وهكذا أصبح النقد جزءا لا يتجزأ من الممارسة العلمية في جميع البلاد المتقدمة، وأصبحت الدوريات والمجلات العلمية - بل والصحف اليومية في أحيان غير قليلة - تخصص أبوابا ثابتة لنقد الأعمال المنشورة، وأصبح العلماء أنفسهم يتلهفون على قراءة ما يكتب عن أعمالهم؛ لكي يعرفوا أين يقفون في الوسط العلمي الذي ينتمون إليه، ولكي يطلعوا على آراء العقول الأخرى فيما أنتجه عقلهم. وبفضل هذا التراث النقدي الذي استمر أجيالا كثيرة؛ اكتسب النقد في هذه البلاد المتقدمة نوعا من القداسة، وازداد طابعه «موضوعية»، وأصبح الناقد يشعر - وهو يمسك قلمه - بمسئولية لا تقل عن مسئولية القاضي وهو يصدر أحكامه، ولا شك أن المقارنة هنا ليست على سبيل التشبيه؛ إذ إن الناقد هو بالفعل قاض في الميدان العلمي، والفارق الوحيد بين الاثنين هو أن القاضي لا يتناول إلا حالات الخروج على القانون؛ أي الحالات السلبية وحدها، على حين أن الناقد يعالج الحالات الإيجابية والسلبية معا؛ إذ إن مهمته ليست إبراز العيوب فحسب، بل وامتداح المزايا أيضا. وفيما عدا ذلك فإن الضمير النقدي في البلاد المتقدمة قد اكتسب حساسية ورهافة لا تقل عن الضمير القضائي، وكلاهما يصدر في أحكامه عن دستور أو تشريع موضوعي؛ القاضي عن بنود القانون، والناقد عن المنطق السليم والمعارف العلمية المستقرة.
وفي اعتقادي أن هذه الإشارة إلى ما أسميه «بالضمير النقدي» في ميدان العلم ضرورية في عالمنا العربي على وجه التحديد؛ لأن هذا الضمير لم يتبلور بعد بالقدر الكافي في أوساطنا العلمية، ومن الممكن التفكير في أسباب متعددة لهذه الظاهرة، ولكن أهمها في رأيي سببان؛ الأول أن نهضتنا العلمية الحديثة قريبة العهد بحيث لم يصبح لدينا بعد «تراث» يجعل النقد جزءا أساسيا من حياتنا العلمية، كما هي الحال في البلاد المتقدمة. والسبب الثاني (وهو مرتبط بالأول ارتباطا وثيقا) هو ذلك الخلط الذي يسود كافة جوانب حياتنا بين ما هو خاص وما هو عام، أو بين العوامل الشخصية والعوامل الموضوعية، هذا الخلط هو - على سبيل المثال - سبب ظاهرة «الوساطة» التي تتفشى في أوساطنا الحكومية، والتي هي في حقيقتها تطبيق لمبدأ إكرام القريب أو الصديق (وهو مبدأ جميل في حياتنا الخاصة) على الشئون العامة للدولة، بحيث يزول الفارق بين طريقة سلوكنا مع المحيطين بنا في الأسرة أو في القرية أو في المقهى، وطريقة سلوكنا عند أداء الأعمال الرسمية.
وحين يسري هذا الخلط على العلاقات بين العلماء تصبح نتائجه وخيمة؛ إذ إن العالم لا يعود قادرا على تقبل النقد من الآخرين، ويتصور أنه إهانة له أو هجوم شخصي عليه، بينما الناقد نفسه قد يستخدم هذا النقد - في أحيان غير قليلة - لتصفية حسابات شخصية، أو لمجاملة من له عنده مأرب. وهكذا يسلك الطرفان معا بطريقة تخلو من النزاهة والموضوعية، ومن هنا كانت محنة النقد العلمي والفكري في بلادنا ... (أما النقد الأدبي والفني، فحدث عنه ولا حرج، إذ إنه - بالإضافة إلى ذلك - ينصب على مجال فيه من المرونة والتحرر من القواعد الثابتة ما يعطي للعوامل الشخصية في النقد مجالا أوسع.)
