريدها إلى جوهرها. علاوة على ذلك، قد يستلزم فهم الحجج المقدمة وتقييمها إجراء المزيد من البحث لاكتشاف الأدلة وتقييمها. ولا شك في أن هذه الجهود تستغرق وقتا، لكنها تمنح الطلاب الخبرة لتطبيق أدوات التفكير النقدي على مواقف متزايدة التعقيد.
إذن، ما مقدار الممارسة المدروسة اللازمة كي يصبح الفرد مفكرا متمرسا؟ سنورد فيما يلي إحدى الإجابات المستقاة من العمل الذي قام به كل من كيه أندريس إريكسون ونيل تشارنس، وذكره الباحث الأسترالي تيم فان جيلدر:
وجد إريكسون أن تحقيق أعلى مستويات التميز في العديد من المجالات المختلفة يرتبط ارتباطا وثيقا بمقدار الممارسة المدروسة. ومن المثير للاهتمام أن إريكسون قد اكتشف أيضا درجة ملحوظة من الاتساق بين المجالات من حيث مقدار ما يلزم من الممارسة للوصول إلى أعلى المستويات؛ ويستغرق ذلك بصفة عامة عشر سنوات من الممارسة لمدة أربع ساعات في اليوم تقريبا.
وعلى الرغم من أن إريكسون لم يدرس التفكير النقدي على وجه التحديد، فلدينا ما يسوغ افتراض أن استنتاجاته تنطبق على التفكير النقدي أيضا. وهذا يعني أن مهارات التفكير النقدي ستتحسن لدى الطلاب بأقصى درجة من الفاعلية إذا انخرطوا في مقدار كبير من الممارسة المدروسة للتفكير النقدي. ولا تقتصر هذه الممارسة بالطبع على التفكير النقدي بشأن موضوع ما (مثل تبني التفكير «النقدي» في كتابة مقال عن الفلسفة). وإنما تتضمن أيضا القيام بتدريبات خاصة تهدف في الأساس إلى تحسين مهارات التفكير النقدي ذاتها.
25
لا شك في أن آلاف الساعات من الممارسة التي قد يستغرقها الأمر كي يصبح المرء مفكرا نقديا، أكثر مما يمكن أن يوفره حتى أكثر دورات التفكير النقدي التدريبية تخصصا وتطلبا للجهد، فضلا عن دورة تدريبية في مجال مختلف ينبغي أن توازن بين تطوير مهارات التفكير العامة والخاصة بالمجال، وبين تعلم محتوى الدورة التدريبية. لذا، فربما يجب أن تنطوي هذه الدورات التدريبية المخصصة والمدمجة على تعريف الطلاب بشأن طبيعة التفكير النقدي وممارساته، وتوحي لهم أيضا بالاستمرار في الممارسة المدروسة من تلقاء أنفسهم، مثلما يتدرب الرياضيون المتحمسون بالساعات كل يوم لتدريب عقولهم وأبدانهم على توقع ظروف أرض المباراة الدائمة التغير، وعلى الاستجابة لتلك الظروف.
26
و في ساحة القتال! في النهاية، تجمع بضع ألعاب رياضية ما بين الممارسة المدروسة أوقاتا طويلة والتقدم الذي يقاس بإظهار البراعة، مثل الفنون القتالية. إن هذا النموذج من إتقان المهارات دفع آن جيه كاهيل وستيفن بلوخ شولمان من جامعة إيلون، إلى إعادة تشكيل حصة الحجاج التي يدرسونها في مستوى التعليم العالي، على غرار حصص الفنون القتالية:
في كل مستوى تال من التقييم في حصص [الفنون القتالية]، على الطلاب إثبات أنهم لا يزالون يتمتعون بالمهارات التي اكتسبوها في مستويات الأحزمة السابقة. ومن الجدير بالملاحظة أن معلم الفنون القتالية الجيد لا يمنح الحزام بناء على المجهود؛ أي بعيدا عما إذا كان الطالب قد حاول جاهدا أن يتقن حركة معينة. فالسؤال هو، هل يستطيع الطالب توجيه اللكمة؟
لقد طبقنا تلك الأفكار من أصول تدريس الفنون القتالية بهدف تحقيق الطلاقة في الحجاج؛ بمعنى تنمية القدرة على فهم الحجج وتقييمها وصياغتها، بما يمكن المرء من اكتساب المهارات والعادات والسمات اللازمة لاستخدام تلك الأساليب في مجموعة كبيرة من السياقات.
27
شجع كيفين ديلابلانت، أستاذ الفلسفة السابق بجامعة آيوا، على هذا التشابه بين التفكير النقدي والتدريب على الفنون القتالية بدرجة أكبر. فقد كرس ديلابلانت حياته العملية لتدريس التفكير النقدي إلى قاعدة أكبر من خلال الدورات التدريبية المتاحة عبر الإنترنت، مثل الدورات التي تقدمها «أكاديمية المفكر النقدي» التي أسسها، ومشروع آخر أحدث لا يزال قيد التطوير ويسمى «نينجا النقاش».
28
ويطبق برنامج نينجا النقاش الذي ابتكره ديلابلانت، أصول تدريس الفنون القتالية على مهارات التفكير المنطقي التي قد يجدها المرء في الدورات التدريبية التقليدية الخاصة بالتفكير النقدي، إضافة إلى الأفكار المستمدة من علم النفس بشأن كيفية تفاعل الأشخاص، لا سيما في حالات الخلاف أو في محاولة إقناع بعضهم بعضا. وعلاوة على تدريس مهارات التفكير النقدي وتوفير الفرص لممارستها عمليا، يطور برنامج ديلابلانت سلسلة من مستويات الأحزمة ما سيتيح للمتعلمين الفرصة لإدراك ما وراء التحيزات وغيرها من العوامل النفسية التي تعيق قدرتهم وقدرة الآخرين على التفكير بوضوح وموضوعية.
يهدف ديلابلانت إلى تنشئة «مقنعين عقلانيين»؛ بعبارة أخرى، أن يتمكن الخريجون من استخدام أدوات الإقناع من أجل بناء حجج عقلانية (وحبذا أن تكون أخلاقية)، لكي تبدو سليمة ومقنعة ودامغة. ويشمل هذا النهج جميع أجزاء نموذج التفكير النقدي الثلاثة، وهي: اكتساب المعرفة وتنمية المهارات والاهتمام بالسمات الشخصية المتعلقة بالتفكير النقدي مثل حب المعرفة والإصرار والتواضع الفكري والشجاعة الفكرية. إن هذه السمات تمثل الفضائل الفكرية التي يصعب تدريسها في الفصول التقليدية، وهي لا تختلف في ذلك عن غيرها من الفضائل، لكنها تصبح مألوفة لدى المشاركين في بيئات التعلم الأخرى، مثل تدريبات الفنون القتالة أو الرياضات الجماعية أو فرقة الكشافة. (11) المسائل المبهمة
بالرغم من أن الأبحاث المتعلقة بطرق تدريس التفكير النقدي لا تزال مستمرة، فإنه يمكننا استنباط الأفكار التالية من الأعمال المنجزة بالفعل في هذا المجال:
ينبغي تدريس المعارف المرتبطة بالتفكير النقدي بالطريقة الصريحة، سواء أكان ذلك في صورة دورة تدريبية مخصصة أو في صورة عنصر مكمل في دورات تدريبية أخرى.
ينبغي أن يتلقى المعلمون الراغبون في دمج محتوى التفكير النقدي في دوراتهم التدريبية، تدريبات على مهارات محددة في التفكير النقدي، وطرق تدريسها.
إذا أدمج التفكير النقدي ضمن تخصص آخر، فينبغي أن يوفر هذا الدمج للطلاب الفرصة في التفاعل المستمر مع أساليب التفكير النقدي، لا إقصاء موضوعات التفكير النقدي في حصة أو حصتين بمعزل عن باقي جدول الدورة التدريبية.
وينبغي توفير فرص مهمة للطلاب، ليطبقوا فيها ما تعلموه من خلال الممارسة المدروسة.
وبخلاف هذه المبادئ العامة، يوجد العديد من الأساليب التعليمية المبتكرة التي طبقت لتدريس مهارات التفكير النقدي ولا تزال تطبق، ومن أمثلتها: المناقشة الموجهة، والتعلم القائم على المشروع والاستقصاء. وعلى الرغم من حداثة عهد دورات النقاش التدريبية المستوحاة من أسلوب تعلم الفنون القتالية، فإنها تستند أيضا إلى طرق تعليمية واسعة الانتشار، مثل التعلم القائم على الكفاءة، الذي يحدد التقدم بناء على قدرة الطالب على إظهار إتقانه لأهداف التعلم الواضحة، بدلا من تحديده بناء على «عدد ساعات الحضور في الصف الدراسي» أو الدرجات النهائية.
من السمات العامة التي تميز بين الاستخدام العام لهذه الأساليب واستخدامها في تدريس التفكير النقدي، هي تطبيقها في مجال التفكير النقدي على «المسائل المبهمة»؛ أي المسائل التي ليس لها حلول بسيطة، أو قد لا يكون لها إجابات صحيحة وغير صحيحة.
على خلاف أسئلة الاختبارات أو التدريبات الورقية التي تكون إجاباتها إما صحيحة أو غير صحيحة والتي يمكن تقييمها بموضوعية، تتسم المسائل المبهمة بإجابات مفتوحة، وكثيرا ما تنطوي على قرارات حيث لا يكون الحل واضحا. ومن أمثلة هذه المسائل، القضايا التي تنطوي على مستوى من الموضوعية أو المعضلات الأخلاقية التي تقتضي تحديد خيار من عدة خيارات، ولكل منها مزاياه وعيوبه. إن مثل هذه المسائل المبهمة تبرز تعقيد معظم المواقف التي يحتاج الطلاب إلى التفكير فيها، سواء أكانت داخل الفصل أم خارجه، وهي المواقف ذاتها التي تحدث في بيئة التعلم والحياة الواقعية وتستلزم التفكير فيها تفكيرا نقديا لاكتشاف الحقيقة أو لاتخاذ قرارات عقلانية ومستنيرة ومدروسة جيدا.
إن مفهوم المسائل المبهمة يعود بنا من جديد إلى الملاحظات النفسية التي وضعها جون ديوي بشأن كيفية تعلم الأفراد. فالمسائل المبهمة تثير حب الاستطلاع لدى الطلاب من خلال غرس الشك في عقولهم، ووفقا لفلسفة ديوي البراجماتية، فإن هذا الشك يحفزنا جميعا لنتخلص منه. ونظرا إلى أن الكثير من جوانب العالم لا يتناسب مع الإجابات البسيطة الواضحة، فمن المحتمل أن يتداخل العديد من المسائل المولدة للشك والمبهمة وذات الإجابات المفتوحة مع الاهتمامات الفعلية للطلاب. ومن ثم، يكمن العامل الأساسي لنجاح تدريس التفكير النقدي في إدارة العملية التي يستخدمها الطلاب لتبديد الشك، وتوجيهها بطرق مثمرة فكريا يرجح أن تقودهم إلى الحقيقة أو إلى اتخاذ خيارات حكيمة على الأقل.
إن الانتشار الواسع للمسائل المبهمة ذات الإجابات المفتوحة يوفر للطلاب عددا لا نهائيا من الفرص كي يستكشفوا القضايا المعقدة في أي موضوع. لكن طبيعة تلك المسائل إضافة إلى طبيعة التفكير النقدي ذاتها ذات الأوجه المتعددة تثير سؤالا مهما آخر يرتبط بتطوير المفكرين النقديين بصفته هدفا أكاديميا، لا سيما في عصر يعطي الأولوية للمساءلة الأكاديمية، والسؤال هو: أيمكن قياس القدرة على التفكير النقدي؟ (12) هل يمكن تقييم التفكير النقدي؟
يوجد عدد من التقييمات التجارية للتفكير النقدي تستخدم في مجالي التعليم والتوظيف على مستوى العالم، والعديد منها قد صاغه بعض الباحثين الوارد ذكرهم بين دفتي الكتاب.
