سألنا أنفسنا: «فيم كانوا يفكرون؟» على الرغم من أننا في تلك الرفقة كنا نعالج أسئلة أدق مثل الأسئلة التالية:
ما المقدمات التي استخدمها صناع القرار لتبرير إنشاء مفاعل في مثل هذا الموضع المعرض للخطر؟ وما المنطق الذي ربط تلك المقدمات باستنتاج مفاده أنه يجب عليهم البدء في المشروع؟
تبين أن المقدمات المنطقية كانت معيبة؛ إذ اعتمدت على التمني وتبني أفضل التوقعات. وأتت المقدمات المنطقية فاسدة أيضا بسبب الجهات التنظيمية الخاضعة لمن يريدون التوسع في استخدام الطاقة النووية في اليابان. وأدى هذا إلى وجود تحيزات أثرت في اختيار صناع القرار للاستدلالات التي توصلوا لها والأدلة التي صدقوها. وعلى غرار المحطة النووية ذاتها، صيغت حجة تحديد مكان محطة فوكوشيما في ذلك المكان بمواد بناء غير مناسبة وتصميم معيب.
تقدم البيئة السياسية الحالية مثالا آخر على ما يحدث للأفراد والمجتمع إذا تجاهلوا مبادئ التفكير النقدي. لا شك في أن هناك ناخبين يتسمون بالإنصاف عندما يستمعون إلى المرشحين السياسيين المعارضين، حيث يضعون في اعتبارهم كامل السمات الشخصية للمرشحين وحياتهم المهنية السياسية قبل تكوين رأي بشأنهم، إضافة إلى تحليل مواقفهم من القضايا المهمة. فالائتلافات الحزبية (التي تدل على وجود قيم مشتركة مع ناخبين آخرين) والمعتقدات السياسية الراسخة (التي تحدد أولويات الفرد) لا تعمينا بالضرورة عن احتمالية أن يكون لدى «الجانب الآخر» ما يستحق الإنصات له. لكن كم عدد الناخبين في العصر الحالي الذين يرفضون تلقائيا الاستماع إلى أي شخص لا يتفقون معه بالفعل، ويرفضون ممارسة أي شكل من أشكال التأمل أو التأني، ويفضلون البحث على «جوجل» عن رسوم هزلية مسيئة للمرشح الذي لم ينتووا التصويت له قط تحت أي ظرف من الظروف، وهذه الرسوم الكاريكاتورية قد قصها آخرون بعناية من مقاطع فيديو واقتباسات أخرجت من سياقها؟ «تقدم البيئة السياسية الحالية مثالا آخر على ما يحدث للأفراد والمجتمع إذا تجاهلوا مبادئ التفكير النقدي.»
إن العديد من أولئك «الآخرين» محترفون في الاستفادة من أوجه قصور ملكاتنا العقلية، مثل التحيزات المعرفية العديدة التي تعيقنا عن التفكير النقدي أو قدرة العاطفة أو القبلية في التغلب على التفكير المنطقي. وعلى مدار التاريخ، كان هؤلاء «الآخرون» هم المرشحين الذين يقررون كيف يعمون أبصار الناخبين أو يستجدون عاطفتهم أو تعصبهم القبلي، بدلا من التفكير المنطقي. وكما تبين في الانتخابات الأخيرة، لا يزال المرشحون يتصدرون هذا النوع من التلاعب، لكنهم صاروا متسلحين بالمستشارين السياسيين المتمرسين في الأساليب التي تعيق الناس عن التفكير بوضوح.