ولعل مما يزيد من حدة هذه المحنة أن وسائل النقد ذاتها غير متوافرة؛ فالمجلات والدوريات قليلة أو منعدمة في بعض المجالات، وهي لا تخصص إلا مساحة ضئيلة للنقد العلمي الجاد، ولها العذر في ذلك لأن العملية نفسها لا تلقى استجابة كبيرة من الكتاب؛ فمن منهم على استعداد لإرهاق نفسه بقراءة كتاب أو بحث لشخص آخر، والتنقيب بين المراجع عما عسى أن يكون قد أغفله أو أخطأ فيه؟ إن قراءة أبحاث الآخرين ومؤلفاتهم - على أية حال - أمر يزداد ندرة بالتدريج؛ لأن أعباء الحياة والعمل - وربما الكسل أيضا - تجعل كل باحث منشغلا بأبحاثه الخاصة، ونادرا ما يقرأ بحوث الآخرين. وهكذا يشعر كثير من الباحثين - في العالم العربي - بأنهم يكتبون لأنفسهم (وخاصة حين يكون الموضوع الذي يعالجونه جادا)، فبعد عمل مرهق قد يدوم سنوات متعددة، يظهر البحث فلا يستجيب له أحد، ولا يعلق عليه أحد، ولا ينقده أحد، حتى من المتخصصين في ميدانه، فنحن لا يقرأ بعضنا لبعض، ومن ثم لا ينقد بعضنا بعضا، وهذا نقص فادح في حياتنا العلمية.
والوجه الآخر لموضوع النقد هذا هو أن نعترف بفضل الآخرين على أعمالنا، فنحن ندين لمن نقرأ لهم بقدر كبير من معارفنا، بل إن كثيرا من أفكارنا الشخصية التي يبتدعها كل منا وفي ذهنه أنه هو مصدرها الوحيد، لا تثار في أذهاننا إلا لأن قراءة بحث أو كتاب معين قد أوحى إلينا بها ولو بصورة غير مباشرة، أو أثار فينا حاسة النقد والهجوم، فيكون له الفضل في هذه الحالة بدورها، حتى ولو كان ذلك فضلا سلبيا. ومن هنا فإن العلماء والكتاب - في البلاد التي رسخت فيها التقاليد العلمية - يحاولون بقدر ما في وسعهم رد الفضل إلى أصحابه، وربما رأيت المؤلف منهم يعدد في مقدمة كتابه أسماء مجموعة ضخمة من الأشخاص، بعضهم ناقشه مناقشة قصيرة حول الموضوع، وأحيانا قد يذكر الأستاذ فضل تلاميذه الذين ألهموه - بأسئلتهم واستفساراتهم - كثيرا من أفكاره. أما الإشارة إلى الاقتباسات من المراجع الأخرى فقد أصبحت تقليدا ثابتا لا يخالفه أحد.
وفي هذه الحالة بدورها نجد أن هذا التقليد الجليل لم يستقر في بلادنا تمام الاستقرار، بل إن مخالفته قد تتخذ في بعض الأحيان أبعادا مؤسفة، كما يحدث في حالات «السطو» على أعمال الآخرين التي ينسبها المرء لنفسه دون وازع من ضمير. ومن المؤكد أن حياتنا العلمية لن تستقيم إلا إذا أصبح الاعتراف بفضل الآخرين - حتى في الأمور البسيطة - قاعدة لا يخالفها أحد، وربما احتاج الأمر في البداية إلى قدر من الشدة، بحيث يلقى من يرتكب عملا من أعمال السرقة العلمية جزاء رادعا. وبعد ذلك يمكن أن يتحول السلوك العلمي القويم إلى عادة متأصلة في النفوس، فلا نحتاج إلى فرض جزاءات. ولكن النظرة المدققة إلى أوضاع التقاليد العلمية في العالم العربي لا توحي بالتفاؤل، إذ يبدو أن الأجيال الجديدة أقل تمسكا بهذه التقاليد حتى من الأجيال السابقة؛ ومن ثم فإن الخط البياني للروح النقدية السليمة وللأخلاق العلمية - بوجه عام - يتجه إلى الهبوط، وهو أمر مؤسف ينبغي أن نتداركه حتى لا تتسع الهوة بيننا وبين البلاد المتقدمة التي يزداد علماؤها تمسكا بالتقاليد العلمية جيلا بعد جيل. (1-2) النزاهة
لسنا في حاجة إلى أن نطيل الحديث عن صفة النزاهة بوصفها معنى أساسيا من معاني الموضوعية؛ ففي ثنايا الحديث عن الروح النقدية اتضحت لنا عناصر كثيرة ترتبط بصفة النزاهة، مثل قدرة العالم على أن يقف من أعماله الخاصة موقفا نقديا، وعلى أن يتقبل نقد الآخرين، ولا ينسب إلى نفسه شيئا استمده من غيره. والواقع أن نزاهة العالم تتبدى - أوضح ما تكون - في استبعاده للعوامل الذاتية من عمله العلمي، فحين يمارس العالم هذا العمل ينبغي عليه أن يطرح مصالحه وميوله واتجاهاته الشخصية جانبا، وأن يعالج موضوعه بتجرد تام.
