مقدمة
1 - سمات التفكير العلمي
2 - عقبات في طريق التفكير العلمي
3 - المعالم الكبرى في طريق العلم
4 - العلم والتكنولوجيا
5 - لمحة عن العلم المعاصر
6 - الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
7 - شخصية العالم
خاتمة
الهوامش
Unknown page
مراجع
مقدمة
1 - سمات التفكير العلمي
2 - عقبات في طريق التفكير العلمي
3 - المعالم الكبرى في طريق العلم
4 - العلم والتكنولوجيا
5 - لمحة عن العلم المعاصر
6 - الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر
7 - شخصية العالم
خاتمة
Unknown page
الهوامش
مراجع
التفكير العلمي
التفكير العلمي
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة - هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلا - وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وإن تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.
أما التفكير العملي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل أن لكل حادث سببا، وأن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء.
هذا النوع من التفكير هو ذلك الذي يتبقى في أذهاننا من حصيلة ذلك العمل الشاق الذي قام به العلماء - وما زالوا يقومون به - من أجل اكتساب المعرفة والتوصل إلى حقائق الأشياء؛ فبناء العلم يعلو طابقا فوق طابق، وكل عالم يضيف إليه لبنة صغيرة، وربما اكتفى بإصلاح وضع لبنة سابقة أضافها إليه غيره من قبل، ولكن الأغلبية الساحقة من البشر لا تعرف تفاصيل ذلك البناء، ولا تعلم الكثير عن تلك الجهود المضنية التي بذلت حتى وصل إلى ارتفاعه هذا، وهي تكتفي بأن تستخدمه وتنتفع منه، دون أن تعرف إلا أقل القليل عن الطرق المستخدمة في تشييده، وهذا أمر طبيعي لأن العلم قد تحول - على مر العصور - إلى نشاط يزداد تخصصا بالتدريج ولا تقدر على استيعابه إلا فئة من البشر أعدت نفسها له إعدادا شاقا ومعقدا. ولكن هل يعني ذلك أن جمهرة الناس لم تتأثر بشيء مما زودها به العلم فيما عدا تطبيقاته؟ وهل يعني أن العلم لم يترك أثرا في أية عقول فيما عدا عقول العلماء المشتغلين به؟ الواقع أن العلم - وإن كانت تفاصيله وأساليبه الفنية مجهولة لدى أغلبية البشر - قد ترك في عقول الناس آثارا لا تمحى، أعني أساليب معينة في التفكير لم تكن ميسورة للناس قبل ظهور عصر العلم، وكانت في المراحل الأولى من ذلك العمر مختلطة بأساليب أخرى مضطربة مشوشة وقفت حائلا دون نمو العقل الإنساني وبلوغه مرحلة النضج والوعي السليم.
Unknown page
وهذه الأساليب التي تركها العلم في العقول - حتى لو لم تكن قد اشتغلت به أو أسهمت بصورة مباشرة في تقدمه - هي ذلك النوع من التفكير العلمي الذي نود هنا أن ندرسه؛ فبعد أن يقدم العلماء إنجازاتهم قد لا يفهم هذه الإنجازات حق الفهم ويشارك في استيعابها ونقدها إلا قلة ضئيلة من المتخصصين، ولكن «شيئا ما» يظل باقيا من هذه الإنجازات لدى الآخرين، أعني طريقة معينة في النظر إلى الأمور، وأسلوبا خاصا في معالجة المشكلات، وهذا الأثر الباقي هو تلك «العقلية العلمية» التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة معرفة كاملة، ولو لم يكن قد درس مقررا علميا واحدا طوال حياته. إنها تلك العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات عصور الجهل والخرافة، والتي أصبحت سمة مميزة للمجتمعات التي صار للعلم فيها «تراث» يترك بصماته على عقول الناس.
موضوعنا إذن هو التفكير العلمي أو العقلية العلمية بهذا المعنى الواسع، لا بمعنى تفكير العلماء وحدهم، على أننا لن نتمكن من إلقاء الضوء على هذه الطريقة العلمية في التفكير إلا إذا ألممنا بشيء عن أسلوب تفكير العلماء الذي انبثقت منه تلك العقلية العلمية في مجتمعاتهم. فتفكير العلماء هو مصدر الضوء، ومن هذا المصدر تنتشر الإشعاعات في شتى الاتجاهات، وتزداد خفوتا كلما تباعدت، ولكنها تضيء مساحة أكبر في عقول الناس العاديين كلما كان المنبر الأصلي أشد نصاعة ولمعانا، ومن هنا كان لزاما علينا أن نعود - من حين لآخر - إلى الطريقة التي يفكر بها مبدعو العلم، لا في تفاصيلها الفنية المتخصصة، بل في مبادئها واتجاهاتها العامة التي هي الأقوى تأثيرا في تفكير الناس العاديين.
وفي اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي؛ ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد - في العصر الحديث - طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه. في هذا الوقت ذاته يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم - ونحن نمضي قدما إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين - أن نتيجة هذه المعركة ما زالت على كفة الميزان، بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة.
وفي هذا المضمار لا أملك إلا أن أشير إلى أمرين يدخلان في باب العجائب حول موقفنا من العلم في الماضي والحاضر:
الأمر الأول: هو أننا - بعد أن بدأ تراثنا العلمي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقتنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة - ما زلنا إلى اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية، ولو كان خط التقدم ظل متصلا - منذ نهضتنا العلمية القديمة حتى اليوم - لكنا قد سبقنا العالم كله في هذا المضمار إلى حد يستحيل معه أن يلحق بنا الآخرون. ومع ذلك ففي الوقت الذي يصعدون فيه إلى القمر، نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة وللطبيعة قوانينها الثابتة أم العكس.
وأما الأمر الثاني فهو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، ولكننا في حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة. بل إن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد الذي قام به العلماء المسلمون في العصر الزاهي للحضارة الإسلامية، هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمي في أيامنا هذه؛ ففي أغلب الأحيان تأتي الدعوة إلى الدفاع عن العناصر اللاعقلية في حياتنا، والهجوم على أية محاولة لإقرار أبسط أصول التفكير المنطقي والعلمي المنظم، وجعلها أساسا ثابتا من أسس حياتنا؛ تأتي هذه الدعوة من أولئك الأشخاص الذين يحرصون - في شتى المناسبات - على التفاخر أمام الغربيين بأن علماء المسلمين سبقوهم إلى كثير من أساليب التفكير والنظريات العلمية التي لم تعرفها أوروبا إلا في وقت متأخر، وما كان لها أن تتوصل إليها لولا الجهود الرائدة للعلم الإسلامي الذي تأثر به الأوروبيون تأثرا لا شك فيه.
ومن الجلي أن هذا الموقف يعبر عن تناقض صارخ؛ إذ إن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية الماضية أن يكون نصرا للعلم، داعيا إلى الأخذ بأسبابه في الحاضر؛ حتى تتاح لنا العودة إلى تلك القمة التي بلغناها في عصر مضى، أما أن نتفاخر بعلم قديم، ونستخف بالعلم الحديث أو نحاربه، فهذا أمر يبدو مستعصيا على الفهم.
وتفسير هذا التناقض يكمن - من وجهة نظري - في أحد أمرين؛ فمن الجائز أن أولئك الذين يفخرون بعلمنا القديم إنما يفعلون ذلك؛ لأنه «من صنعنا نحن»؛ أي إنهم يعربون بذلك عن نوع من الاعتزاز القومي ، ومن ثم فهم لا يأبهون بالعلم الحديث ما دام «من صنع الآخرين». ومن الجائز أيضا أن تأكيدهم لأمجاد العرب في ميدان العلم إنما يرجع إلى اعتزازهم «بالتراث» أيا كان ميدانه؛ ومن ثم فإن كل ما يخرج عن نطاق هذا التراث يستحق الإدانة أو الاستخفاف في نظرهم، وسواء أكان التعليل هو هذا أو ذاك، فإن الحلم الذي وصلنا إليه في الفترة الزاهية من الحضارة الإسلامية لا يمجد لأنه «علم» بل لأنه واحد من تلك العناصر التي تتيح للعرب أن يعتزوا بأنفسهم أو بتراثهم.