ومن هؤلاء الباحثين على سبيل المثال، إدوارد جليسر الذي شارك في تشكيل تقييم واتسون-جليسر للتفكير النقدي الذي يعد من تقييمات التفكير النقدي الشهيرة المصممة على المستوى المهني، وكان جليسر ممن صاغوا واحدا من أوائل التعريفات المتعددة الأوجه للتفكير النقدي. ومنهم أيضا بيتر فاسيون الذي أشرف على دراسة ديلفي للتوصل إلى تعريف متفق عليه للتفكير النقدي، وساعد أيضا في صياغة اختبار ولاية كاليفورنيا لمهارات التفكير النقدي استنادا إلى التعريف المتفق عليه في دراسة ديلفي. ونظرا إلى أهمية السمات التي اتضحت من خلال دراسة ديلفي وغيرها من الدراسات؛ ابتكر فاسيون وزملاؤه قائمة ولاية كاليفورنيا للسمات الخاصة بالتفكير النقدي على صورة تقييم استبياني يهدف إلى قياس الخصال الفكرية المهمة، مثل الانفتاح الذهني وحب الاستطلاع.
يوجد العديد أيضا من الاختبارات الأخرى المنشورة، مثل اختبار كورنيل للتفكير النقدي، وتقييم هيلبرن للتفكير النقدي، واختبار إنيس-وير المقالي للتفكير النقدي، وتقييم التعلم الجماعي بنسختيه: (
CLA
و
CLA+ )، ولكل منها بنيته ونقاط تركيزه الخاصة به، رغم أن بعض الأبحاث تشير إلى درجة كبيرة من التداخل بين الجوانب التي يزعم العديد من تلك الاختبارات قياسها.
29
وثمة اختبارات أخرى مصممة للمجال المهني، مثل اختبار القبول بكليات الحقوق (LSAT) ، وهو من شروط الالتحاق بكليات الحقوق بالولايات المتحدة، ويتضمن أسئلة عامة تتعلق بالتفكير المنطقي وأسئلة أخرى خاصة بمجال القانون.
إضافة إلى ذلك، إذا افترضنا أن جميع الدورات التدريبية العامة التي تدرس عن التفكير النقدي في المستوى الجامعي تتضمن اختبارات وامتحانات وواجبات وغيرها من أشكال التقييمات، فهذا يعني أن مجموعة كبيرة من تقييمات التفكير النقدي تتشكل في الصفوف الدراسية، أو تنفذ فيها. وتتضمن هذه الاختبارات أيضا، تقييمات وواجبات خاصة بالمادة الدراسية في المراحل: الابتدائية والثانوية وما بعد الثانوية، لتقييم مهارات التفكير العليا، مثل القدرة على كتابة مقال إقناعي باستخدام حجج سليمة منطقيا وأدلة مثبتة.
إن هذه المجموعة الكبيرة من محاولات قياس مهارات التفكير، وبعضها من تنفيذ باحثين قضوا سنين في دراسة التفكير النقدي أو تدريسه؛ تدل على أن قياس قدرات التفكير النقدي أمر ممكن. لكن أهي محاولات ناجحة؟
إن هذه المجموعة الكبيرة من محاولات قياس مهارات التفكير، وبعضها من تنفيذ باحثين قضوا سنين في دراسة التفكير النقدي أو تدريسه؛ تدل على أن قياس قدرات التفكير النقدي أمر ممكن. لكن أهي محاولات ناجحة؟
يمكننا استخدام إحدى أدوات المفكر النقدي - وهي الخلفية المعرفية - لمساعدتنا في تحقيق فهم أفضل للدور الذي يمكن أن تؤديه التقييمات في تحديد إذا ما كان الشخص يتمتع بالمعارف والمهارات والسمات التي ينبغي توفرها في المفكر النقدي أم لا، أو لتحديد مدى تطور تلك القدرات لدى الطلاب على مدار مراحل التعليم. (13) صياغة الاختبارات المهنية
تأتي الخلفية المعرفية المحددة التي سأستند إليها للمساعدة في إجابة الأسئلة المتعلقة بطبيعة تقييم التفكير النقدي وفاعليته من مجال تصميم الاختبارات المهنية، التي تستخدم طرقا علمية لوضع اختبارات أكاديمية واختبارات ترخيص مهنية واختبارات تجارية معيارية ولها عواقبها المهمة.
لا تبدأ صياغة الاختبارات المهنية بكتابة الأسئلة، بل بالبحث والتخطيط اللذين يركزان على تحديد الجوانب التي ينبغي قياسها. في اختبار السباحة على سبيل المثال، لا يطلب من الشخص القفز في الماء وفعل ما يحلو له فحسب، بل يقيس قدرته على أداء أنشطة محددة؛ مثل أداء حركات معينة بطريقة صحيحة في الماء، أو قطع مسافة في الماء في مدة زمنية محددة. في تلك الحالة، تمثل تلك الأنشطة «بنية الاختبار» التي ستحدد مستوى معينا في القدرة على السباحة.
وبالنسبة إلى الاختبارات الأكاديمية المعيارية، فعادة ما تتضمن بنية الاختبار إظهار مدى إتقان محتوى المادة؛ مثل أهداف التعلم المضمنة في المعايير على مستوى البلد، أو المعايير الإقليمية، أو الوطنية. لكن البنية قد تأتي في صورة غير مباشرة تماما أيضا. فاختبارات القبول الجامعية على سبيل المثال، كاختبار القدرات المدرسية واختبار الالتحاق بالجامعات الأمريكية، المستخدمين في الولايات المتحدة يستندان إلى بنية تحدد إذا ما كانت قدرات الطالب في اللغة والرياضيات تؤهله للنجاح في الجامعة أم لا. وعلى الرغم من أن واضعي تلك الاختبارات يستخدمون أبحاثا أجريت على مدار عقود لإثبات هذا الترابط، يمكن تفسير حقيقة تزايد عدد الجامعات التي لم تعد تستلزم من المتقدمين لها النجاح في اختبارات موحدة على أنه فقدان للثقة في بنية اختباراتها.
صحيح أن عدم الإجماع التام على تعريف لمفهوم التفكير النقدي لا يعيق تدريس التفكير النقدي بوجه عام (إذ يتبنى المعلمون نهجا مختلفة لتدريس المادة ذاتها في كل المجالات وعلى الدوام)، لكن صياغة اختبار يهدف إلى قياس قدرات التفكير النقدي يستلزم اختيار تعريف بعينه للاسترشاد به في بناء الاختبار.
فعلى سبيل المثال، يصف تقييم واتسون-جليسر التفكير النقدي بأنه «القدرة على دراسة المواقف وفهمها فهما واضحا من عدة أوجه، مع تمييز الحقائق عن الآراء والافتراضات».
30
وبناء على هذا التعريف، فإن المؤلفات المتعلقة بالاختبار، تعرفه بأنه القدرة على التمييز بين الحقائق والافتراضات والتوصل إلى الاستدلالات وتقييم الحجج واستخلاص استنتاجات منطقية.
مثلما ذكر من قبل، استند اختبار ولاية كاليفورنيا لمهارات التفكير النقدي إلى تعريف دراسة ديلفي للتفكير النقدي، وهو يحدد النتائج في مجالات المعرفة والمهارات مثل التحليل والتأويل، والاستدلال والتقييم، والشرح والاستنتاج، والاستقراء والدراية العددية (القدرة على تأويل المعلومات الكمية). وتبدأ اختبارات مهنية أخرى بتعريف بديل يضم من التفاصيل ما يكفي للاسترشاد به في عملية التخطيط للاختبار وصياغته.
لا شك أن مرحلة تخطيط تصميم الاختبار تعتمد هي أيضا على الأبحاث، وعادة ما تتضمن استعراض أعمال خبراء المجال وآرائهم. ويتمثل الهدف من تلك المرحلة في وضع شكل الامتحان «مخطط» الذي يحدد المعارف والمهارات والقدرات التي سيتناولها الامتحان، إضافة إلى الجوانب العملية الأخرى مثل طريقة إجراء الامتحان (على الورق أم عبر الإنترنت، على سبيل المثال)، ومدة الاختبار، وفور الانتهاء من مرحلة البحث والتخطيط، تبدأ مرحلة وضع محتوى الاختبار.
عند صياغة الاختبارات، يبرز العديد من أنماط الاختبارات التي تفيد في قياس مختلف أنواع المعارف والمهارات والقدرات. فالسمات الشخصية والصفات السلوكية على سبيل المثال، غالبا ما تقاس باستخدام تقييمات استبيانية يملؤها المرشح نفسه أحيانا (وتسمى دراسة استقصائية ذاتية) وفي أحيان أخرى يملؤها مقيم خارجي.
ويشار إلى أسئلة الاختبارات التي تكون لها إجابات صحيحة وأخرى غير صحيحة، باسم «الأسئلة المغلقة» أو «الأسئلة المحددة الإجابة». وتعد أسئلة الاختيار من متعدد هي أكثر الأنواع استخداما من فئة الأسئلة المحددة الإجابة، لكن هذه الفئة تضم تنويعات أخرى أيضا مثل أسئلة التطابق وأسئلة الإجابة بصح أو خطأ.
بالرغم من أن تصحيح الأسئلة المحددة الإجابة بسيط وقابل للقياس، إذ يمكن إجراء العملية آليا؛ فإن الأسئلة ذاتها قد تكون معقدة. فيمكن مثلا أن ترد الأسئلة على «أشكال» معقدة مثل فقرات نصية، أو الوسائط المتعددة التي تستلزم من الطلاب تجميع المعلومات أو إجراء عمليات حسابية أو غيرها من المهام للوصول إلى النتيجة التي يمكن استخدامها لتحديد الخيار الصحيح في سؤال الاختيار من متعدد.
في مرحلة ما، تصبح بنية الاختبار بالغة التعقيد أو متعددة الأوجه بدرجة تجعل من الصعب قياسها من خلال عناصر فردية في الاختبارات. وتستدعي هذه الحالات إجراء ما يسمى ب «التقييمات القائمة على الأداء»، التي تقتضي من الطلاب تنفيذ مهمة ما تقيم نتيجتها بناء على عدة معايير. يعد المقال المكتوب أشهر أشكال هذه التقييمات، بالرغم من وجود أنواع أخرى من منتجات العمل (أو «الأعمال» فحسب)، التي يمكن أن تصبح أساسا لوضع الدرجات هي وأنشطة الأداء؛ مثل الخطابة العامة التي يمكن تقييمها على يد مراقب. وإضافة إلى ذلك، توجد أيضا تقييمات أداء معينة يمكن إجراؤها آليا، مثل اختبارات مهارات الكمبيوتر التي يجري تقييمها بناء على نماذج محاكاة للأدوات البرمجية والتطبيقات.
بوجه عام، يتعارض تعقيد الاختبارات مع قابليتها للقياس، مما يفسر السبب في أن الاختبارات المستخدمة على نطاق واسع، مثل التقييمات الأكاديمية القياسية وامتحانات القبول بالجامعات، عادة ما تعتمد على أسئلة الاختيار من متعدد أو غيرها من الأسئلة المحددة الإجابة. ولهذا السبب نفسه تستخدم اختبارات التفكير النقدي التجارية الأسئلة المحددة الإجابة؛ مثل الاختيار من متعدد التي تقيم مهارات مثل القدرة على التوصل لاستدلالات أو تقييمها أو استخلاص النتائج بناء على الأدلة المتاحة. وفيما يلي على سبيل المثال، نموذج لسؤال من اختبار واتسون جليسر:
يتطوع مائتا طالب في بداية مرحلة المراهقة لحضور مؤتمر للطلاب عقد مؤخرا في العطلة الأسبوعية بإحدى مدن الغرب الأوسط الأمريكي. نوقشت في هذا المؤتمر موضوعات العلاقات بين الأعراق وسبل تحقيق السلام الدائم في العالم؛ إذ اختار الطلاب هذين الموضوعين باعتبارهما أهم المشكلات في عالمنا الحاضر.
الاستدلال الأول
بدا أن اهتمام مجموعة الطلاب الذين حضروا المؤتمر بالمشكلات الاجتماعية الواسعة النطاق أكبر من اهتمام معظم الطلاب الآخرين في مرحلة المراهقة المبكرة:
صحيح.
صحيح على الأرجح.
البيانات غير كافية.
خطأ على الأرجح.
خطأ.
يلاحظ أن هذا السؤال يحتوي على فقرة توضيحية صغيرة للقراءة، ويجب على الطلاب تحليلها للإجابة عن السؤال. وتستخدم الفقرات التوضيحية بكثرة في تقييمات التفكير النقدي التي تطلب من الطلاب استخلاص استنتاجات من الأدلة، وتضم بعض الاختبارات فقرات عرضية متعددة يجب على الطلاب الاطلاع عليها للإجابة عن سؤال ما. وهذا يتيح للأسئلة المحددة الإجابة أن تقيم مهارات التفكير العليا مثل القدرة على تركيب المعلومات.