هذا التجرد هو الذي يجعل العلم يلجأ إلى وسيلة وحيدة للإقناع هي الدليل والبرهان الموضوعي. وقد يتخذ هذا البرهان شكل إجراء تجربة تثبت المبدأ العلمي الجديد على نحو حاسم، أو يتخذ شكل تدليل منطقي قاطع، ولكنه في كل الحالات برهان يفرض نفسه على أي ذهن لديه القدرة على فهم الموضوع واستيعابه، وهذا هو الفارق الأساسي بين طريقة الإقناع العلمي، وطرق الإقناع المألوفة التي نلجأ إليها كثيرا في معاملاتنا اليومية، والتي تحفل بعناصر ذاتية لا صلة لها بالتفكير العلمي من قريب أو من بعيد؛ مثل الإقناع عن طريق البلاغة اللفظية أو استخدام اللغة الانفعالية المؤثرة أو التلاعب بعواطف الناس أو إغرائهم واستثارة ميولهم ومصالحهم. فالعلم يعلم الإنسان كيف يترك انفعالاته وتفضيلاته الشخصية جانبا، وكيف ينظر إلى الأمور نظرة منزهة عن كل غرض. ومن هنا كان للعلم تأثير أخلاقي لا يمكن إنكاره. ومن المؤكد أن الممارسة العلمية الطويلة والسليمة، لا بد أن تترك طابعها على طريقة تعامل العالم مع غيره من الناس؛ وذلك على الأقل في الأمور التي يقوم فيها صراع بين العوامل والميول الذاتية من جهة وبين الحقائق الموضوعية من جهة أخرى.
على أن الحديث عن صفة النزاهة والتجرد يفضي بنا إلى موضوع آخر له أهمية بالغة، ولا سيما في عصرنا الراهن؛ وأعني به موقف العالم من الربح المادي أو المال؛ ذلك لأن نزاهة العالم تفترض منه أن يكون في عمله العلمي ساعيا إلى الحقيقة وحدها، بغض النظر عما يمكن أن يجنيه من ورائه من مغانم. وهذه مسألة تنبه إليها الفلاسفة منذ أقدم العهود؛ إذ إن أفلاطون قسم البشر إلى محبي الكسب كالتجار والصناع، ومحبي الشهرة كالحكام السياسيين أو القواد العسكريين، ومحبي العلم أو المعرفة وهم العلماء والفلاسفة، وفي رأيه أن من ينتمي إلى الفئة الأخيرة لا يمكن أن ينتمي إلى الفئتين الأخريين، وبخاصة الأولى منهما. ومنذ ذلك الحين أصبح من الأمور المعترف بها أن لذة العلم والوصول إلى الحقيقة تفوق أية لذة أخرى، وتجعل صاحبها زاهدا في تلك الأهداف الدنيوية الصغيرة التي يستميت الناس الماديون من أجل تحقيقها كهدف الربح المادي.
ولكن عصرنا الحديث، وإن كان قد احتفظ بهذه التفرقة بين السعي إلى الحقيقة والسعي وراء المال، قد أضاف أبعادا أخرى إلى هذا الموضوع؛ ذلك لأن تعقد الحياة الحديثة وكثرة مطالبها جعل من المستحيل أن يظل العالم في صورة ذلك الناسك أو الزاهد الذي يتعفف عن كل ما يتصل بالمال، ومن هنا طرأ قدر من التغير على الصورة القديمة، بدليل أن المشروعات العلمية الناجحة كثيرا ما يكون من عوامل نجاحها الإنفاق بسخاء على المشروع بمن فيه من العلماء والباحثين.
Unknown page