ولكننا إذا شئنا أن نكون متسقين مع أنفسنا، وإذا أردنا أن نتجاوز مرحلة اجترار الماضي والتغني بأمجاد الأجداد، وإذا شئنا ألا نبدو أمام العالم كما يبدو أولئك العاطلون الذين لا رصيد لهم من الدنيا سوى أن أجدادهم القدامى كانوا يحملون لقب «باشا» أو «لورد» أو «بارون»، فعلينا أن نحترم العلم في الحاضر مثلما احترمناه في الماضي، وأن نعترف بأن هذا الأسلوب في التفكير الذي كان مصدرا لاعتزازنا بأجدادنا في الماضي - أعني الأسلوب العلمي - ينبغي أن يكون هدفا من أهدافنا التي نحرص عليها في الحاضر بدوره، وأن المعركة التي يشنها الفكر المتخلف على كل من يدعو إلى المنهج العلمي في التفكير، ستقف عائقا في وجه جهودنا من أجل اللحاق بركب العصر، بل ستلقي ظلالا من الشك حول مدى إخلاصنا في التغني بأمجاد «ابن حيان» و«الخوارزمي» و«ابن الهيثم» و«البيروني»، الذين كانوا يقفون في الصف الأول من العقول التي تفكر بالأسلوب العلمي في عصورهم.
والحق أن أية محاولة لاعتراض طريق التفكير العلمي في عصرنا الحاضر إنما هي معركة خاسرة؛ فلم يعد للسؤال: هل نتبع طريق العلم أم لا؟ مجال في هذا العصر. بل إن الدول التي تحتل اليوم موقع الصدارة بين بلاد العالم قد حسمت هذا السؤال منذ أربعة قرون على الأقل، ولم تعد هذه المشكلة مطروحة أمامها منذ ذلك الحين. وصحيح أن طريق التفكير العلمي كان في بدايته شاقا، وأن المقاومة كانت عنيفة، والمعركة دامية سقط فيها شهداء كثيرون، ولكن العلم اكتسح أمامه كل عناصر المقاومة، وأصبحت القوى المعادية له والتي كانت في وقت من الأوقات تمسك بزمام السلطة في جميع الميادين؛ أصبحت هي التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم يسوده العلم، ومنذ اللحظة التي بدأ فيها عدد محدود من العلماء يكتشفون حقائق جديدة عن الكون بأسلوب منطقي هادئ، وبناء على شواهد قاطعة وبراهين مقنعة لا سبيل إلى الشك فيها. منذ هذه اللحظة أصبحت سيادة العلم مسألة وقت فحسب، ولم يعد في وسع أية قوة أن تقف في وجه هذه الطريقة القاطعة في اكتساب المعارف الجديدة؛ ذلك لأن العلم ليس قوة معادية لأي شيء، ولا منافسة لأي شيء، والعالم شخص لا يهدد أحدا، ولا يسعى إلى السيطرة على أحد، وكل المعارك التي حورب فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم، ولم يكن العلم ولا أصحابه هم المسئولون عنها. وأعظم خطأ يرتكبه المدافعون عن مبدأ معين أو عن ضرب من ضروب النشاط الروحي للإنسان، هو أن يعتقدوا أن العلم مصدر خطر عليهم، ويضعوا مبدأهم أو نشاطهم الروحي في خصومة مع العلم. فعلت هذا الكنيسة الأوروبية في مطلع عصر النهضة؛ فقام رجالها يحاربون العلم الوليد ويضطهدون رواده، ولم يكن ذلك منهم إلا عن جهل بطبيعة العلم أو طبيعة الدين أو كليهما معا، وربما كان في بعض الأحيان خوفا على نفوذ أو دفاعا عن مصالح يعتقدون أن أسلوب المعرفة الجديدة كفيل بتهديدها، فماذا كانت النتيجة آخر الأمر؟ ظل العلم يسير في طريقه بهدوء وثقة، ويحرز الانتصار تلو الانتصار، وتعاقب ظهور العلماء الأفذاذ، الذين كان معظمهم أشخاصا مخلصين في عقيدتهم الدينية، ولم يكن أحد منهم يتصور أن الجهد الذي يبذله من أجل بسط سيطرة العقل على الطبيعة وتحقيق النفع لإخوته في الإنسانية يمكن أن يغضب أحدا، لا سيما إذا كان من رجال الدين، واضطرت الكنيسة الأوروبية آخر الأمر إلى التراجع أمام قوة الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها عقل سليم، ولكن تراجعها ربما كان قد أتى بعد فوات الأوان؛ إذ إن الكثيرين يعزون موجات الإلحاد التي اجتاحت أوروبا - منذ القرن الثامن عشر بوجه خاص - إلى تلك الخصومة التي لم يكن لها داع، والتي افتعلتها الكنيسة ضد العلم. كلا، إن العلم لا يهدد أحدا، وإنما هو في أساسه منهج أو أسلوب منظم لرؤية الأشياء وفهم العالم، وكل ما وجه إلى العلم من اتهامات إنما هو في واقع الأمر راجع إلى تدخل قوى أخرى لا شأن للعلم بها، تفسد تأثير العلم أو تسيء توجيه نتائجه، وهو أمر سنتحدث عنه في ثنايا هذا الكتاب بالتفصيل.
Unknown page
وعلى العكس من ذلك، فإن كل تقدم أحرزته البشرية في القرون الأخيرة إنما كان مرتبطا - بطريق مباشر أو غير مباشر - بالعلم، وإذا كان من المعترف به أن وجه الحياة على هذه الأرض قد تغير - خلال الأعوام المائة الأخيرة - بأكثر مما تغير خلال ألوف الأعوام السابقة؛ فإن الفضل الأكبر في ذلك إنما يرجع إلى المعرفة العلمية، ويرجع - قبل ذلك - إلى وجود شعوب تعترف بأهمية هذا اللون من المعرفة وتقدم إليه كل ضروب التشجيع.
واليوم لا يملك أي شعب يريد أن يجد له مكانا على خريطة العالم المعاصر إلا أن يحترم أسلوب التفكير العلمي ويأخذ به، وكما قلت من قبل: فليس التفكير العلمي هو حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث في ميدان معين من ميادين العلم، وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساسا على العقل والبرهان المقنع - بالتجربة أو بالدليل - وهي طريقة يمكن أن تتوافر لدى شخص لم يكتسب تدريبا خاصا في أي فرع بعينه من فروع العلم، كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص توافر لهم من المعارف العلمية حظ كبير، واعترف بهم المجتمع بشهاداته الرسمية، فوضعهم في مصاف العلماء. ولعل الكثيرين منا قد صادفوا - على سبيل المثال - ذلك النمط من التجار الذين لم يكن لهم من الدراسة العلمية المنظمة نصيب، ولكنهم يدبرون شئونهم في حياتهم العملية - وربما في حياتهم الخاصة أيضا - على أساس نظرة عقلانية منطقية إلى العالم وإلى القوانين المتحكمة فيه، دون أن يكون لديهم أي وعي بالأسس التي تقوم عليها نظرتهم هذه، وفي الوجه المقابل لذلك فلقد رأيت بنفسي أشخاصا يعدهم المجتمع من العلماء - منهم من وصل في الجامعة إلى كرسي الأستاذية - يدافعون بشدة عن كرامات ينسبونها إلى أشخاص معينين (ليسوا من الأولياء ولا ممن عرفت عنهم أية مكانة خاصة بين الصالحين)، تتيح لهم أن يقوموا بخوارق كاستشفاف أمور تحدث في بلد آخر دون أن يتحركوا من موضعهم، أو تحقيق أمنياتهم بصورة مادية مجسمة بمجرد أن تطرأ على أذهانهم هذه الأمنيات، وفي أحيان معينة، عبور البحر سيرا على الأقدام! تلك بالطبع حالات شاذة متطرفة، لا يمكن أن تعبر عن وجهة نظر «فئة» كاملة، ولكنها في تطرفها تساعد على إثبات ما نقوله من أن التفكير العلمي شيء وتكديس المعلومات العلمية شيء آخر.