أما الاختبارات التي تهدف إلى قياس السمات فعادة ما تستخدم الأسئلة الاستبيانية التي تطلب من الممتحنين تقييم مستوى اتفاقهم مع عبارات مثل ما يلي: «يكون أدائي أفضل في المهام التي يتوقع مني أن أفكر في جميع جوانبها بنفسي.» «أتريث في اتخاذ القرارات حتى أدرس كل خياراتي.» «أحاول رؤية مزايا الرأي الآخر حتى إن رفضته لاحقا.»
عادة ما تتضمن هذه الأنواع من التقييمات الاستبيانية عددا كبيرا من الأسئلة التي قد يعالج بعضها سمات مماثلة لكن من زوايا مختلفة، إضافة إلى أسئلة وضعت لاكتشاف المواضع التي قد يقل فيها صدق الممتحن في التقييم الذاتي.
ومن خلال تقييمات الأداء التي تطلب من الأشخاص أداء مهام مفتوحة، يمكن استخلاص بعض الأدلة على وجود مهارات مترابطة أكثر تعقيدا. على سبيل المثال، يضم تقييم التعلم الجماعي (CLA+)
الذي يعد من أشهر اختبارات الأداء لمهارات التفكير النقدي وأفضلها، مجموعة من المصادر يوفرها للممتحنين لاستخدامها في كتابة إجابات بنظام المقالات القصيرة. وصحيح أن هذا النمط من الأسئلة لا يزال مقيدا، لكنه أكثر انفتاحا من الإجابة عن أسئلة الاختيار من متعدد؛ ومن ثم يتيح للطلاب صياغة حججهم الخاصة، بدلا من الاكتفاء بتحليل الحجج التي صيغت فقط من أجل الامتحان ونقدها.
وتتمثل المرحلة الأخيرة من عملية صياغة الاختبارات المهنية في التحقق من «الصلاحية»، التي تتضمن إجراء الأبحاث لتحديد إذا ما كان الاختبار يقيم البنية تقييما دقيقا أم لا. ويجب أن نتذكر أن الامتحانات ليست «صالحة» في حد ذاتها. وإنما تنطوي عملية التحقق من صلاحية الاختبار على جمع الأدلة من خلال وسائل متعددة في معظم الأحيان، ومن ثم إثبات أن الاختبار يقيس الأبعاد التي يهدف إلى قياسها. ويمكن أن تتضمن هذه الوسائل مراجعة محتوى الامتحان على يد خبراء في المجال، أو مقارنة نتائج الاختبار بقياسات مستقلة للمعارف أو المهارات ذاتها. وعلاوة على ذلك، عادة ما يتضمن التحقق من صلاحية الاختبارات ذات العواقب المهمة تحليل نتائج الاختبار لتحديد إذا ما كان الاختبار يميز بالسلب بين الممتحنين على أساس العرق أو النوع الاجتماعي أو العمر أم لا. (14) ما الاختبارات الناجحة؟
خضعت التقييمات التجارية للتفكير النقدي إلى الانتقاد؛ مثلها في ذلك مثل معظم الاختبارات القياسية.
فعلى سبيل المثال، تعامل التقييمات الاستبيانية الذاتية بالتشكك في بعض الأحيان،
31
نظرا إلى السهولة الكبيرة التي يمكن للطلاب «الغش» بها من خلال تحريف آرائهم أو المبالغة في تقييم قدراتهم؛ سواء أكان ذلك غشا أم عن غير قصد. غير أن هذه المخاوف تنطبق على أي استبيان، بما في ذلك الاستبيانات التي تستند إلى إنتاج قرن بأكمله من الأبحاث المهمة في مجال العلوم الاجتماعية. وللحد من هذه المشكلات، يتبع واضعو التقييمات الاستبيانية ذات الجودة العالية العملية ذاتها التي تتألف من تخطيط أسئلة الاختبار ووضعها وتدقيقها (أي صياغة أسئلة الاستبيان في تلك الحالة)، والتثبت من صلاحية نتائج التقييم، وهي مرحلة تمر بها كل التقييمات ذات التصميم المهني. ويجدر بنا الإشارة أيضا إلى أن التقييمات الاستبيانية عادة ما تستخدم لأغراض إجراء الأبحاث، لا الاختبارات ذات العواقب المهمة مثل تحديد الدرجات.
بالنسبة إلى الاختبارات التي تستخدم الأسئلة ذات الإجابة المغلقة، فلأن الفقرات التوضيحية المستخدمة في العديد من تقييمات التفكير النقدي عادة ما تكون مكتوبة؛ طرح البعض التساؤل عما إذا كان الأداء في الاختبار يعتبر مؤشرا أقوى على شيء غير التفكير النقدي مثل فهم القراءة.
32
إن استخدام المواد التوضيحية المقيدة، مثل الحجج التي توضع لتقييم صفات معينة فيها فحسب، يجعلنا نتساءل أيضا بشأن إذا ما كانت الاختبارات التي لا تتضمن سوى هذا النوع من الأسئلة تتيح للطلاب إبراز قدرتهم على التعامل مع هذا النوع من المسائل المبهمة؛ إذ يحتاج معظم الناس إلى تطبيق مهارات التفكير النقدي على المواقف الواقعية.
وتواجه اختبارات التفكير النقدي بعضا من التحديات التي تواجهها اختبارات القدرات المعرفية العامة، مثل الاختبارات التي تهدف إلى قياس معدل الذكاء. من هذه التحديات الأسئلة المتعلقة بشأن ما إذا كان ينبغي اعتبار الذكاء سمة فطرية وقابلة للقياس، والمناظرات بشأن أنواع الذكاء المختلفة (بما في ذلك الذكاء العاطفي والإبداع)، التي قد لا تمثل في اختبار يركز على القدرة المعرفية وحدها، إضافة إلى الأسئلة المتعلقة بما إن كان مفهوم الذكاء القابل للقياس برمته قائما على افتراضات ثقافية وآراء بشأن الطبيعة البشرية والعقل البشري ربما تكون غير دقيقة. حتى أسئلة الاختبارات المحددة، مثل سؤال واتسون جليسر المذكور فيما سبق، قد تتضمن افتراضات ثقافية لا تنطبق على كل المجتمعات (مثل مجتمعات لا يستطيع الوالدان فيها تحمل تكلفة إرسال أبنائهم المراهقين لحضور مؤتمرات تعقد في عطلة نهاية الأسبوع في أماكن بعيدة عن المنزل).
هذه كلها أسئلة منطقية استرشد بها الباحثون وواضعو الاختبارات في محاولة للتعلم من أخطاء الماضي، بما في ذلك الأوقات الطويلة من إساءة استخدام اختبارات قياس الذكاء المطبقة على كل من الأفراد والمجموعات.
33
إذا لم نفترض عدم جدوى كل تقييمات التفكير النقدي التجارية، وكل الاختبارات والامتحانات القصيرة والواجبات التي تعطى في دورات التفكير النقدي التدريبية، فإن التحدي الحقيقي لمن يريدون قياس التطور في قدرة التفكير النقدي هو كيفية تحديد التقييمات أو أنواع التقييمات التي تقيس عناصر التفكير النقدي التي يحاول الشخص تطويرها لدى المتعلمين. وبعبارة أخرى، ليست الصعوبة التي تواجهنا هي قلة أدوات تقييم مهارات التفكير النقدي، بل في النطاق الواسع من خيارات الاختبارات، التي يستند كل منها إلى بنية مختلفة لمفهوم المفكر النقدي. (15) تقييم التفكير النقدي في الفصل الدراسي
تناولنا حتى الآن الاختبارات المصممة مهنيا، مثل أدوات تقييم التفكير النقدي المتوفرة تجاريا. يستخدم بعض المعلمين الأدوات المنشورة ويجرون هذه الاختبارات في بداية تدريس المادة وفي نهايتها لتحديد معدل التطور في تعلم المادة على سبيل المثال، أو في صورة امتحان نهائي. لكن الأكثر انتشارا أن يضع المعلمون تقييماتهم الخاصة؛ إذ يصممونها بما يتلاءم مع الجوانب المحددة في المناهج التي يدرسونها.
ليست الصعوبة التي تواجهنا هي قلة أدوات تقييم مهارات التفكير النقدي، بل في النطاق الواسع من خيارات الاختبارات، التي يستند كل منها إلى بنية مختلفة لمفهوم المفكر النقدي.
إن الغالبية العظمى من الاختبارات المستخدمة في الأوساط الأكاديمية لا تمر بالعمليات الممنهجة والمكلفة المصاحبة لإنشاء امتحانات صالحة مصممة احترافيا. وبدلا من ذلك، يصوغ المعلمون الاختبارات الأكاديمية، وهم إذ يفعلون ذلك يقومون بجميع الأدوار التي تؤديها فرق الخبراء في عملية صياغة الاختبارات المهنية، وهي: تحديد أهداف التعلم المراد قياسها، وكتابة أسئلة الاختبار، وتقييم النتائج بأنفسهم أو تقديم إرشادات لغيرهم، مثل المدرسين المساعدين، لتقييم حلول الطلاب بصورة متسقة.
وتتسم التقييمات التي يضعها المعلمون بميزة مهمة إضافة إلى التكلفة المنخفضة والمرونة، وهي أن المعلمين يتمكنون من وضع تقييمات تعبر عن المناهج التي يستخدمونها في تدريس المادة تعبيرا دقيقا. وهم يستطيعون أيضا الاطلاع على مجموعة من خيارات التقييمات التي قد تكون بالغة التعقيد أو مرتفعة التكلفة بدرجة يصعب معها تنفيذها بصورة منتظمة على نطاق واسع. بالرغم من هذا، عندما يشكو الطلاب من «سوء» الاختبار الذي وضعه المعلم أو «عدم الإنصاف» فيه، فعادة ما يعني هذا أنهم يشكون من وجود بعض المشكلات به مثل غياب توازن المحتوى، أو عدم اتساق الأسئلة مع أهداف التعلم، أو وجود أسئلة محيرة أو سيئة الصياغة، وهو ما وضعت مبادئ صياغة الاختبارات المهنية، التي لم يتدرب عليها سوى قليل من المعلمين، للحد منه.
وقد تعتمد التقييمات المصممة لدورات تدريبية معينة على مواقف للتفكير النقدي وأمثلة تتعلق بالمادة التي تدرس. فعلى سبيل المثال، يمكن لاختبار مهارات تحليل الحجج في صف العلوم أن يعالج الجدالات القائمة بشأن تغير المناخ أو أبحاث الأجنة البشرية، بينما يستطيع معلمو الدراسات الاجتماعية تقييم تلك المهارات ذاتها بسؤال الطلاب عن تحديد المقدمات والاستنتاجات في وثائق تاريخية وتقييمها، أو تحليل المنطق الذي استخدمته المقالات الصحافية في تناول القضايا الراهنة.
من دون القيود المتعلقة بوضع مقياس للاختبارات أو توحيدها، يمكن للمعلمين الاستفادة من التقنيات الواعدة في مجال التقييمات مثل برمجيات «الخرائط الذهنية» أو نماذج المحاكاة التي تتيح للطلاب توضيح أفكارهم بتخطيطها والربط بينها. ويمكن للمعلمين الاستفادة أيضا من أعمال المعلمين الآخرين، التي يزداد توفرها في المجتمعات التربوية عبر الإنترنت، أو الاستعانة بأعمال واضعي الاختبارات المهنية كي يسترشدوا بها في تصميم تقييماتهم الخاصة.
ومن أساليب التقييم الأخرى ذات الصلة بالتفكير النقدي على وجه الخصوص، «التقييم التكويني». لا تصمم هذه الأنواع من التقييمات بغرض تقييم الطالب فيما يعرفه أو فيما يمكن أن يفعله (تسمى الاختبارات التي تنتمي إلى هذا النوع «تقييمات تحصيلية»)، وإنما يتمثل الهدف منها في إمداد المعلم ببيانات عن فهم كل طالب على حدة؛ فيتسنى له أن يقدم لكل طالب التعقيب الملائم، وحبذا لو كان في الحال.