إن المرء ليرجو أن تنبهنا القوى الأجنبية المعادية التي تستخدم تلك الأساليب ذاتها في التلاعب بمواطني البلدان الأخرى، فتشعل الغضب من أجل إحداث انشقاقات تعرض الديمقراطية للخطر، إلى مخاطر التخلي عن التفكير المنطقي من أجل تفضيلات بدائية. لكن هل شهدنا أي درجة من التضاؤل في شهية الجمهور إلى المقدمات المنطقية السيئة (متمثلة في «الأخبار الكاذبة») والمنطق غير الصالح ورفض اكتساب الخلفية المعرفية أو تطبيقها وعدم التحلي بالخيرية تجاه الخصوم السياسية، حين عرفنا أننا نعرض أنفسنا للخطر حين نركن إلى تحيزاتنا؟ هل تشعرنا نزعتنا في الرجوع إلى فقاعاتنا حيث لا نتحدث إلا مع المتفقين مع أفكارنا أو ميلنا للشعور بالخزي تجاه من لا يتفقون معنا بدلا من التفاعل معهم، بمزيد من التمكين؟ إذا لم نتوقف عن نبذ الفضائل الفكرية وآلاف السنوات من الحكمة التي تعلمنا كيف نصبح مفكرين نقديين مستقلين وأحرارا، فما ينبغي لنا أن نفاجأ إذا كان النوع الوحيد من المرشحين الذين يتسنى لنا انتخابهم هم من يعتقدون أنهم يفهمون نوازعنا الحقيقية (والأرجح أنهم يفهمونها بالفعل).
إن القرارات الكارثية مثل تلك التي أدت إلى كوارث المحطات النووية، أو أن يحكمنا أشخاص لا يتمتعون بأية مهارات سوى استغلال نقاط ضعفنا هي التوابع الأخطر لرفض تنمية قدرتنا على التفكير المنطقي أو رفضنا استخدامها، وهي قدرة تميزنا عن الحيوانات، وتزداد فعاليتها يوما بعد يوم؛ بفضل الأساليب المتاحة في جعبة المفكر النقدي.
كلنا قد اتخذنا قرارات بناء على شعور غريزي أو بعد التفكير فيها بعض الوقت. واتخذنا أيضا قرارات بعد البحث المتأني وقضاء وقت في تحليل الخيارات المطروحة. في العديد من الحالات، يتضح أن الخيارات الغريزية أو العفوية ليست سيئة، لكن قارن بين تجربتك الشخصية في اتخاذ القرارات بعد التفكير والتأني وبين اتخاذها «بالارتجال»، ولتر النتيجة. إذا كان بإمكاننا زيادة فرص نجاحنا بتحديد الأدلة وتقييمها، وصياغتها في بناء يمدنا بالمعلومات، وتحليل النتائج، فلماذا لا نتبع عملية التفكير النقدي بدلا من اتباع طريقة إطلاق السهم أولا ثم التصويب على الهدف؟ وبالمثل، ألا يمكن أن يساعدنا اختبار الفرضيات بشأن نواميس الكون والتخلي عنها - إذا لزم الأمر - في فهم الطريقة التي يسير بها الكون فهما أفضل؟
لننتقل الآن من القرارات الشخصية إلى العلاقات بين الأشخاص، من الأرجح أنك خضت، مثلي، جدالات مع الزملاء أو الأصدقاء أو الأحباب، وبدا فيها أن الطرفين لا يفهم أحدهما الآخر. والآن أنت تعرف السبب. الأرجح أن الحجة كانت تتضمن مقدمة منطقية خفية (واحدة من قياسات أرسطو المضمرة)، ودون القدرة على معرفة البنية التي يستند إليها الكلام، ظللت تجادل من دون أن تفهم الموضوع محل الجدال فهما كاملا. وبما أنك أصبحت أيضا تعرف الفرق بين الجدال والعراك، فأنت تعرف كيف تشارك مشاركة حسنة في الجدالات التي هي تفاعل بناء، وتتجنب العراك الذي هو مواجهة غير مثمرة وهدامة في كثير من الأحيان.
الخبر السار أن بناء حياة أفضل من خلال التفكير بصورة أفضل لا يتطلب منا إعادة تشكيل الجنس البشري. بل كل ما يستلزمه هو استخدام ملكات التفكير التي نمتلكها بالفعل بطريقة أفضل وأكثر مما نستخدمها الآن.
Unknown page