أما على مستوى المجتمعات البشرية، فقد أصبحت النظرة العلمية ضرورة لا غناء عنها في أي مجتمع معاصر لا يود أن يعيش في الظل بين سائر المجتمعات. وحسبنا أن نشير إلى أن مبدأ التخطيط - وهو مبدأ أساسي حاولت بعض الأنظمة الاجتماعية إنكار أهميته في بادئ الأمر ولكنها اضطرت إلى تطبيقه على نطاق واسع فيما بعد - هذا المبدأ إنما هو تطبيق مباشر لمفهوم التفكير العلمي المنهجي من أجل حل مشكلات المجتمع البشري، ولقد أصبح من المألوف في عالمنا المعاصر أن نسمع تعبيرات كالتخطيط الاقتصادي أو الخطة الاقتصادية والتخطيط الاجتماعي والتخطيط التربوي والعلمي والتخطيط الثقافي، وكلها تعبيرات تدل على اعتراف المجتمع الحديث بأن ميادين أساسية للنشاط البشري - كالاقتصاد والشئون الاجتماعية والتربية والعلم والثقافة - أصبحت توجه بطريقة علمية منظمة، بعد أن كانت تترك لتنمو على نحو تلقائي، أو تخضع لتنظيمات مؤقتة تغيب عنها الصورة الشاملة للميدان بأكمله، وتسري خلال وقت محدود فحسب. وكل نجاح يحرزه التخطيط في عالمنا المعاصر إنما هو نجاح للنظرة العلمية في تدبير شئون الإنسان، بل إن العلم تغلغل بادئ الأمر في ميادين ظل الناس طويلا يتصورون أنها بمنأى عن التنظيم المنهجي والتخطيط المدروس؛ فنحن نسمع اليوم عن دعاية سياسية «علمية » استطاعت بفضلها الدول أن تنشر المبادئ والأفكار التي ترى من مصلحتها نشرها - إما بين أفراد شعبها وإما بين أفراد الشعوب الأخرى - بطريقة مدروسة تؤدي إلى تيسير قبول العقول لهذه المبادئ وإضعاف قدرتها على مقاومتها بالتدريج، ومنذ الوقت الذي افتتح فيه «جوبلز» - الوزير النازي المشهور - عهد الدعاية «العلمية»، لم تعد هناك دولة حديثة إلا وتلجأ - بصورة أو بأخرى - إلى تلك الأساليب المنظمة المدروسة في الإقناع وتشكيل العقول. وقل مثل هذا عن أعمال التجسس ونشاط أجهزة المخابرات التي أصبحت لها مدارس ومناهج منظمة، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الفردي، وأصبحت تستعين بأحدث الكشوف العلمية وبأكبر عدد من العلماء المتخصصين؛ كيما تؤدي عملها على نحو فعال.
وإذا كان العلم في الميدانين السابقين يستخدم على نحو قد يتعارض أحيانا مع القيم الإنسانية الشريفة، فإنه في ميادين أخرى يستخدم على نحو يثري روح الإنسان أو يزيد من قدراته الروحية الجسمية. في ميدان الفنون أتيح للأجيال التي تعيش في القرن العشرين أن تتلقى دروسا وتدريبات - في ميادين الإبداع أو الأداء الفني - لم تكن متاحة إلا على نطاق ضيق للأجيال السابقة، وكان من نتيجة ذلك اتساع ثقافة الفنان وإلمامه بأصول فنه، وبلوغ الفنون الأدائية (كالموسيقى والرقص والتمثيل) مستويات تصل أحيانا إلى حد الإعجاز. كذلك أصبحت الرياضة البدنية علما بالمعنى الصحيح، بعد أن كانت تعتمد على الاجتهاد الشخصي، وتمكن الإنسان - بفضل التدريب المنهجي المدروس - من بلوغ نتائج كانت تدخل من قبل في باب المستحيلات، وهكذا أصبحت حياة المجتمعات الحديثة - في سياستها وحربها وسلمها وجدها ولهوها - منظمة تنظيما علميا منضبطا ودقيقا، ولم يعد في وسع مجتمع لديه أدنى قدر من الطموح أن يسير في أموره بالطريقة العفوية التي كانت سائدة في عصور ما قبل العلم. وإذا كنا - في الشرق بوجه خاص - نسمع بين الحين والحين أصواتا تحن إلى العهد التلقائي في أي ميدان من الميادين، فلنكن على ثقة من أن أصحاب هذه الدعوات إما مغرقون في رومانسية حالمة، وإما مدفوعون بالكسل إلى كراهية التنظيم العلمي الذي لا ينكر أحد أنه يتطلب جهدا شاقا. وسواء أكان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فقد آن الأوان لأن نعترف - في شجاعة وحزم - بأن عصر التلقائية والعشوائية قد ولى، وبأن النظرة العلمية إلى شئون الحياة في ميادينها كافة هي وحدها التي تضمن للمجتمع أن يسير في طريق التقدم خلال القرن العشرين، وهي الحد الأدنى الذي لا مفر من توافره في أي مجتمع يود أن يكون له مكان في عالم القرن الحادي والعشرين، الذي أصبح أقرب إلينا مما نظن، وإذا كان بعض من يعيشون معنا في الربع الأخير من القرن العشرين غير مقتنعين حتى اليوم بجدوى الأسلوب العلمي في معالجة الأمور، وإذا كانوا لا يزالون يضعون العراقيل أمام التفكير العلمي حتى اليوم، فليفكروا لحظة في أحوال العالم في القرن القادم الذي سيعيش فيه أبناؤهم، ومن هذه الزاوية فإني أعد هذا الكتاب محاولة لإقناع العقول - في عالمنا العربي - بأن أشياء كثيرة ستفوتنا لو امتثلنا للاتجاهات المعادية للعلم، وبأن مجرد البقاء في المستقبل - دون نظرة علمية وأسلوب علمي في التفكير - سيكون أمرا مشكوكا فيه.
مارس 1977
فؤاد زكريا
الفصل الأول
سمات التفكير العلمي
لم يكتسب التفكير العلمي سماته المميزة - التي أتاحت له بلوغ نتائجه النظرية والتطبيقية الباهرة - إلا بعد تطور طويل، وبعد التغلب على عقبات كثيرة، وخلال هذا التطور كان الناس يفكرون على أنحاء متباينة، يتصورون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولكن كثيرا من أساليب التفكير اتضح خطؤها فأسقطها العقل البشري خلال رحلته الطويلة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. وهكذا يمكننا أن نستخلص مجموعة من الخصائص التي تتسم بها المعرفة العلمية، أيا كان الميدان الذي تنطبق عليه، والتي تتميز بها تلك المعرفة عن سائر مظاهر النشاط الفكري للإنسان، ونستطيع أن نتخذ من هذه الخصائص مقياسا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، فما هي هذه السمات الرئيسية؟ (1) التراكمية
العلم معرفة تراكمية، ولفظ «التراكمية » هذا يصف الطريقة التي يتطور بها العلم والتي يعلو بها صرحه؛ فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقا فوق طابق، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء ينتقلون إلى الطابق الأعلى؛ أي إنهم كلما شيدوا طابقا جديدا انتقلوا إليه وتركوا الطوابق السفلى لتكون مجرد أساس يرتكز عليه البناء.