إن طرح سؤال بسيط على الطلاب عن رأيهم فيما تعنيه كلمة «الحجة» في بداية وحدة تتناول موضوع الحجاج يعد تقييما تكوينيا، إذا كان هذا السؤال سيساعد المعلم على معرفة الطلاب الذين يربطون المصطلح بالخلافات الصاخبة فحسب، مقارنة بالطلاب الذين يفهمون الدور الأشمل للحجج في تحقيق الفهم. وبناء على هذه المعلومة، يستطيع المعلم تصميم أنشطة فردية وجماعية للتدريس للمجموعة بأكملها، وللتطبيقات العملية أيضا.
ويمكننا أيضا اعتبار التمرينات اللازمة لتحقيق الممارسة المدروسة التي تتخذ أهمية بالغة في إتقان التفكير النقدي - مثل الواجبات غير المقيمة بدرجات التي تتيح للطالب حل المشكلات بمفرده أو مع زملائه - ضمن التقييمات التكوينية؛ ما دامت جزءا من استراتيجية توفر للطلاب الفرصة في تلقي ملاحظات (من المعلم أو الطلاب الآخرين) لتحسين عملهم، بينما يتعلمون بالممارسة. إذا كان التقييم التكويني ناجحا في غرفة الصف، فسوف نجد أن التقييم والتدريس يتسمان بالسلاسة، وربما لا يمكن التمييز بينهما في الحالات المثالية.
لعلك تلاحظ كيف أن تطبيق مبدأ واحد من مبادئ التفكير النقدي (الخلفية المعرفية) يمدنا بأفكار مفيدة بشأن موضوع تقييم التفكير النقدي، ويطرح في الوقت ذاته تساؤلات بشأن مواضيع مهمة أخرى، تتعلق بتوحيد الاختبارات والتدريس، إضافة إلى التقييم في غرفة الصف. وبناء على هذا، سنرى ما يمكن تعلمه من استخدام عدة أساليب من التفكير النقدي في محاولة لحل قضية شائكة ومعقدة. (16) دراسة حالة
ذكرت في المقدمة كتاب «التخبط الأكاديمي» الذي ألفه ريتشارد أروم ويوسيبا روسكا، وأثار اهتماما وجدلا كبيرين عندما نشر عام 2011. فقد زعم العديد من المنافذ الإخبارية أن الكتاب برهن على أن قدرات التفكير النقدي لا تتطور لدى الطلاب بدرجة كبيرة في سنوات دراستهم بالجامعة. وأثار هذا الادعاء بالطبع مناقشات وجدالات بين المعلمين والمسئولين في الجامعات وصناع السياسات.
34
في بعض الحالات، أيدت الاستنتاجات التي توصل إليها الكتاب التصورات الموجودة بالفعل عن فشل نظام التعليم العالي، لكن المناقشات التي عرضها بشأن قيمة التفكير النقدي كانت مشجعة لنا، نحن المهتمين برؤية المزيد من المصادر تخصص لمساعدة الطلاب على اكتساب تلك المهارة الضرورية.
ربما تكون المعتقدات والدوافع الموجودة مسبقا بشأن التعليم العالي، الإيجابية منها والسلبية، ليست سوى تحيزات، ويحتمل أنها أدت إلى تفسيرات مشوهة للحجج الواردة في كتاب «التخبط الأكاديمي» وما تعنيه. غير أن المفكر النقدي الجيد يجب أن يحيد تحيزاته من خلال محاولة فهم جوهر ما قاله المؤلف في الواقع، ثم يقيم الحجة الفعلية، لا تأويله المفضل لها.
وإذا عزلنا هذه «الضوضاء»، فسنجد أن الادعاء بفشل الجامعات في تنشئة مفكرين نقديين استند إلى بحث أوضح أن درجات الطلاب في تقييم التعلم الجماعي لم ترتفع بين السنة الأولى بالجامعة وبين السنوات اللاحقة. وتتيح لنا هذه الحقيقة اختصار أطروحة أروم وروسكا التي تزعم وجود دليل قابل للقياس على أن أداء الطلاب في التفكير النقدي لم يتحسن في الدراسة الجامعية، إلى الحجة البسيطة المنظمة التالية:
المقدمة المنطقية الأولى:
يقيس تقييم التعلم الجماعي قدرة الطلاب على التفكير النقدي قياسا دقيقا.
المقدمة المنطقية الثانية:
لم يحرز طلاب الجامعة الذين تقدموا لتقييم التعلم الجماعي في أوائل سنوات الجامعة وفي آخرها، تقدما كبيرا في درجات الاختبار على مدار هذه المرحلة.
الاستنتاج:
لا يبدو أن قدرة الطلاب على التفكير النقدي قد زادت خلال سنوات دراستهم بالجامعة.
ويمكن دحض هذه الحجة برمتها بالقول إن تطوير التفكير النقدي أقل أهمية لطلاب الجامعة من الأهداف الأخرى مثل تنمية المعرفة أو التعرف على الآداب. لكن على افتراض أنك تؤمن بأهمية تطوير التفكير النقدي في الدراسة الجامعية بدرجة تدعو إلى تقييم الحجة السابقة، فلعلك تتذكر ما ورد في الفصول السابقة بشأن المنطق والحجاج، وتتذكر أن هذه الحجة ذات المقدمتين المنطقيتين «صالحة»؛ لأن القبول بصحة المقدمات المنطقية يقتضي القبول بصحة الاستنتاج. غير أن الحجة الصالحة لا بد أن تجتاز اختبار «الوجاهة». ولهذا ينبغي تمحيص المقدمتين المنطقيتين لمعرفة إذا ما كانت أي منهما خاطئة أو تحتمل أن يرفضها إنسان عاقل، أو يشكك فيها على الأقل، أم لا.
من الناحية النظرية، ربما تكون المقدمة المنطقية الثانية خاطئة إذا لم تقيم الاختبارات على النحو الصحيح، أو إذا قدم المؤلفان نتائجهما بطريقة متحيزة أو خاطئة. وعلى الرغم من ضرورة البحث الدائم عن الأخطاء أو محاولات «التزوير»، فلا يوجد دليل على ذلك في الأبحاث الدقيقة التي يطرحها كتاب «التخبط الأكاديمي»، مما يجعل مهاجمة المقدمة المنطقية الثانية استنادا إلى التخمين من أوجه عدم الإنصاف. ثم إنه غير ضروري لأن نقطة الهجوم الأضعف هي المقدمة المنطقية الأولى.
وفي ظل الخلفية المعرفية التي تكونت لديك في الوقت الحالي بشأن تقييم مهارات التفكير النقدي، يجدر بك أن تفهم أن اختبارا واحدا لا يقيس كل سمات المفكر النقدي ولا يمكن أن يقيسها، حتى وإن كان الاختبار جيدا ومعتبرا مثل تقييم التعلم الجماعي. إن واضعي الاختبار الذي يتسم بأسئلته ذات الإجابات المفتوحة، يصفونه بأنه يقيس «أداء طلاب الجامعات في التحليل وحل المشكلات، والتفكير العلمي والكمي، والقراءة النقدية والتقييم، وانتقاد الحجج، بالإضافة إلى آليات الكتابة وفاعليتها».
35
تلك مجموعة كبيرة من المهارات بالطبع، لكن استنتاج الحجة السابقة شامل وحاسم، وأي تحفظات عامة بشأن إمكانية اختبار التفكير النقدي، مثل التساؤلات الواردة في القسم الأخير أو التساؤلات المتعلقة بجودة تقييم التعلم الجماعي ذاته ودقته، ستوضح افتقار الحجة إلى الوجاهة، وتضع استنتاجها موضع الشك.
ويمكن حل تلك المسألة بإضعاف الاستنتاج بعض الشيء وصياغته على النحو التالي: «لم يحقق الطلاب تقدما في المهارات المحددة التي يقيسها تقييم التعلم الجماعي على مدار دراستهم الجامعية.» والحق أن الاطلاع على النص الأصلي في كتاب أروم وروسكا بدلا من الاعتماد على التفسيرات الإعلامية لنتائج الكتاب، يوضح أنهما توصلا إلى هذا الاستنتاج الأدق، ما يبرز مرة أخرى أهمية الخلفية المعرفية (التي تتمثل في هذه الحالة في الاعتماد على المصدر الأصلي لا تفسيرات مصادر خارجية). ويقترح المؤلفان أيضا آليات لشرح الأسباب المحتملة لعدم إحراز الطلاب للتقدم في مهارات التفكير النقدي، ويعرضان المزيد من الأدلة التي تدعم أطروحتهما، مثل الدراسة السالفة الذكر التي توضح فجوة بين عدد المدرسين الجامعيين الذين يعتقدون أنهم يعلمون الطلاب مهارات التفكير النقدي (99٪)، وبين نسبة أصحاب الأعمال الذين يقولون إن خريجي الجامعات لا يستخدمون مهارات التفكير النقدي في مكان العمل (أكثر من 75٪).
لا بد أن هذا الدليل الإضافي يستند إلى مصدر ما. على سبيل المثال، تعتمد الفجوة بين رأي المدرسين ورأي أصحاب الأعمال على بحث استبياني يمكن تمحيصه بالاطلاع على أسئلة الاستبيان وعدد المجيبين وطبيعتهم، والدلالة الإحصائية للنتائج. ويمكن للمفكر النقدي متابعة هذا الطريق إلى أن يجمع أدلة كافية لتحديد إذا ما كانت مقدمات حجته صحيحة (أو على الأقل منطقية) أم لا، وإذا ما كانت تلك المقدمات تؤدي إلى ذلك الاستنتاج منطقيا أم لا. (17) تحقيق أهداف التفكير النقدي
إن توظيف خيارات عديدة من ترسانة المفكر النقدي يقربنا من الفهم الدقيق لما يخبرنا به البحث الذي يستند إليه كتاب «التخبط الأكاديمي»، ومن ثم يمكن الاسترشاد به في مناقشة مثمرة ومنطقية بدلا من المجادلات «العبثية» القائمة على تحيزات أو تحليلات سابقة لا تستند إلى المنطق أو الخلفية المعرفية.
وبالمثل أيضا، فإن جودة المناقشات المثيرة للجدل بشأن القضايا المهمة التي تناولها الكتاب - أو لم يتناولها - مثل الهجرة والأمن الوطني، ستتحسن بزيادة جرعة التفكير النقدي بدرجة أكبر مما نشهده في الثقافة القبلية التي تحركها وسائل الإعلام اليوم، وينطبق الأمر نفسه على المناقشات الأقرب إلى أمور الحياة اليومية، مثل المفاضلة بين شراء منزل أو تأجيره؛ إذ ستتحسن تلك المناقشات كثيرا عند استخدام أدوات التفكير النقدي.
وفي الفصل الأخير، سنتناول ما قد يتسم به مجتمع يقدر التفكير النقدي ويعطيه الأولوية، وما يمكننا القيام به لكي نصل بمجتمعنا إلى ذلك المستوى.
الفصل الرابع
أين نذهب من هنا؟
في عام 2011، زرت المقر الرئيسي لمؤسسة التفكير النقدي في شمال كاليفورنيا، وحظيت بشرف اللقاء مع مؤسسي تلك المؤسسة: الدكتور ريتشارد بول، الذي توفي للأسف بعدها ببضع سنوات والرئيس الحالي للمؤسسة، الدكتورة ليندا إلدر.
وقد تزامنت الزيارة مع تقارير من اليابان عن كارثة فوكوشيما النووية؛ إذ انهارت محطة نووية مبنية على أحد خطوط الصدع بعدما ضربها زلزال وإعصار تسونامي مصاحب له، مما أدى إلى انبعاث ملوثات إشعاعية في البيئة.
سألنا أنفسنا: «فيم كانوا يفكرون؟» على الرغم من أننا في تلك الرفقة كنا نعالج أسئلة أدق مثل الأسئلة التالية:
ما المقدمات التي استخدمها صناع القرار لتبرير إنشاء مفاعل في مثل هذا الموضع المعرض للخطر؟ وما المنطق الذي ربط تلك المقدمات باستنتاج مفاده أنه يجب عليهم البدء في المشروع؟
تبين أن المقدمات المنطقية كانت معيبة؛ إذ اعتمدت على التمني وتبني أفضل التوقعات. وأتت المقدمات المنطقية فاسدة أيضا بسبب الجهات التنظيمية الخاضعة لمن يريدون التوسع في استخدام الطاقة النووية في اليابان. وأدى هذا إلى وجود تحيزات أثرت في اختيار صناع القرار للاستدلالات التي توصلوا لها والأدلة التي صدقوها. وعلى غرار المحطة النووية ذاتها، صيغت حجة تحديد مكان محطة فوكوشيما في ذلك المكان بمواد بناء غير مناسبة وتصميم معيب.
