تصف النسخة المختصرة الشهيرة من هذا التاريخ كيف انتهت في أوروبا «العصور المظلمة»، التي سيطرت فيها الكنيسة الكاثوليكية على عقول الناس، حين أصر علماء شجعان أمثال كوبرنيكوس وجاليليو على أن الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس، وأثبتوا ذلك من خلال الحسابات الرياضية والملاحظات العلمية. إن نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهم آخرين بالتخلص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
إن نجاح هذا النوع من التفكير العلمي قد ألهم آخرين بالتخلص من العقيدة الدينية، والتفكير بأنفسهم بطرق عقلانية وعلمية.
وكما هي العادة، لا يكون التاريخ الحقيقي بهذه البساطة. فالعقيدة الكنسية التي حاربها العلماء الأوائل على سبيل المثال، كانت ترتبط بالعلوم اليونانية القديمة والفلسفة، بقدر ما كانت ترتبط بنصوص الكتاب المقدس. فالفكرة المتمثلة في أن الإله غير محدود القدرة ولا المعرفة ولا الخير، أو أن الجنة هي مكان الكمال المنفصل عن عالمنا المادي، لا تجد سوى تأييد واه من الكتاب المقدس العبري أو العهد الجديد. غير أن الأفكار عن «القوالب» المثالية قد ازدهرت في الفلسفة اليونانية، لا سيما في أعمال أفلاطون.
4
وعندما تحولت الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع بعد الميلاد، دخلت العديد من المعتقدات الرومانية الموجودة بالفعل والتي يستند الكثير منها إلى الفلسفة اليونانية، في الشريان الفكري المسيحي. وبالمثل أيضا، وجدت العلوم القديمة ملتجأ في التفكير الكنسي بالقرن الثالث عشر حينما دمج توما الأكويني أعمال أرسطو التي أعيد اكتشافها حديثا في علم اللاهوت المسيحي، وقدم بذلك أساسا فلسفيا وعلميا لما أصبح فيما بعد هو المعتقدات الكنسية المقبولة بشأن كيفية عمل الكون.
من سوء الحظ أن إنتاج أرسطو في العلوم التطبيقية ورؤية الطبيعة التي كان يمثلها، لم يكن بالمتانة نفسها التي اتسمت بها أعماله في علم المنطق. ففي عصر أرسطو، كانت طريقته في استنتاج الحقائق بناء على ما تدركه حواس الإنسان بدلا من تفسير الظواهر الطبيعية على أنها من أفعال الآلهة، إنجازا فكريا هائلا. لكن هذه الطريقة لا تصيب في بعض الأحيان، فالتجربة الحسية تخبرنا على سبيل المثال أن الأرض ثابتة بينما تدور الشمس والقمر والنجوم من حولها. وقد كان هذا ما أنتج نظرية نظام مركزية الأرض التي وضعها بطليموس في القرن الثاني بعد الميلاد، بما يتفق تماما مع الإدراك الحسي؛ ومن ثم كانت صالحة وفقا لعلوم زمانه وحتى القرن الخامس عشر بعد الميلاد.
لكن فرضية مركزية الأرض التي وضعها بطليموس لم تشرح كل الظواهر المرصودة. فالمسارات الشاذة التي تتخذها الكواكب في سماء الليل على سبيل المثال، لم تكن تتلاءم مع هذه النظرة للكون. وقد ألهمت مثل هذه التباينات علماء مثل كيبلر وكوبرنيكوس وجاليليو باقتراح نظرية بديلة، وهي مركزية الشمس، التي تتلاءم على نحو أفضل مع كل الملاحظات والبيانات. غير أن قيامهم بهذا يعني أن المعتقدات التي تحدوها كانت أرسطية وبطلمية بقدر ما كانت دينية كنسية. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الثورة العلمية لا باعتبارها هدما للخرافات، وإنما هي تبديل نموذج علمي بنموذج آخر، وهو ما شهدناه في القرن الماضي حين غيرت نظرية أينشتاين في النسبية وعلوم ميكانيكا الكم رؤية نيوتن الميكانيكية للكون، أو أوضحت على الأقل ضرورة تبني نهج مختلفة عند البحث فيما يتعلق بالسرعات العالية للغاية (النسبية) والأحجام البالغة الصغر (ميكانيكا الكم).
5
تجدر الإشارة إلى أن فرضية مركزية الشمس لم تحل محل فرضية مركزية الأرض في الكون تلقائيا حتى بين العلماء. كانت النظرية تحتاج إلى تفسير، وهو ما قدمه إسحاق نيوتن في النهاية عندما اكتشف أن الجاذبية تنطبق على جميع الأجسام بما فيها الشمس والكواكب، وقدم صيغا رياضية يمكن تطبيقها على حركة الأجسام السماوية. ساعدت القوة التفسيرية لنظام نيوتن في صقل فرضية مركزية الشمس حتى بات أبسط من تفسير نظام بطليموس، كما أنه كان تفسيرا أدق للظواهر المرصودة. إن الحاجة إلى تأكيد الأفكار بالأدلة، وإيجاد آليات تشكل حججا يمكن أن تتفق مع الأدلة (مثل ميكانيكا نيوتن)، وكذلك تفضيل التفسيرات الأبسط على التفسيرات الأعقد، كل ذلك قد وضع نهجا جديدا في العلم امتد تأثيره إلى ما هو أبعد من تبني نظرية محددة أو التخلي عنها.
أدت الفلسفة دورا مهما في ظهور هذا النهج الجديد في العلوم. إذا كانت الفروق بين العلم والدين هشة في الفترة ما بين عصر النهضة حتى الثورة العلمية وعصر التنوير،
Unknown page