Unknown page
وقد يبدو هذا الوصف أمرا طبيعيا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعددة من هذا النشاط؛ فقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة نوعا من النشاط العقلي قد يبدو مشابها للمعرفة العلمية إلى حد بعيد هو المعرفة الفلسفية، ولكن هذه المعرفة الفلسفية لم تكن تراكمية، بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، ولم يكن مكملا لها، بل كان ينتقد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ومن هنا فإننا إذا استخدمنا التشبيه السابق كان في وسعنا أن نقول: إن البناء الفلسفي لا يرتفع إلى أعلى، بل إنه يمتد امتدادا أفقيا. وفضلا عن ذلك فإن سكان هذا البناء لا يتركون طوابقه القديمة، بل يظلون مقيمين فيها مهما ظهرت له من طوابق جديدة؛ ذلك لأن افتقار المعرفة - في ميدان الفلسفة - إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ ومن ثم تظل موضوعا دائما لدراستهم.
ومثل هذا يقال عن الفن؛ فالفن ينمو أفقيا، بمعنى أننا نظل نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدا أن ظهور فن جديد يعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، وبطبيعة الحال فإن هذا النمو الأفقي لا يعني أن أي اتجاه جديد في الفن كان يمكن أن يظهر في أي عصر سابق؛ إذ إن ظهور الاتجاهات الفنية مرتبط ارتباطا وثيقا بمجموع الأوضاع الإنسانية التي يظهر فيها كل اتجاه منها؛ أعني بالأوضاع الاجتماعية والثقافية والروحية والمادية ... إلخ، بحيث لا يمكن أن يفهم هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوقنا لفن معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، وأن الروح الإنسانية التي تجد متعة في أعمال فنية حديثة تجد متعة مماثلة في أعمال السابقين، ولا تحاول أبدا أن تنسخ القديم؛ لأن هناك جديدا ظهر ليحل محله.
أما في حالة المعرفة العلمية، فإن الأمر يختلف؛ إذ إن كل نظرية علمية جديدة تحل محل النظرية القديمة، والوضع الذي يقبله العلماء في أي عصر هو الوضع الذي يمثل حالة العلم في ذلك العصر بعينه لا في أي عصر سابق، والنظرية العلمية السابقة تصبح - بمجرد ظهور الجديد - شيئا «تاريخيا»؛ أي إنها تهم مؤرخ العلم لا العالم نفسه، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي - كما قلنا من قبل - هم في حالة تنقل مستمر، ومقرهم هو أعلى الطوابق في بناء لا يكف لحظة واحدة عن الارتفاع.
وتكشف لنا سمة «التراكمية» هذه عن خاصية أساسية للحقيقة العلمية، هي أنها نسبية؛ فالحقيقة العلمية لا تكف عن التطور، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، فإن التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد.
وهكذا بدا للناس - في وقت معين - أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، وأنها تعبر عن حقيقة مطلقة، ودام هذا الاعتقاد ما يقرب من قرنين من الزمان، ثم جاءت فيزياء أينشتين فابتلعت فيزياء نيوتن في داخلها، وتجاوزتها وأثبتت أن ما كان يعد حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلا حقيقة نسبية، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم.
هذا المثل يكشف لنا عن طبيعة التراكم المميز للحقائق العلمية؛ ففي بعض الحالات تحل النظرية العلمية محل القديمة وتنسخها أو تلغيها، ولكن في معظم الحالات لا تكون النظرية الجديدة بديلا يلغي القديمة، وإنما توسعها وتكشف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تفسرها أو تعمل لها حسابا. وهكذا يكون القديم متضمنا في الجديد، ولا يكون العالم - كالفيلسوف - عقلا يبدأ طريقه من أول الشوط، وإنما يستمد نقطة بدايته من حيث توقف غيره.
ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، فكيف جاز للبعض أن يصفوها بأنها «مطلقة»؟ إننا نصف مشاعرنا الانفعالية وأذواقنا الفنية بأنها «نسبية»، ونعني بذلك أنها تختلف من فرد لآخر، وأنه ليس من حق أحد أن يفرض ذوقه - مثلا - على الآخرين، ولكننا نقول عن الحقيقة العلمية إنها «مطلقة»، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، ولا تتقيد بظروف معينة، بل تتخطى الحدود الجزئية لكل عقل على حدة، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. وهذه التفرقة بين طريقة حكمنا على عمل فني وطريقة اقتناعنا بالحقيقة العلمية هي تفرقة صحيحة، فكيف إذن نوفق بين الاعتقاد - الذي قلنا إنه صحيح - بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟
الواقع أن الحقيقة العلمية - في إطارها الخاص - تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مطلقة. فحين نقول: إن الماء يتكون من أكسجين وهيدروجين بنسبة 1 إلى 2، لا نعني بذلك كمية الماء التي أجرينا عليها هذا الاختبار، بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، ولا نوجه هذه الحقيقة إلى عقل الشخص الذي أجري أمامه هذا الاختبار فحسب، بل إلى كل عقل بوجه عام، ولكننا قد نكتشف في يوم ما أملاحا في الماء بنسبة ضئيلة، أو نصنع «الماء الثقيل» (المستخدم في المجال الذري) فيصبح الحكم العلمي السابق نسبيا، لا بمعنى أنه يتغير من شخص إلى آخر، بل بمعنى أنه يصدق في إطاره الخاص، وإذا تغير هذا الإطار كان لا بد من تعديله، وهذا الإطار الخاص قد يكون هو المجال الذي تصدق فيه الحقيقة العلمية، كما هي الحال في أوزان الأجسام، التي يظل مقدارها صحيحا في إطار الجاذبية الأرضية، ولكنها تختلف إذا نقلت إلى مجال القمر، كما قد يكون هذا الإطار زمنيا، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النسبي للحقيقة، وبين قولنا إنها مطلقة، بل إن الحقيقة المطلقة كثيرا ما يعبر عنها بعبارات نسبية، كما يحدث عندما نقول: إن ضغط الغاز يتناسب تناسبا عكسيا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ ف «النسبة» ذاتها تصبح في هذا القانون مطلقة، وإن كانت قيم الضغط والحرارة مختلفة فيها باستمرار. وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المطلق للعلم دون أي تناقض.
هذه السمة «التراكمية» التي يتسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحا للرد على انتقاد يشبع توجيهه - في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص - إلى العلم، وهو الانتقاد الذي يستغل تطور العلم لكي يتهم المعرفة العلمية والعقل العلمي بالنقصان؛ فمن الشائع أن يحمل أصحاب العقليات الرجعية على العلم لأنه متغير، ولأن حقائقه محدودة، ولأنه يعجز عن تفسير ظواهر كثيرة، وهم بذلك يفتحون الباب أمام أنواع أخرى من التفسير الخارجة عن نطاق العلم أو المعادية له، وواقع الأمر أن هذا ليس اتهاما للعلم على الإطلاق، فإذا قلت: إن العلم متغير، كنت بذلك تعبر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم، وإذا اعتبرت هذا التغير علامة نقص فإنك تخطئ بذلك خطأ فاحشا؛ إذ تفترض عندئذ أن العلم الكامل لا بد أن يكون «ثابتا»، مع أن ثبات العلم في أية لحظة، واعتقاده أنه وصل إلى حد الاكتمال، لا يعني إلا نهايته وموته؛ ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي ينبغي أن يعد علاقة نقص. إن العلم حركة دائبة، واستمرار حيويته إنما هو مظهر من مظاهر حيوية الإنسان الذي أبدعه، ولن يتوقف هذا العلم إلا إذا توقفت حياة مبدعه ذاته. والتغيير الذي يتخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، ومن المؤكد أن هذا هو طابع التغير العلمي، بدليل أن النظرية الجديدة في كثير من الحالات تستوعب القديمة في داخلها وتتجاوزها، وتفسر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل.
ومجمل القول أن المعرفة العلمية متغيرة حقا، ولكن تغيرها يتخذ شكل «التراكم»؛ أي إضافة الجديد إلى القديم؛ ومن ثم فإن نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار، كما أن نطاق الجهل الذي يبدده العلم ينكمش باستمرار. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، بل إن النقص إنما يكمن في تلك النظرة القاصرة التي تتصور أن العلم الصحيح هو العلم الثابت والمكتمل.