تقدم البيئة السياسية الحالية مثالا آخر على ما يحدث للأفراد والمجتمع إذا تجاهلوا مبادئ التفكير النقدي. لا شك في أن هناك ناخبين يتسمون بالإنصاف عندما يستمعون إلى المرشحين السياسيين المعارضين، حيث يضعون في اعتبارهم كامل السمات الشخصية للمرشحين وحياتهم المهنية السياسية قبل تكوين رأي بشأنهم، إضافة إلى تحليل مواقفهم من القضايا المهمة. فالائتلافات الحزبية (التي تدل على وجود قيم مشتركة مع ناخبين آخرين) والمعتقدات السياسية الراسخة (التي تحدد أولويات الفرد) لا تعمينا بالضرورة عن احتمالية أن يكون لدى «الجانب الآخر» ما يستحق الإنصات له. لكن كم عدد الناخبين في العصر الحالي الذين يرفضون تلقائيا الاستماع إلى أي شخص لا يتفقون معه بالفعل، ويرفضون ممارسة أي شكل من أشكال التأمل أو التأني، ويفضلون البحث على «جوجل» عن رسوم هزلية مسيئة للمرشح الذي لم ينتووا التصويت له قط تحت أي ظرف من الظروف، وهذه الرسوم الكاريكاتورية قد قصها آخرون بعناية من مقاطع فيديو واقتباسات أخرجت من سياقها؟ «تقدم البيئة السياسية الحالية مثالا آخر على ما يحدث للأفراد والمجتمع إذا تجاهلوا مبادئ التفكير النقدي.»
إن العديد من أولئك «الآخرين» محترفون في الاستفادة من أوجه قصور ملكاتنا العقلية، مثل التحيزات المعرفية العديدة التي تعيقنا عن التفكير النقدي أو قدرة العاطفة أو القبلية في التغلب على التفكير المنطقي. وعلى مدار التاريخ، كان هؤلاء «الآخرون» هم المرشحين الذين يقررون كيف يعمون أبصار الناخبين أو يستجدون عاطفتهم أو تعصبهم القبلي، بدلا من التفكير المنطقي. وكما تبين في الانتخابات الأخيرة، لا يزال المرشحون يتصدرون هذا النوع من التلاعب، لكنهم صاروا متسلحين بالمستشارين السياسيين المتمرسين في الأساليب التي تعيق الناس عن التفكير بوضوح.
إن المرء ليرجو أن تنبهنا القوى الأجنبية المعادية التي تستخدم تلك الأساليب ذاتها في التلاعب بمواطني البلدان الأخرى، فتشعل الغضب من أجل إحداث انشقاقات تعرض الديمقراطية للخطر، إلى مخاطر التخلي عن التفكير المنطقي من أجل تفضيلات بدائية. لكن هل شهدنا أي درجة من التضاؤل في شهية الجمهور إلى المقدمات المنطقية السيئة (متمثلة في «الأخبار الكاذبة») والمنطق غير الصالح ورفض اكتساب الخلفية المعرفية أو تطبيقها وعدم التحلي بالخيرية تجاه الخصوم السياسية، حين عرفنا أننا نعرض أنفسنا للخطر حين نركن إلى تحيزاتنا؟ هل تشعرنا نزعتنا في الرجوع إلى فقاعاتنا حيث لا نتحدث إلا مع المتفقين مع أفكارنا أو ميلنا للشعور بالخزي تجاه من لا يتفقون معنا بدلا من التفاعل معهم، بمزيد من التمكين؟ إذا لم نتوقف عن نبذ الفضائل الفكرية وآلاف السنوات من الحكمة التي تعلمنا كيف نصبح مفكرين نقديين مستقلين وأحرارا، فما ينبغي لنا أن نفاجأ إذا كان النوع الوحيد من المرشحين الذين يتسنى لنا انتخابهم هم من يعتقدون أنهم يفهمون نوازعنا الحقيقية (والأرجح أنهم يفهمونها بالفعل).
إن القرارات الكارثية مثل تلك التي أدت إلى كوارث المحطات النووية، أو أن يحكمنا أشخاص لا يتمتعون بأية مهارات سوى استغلال نقاط ضعفنا هي التوابع الأخطر لرفض تنمية قدرتنا على التفكير المنطقي أو رفضنا استخدامها، وهي قدرة تميزنا عن الحيوانات، وتزداد فعاليتها يوما بعد يوم؛ بفضل الأساليب المتاحة في جعبة المفكر النقدي.
كلنا قد اتخذنا قرارات بناء على شعور غريزي أو بعد التفكير فيها بعض الوقت. واتخذنا أيضا قرارات بعد البحث المتأني وقضاء وقت في تحليل الخيارات المطروحة. في العديد من الحالات، يتضح أن الخيارات الغريزية أو العفوية ليست سيئة، لكن قارن بين تجربتك الشخصية في اتخاذ القرارات بعد التفكير والتأني وبين اتخاذها «بالارتجال»، ولتر النتيجة. إذا كان بإمكاننا زيادة فرص نجاحنا بتحديد الأدلة وتقييمها، وصياغتها في بناء يمدنا بالمعلومات، وتحليل النتائج، فلماذا لا نتبع عملية التفكير النقدي بدلا من اتباع طريقة إطلاق السهم أولا ثم التصويب على الهدف؟ وبالمثل، ألا يمكن أن يساعدنا اختبار الفرضيات بشأن نواميس الكون والتخلي عنها - إذا لزم الأمر - في فهم الطريقة التي يسير بها الكون فهما أفضل؟
لننتقل الآن من القرارات الشخصية إلى العلاقات بين الأشخاص، من الأرجح أنك خضت، مثلي، جدالات مع الزملاء أو الأصدقاء أو الأحباب، وبدا فيها أن الطرفين لا يفهم أحدهما الآخر. والآن أنت تعرف السبب. الأرجح أن الحجة كانت تتضمن مقدمة منطقية خفية (واحدة من قياسات أرسطو المضمرة)، ودون القدرة على معرفة البنية التي يستند إليها الكلام، ظللت تجادل من دون أن تفهم الموضوع محل الجدال فهما كاملا. وبما أنك أصبحت أيضا تعرف الفرق بين الجدال والعراك، فأنت تعرف كيف تشارك مشاركة حسنة في الجدالات التي هي تفاعل بناء، وتتجنب العراك الذي هو مواجهة غير مثمرة وهدامة في كثير من الأحيان.
الخبر السار أن بناء حياة أفضل من خلال التفكير بصورة أفضل لا يتطلب منا إعادة تشكيل الجنس البشري. بل كل ما يستلزمه هو استخدام ملكات التفكير التي نمتلكها بالفعل بطريقة أفضل وأكثر مما نستخدمها الآن.
بفضل جميع النجاحات التي حققها العلم، غالبا ما يعتبر نموذجا للتفكير المنهجي. بالرغم من ذلك، إذا تخليت عن النظر إلى العلم بصفته نشاطا فريدا لا ينخرط فيه إلا أشخاص مميزون، واعتبرته نهجا ثقافيا مصمما للحد من التحيزات التأكيدية التي عادة ما تدفع كل الناس (بمن فيهم العلماء) إلى تصديق أشياء غير حقيقية، فربما تبدأ في إدراك الفوائد الكبيرة التي تنبع من إجراء تحسينات بسيطة في الطريقة التي نفكر بها.
ومن المخاوف الأخرى التي ينبغي تبديدها هو أن التحول إلى أفراد يتمتعون بمهارة التفكير النقدي في مجتمع يتحلى بالتفكير النقدي سيتطلب منا تحويل الأرض إلى كوكب «فولكان». ذلك أن قاطني عالم «ستار تريك» الخيالي كانوا يزعمون أنهم يحتكمون إلى المنطق بصورة كلية، لكن الوصف الأدق أنهم كانوا يكبتون العواطف التي اعتقدوا أنها تتعارض مع التفكير المنطقي. ومع كل الاحترام لسوراك، المشرع العظيم الذي أسس طريقة كوكب فولكان في الحياة، فإن كبت العواطف خطأ، حتى للمفكرين النقديين الذين يطمحون إلى تعزيز دور المنطق في حياتهم.
قمع العواطف خطأ؛ لأن العواطف وكذلك الغرائز تمدنا بمعلومات قيمة يمكن الاسترشاد بها في مقدمات الحجة المنطقية. إن العديد من الخيارات التي قمت بها بصفتي أبا (بداية من تحديد موعد خلود أطفالي للنوم، وحتى وقت استعدادهم لتعلم التفكير النقدي)، لم تستند إلى التقارير الأكاديمية أو قراءات الرنين المغناطيسي النووي لنشاط دماغ أطفالي، بل على الارتباط العاطفي الذي يتيح لي أن «أقرأ» أفكار من أحبهم من قبل أن يتفوهوا بكلمة. من المهم بالطبع أن ندقق في تلك المقدمات المنطقية للتأكد من أن العاطفة قد أثرتها لا ضللتها، وأن نتحلى بمنطقية القائد «سبوك» عند بناء الحجة التي ستستفيد من تلك المقدمات المنطقية، وتحليلها. فمن خلال تحقيق التوازن بين ذواتنا العاطفية والغريزية والمنطقية، نتفادى عزل أنفسنا عن البيانات القيمة الضرورية لتطبيق التفكير المنطقي بفاعلية في عالم يتألف من بشر لا آلات.
إن تبني معتقدات راسخة، والاصطفاف إلى جانب من يشاركوننا تلك المعتقدات - سواء بالمشاركة في القضايا أو الانضمام إلى حزب سياسي - لا يستلزم منا أن نتخلى عن المنطق لصالح عقيدة أو قبيلة. الحق أن تمحيص الفرد معتقداته قد يعززها إذ يساعده على تحديد إذا ما كانت تلك المعتقدات مبنية على أسس قوية من البراهين والمنطق أم لا. فإذا كانت مبنية على أسس قوية، فإنه يدافع عنها بقوة أكبر مما يزيد من فرص جذب الآخرين إلى صفه. وإذا لم تكن مبنية على أسس قوية، فيمكن للمرء تدعيمها أو حتى تغيير رأيه إذا أدرك في النهاية أن الأسباب الدافعة لمعتقده غير كافية. إن تكريس هذا النوع من النشاط العقلي من أجل المعتقدات التي نعتقد أنها الأهم لنا ينبغي أن يرى على أنه علامة على القوة لا الضعف. وإذا تأملنا المناخ السياسي السائد اليوم، فلا يبدو أن الابتعاد عن مبادئ التفكير النقدي قد منحنا سلطة أكبر أو جعلنا أسعد.
إذا افترضنا أنك تقبل الحجة القائلة بأن التفكير النقدي غالبا ما يحسن الحياة على المستوى الشخصي والجماعي والسياسي، وأننا يمكن أن نصبح مفكرين نقديين من دون تشكيل النوع البشري بأكمله من جديد، فسيظل السؤال الذي يواجهنا هو: كيف يمكننا تحديدا تنشئة أفراد يستخدمون طرقا أفضل للتفكير ويتأنون فيه، مع تنمية مجتمع يدرك أهمية اتباع نهج التفكير النقدي في اتخاذ الخيارات المهمة في الحياة؟
سيظل السؤال الذي يواجهنا هو: كيف يمكننا تحديدا تنشئة أفراد يستخدمون طرقا أفضل للتفكير ويتأنون فيه، مع تنمية مجتمع يدرك أهمية اتباع نهج التفكير النقدي في اتخاذ الخيارات المهمة في الحياة؟
من حسن الحظ أن من نحتاج إلى مشاركتهم في مثل هذا التحول من مؤيديه بالفعل. فمعظم المدرسين والمسئولين الأكاديميين وصناع سياسات التعليم يرون أن تعليم التفكير النقدي يجب أن يصبح أولوية، ويرغب أصحاب الأعمال في توظيف المزيد ممن يتمتعون بمستوى جيد في مهارات التفكير المنطقي. ثم إن الآباء والأمهات لا يرغبون في تنشئة أغبياء لا يتسلحون بالمؤهلات اللازمة للتوظيف، وقد أظهر الأطفال في كل المراحل التعليمية أنهم يستجيبون جيدا عند إدراج موضوعات التفكير النقدي في المنهج. إن الفجوة الكبيرة بين النسبة العالية من المعلمين الذين يدعون إيلاء الأولوية لتدريس التفكير النقدي والنسبة المنخفضة التي يعتقد أصحاب الأعمال أنها تعكس الخريجين الذين تعلموا مهارات التفكير النقدي، تشير إلى وجود الكثير مما يقتضي التحسين، لكنها لا تعني الافتقار إلى الدافع أو الأهداف المشتركة.