Unknown page
ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتسم به المعرفة العلمية؟ إنه - في واقع الأمر - يسير في الاتجاهين؛ الرأسي والأفقي، أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة.
أما عن الاتجاه الأول - الذي نستطيع أن نسميه اتجاها رأسيا أو عموديا - ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أن بحثها ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ فالبحث الفيزيائي والكيميائي في المادة - مثلا - بدأ بخصائص المواد كما نتعامل معها يوميا؛ أي على مستوى إدراك حواسنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمقا، فكشفت مستويات جديدة للمادة ألقت مزيدا من الضوء على ظواهر العالم الفيزيائي والكيميائي، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، ثم إلى مستوى دون الذري؛ أي مستوى أدق مكونات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دقة، وتتيح لنا مزيدا من السيطرة على العالم المادي، وينطبق هذا على العلوم الإنسانية بدورها؛ إذ يمكن القول - على سبيل المثال - إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاولة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، الذي كان يتناول سلوك الإنسان وفقا لمظاهره الخارجية، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تقدم لهذا السلوك، دون أن يدرك أن من وراء هذا التبرير «الواعي» دوافع لا شعورية خفية، لا يريد الإنسان أن يفصح عنها، وإنما تستخلص بعملية تحليل متعمقة.
وأما الاتجاه الثاني - وهو الاتجاه الذي يمكن أن يسمى أفقيا - فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاق محدود من الظواهر، هي وحدها التي كان يعتقد أنها خاضعة لقواعد البحث العلمي، على حين أن ميادين كثيرة كانت تعد أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن آخر العلوم في ترتيب الظهور كانت مجموعة العلوم التي تدرس الإنسان بطريقة منهجية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذين ظهرا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأملات الفلسفية التي كانت تزودنا - بغير شك - بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتخذ شكل استبصارات عبقرية ولا ترتكز على دراسة منهجية، والسبب الرئيسي لذلك هو الاعتقاد الذي ظل سائدا طويلا بأن العلم لا يستطيع أن يقترب من مجال الإنسان، وأن هذا المجال له حركته وقداسته الخاصة التي لا يصح أن «تنتهك» بالدراسة العلمية.
والواقع أن مسألة الترتيب الذي ظهرت به العلوم الطبيعية والإنسانية هو موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرا بأن نستطرد فيه قليلا؛ ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو أن الإنسان عندما يبدأ في ممارسة المعرفة العلمية يبدأ بمعرفة نفسه، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وهو الميدان الذي تكون فيه الملاحظة مباشرة بحق، وبعد أن تكمل دراسته لنفسه يصبح لديه من النضج ما يسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يعزز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات - التي تعد شكلا قديما وهاما من أشكال معرفة الإنسان - قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل.
ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا الشكل الأولي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدا عن الطابع العلمي، ولم يكن من الممكن بالفعل أن يبدأ العلم بدراسة الإنسان، بل كان المعقول أن يبدأ بدراسة الطبيعة الخارجية، ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل في التاريخ؛ ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، ولم تظهر المذاهب التي تتناول الإنسان إلا في وقت متأخر، وهكذا بدأت الفلسفة بالمدرسة الأيونية والذرية ... إلخ، التي تركزت أبحاثها على العالم الطبيعي، قبل أن يظهر السفسطائيون وسقراط وأفلاطون، الذين جعلوا الإنسان موضوعا هاما لفلسفاتهم. وفي العصر الحديث بدأت النهضة العلمية بدراسة الطبيعة بطريقة مكثفة، ولم تلحقها دراسة الإنسان علميا إلا بعد قرنين على الأقل، وهذا أمر غير مستغرب؛ إذ إن دراسة الإنسان - وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالا لأنها تتعلق بمعرفة الإنسان لنفسه على نحو مباشر - هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ لأنها تمس أمورا نعتبرها مقدسة في كياننا الداخلي، ولأن العلاقة بين الأسباب والنتائج فيها شديدة التعقيد والتشابك، على عكس الحال في دراسة الطبيعة؛ حيث تسير هذه العلاقة دائما في خط واحد قابل للتحديد.
وعلى أية حال فإن التطور في الاتجاهين - أعني اتجاهي دراسة الطبيعة ودراسة الإنسان - كان متداخلا، ولم يكن الفاصل بين الميدانين قاطعا؛ ففي المحاولات الأولى التي بذلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، وفهمها من خلال ما يحدث في داخله، فيتصور أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، وكأن الطبيعة تسلك كما يسلك الإنسان، وفي العصر الحديث دار الزمن دورة كاملة؛ فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسر على مثال الظواهر البشرية؛ أصبحت دراسة الإنسان - في كثير من الاتجاهات الحديثة - تتم على مثال الطبيعة، وظهر ذلك في تصور «أوجست كونت» وخلفائه للظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر طبيعية، كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ حيث يفسر السلوك الإنساني كما لو كان سلسلة من ردود الأفعال الطبيعية. وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفس أو روح (أعني الإنسان) تدرس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة - في العصور القديمة - تفسر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو روح.
والذي يعنينا من هذا كله أن العلم يتوسع ويمتد رأسيا وأفقيا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلط روح شريرة على الإنسان، وكانت تعامل المريض بقسوة شديدة بهدف إخراج هذه الروح الشريرة منه، وفي كثير من الحالات كانت هذه القسوة تؤدي إلى موته.
وبالتدريج أخذ العلم يقتحم هذا الميدان بدوره - ميدان العقل البشري في صحته وفي مرضه - وامتدت رقعة المعرفة العلمية إلى أرض جديدة كانت محرمة على العلم من قبل، والأمثلة على ذلك عديدة، وكلها تثبت أن العلم يتوسع في جميع الاتجاهات.
ومرة أخرى نقول إن هذا التوسع يتضمن ردا مفحما على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، على أساس أن هناك ميادين كثيرة لم يستطع هذا العقل حتى الآن أن يقتحمها؛ ذلك لأن هؤلاء لو تأملوا مسار العقل في تاريخه الطويل بنظرة شاملة - لا تقتصر على اللحظة التي يعيشون فيها وحدها - لأدركوا أن عصورا كثيرة قبلنا كانت تؤمن إيمانا قاطعا بعجز العقل العلمي عن اقتحام ميادين معينة، ولكن التطور سرعان ما أثبت لهم خطأهم، وهذا درس ينبغي أن يستخلصوا منه عبرة بليغة؛ وهي أن التوسع في المعرفة البشرية يسير باطراد، وأن كثيرا من الميادين التي نتصور اليوم أنها بعيدة عن متناول العلم سوف تصبح موضوعا للدراسة العلمية المنظمة في المستقبل القريب أو البعيد. (2) التنظيم
في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نسميه «علميا» لا يمثل إلا قدرا ضئيلا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ ذلك لأن عقولنا في جزء كبير من نشاطها لا تعمل بطريقة منهجية منظمة، وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، وكثيرا ما يكون نشاطها مجرد رد فعل على المواقف التي تواجهها دون أي تخطيط أو تدبر، بل إننا حين ننفرد بأنفسنا ونتصور أننا «نفكر»، كثيرا ما ننتقل من موضوع إلى موضوع بطريقة عشوائية، وتتداعى الأفكار في ذهننا حرة طليقة من أي تنظيم، فنسمي هذا شرودا أو حلم يقظة، ولكنه يظل مع ذلك شكلا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرا ما نستسلم له هربا من ضغط الحياة أو تخفيفا لمجهود قمنا به، أو نجعل منه «فاصلا» مريحا بين مراحل العمل العقلي الشاق.
Unknown page
أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ أي إننا لا نترك أفكارنا تسير حرة طليقة، وإنما نرتبها بطريقة محددة، وننظمها عن وعي، ونبذل جهدا مقصودا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم ينبغي أن نتغلب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، ويجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، وتصقلها الممارسة المستمرة.
ولكن إذا كان العلم تنظيما لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه - في الوقت ذاته - تنظيم للعالم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضا؛ ذلك لأن هذا العالم مليء بالحوادث المتشابكة والمتداخلة، وعلينا في العلم أن نستخلص من هذا التشابك والتعقيد مجموعة الوقائع التي تهمنا في ميداننا الخاص، وهذه الوقائع لا تأتي إلينا جاهزة، ولا تحتل جزءا منفصلا من العالم ألصقت عليه بطاقة اسمها «الكيمياء» أو «الفيزياء»، بل إن مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن ننتقي من ذلك الكل المعقد ما يهمنا في ميداننا الخاص.
وينطبق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ فحين يؤلف المؤرخ كتابا في التاريخ - وليكن مثلا كتابا عن تاريخ العالم العربي في القرن العشرين - تكون أمامه مهمة شاقة، هي أن يختار - من بين الواقع شديد التعقيد - ما يهمه في مجال بحثه؛ ذلك لأن مهمة المؤرخ هي إعادة الحياة إلى فترة ماضية، ولكنه لا يستطيع أن يعيد الماضي كاملا وبكل ما فيه من تعقيدات، فحين يعود بذهنه إلى وقائع حياة العالم العربي في الفترة التي يتناولها بحثه؛ يجد ألوفا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياة الناس اليومية، طريقة ملبسهم ومأكلهم وترفيههم، عاداتهم، أخلاقهم، حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، علاقاتهم السياسية ... إلخ، وعليه أن ينتقي من هذا الخضم الهائل من الظواهر المختلفة ما يهمه في موضوع بحثه، ويترك ما عداه جانبا؛ أي إن عليه أن يدخل التنظيم في واقع غير منظم أصلا، وتلك هي مهمة العلم.
على أن التنظيم سمة لا تبدو مقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي - الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم - يتصف بنوع من التنظيم. بل إن الأساطير ذاتها تحاول أن توجد نظاما معينا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى - عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية - إلى إيجاد شكل من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحل محل التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إن نظرة اليونانيين إلى الكون - التي عبر عنها استخدامهم للفظ
cosmos
للتعبير عن الكون - كانت مبنية أساسا على فكرة التوافق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، والذي يؤدي كل شيء فيه وظيفة لها معناها داخل الكل المنظم، ويسير بأكمله نحو تحقيق غايات محدودة، ومن هنا كان الاختلاف هائلا بين ذلك الكون المنسق الذي تصوره اليونانيون، وبين تصور العلم الحديث للكون، الذي كان في صميمه تصورا آليا مضادا للغائية. أما في الفكر الديني فإن فكرة النظام أساسية، بل إن كثيرا من علماء الكلام واللاهوتيين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلا من أدلة وجود الله ومظهرا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرا على كل شيء.
وإذن ففكرة وجود «نظام» في العالم هي فكرة تتردد في كل محاولة لإيجاد تفسير للعالم، فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يظهر في أنماط التفكير المغايرة للعلم؟
إن الاختلاف الأساسي في أن التنظيم - كما يقول به العلم - يخلقه العقل البشري ويبعثه في العالم بفضل جهده المتواصل الدءوب في اكتساب المعرفة، على حين أن العالم - وفقا لأنماط التفكير الأخرى - منظم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودا بالفعل في العالم، وما على العقل البشري إلا أن يتأمله كما هو. أما في التفكير العلمي فإن هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظم؛ فالكون في نظر العلم لا يسير وفقا لغايات، وإنما تسود مساره الآلية، وكلما تقدمت المعرفة استطعنا أن نبتدع مزيدا من النظام في مسار الحوادث العشوائي في العالم؛ أي إن الكون المنظم - بالاختصار - هو نقطة النهاية التي يسعى العلم من أجل بلوغها، وليس نقطة بدايته.
ولكن كيف يحقق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المتشابكة والمعقدة والمفتقرة بذاتها إلى التنظيم؟ إن وسيلته إلى ذلك هي اتباع «منهج»
method - أي طريق محدد - يعتمد على خطة واعية. وصفة «المنهجية» هذه صفة أساسية في العلم، حتى إن في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقها، فنقول: إن العلم في صميمه معرفة منهجية، وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تفتقر إلى التخطيط والتنظيم، ونستطيع أن نقول إن المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصل إليها ففي تغير مستمر. فإذا عرفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته كنا في هذه الحالة نقف على أرض غير ثابتة، أما إذا عرفنا العلم من خلال منهجه فإنا نرتكز حينئذ على أرض صلبة؛ لأن المنهج هو الذي يظل باقيا مهما تغيرت النتائج.
Unknown page
غير أن القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يفهم بمعنى أن للعلم مناهج ثابتة لا تتغير، وهذا فهم لا يعبر عن حقيقة العلم؛ إذ إن مناهج العلم متغيرة بالفعل؛ فهي أولا تتغير حسب العصور؛ لأن كثيرا من العلوم غيرت مناهجها بتقدم العلم؛ فالكيمياء مثلا تزداد اعتمادا على الأساليب الرياضية بعد أن كانت في بدايتها علما تجريبيا خالصا لا شأن له بالرياضيات، كذلك فإن المناهج تتغير تبعا لنوع العلم ذاته؛ إذ إن المنهج المتبع في علم يدرس الإنسان لا بد أن يكون مختلفا عن ذلك الذي يتبع في علم طبيعي، وهكذا لا يمكن القول بوجود منهج واحد ثابت للمعرفة العلمية على إطلاقها، ومع ذلك يظل من الصحيح أن منهج العلم - لا النظريات أو النتائج التي يصل إليها - هو العنصر الملازم للعلم على الدوام، بمعنى أن وجود منهج معين - أيا كان هذا المنهج - سمة أساسية في كل تفكير علمي؛ فالبحث العلمي هو بحث يخضع لقواعد معينة، وليس بحثا عشوائيا متخبطا، ومع اعترافنا بأن هذه القواعد قابلة للتغيير باستمرار، فإن مبدأ الخضوع لقواعد منهجية هو صفة أساسية تميز المعرفة العلمية.