ومن الأخبار الجيدة أيضا، أننا لا نحتاج إلى قضاء عقدين آخرين أو ثلاثة للجدال بشأن تعريفات التفكير النقدي حتى نسرع من تبنيه وممارسته. يمكننا في هذا السياق اقتباس تشبيه عالم الحفريات ستيفن جاي جولد: «حلت نظرية أينشتاين عن الجاذبية محل نظرية نيوتن، لكن التفاح لم يظل معلقا في الهواء منتظرا النتيجة.»
1
وبالمثل، لا ينبغي لنا انتظار اتفاق قد لا يحدث أبدا كي نستفيد من المعارف والأساليب المتاحة في الوقت الحالي، وبعضها يعود تاريخه إلى ألفين وخمسمائة عام.
من الناحية النظرية، يمكن لإعادة تأليف منهج مهارات التفكير العليا أن يوصلنا إلى ما نريد، لكن مثل ذلك التحول الكبير غير عملي وغير وارد الحدوث أيضا؛ إذ لم نعد نعيش في حقبة تتوصل فيها لجنة من عشرة أعضاء إلى منهج موحد يعتمده الجميع. إضافة إلى ذلك، يوجد العديد من الأولويات الشرعية المتصارعة في مجال التعليم؛ مثل تعليم الطلاب القراءة والكتابة وفهم الرياضيات والعلوم، أو تنشئتهم ليصبحوا لائقين بدنيا واجتماعيا، ودعم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. يجب أن تعيش هذه الأولويات جنبا إلى جنب مع الرغبة في تعليم الطلاب طرق التفكير المفيدة، حتى إذا أمكن تطبيق مهارات التفكير النقدي على كل هذه الأهداف الأخرى.
إذا كان لنا أن نبني على ما نعرفه مما ناقشناه في الفصل الأخير عن تعليم التفكير النقدي، مع فهم العقبات التي تواجه المعلمين في عملهم، فيجب أن نوفر الموارد التي تعين المعلمين على دمج طرق تدريس التفكير النقدي «الصريحة» و«الممارسة» المدروسة في المناهج التي يدرسونها بالفعل بطرق تشجع على «الإحالة».
لقد قرأت بالفعل أمثلة على معلم الرياضيات الذي يستخدم البراهين الهندسية كي يعرف الطلاب على المبادئ العامة للحجج الاستنباطية، أو مدرس العلوم الذي لا يقتصر تطبيقه للطريقة العلمية على محتوى العلوم فحسب. ربما تبدو تلك تغييرات بسيطة في الطرق والأولويات، لكنها قد تؤدي إلى تحسينات كبيرة في التفكير النقدي بوجه عام، وقد استوعب العديد من المعلمين بالفعل طرق التفكير النقدي الخاصة بتخصصاتهم، حتى وإن لم يمتلكوا الخبرة في تدريس تلك الطرق على نحو صريح، أو في ربطها بالممارسة المدروسة التي تدعم القدرة على التفكير المنطقي التي يمكن إحالتها.
ويشير كتاب جون ديوي «كيف نفكر» الصادر عام 1910، الذي يعد «الأساس» في فهم التفكير النقدي وتدريسه، إلى أساليب قد تساعد معلمي اليوم على تحقيق هدف تنشئة مفكرين.
وحسبما ذكرنا، اعتمدت أفكار ديوي على مفهوم براجماتي يتمثل في أن الطلاب يميلون إلى التفكير مدفوعين في ذلك برغبة في تبديد الشك، لكن هذا الشك لا ينبت في عقول الطلاب حينما يمتلك المعلمون جميع الإجابات. لذا، ينبغي أن تركز الاستراتيجيات الجديدة لتدريب المعلمين وتوزيع الموارد والاستراتيجيات التربوية على الاستغناء عن أوراق العمل والاختبارات المكونة من أسئلة لها إجابات صحيحة أو خاطئة، أو حتى الجمع بينها وبين أسئلة وأحجيات مصممة لغرس الشك المحفز، المقترن بأساليب لتوجيه التفكير بطرق تبدد ذلك الشك بطرق مثمرة فكريا. ويمكن لهذه الممارسات أن تعين الطلاب على تكوين عادات فكرية تستمر معهم بينما ينتقلون من صف دراسي إلى آخر، ونأمل أن تنتقل معهم من مادة دراسية إلى أخرى ومن نطاق المدرسة إلى نطاق الحياة.
شهدت الغالبية منا على مدار حيواتهم، تطبيق أولويات تعليمية جديدة لاقت مستويات كبيرة من الدعم على المستويين الوطني والمحلي، وحتى على مستوى الفصل. وقد نبعت بعض هذه الأولويات من حركات المساءلة التي تدعو إلى وضع معايير أكاديمية صارمة، واختبارات منتظمة لتحديد إذا ما كان الطلاب يحرزون تقدما ملائما أم لا. وبصرف النظر عن آرائنا الشخصية في هذه الأولويات، فقد شهدنا تضافر حكومات ومنظومات تعليمية ومنظمات غير هادفة للربح والقطاع الخاص من أجل تحقيق هدف تعليمي مشترك. إذا تمكن الدعم الحقيقي لتعليم التفكير النقدي من تحقيق أي جزء ولو صغير من هذا الدعم، ففيما يلي بعض النقاط المؤثرة التي ينبغي استهدافها: (1) أولويات للمعلمين (1-1) الحرص على أن تحتوي المعايير الأكاديمية الجديدة على بعض مبادئ التفكير النقدي القابلة للإحالة
كما ورد في هذا الكتاب، تركز بعض المعايير المهمة مثل المعايير الحكومية الأساسية المشتركة التي وضعتها الولايات المتحدة على مهارات التفكير النقدي المرتبطة بأنشطة مثل الكتابة الجدلية . وبالمثل، نتج جيل جديد من معايير العلوم والدراسات الاجتماعية يتجاوز المعرفة القائمة على المحتوى ويبلغ منطقة التفكير النقدي بفئات جديدة من المعايير، مثل المفاهيم الشاملة التي تغطي المجالات أو الأبعاد العلمية، وتركز على وضع الأسئلة وتقييم المصادر واستخدام الأدلة في التاريخ وغيرها من مواد الدراسات الاجتماعية.
2
عندما يصبح تطوير مهارات التفكير النقدي القابلة للإحالة أولوية تعليمية حقيقية لا محل حديث فحسب، فإن المهارات الواردة بين دفتي الكتاب ستوجه التطوير المستمر للمعايير وتنفيذها في كل التخصصات على المستويين المحلي والوطني. (1-2) تعديل الأنظمة الحالية من أجل إعداد المعلمين لإدخال التدريس الصريح لمبادئ التفكير النقدي والممارسة المدروسة لمهارات التفكير النقدي في دروس المواد التي يدرسونها
تتناول الدورات التعليمية الخاصة بطرق التدريس في معظم كليات التربية طرق تدريس المحتوى، وتركز تلك الدورات على أصول التدريس العامة، وكذلك أساليب تدريس مواد دراسية معينة مثل الرياضيات والعلوم. ويمكن لتعديل تلك الدورات التدريبية كي تشمل طرق إدخال التدريس الصريح لمبادئ التفكير النقدي وفرص ممارسة مهارات التفكير النقدي، أن تسرع من تعميم استراتيجيات التشريب والاستراتيجيات المختلطة لتدريس التفكير النقدي المذكورة في الفصل الأخير. نظرا إلى ارتفاع معدل الدوران في مهنة التدريس بما في ذلك الأعداد الكبيرة لعمليات التقاعد المتوقعة على مدار العقد القادم، فإن تعديل تلك الدورات التدريبية لطرق التدريس بحيث تركز على تدريس مهارات التفكير النقدي يمكن أن تسرع من هذا التغيير من دون الإخلال بالهيكل العام للمنهج الدراسي.
على الرغم من أن هذا التغيير يبدو مباشرا، فلا بد أن يتصدى للتحديات التي تواجه تعليم المعلمين بوجه عام، التي أتى الوصف الأفضل لها في تقرير بعنوان «تعليم المعلمين» نشره آرثر ليفين عام 2006 حين كان رئيسا لكلية المعلمين بجامعة كولومبيا، وانتقد فيه برامج تعليم المعلمين الجامعية؛ لأنها «تفتقر إلى معايير عالية للقبول والتخرج» وغيرها من أوجه القصور.
3
وقد أدت هذه الانتقادات وغيرها إلى جهود لتحسين برامج إعداد المعلمين التي يمكن أن تخلق فرصا كي يصبح إعداد المعلمين بغية مساعدة الجيل القادم من الطلاب على تحسين قدرات التفكير النقدي لديهم، جزءا من جهود الإصلاح الأشمل. (1-3) الاستثمار في تنمية المعلمين الحاليين على المستوى المهني
يمكن للمعلمين الحاليين تعلم الموضوعات وأساليب التدريس ذاتها المذكورة في النقطة الأخيرة بشأن الدورات التدريبية في طرق التدريس من خلال التدريبات التي يتلقونها؛ باعتبارها جزءا من التطوير المهني المستمر. في العديد من البلدان، يجب على المعلمين الاشتراك في تدريبات مستمرة من أجل الحصول على الترخيص أو تجديده، أو زيادة الراتب أو التقدم في مسارهم المهني. وقد خلقت تلك الشروط أسواقا كبيرة للدورات التدريبية الجامعية والورش المدرسية والندوات التدريبية خارج مكان العمل وخيارات التعلم عبر الإنترنت المصممة لإعانة المعلمين على تحقيق أهداف التطوير المهني.
وعلى الرغم من أن معظم القرارات بشأن التطوير المهني تتخذ على المستوى المحلي، فإن سياسة التعليم من المحفزات الكبرى لتحديد الموضوعات التي ستمثل الأولوية، وخير مثال على ذلك هو ما يحدث من انتشار واسع للتطوير المهني لدعم المعلمين عند إطلاق معايير أكاديمية جديدة. وإذا انتقل تحسين قدرات التفكير النقدي لدى الطلاب من مرحلة التطلعات ليصبح سياسة فعلية، فستنبثق موارد التطوير المهني لدعم تلك الأولويات، مثلما حدث حين أصبحت المساءلة محفزا في السياسة التعليمية قبل عقود.
وفيما يتعلق بتعليم المعلمين قبل الخدمة، طعنت بعض الأبحاث في جودة برامج التطوير المهني وفاعليتها؛ إذ أظهرت محدودية تأثير التطوير المهني في تغيير ممارسات التعليم.
4
ولحسن الحظ أن الأولويات الجديدة في برامج التطوير المهني، مثل التدريب المستمر (مقارنة بورش «الجلسة الواحدة») وتعاون المعلمين في مجتمعات التعلم وشهادات الإنجاز في الفصل، كلها من الإصلاحات التي تتلاءم مع التعلم والممارسات اللازمة كي يصبح المرء مفكرا نقديا. (1-4) إبراز دور المؤسسات التعليمية والمعلمين الذين يتبنون مبادئ التفكير النقدي بالفعل
تتمثل إحدى الطرق الأخرى للاستفادة من الموارد المفيدة والموجودة بالفعل، في تسليط الضوء على أماكن التعلم التي تتبنى مهارات التعلم الأربع والاحتفاء بها، وكذلك المؤسسات خارج الإطار المدرسي (مثل برامج الإثراء بعد اليوم الدراسي)، التي تدعم طرق التدريس التي تتبنى مبادئ التفكير النقدي أو تجربها. وينطبق الأمر نفسه على فرادى المعلمين الذين ينفذون الممارسات التي تعين في تنمية قدرات التفكير النقدي لدى الطلاب؛ إذ يمكن أن يمثلوا مصدر إلهام لغيرهم من المعلمين، أو نماذج يحتذون بها. (1-5) إمداد المعلمين العاملين في الفصول بالموارد التي يحتاجون إليها للنجاح
يزداد ابتعاد المعلمين عن الكتب المدرسية أو حزم المناهج التي تقدمها جهات النشر الأكاديمية، وهم ينتقلون بدلا من ذلك إلى الموارد التعليمية المفتوحة، مثل خطط الدروس والتقييمات وأنشطة التعليم المتاحة مجانا عبر الإنترنت أو بتكلفة بسيطة. والعديد من تلك الموارد من ابتكار معلمين قد صمموها ليشاركوها مع بعضهم بعضا،
5
أو طورها خبراء يعملون لدى مؤسسات متخصصة في تحسين التعليم.