وعلى أية حال فقد استطاع العلم الحديث - بفضل جهود رواده الأوائل وإضافات العلماء اللاحقين - أن يطور لنفسه منهجا أصبح يرتبط إلى حد بعيد بالدراسة العلمية، ولعله من المفيد - ونحن في معرض الكلام عن صفة التنظيم المنهجي في العلم - أن نقول كلمة موجزة عن هذا المنهج، لا بوصفه المنهج الوحيد الذي يمكن تصوره للعلم، ولكن بوصفه المنهج الذي أصبح غالبا على الدراسة العلمية في ميادين العلم الطبيعي، دون استبعاد أية تطورات أخرى ممكنة في المستقبل. (1)
فالمنهج العلمي يبدأ بمرحلة ملاحظة منظمة للظواهر الطبيعية التي يراد بحثها، ولا شك أن هذه الملاحظة تفترض - كما قلنا من قبل - عملية اختيار وانتقاء وعزل للوقائع التي تهم الباحث في ميدان عمله من بين ألوف الوقائع الأخرى التي تتشابك معها في الطبيعة، بل إن الواقعة أو الظاهرة الواحدة يمكن تناولها من زوايا متعددة وفقا لنوع اهتمام العالم؛ فقطعة الحجر يمكن أن تدرس بوصفها ظاهرة فيزيائية إذا ركزنا اهتمامنا على حركتها أو طريقة سقوطها أو ثقلها، ويمكن أن تدرس كيميائيا بتحليل المعادن أو الأملاح التي يمكن أن تكون موجودة فيها، كما تدرس جيولوجيا بتحديد الطبقة الصخرية التي تنتمي إليها وعصرها الجيولوجي ... إلخ. (2)
ومن الجدير بالذكر أن الملاحظة الحسية المباشرة نادرا ما تستخدم في العلم المعاصر. صحيح أنها في أوائل العصر الحديث كانت هي الوسيلة التي يلجأ إليها العلماء، والتي يدعو إليها فلاسفة العلم مثل بيكون؛ من أجل جمع معلومات عن الواقع، ولكن ذلك كان هو الوضع السائد قبل أن تكتشف أجهزة الملاحظة والرصد الحديثة، وأبسط مثال على ذلك أن ملاحظة الطبيب للمريض في البلاد المتقدمة طبيا أصبحت أقل اعتمادا على اليد أو سماعة الأذن، وازداد اعتمادها على الأجهزة الدقيقة في تسجيل ضربات القلب، أو على التصوير بكاميرات داخلية، أو على الأنواع الجديدة من الأشعة. كذلك فإن ملاحظات عالم الفيزياء لم تعد تعتمد على العينين، بل تتم عن طريق قراءة مؤشرات أو ومضات داخل أجهزة إلكترونية شديدة التعقيد. وبالمثل فإن العالم الفلكي أو الجيولوجي لم يعد يعتمد على ما يراه، بل على الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية؛ أي إن مفهوم الملاحظة ذاته قد تغير، فلم تعد هي تلك المادة الحسية الخام التي عرفها العلم في المراحل الأولى من تطوره الحديث، وإنما أصبحت عملية شديدة التعقيد، تحتاج إلى جهود سابقة ضخمة، وإلى معلومات واسعة من أجل تفسير «القراءات» أو «الصور» التي تنقلها الأجهزة المعقدة؛ أي إن الخطوة الأولى في العلم متداخلة مع خطواته المتأخرة، وهي ليست حسية خالصة، بل فيها جوانب عقلية هامة. (3)
وتأتي بعد الملاحظة مرحلة التجريب؛ حيث توضع الظواهر في ظروف يمكن التحكم فيها، مع تنويع هذه الظروف كلما أمكن، وقد أصبحت التجارب العلمية بدورها أمرا شديد التعقيد في عصرنا هذا، ولكنها مع ذلك لا تمثل المرحلة النهائية في العلم، بل تظل مرحلة أولية؛ ذلك لأن القوانين النهائية التي نتوصل إليها في هذه المرحلة قوانين جزئية، تربط بين ظاهرة وأخرى، وتقدم إلينا معرفة بجانب محدود من جوانب الموضوع الذي نريد بحثه، ومن مجموع التجارب يتكون لدينا عدد كبير من القوانين الجزئية التي يبدو كل منها مستقلا عن الآخر، والتي نظل في هذه المرحلة عاجزين عن الربط بينها؛ لأن التجربة وحدها لا تتيح لنا أن نصل إلى أية «نظرية» لها طابع عام. (4)
وفي المرحلة التالية يستعين العلم بتلك القوانين الجزئية المتعددة التي تم الوصول إليها في المرحلة التجريبية، فيضمها كلها في نظرية واحدة. وهكذا فإن نيوتن قد استعان بكل القوانين التي تم كشفها عن طريق تجارب جاليليو وباسكال وهيجنز وغيرهم من العلماء السابقين عليه؛ لكي يضعها كلها في نظرية عامة هي نظرية الجاذبية (أو قانون الجاذبية بالمعنى العام لهذا اللفظ). (5)
وفي كثير من الحالات يلجأ العلم - بعد الوصول إلى النظرية العامة - إلى الاستنباط العقلي؛ إذ يتخذ من النظرية نقطة ارتكاز أو مقدمة أولى، ويستخلص منها - بأساليب منطقية ورياضية - ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، وبعد ذلك قد يقوم مرة أخرى بإجراء تجارب - من نوع جديد - لكي يتحقق من أن هذه النتائج التي استخلصها بالعقل والاستنباط صحيحة، فإذا أثبتت التجارب صحة تلك النتائج كانت المقدمات التي ارتكز عليها صحيحة، أما إذا كذبتها فإنه يعيد النظر في مقدماته، وقد يرفضها كليا أو يصححها عن طريق إدماجها في مبدأ أعم؛ ومن أمثلة ذلك أن أينشتين - عندما وضع نظرية النسبية بناء على ملاحظات وتجارب جزئية سابقة قام بها هو وغيره من العلماء - استخلص النتائج المترتبة عليها بطريقة «الاستنباط العقلي»، وكان لا بد من تجربة لكي يثبت أن هذه النتائج تتحقق في الواقع، وبالفعل أجريت هذه التجربة في حالة الكسوف الشمسي التي حدثت في عام 1916، وأثبتت صحة النظرية التي اتخذ منها أينشتين مقدمة لاستنتاجاته.
وهكذا يسير المنهج العلمي المعترف به - في ضوء التطور الحاضر للعلم - من الملاحظات إلى التجارب ثم إلى الاستنتاج العقلي وإلى التجارب مرة أخرى؛ أي إن العنصر التجريبي والعنصر العقلي متداخلان ومتبادلان، كما أن الاستقراء - الذي نتقيد فيه بالظواهر الملاحظة - والاستنباط - الذي نستخدم فيه عقولنا متخطين هذه الظواهر الملاحظة - يتداخلان بدورهما، ولا يمكن أن يعد أحدهما بديلا عن الآخر؛ فالتجريبية والعقلية ليسا - في العلم - منهجين مستقلين، بل هما مرحلتان في طريق واحد. وفي أغلب الأحيان يكون العلم في بداية تطوره تجريبيا، وعندما ينضج يكتسب إلى جانب ذلك الصيغة العقلية الاستنباطية؛ ففي المرحلة الأولى يجمع أكبر عدد ممكن من المعارف بطريقة منظمة ، وفي المرحلة الثانية يتوصل إلى المبادئ العامة التي تفسر هذه المعارف وتضعها في إطار موحد. وقد بدأت الفيزياء مرحلتها التجريبية الأولى منذ القرن السادس عشر، وانتقلت بعد قرنين إلى المرحلة الثانية. أما العلوم الإنسانية فربما كانت - في معظم حالاتها - تمر حتى الآن بالمرحلة التجريبية التي تكدس فيها المعارف؛ انتظارا للمرحلة التي تنضج فيها إلى حد اكتشاف القوانين أو المبادئ العامة.
تلك لمحة موجزة عن هذا الموضوع الذي يعد أهم مظاهر التنظيم العلمي، وأعني به البحث المنهجي. ولا بد أن نؤكد مرة أخرى أن هذا المنهج الذي أشرنا إليه ليس ثابتا، وإنما هو يمثل حالة العلم في المرحلة الراهنة، كما أنه لا ينطبق بالضرورة على جميع مجالات البحث العلمي، بل هو تلخيص للطريقة التي يتبعها العلماء في العصر الحديث في أهم ميادين بحثهم.
فهل يعني ذلك أن المرء إذا أراد أن يكون عالما فما عليه إلا أن يتقن هذه القواعد؟ وهل يكفي لتكوين العالم في عصرنا هذا أن نلقنه الخطوط العامة للطرق التي اتبعها العلماء السابقون عليه لكي يصلوا إلى كشوفهم؟ الواقع أن هذا خطأ يقع فيه كثير من غير المتخصصين في العلم؛ ذلك لأن معرفة أية مجموعة من القواعد - مهما بلغت دقتها - لا يمكن أن تجعل من المرء عالما، بل إن هناك شروطا أخرى لا بد من توافرها لتحقيق هذا الهدف، والمسألة ليست مسألة تطبيق آلي لمجموعة من القواعد التي ثبتت فائدتها في أي علم من العلوم، بل إن العلم أوسع وأعقد من ذلك بكثير، ونستطيع أن نقول إن فيلسوفا ذا عقلية علمية جبارة مثل «ديكارت» قد وقع في هذا الخطأ، فنظر إلى إيمانه بأهمية المنهج في الحلم (وهو على حق في ذلك) فقد استنتج أن العلم ليس إلا منهجا، وأكد أن الناس لا يتفاوتون في استعداداتهم العقلية، وإنما يتفاوتون في كيفية استخدامهم لهذه العقلية بالطريقة الصحيحة؛ ولذا ركز ديكارت اهتمامه على وضع مجموعة من القواعد التي يستطيع العقل - إذا ما التزمها بدقة - أن يهتدي بواسطتها إلى حل أية مشكلة في أي ميدان من ميادين العلم.