ونظرا إلى التنوع الكبير في المواد المتاحة عبر مختلف المنصات، أصبح العثور على الموارد الجيدة تحديا مستمرا للمعلمين الذين يستخدمون الموارد التعليمية المفتوحة. ويمكن للالتزام بإنشاء محتوى عالي الجودة يدعم تدريس التفكير النقدي ويسهل العثور عليه عبر الإنترنت وتدريسه داخل الفصول، أن يتيح للمعلمين الاستفادة من الأدوات والطرق المثبتة التي لا تتطلب منهم إعادة تشكيل الموارد الموجودة بالفعل.
إن هذه التوصيات المتعلقة بالسياسات بشأن الأولويات الجديدة تشير إلى أن المدرسة هي أفضل مكان لتنشئة مفكرين نقديين، ولكن بحلول الوقت الذي يصل فيه الطلاب إلى سن المدرسة، ربما يكونون يعانون بالفعل من ضعف في مهارة التفكير النقدي بسبب التحيزات المعوقة التي يتلقونها من المنزل، أو من أقرانهم الذين يعتنقون معتقدات من دون تفكير. وهذا يجعل المنزل وغيره من البيئات خارج إطار المدرسة هي الأماكن الأنسب لتعليم الخصال الفكرية المرتبطة بسمات التفكير النقدي. وفيما يلي بعض الأفكار للقيام بذلك: (2) أولويات الأسر (2-1) الالتزام بأن نصبح نحن أنفسنا مفكرين نقديين
مثلما ذكرنا من قبل، فإن تطبيق أساليب التفكير النقدي عمليا يزود الأفراد على اختلاف فئاتهم العمرية بالطرق التي تمكنهم من اتخاذ قرارات أفضل، وتسوية الاختلافات، والمساعدة في بناء مجتمع أفضل. وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من المناقشات المطروحة في هذا الكتاب يهتم بتعليم الطلاب الصغار، توجد مجموعة كبيرة من الكتب والدورات التدريبية وغيرها من المصادر (العديد من تلك المصادر مجاني، بما فيها المصادر الواردة في قسم «المصادر»)؛ كي تساعد أي شخص من أي فئة عمرية على البدء في رحلة تمتد على مدى الحياة كي يصبح مفكرا نقديا. ومثلما أن البدء في تعلم مهارات التفكير النقدي لا يمكن أن يكون سابقا لأوانه، فإن أوان تعلمه لا يفوت أبدا. (2-2) ممارسة الخصال الفكرية في المنزل
لكي يتعلم الصغار الخصال الفكرية مثل الانفتاح الذهني والتواضع الفكري والثقة في المنطق؛ ينبغي أن تشرح هذه الخصال لهم، ويشهدوا ممارستها أمامهم أيضا. وهذا يعني أنه ينبغي رؤية العائلات التي تتسم بتعصبها السياسي أو العداء تجاه معتقدات الآخرين على حقيقتها: وهي أنها عقبة غير مقصودة أمام نجاح الطفل وسعادته في نهاية المطاف. (2-3) تقبل الشك، لكن مع توجيهه توجيها مثمرا
في عرض الفلسفة البراجماتية في الفصل الثاني، تناولنا أربع طرق وضعها تشارلز بيرس لتبديد الشك وهي طريقة «الاعتقاد المسبق» (وتعني أن يستمر المرء في تصديق ما يؤمن به ويعتقده بالفعل أو ما يجعله مطمئنا) و«السلطة» بمعنى (الإيمان بما يخبرنا به المجتمع أو رموز السلطة)، و«التشبث» بمعنى (أن يعتنق الفرد معتقداته المستقلة وأن يتمسك بها بشدة)، والتفكير العلمي القائم على وضع الفرضيات والتجربة وتنقيح المعتقدات التي تخلق الفرص للاقتراب من الحقيقة. إذا كان التحيز التأكيدي والتفكير القبلي وهما سببان للعديد من مشكلات العصر الحالي، ينبعان من الاعتماد المفرط على الاعتقادات المسبقة ومعتقدات رموز السلطة، فيمكن رؤية نزعة المراهقين والشباب إلى التمرد على معتقدات آبائهم ومعلميهم والمجتمع على أنها اعتناق طبيعي للتشبث الذي يحدث بينما يحاول الشباب تكوين هوياتهم الخاصة.
غالبا ما يواجه الآباء من ذوي المعتقدات الراسخة عن السياسة أو الدين أو غيرها من المسائل المهمة، بعض الصعوبات في هذه المرحلة من حياة أبنائهم. لكن إذا ما تغاضينا عن هذا التمرد العنيف ونظرنا إلى الشك الذي يحفزه، فسنجد طرقا لتوجيه هذا الشك توجيها مثمرا، بدلا من إجبارهم على اعتناق ما نؤمن به أو قبول تخليهم عن أفكار وقيم مهمة لمجرد أن الكبار يؤمنون بها. فعلى سبيل المثال، يمكننا أن نطلب منهم التفكير في الأفكار التي يعتقدون بصحتها بكل قوة وتبريرها، ومن ثم نعطيهم الفرصة للمشاركة في حديث محترم يتسم باحتمالية أن يغير كل طرف من أفكار الآخر. ويمكن أيضا أن نوفر لهم طرقا لاختبار أفكارهم عبر خطوات التفكير العلمي أو من خلال طرق أخرى من التحليل المنظم المرتبطة بالتفكير النقدي. على الرغم من أن هذا النشاط الفكري قد ينتهي إلى طريق مسدود في أي محادثة، فإن خلق مساحة من الحوار المحترم التأملي يوضح للمشاركين في الحديث (الأطفال والكبار على حد سواء) قيمة التفكير النقدي بشأن المواضيع المهمة. (3) خلق ثقافة التفكير النقدي
ثمة فكرة هي أقرب إلى الطموح منها إلى الاقتراح الفعلي، وهي أن المجتمعات تكافئ بالفعل القوة البدنية والبراعة في المجال الرياضي، وكذلك تكافئ الإلمام الجيد بالحقائق اللازم لتحقيق نتائج كبيرة في مسابقات الاختبارات، ومن ثم يجدر بهذه المجتمعات أن تجد طريقة للاحتفاء ثقافيا ليس فقط بما يعرفه الأفراد ولكن أيضا بما يمكنهم تحقيقه بتلك المعرفة عند التفكير بطريقة نقدية في مسألة أو قضية ما.
وبالرغم من كل شيء، لم يمض وقت طويل منذ أن وضعت دراسة المواد مثل المنطق والبلاغة تعريفات لمعنى الإنسان المفكر المثقف، وهي صفة يمتد تاريخها إلى ألفي عام. فإذا كنا نبجل العلماء نظير إنجازاتهم ومساهماتهم من أجل الإنسانية، أفلا يمكن لنا أيضا الاحتفاء بعمليات التفكير التي أدت إلى هذه الإنجازات، وأن نوضح في الوقت ذاته كيف أن التفكير العلمي وغيره من أشكال التفكير المنظم قد يساعدنا في اتخاذ خيارات أذكى والإيمان بقدر أكبر من الأمور الصحيحة مقارنة بما نؤمن به من الأمور الخاطئة؟
وبدلا من ذلك، يمكننا معاملة مهارات التفكير النقدي باعتبارها أشبه ب «القوى الخارقة» التي تمتلكها أو تكتسبها قلة محظوظة تتمتع بالتدريب والاستعداد اللازمين لسبر أغوار أشكال التواصل التي تحجب عنا الحجج الفعلية الكامنة خلفها، وتمتلك القدرة على تقييم تلك الحجج من حيث الجودة وكذلك تستخدم مهاراتها الخاصة في التفكير والإقناع من أجل تحقيق أهدافها (سواء في الخير أو الشر). غير أن هذا النهج التمييزي يتجاهل حقيقة أن التفكير المنطقي يوجد لدى جميع أفراد الجنس البشري، وأن القدرة على التفكير الجيد شيء يفيدنا جميعا لأن العديد من الطرق الأسوأ، مثل حكم الدهماء، سيظل خيارا متاحا على الدوام لمن لا يتبنون التفكير النقدي نهجا في حياتهم.
مسرد المصطلحات
الإحالة:
إمكانية تطبيق المعارف أو المهارات في مجالات مختلفة. على سبيل المثال، يمكن أن ينطوي النجاح في إحالة مهارات التفكير العلمي على تطبيق الطريقة العلمية على المسائل المتعلقة بالتاريخ أو القرارات الشخصية خارج نطاق المدرسة.
الإحسان/مبدأ الإحسان:
قاعدة فلسفية تقتضي التفكير في أقوى صيغة من حجة الخصم، وكذلك تحويل حجج الآخرين إلى مقدمات واستنتاجات يتفق صاحب الحجة أنها تعبر عن المعنى الذي يريد التعبير عنه.
إدراك الإدراك:
وعي المرء بعملياته الذهنية، وتفكيره فيها.
الاستدلال الاحتمال:
شكل من أشكال التفكير، يحاول إيجاد أبسط التفسيرات أو أرجحها للظواهر المرصودة، أو كليهما. ويشار إليه أيضا باسم «الاستدلال إلى أفضل تفسير».
الاستدلال إلى أفضل تفسير:
انظر «الاستدلال الاحتمالي».
الاستنباط أو المنطق الاستنباطي:
أحد أشكال التفكير المنطقي، وفيه يقتضي قبول صحة المقدمات المنطقية للحجة قبول استنتاج الحجة. ويعد البرهان الرياضي أو الهندسي مثالا على المنطق الاستنباطي.
الاستنتاج:
جزء من الحجة تطلب من شخص ما أن يقبل صحته إذا قبل صحة المقدمات المنطقية للحجة.
التحيز التأكيدي:
انظر «التحيز المعرفي».
الأسئلة المحددة الإجابة:
في سياق وضع الاختبارات، هي الأسئلة التي تكون لها إجابات إما صحيحة أو خاطئة. وتعد أسئلة الاختيار من متعدد من أمثلة الأسئلة المحددة الإجابة.
الإيجاز:
مبدأ في المجادلة يقتضي صياغة الحجة بأقل عدد من المقدمات المنطقية الضرورية لدعم الاستنتاج.
البلاغة:
أساليب وطرق لعمليات التواصل الإقناعي.
البنية:
في سياق وضع الاختبارات، هو توليفة المعارف والمهارات والقدرات والمواهب والمواقف أو أي منها، التي يصمم الاختبار لقياسها.
تأثير الارتساء:
تحيز استدلالي أو معرفي يتضمن تثبيت (أو «إرساء») كمية في عقل شخص ما قبل أن يطلب منه دراسة المعلومات الكمية أو إبداء رأي بناء على أعداد أو قيم. على سبيل المثال، غالبا ما سيكون السعر المطلوب لمنزل ما، هو نقطة البداية التي ترسي في إدراك المشتري القيمة التي يستحقها منزل ما بالفعل. انظر أيضا «التحيز المعرفي».
التحقق من الصلاحية:
في سياق وضع الاختبار، تتمثل عملية التحقق من الصلاحية في جمع البراهين التي تدعم الادعاء بأن الاختبار يقيس العناصر التي يدعي أنه يقيسها.
التحيز المعرفي:
عيوب في التفكير العقلي ناتجة عن استخدام طرق التفكير المختصرة أو ما يسمى ب «الحدس المهني» (انظر «الحدس المهني»)، التي يمكن أن تشوه الحكم السليم، مثل الانحياز التأكيدي الذي يسهل قبول البرهان والحجج التي تتسق مع ما يؤمن به الشخص بالفعل.
تخطيط الحجة:
طريقة رسومية لتحليل الحجج تتضمن تحويل لغة الحجج المكتوبة أو الشفهية إلى ادعاءات، وتنظم بحيث يقدم كل ادعاء مسوغا لتصديق الادعاء الذي يوجد أعلاه.
تصنيف بلوم:
تسلسل هرمي لأهداف التعلم، نشر هذا التصنيف عام 1956 وحدث عام 2001، وهو ينظم التعلم بناء على مستويات التعقيد المعرفي.
التقييم التحصيلي:
أحد أشكال التقييم (عادة ما يقيم بالدرجات) يحدد ما إن كان الطالب قد تعلم المعلومات أو أتقن المهارات محل التقييم أم لا.
التقييم التكويني:
أحد أشكال التقييم (لا يتم التقييم بالدرجات عادة)، مصمم للوقوف على ما يعرفه الطالب وما لا يعرفه، مما يساعد المعلم على تقديم ملاحظات فورية بناء على فهمه لما يحتاج الطالب إلى أن يتعلمه.
الحجة:
مجموعة من العبارات التي تقدم برهانا يدعم استنتاجا ما.
الحجة الصالحة:
تصبح الحجة الاستنباطية (انظر «الاستنباط» أو «الاستدلال الاستنباطي») صالحة إذا كان قبول المقدمات يقتضي قبول الاستنتاج.
الحدس المهني:
أساليب أو طرق عقلية مصممة لحل مسألة أو للإجابة عن سؤال ما بسرعة. وفي العديد من الحالات، يمكن أن تؤدي هذه الطرق المختصرة إلى عيوب منهجية في التفكير (انظر التحيز المعرفي).
الدراية المعلوماتية:
طريقة بحث تطورت في مجال علوم المكتبات من أجل إيجاد المعلومات وتقييمها وتنظيمها وتجميعها وإيصالها، ويأتي قدر كبير من تلك المعلومات من المصادر الموجودة على الإنترنت.
السمات:
الصفات الشخصية التي تؤدي إلى نوع معين من السلوك. فحب الاستطلاع مثلا ، سمة قد تدفع الشخص إلى طرح أسئلة ومحاولة اكتشاف الإجابات عن تلك الأسئلة، مما يجعل تلك السمة مهمة حتى يصبح الشخص مفكرا نقديا.
الصيغة المنطقية:
البنية المجردة للحجة، ويمكن التعبير عنها بالرموز بصورة منفصلة عن الكلمات التي تتألف منها الحجة.
الضمان:
المسوغ لاعتقاد ما.
عرض:
في سياق وضع الاختبار، يأتي العرض في شكل نص أو صورة أو نوع وسائط آخر يقدم معلومات ضرورية للإجابة عن سؤال في الاختبار.
الفرضية:
إجابة مقترحة لسؤال ما أو حل لمسألة يظل مشروطا حتى الانتهاء من جمع البيانات وإجراء الاختبارات لتحديد إذا ما كانت البراهين الحالية كافية كي ترتقي الفرضية إلى مستوى النظرية أم لا (انظر «النظرية»).
فلاسفة ما قبل سقراط:
مجموعة من الفلاسفة الأوائل سبقوا الفيلسوف اليوناني القديم سقراط. وركزت أعمالهم على التفسيرات الفيزيائية والعلمية للظواهر الطبيعية.
القياس المضمر:
مقدمة مخفية تتضمنها الحجة المنطوقة أو المكتوبة، لكنها لا تذكر فيها صراحة.
القياس المنطقي:
طريقة أرسطو الأصلية لبناء الحجج، وهي تتضمن مقدمتين منطقيتين (بما في ذلك مقدمة كبرى ومقدمة ثانوية)، وهما تؤديان إلى استنتاج.
لجنة الأعضاء العشرة:
مجموعة من المعلمين بقيادة رئيس جامعة هارفارد تشارلز إليوت، اجتمعوا عام 1892 لإنشاء منهج موحد للمدارس الأمريكية الذي لا يزال يستخدم على نطاق واسع حتى اليوم.
المغالطة:
خطأ منطقي يؤدي إلى دحض الحجة. تتضمن المغالطات الصورية أخطاء في بنية الحجة، أما المغالطات غير الصورية فتتضمن المشكلات المرتبطة باللغة المستخدمة في المقدمات المنطقية للحجة أو استنتاجها أو في كل منهما.
المقدمات المنطقية:
العبارات التي تتألف منها الحجة، يطلب صاحب الحجة القبول بصحتها ثم الزعم بأن تلك المقدمات تؤدي منطقيا إلى استنتاج الحجة.
الممارسة المدروسة:
تدريبات منهجية على المهارات مصممة لتوفير فرص زيادة القدرة في المجال الذي يتم التدريب عليه.
المنطق الاستقرائي:
أحد أشكال التفكير المنطقي لا يقتضي قبول صحة مقدمات حججه قبول استنتاج الحجة على أنه مؤكد. يحكم على الحجج الاستقرائية بأنها إما قوية أو ضعيفة، وعادة ما يعتمد الحكم على مدى احتمالية الاستنتاج الذي يتبع المقدمات.
المنطق الصوري:
أحد أشكال المنطق المعنية بطريقة صياغة الحجج لا اللغة التي تستخدمها العبارات التي تتألف منها الحجة.
المنطق غير الصوري:
أحد أشكال المنطق المعنية بطريقة صياغة الحجج واللغة التي تستخدمها العبارات التي تتألف منها الحجة.
النظرية:
مبدأ يشرح ظاهرة ما. في العلوم، تصبح الفرضيات (انظر «الفرضية») نظريات عندما تجتاز ما يكفي من الاختبارات كي تقبل على نطاق واسع في المجتمع العلمي.
النموذج:
طريقة للتفكير في العالم تتأصل في الفرد أو الجماعة أو المجتمع. على سبيل المثال، شكلت نظريات نيوتن نموذجا للتفكير بشأن الكون من حيث العمليات الميكانيكية التي يمكن شرحها رياضيا.
الوجاهة:
في المجادلات المنطقية، تصبح الحجة وجيهة إذا تحقق فيها الشرطان التاليان: (1) إذا كانت صالحة (انظر «الحجة الصالحة»)، (2) إذا كانت مقدمات الحجة صحيحة.
ملاحظات
تمهيد
الفصل
الفصل
الفصل
وتقييمه
الفصل
مصادر إضافية
الفلسفة
Gottlieb, Anthony.
The Dream of Reason: A History of Western Philosophy from the Greeks to the Renaissance . New York: W.W. Norton & Co., 2016-An accessible, lively study of Western philosophy from the pre-Socratics through the end of the Middle Ages.
Gottlieb, Anthony.
The Dream of Enlightenment: The Rise of Modern Philosophy . New York: Liveright Publishing Corp., a Division of W. W. Norton & Co., 2017-The second volume of Gottlieb’s study of the history of philosophy, which continues through the early modern era. “History of Philosophy without Any Gaps”-An ambitious podcast series offering a chronological account of the development of Western philosophy, information at
https://historyofphilosophy.net/ . “Masters of Greek Thought: Plato, Socrates, and Aristotle”-Audio/ video course on the three greatest names in classical Western philosophy, taught by Professor Robert C. Bartlett of Boston College, information at
https://www.thegreatcourses.com/courses/masters-of-greek-thought- plato-socrates-and-aristotle.html .
Menand, Louis.
The Metaphysical Club: A Story of Ideas in America . New York: Farrar, Straus and Giroux, 2007-The Pulitzer
history, including the development of the philosophical school of
“Partially Examined Life”-This podcast provides listeners with the opportunity to hear a group of philosophers “doing” philosophy through discussion and debate of various philosophical readings and topics, available at
https://partiallyexaminedlife.com/ .
Wi-Phi Open Access Philosophy-A free resource that features hundreds of instructional videos on various aspects of philosophy, including critical thinking lessons on forms of reasoning, fallacies, and cognitive biases, available at
www.wi-phi.com .
تاريخ العلوم
Alioto, Anthony.
A History of Western Science . Pearson, 1992-An overview of the history of science from ancient to modern times.
Kuhn, Thomas S.
The Structure of Scientific Revolutions . Chicago: Chicago University Press, 1962-A groundbreaking analysis of the culture of science which views the field as moving through a series of distinct paradigms that provide different ways of understanding the world. “Redefining Reality” - Audio/video course that discusses how discoveries in physics, biology and psychology have impacted how we view the universe, taught by Professor Steven Gimbel of Gettysburg College, information at
https://www.thegreatcourses.com/courses/philosophy-intellectual- history/redefining-reality-the-intellectual-implications-of-modern- science.html .
التعليم والتنمية في مرحلة الطفولة
Graham, Patricia.
Schooling America: How the
Needs . New York: Oxford University Press, 2007-A history of the American public education system traced through a series of discrete stages or “ages.”
Jensen, Francis E, and Amy Ellis Nutt.
The Teenage Brain: A Neuroscientist’s Survival Guide to Raising Adolescents and Young Adults . New York: Harper, 2015 - A guide to child development through analysis of how the brains of young people grow and change. “Theories of Human Development”-Audio/video course on the history of theories regarding child development, taught by Professor Malcolm W. Watson of Brandeis University, information at
https://www.thegreatcourses.com/courses/theories-of-human- development.html .
المنطق والحجاج “Argumentation: The Study of Effective Reasoning”-Audio/video course on techniques for logical argumentation and reasoning, taught by Professor David Zarefsky of Northwestern University, information at
https://www.thegreatcourses.com/courses/argumentation-the-study-of- effective-reasoning-2nd-edition.html .
E. J. Lemmon,
Beginning Logic . Cambridge, MA: Hackett Publishing Company, 1978 - An accessible introductory textbook covering several systems of logic.
Changingminds.org. “Lists of Fallacies.” Accessed November 12, 2018.
http://changingminds.org/disciplines/argument/fallacies/fallacies_alpha.htm - An alphabetical list with definitions and examples of over one hundred formal and informal fallacies. “Think Again”-A four-part course taught by Duke University professors Walter Sinnot-Armstrong and Ram Neta, available from
www.coursera.org .
ThinkerAnalytix-Educational resources for teachers and students interested in learning argument mapping, information at
https://thinkeranalytix.org .
البلاغة
Harris, Robert A.
A Handbook of Rhetorical Devices . January 13, 2013. Accessed November 12, 2018.
https://www.virtualsalt.com/rhetoric.htm - Dozens of rhetorical devices explained and illustrated with multiple examples.
Heinrichs, Jay.
Thank You for Arguing: What Aristotle, Lincoln, and Homer Simpson Can Teach Us about the Art of
. New York: Three Rivers Press, 2013 - An entertaining, practical, modern guide to the art of persuasive communication.
الدراية المعلوماتية
Information Literacy competency standards developed by the American Library Association (ALA), available at
http://www.ala.org/Template.cfm?Section=Home&template=/ContentManagement/ContentDisplay.cfm&ContentID=33553 .
Information Literacy - A nonprofit organization that provides access to resources and original research on information literacy topics at
https://www.projectinfolit.org .
معلومات عن تقييمات التفكير النقدي الواردة في الفصل الثالث
California Critical Thinking Skills Test
https://www.insightassessment.com/Products/Products-Summary/Critical- Thinking-Skills-Tests/California-Critical-Thinking-Skills-Test-CCTST .
California Critical Thinking Dispositions Inventory
https://www.insightassessment.com/Products/Products-Summary/Critical- Thinking-Attributes-Tests/California-Critical-Thinking-Disposition- Inventory-CCTDI .
Collegiate Learning Assessment (CLA and CLA+)
https://cae.org .
Cornell Critical Thinking Test
https://www.criticalthinking.com/cornell-critical-thinking-test- level-z.html .
Ennis-Weir Critical Thinking Essay Test
http://www.academia.edu/1847582/The_Ennis- Weir_Critical_Thinking_Essay_Test_An_Instrument_for_Teaching_and_Testing .
Helpern Critical Thinking Assessment
https://sites.google.com/site/dianehalperncmc/home/research/halpern- critical-thinking-assessment .
Watson-Glaser Critical Thinking Appraisal
https://us.talentlens.com/store/ustalentlens/en/Store/Ability/Watson- Glaser-Critical-Thinking-Appraisal-III/p/100001976.html .
مصادر أخرى عامة بشأن التفكير النقدي
Critical Thinker Academy Video-based instruction on critical thinking principles by
https://criticalthinkeracademy.com .
Haber, Jonathan.
Critical Voter: Using the Next Election to Make Yourself (and Your Kids) Smarter . Lexington, MA: Degree of Freedom, 2016-The author’s book on using election politics to teach critical-thinking skills. Book chapters and educational resources available at
www.criticalvoter.com .
Unknown page