Unknown page
ولكن التجارب أثبتت أن المرء قد يتبع أدق القواعد المنهجية دون أن يصبح لهذا السبب عالما؛ ذلك لأن العلم يحتاج إلى أمور منها التحصيل وحدة الذكاء - وهو استعداد طبيعي - وتلك الموهبة التي تجعل العالم أشبه بالفنان، بل تجعله قادرا على تجاوز القواعد المنهجية المتعارف عليها في ميدانه ووضع قواعده الخاصة به إذا اقتضى الأمر ذلك، ومع ذلك فقد كان لديكارت كل العذر في إلحاحه على أهمية معرفة القواعد المنهجية في البحث العلمي، وفي تأكيده أن أية مشكلة لن تستعصي على العقل الذي يهتدي بهذه القواعد؛ إذ إنه ظهر في مطلع العصر الحديث، وفي الوقت الذي كان لا بد فيه للمفكر من أن يقدم للباحثين صورة للعمل العلمي تعطي الجميع أملا في بلوغ الحقيقة، ولا شك أن تأكيد القواعد المنهجية، ورفض الرأي القائل بأن الاستعدادات والقدرات العقلية تختلف من شخص لآخر، يفسح أمام الجميع مجال البحث، ويقضي على أرستقراطية الفكر التي كانت سائدة في العصور الوسطى؛ لتحل محلها ديمقراطية فكرية كانت ضرورية في المرحلة التاريخية التي ظهر فيها ديكارت.
وإذا كنا حتى الآن قد اقتصرنا على الكلام عن المنهج العلمي بوصفه المظهر الرئيسي لسمة التنظيم في العلم، فمن الواجب أن نشير - قبل أن ننتقل إلى سمة أخرى - إلى مظهر آخر للتنظيم العلمي، هو الترابط الذي تتصف به القضايا العلمية؛ فالعلم لا يكتفي بحقائق مفككة، وإنما يحرص على أن يكون من قضاياه نسقا محكما، يؤدي فهم كل قضية فيه إلى فهم الأخريات، وكل حقيقة علمية جديدة لا تضاف إلى الحقائق الموجودة إضافة خارجية، بل تدمج فيها بحيث تكون معها كلا موحدا، وربما اقتضت عملية الإدماج هذه التخلي عن بعض العناصر القديمة التي تتنافر مع الحقيقة الجديدة، أما إذا ظهرت حقيقة جديدة ولم نعرف كيف ندمجها في نسق الحقائق الموجودة بالفعل، فإن ذلك يقتضي إعادة النظر في النسق بأكمله من أجل تكوين نسق جديد قادر على استيعاب الحقيقة الجديدة، وهذا بالفعل ما حدث عندما أعاد أينشتين النظر في نسق الفيزياء الذي كونه نيوتن، والذي ظل يعد حقيقة نهائية طوال مائتي عام، نتيجة لتجارب «ميكلسون ومورلي» في الضوء، وهي التجارب التي لم يكن من الممكن إدماجها في النسق القديم. وقد أسفرت إعادة النظر هذه عن تكوين نسق جديد أرحب، يستوعب النسق القديم في داخله بوصفه حالة من حالاته، ويتجاوزه بحيث يقدم تفسيرا أوسع منه بكثير، وهذا النسق الجديد هو نظرية النسبية.
وهكذا يمكن القول إن صفة التنظيم تحتل مكانها عند نقطة بداية البحث العلمي؛ حيث تتمثل في اتباع العالم لمنهج منظم، وكذلك عند نقطة نهاية هذا البحث، عندما يكون العالم من النتائج التي يتوصل إليها نسقا مترابطا يستبعد أي نوع من التنافر في داخله. (3) البحث عن الأسباب
لا يكون النشاط العقلي للإنسان علما - بالمعنى الصحيح - إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة - بالمعنى العلمي لهذه الكلمة - إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها، وهذا البحث عن الأسباب له هدفان: (أ)
الهدف الأول هو إرضاء الميل النظري لدى الإنسان، أو ذلك النزوع الذي يدفعه إلى البحث عن تعليل لكل شيء، ولنلاحظ أن هذا الميل - الذي نصفه بأنه نظري - لا يوجد في جميع الحالات بدرجة متساوية؛ فهناك حضارات بأكملها كانت تعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة، وتكتفي بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح، دون سعي إلى إرضاء حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر. وهكذا كانت هذه الحضارات تشيد مباني ضخمة، أو تقوم في تجارتها بحسابات دقيقة، دون أن تحاول معرفة «النظريات» الكامنة من وراء عملية البناء أو الحساب، وحسبها أنها حققت الهدف العلمي المطلوب فحسب، بل إن في وسعنا أن نرى من حولنا أشخاصا لا يهتمون إلا «ببلوغ النتيجة»، ولا يكترثون بأن يسألوا: «لماذا» كانت النتيجة على هذا النحو، وربما رأوا في هذا السؤال حذلقة لا تستحق إضاعة الوقت، ما دامت الإجابة عنه لن تقدم ولن تؤخر في بلوغ النتيجة المطلوبة. (ب)
ولكن هذا الاعتقاد بأن معرفة الأسباب ليس لها تأثير عملي هو اعتقاد واهم؛ ذلك لأن معرفة أسباب الظواهر هي التي تمكننا من أن نتحكم فيها على نحو أفضل، ونصل إلى نتائج عملية أنجح بكثير من تلك التي نصل إليها بالخبرة والممارسة؛ فمن الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية وكيفية انتقالها أمكن ظهور سلسلة طويلة من المخترعات كالتليفون ولاقط الأسطوانات («البيك أب»، أو ما كان يسمى في تعريب قديم باسم «الحاكي») والراديو ومسجل الشرائط ... إلخ. وكلها وسائل لنقل الصوت أدت وظائف عملية رائعة، وكان من المستحيل بلوغها لولا الدراسة المعتمدة على معرفة أسباب الظواهر. ومعرفة أسباب الأمراض يمكن من معالجتها، كما أن المعرفة النظرية للعناصر الفعالة في مدة معينة يمكن من استخراج هذه العناصر بطريقة صناعية وإنقاذ ملايين الأرواح (كالأنسولين المستخدم في علاج مرض السكر مثلا). وهكذا تؤدي المعرفة السببية ليس فقط إلى إرضاء نزوعنا النظري إلى فهم حقائق الأشياء، بل إلى مزيد من النجاح في الميدان العملي ذاته، وتتيح لنا تحوير الظواهر وتغيير طبيعتها على النحو الذي يضمن تسخيرها لخدمة أهدافنا العملية.
من أجل هذين العاملين كانت المعرفة العلمية الحقيقية مرتبطة بالبحث عن أسباب الظواهر، وإذا كان كثير من المؤرخين يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين القدماء نقطة بداية للعلم، فما ذلك إلا لأن هؤلاء الفلاسفة قد تفوقوا على غيرهم في التساؤل، وفي البحث عن الأسباب، صحيح أنهم لم يجدوا إجابات إلا عن قليل من الأسئلة التي طرحوها، وأن كثيرا من إجاباتهم كانت ساذجة أو قاصرة، ولكن المهم أن يطرح السؤال، وهذا الطرح هو في ذاته الخطوة الأولى في طريق العلم. بل إن هذا التساؤل عن الأسباب هو أول مراحل المعرفة في حياة الفرد نفسه؛ ففي السنوات الأولى من عمر الطفل تحكم تصرفاته الدوافع الطبيعية والاستجابات المباشرة، ويسودها مبدأ الفعل ورد الفعل، ولكن في مرحلة معينة - تحدد بحوالي سن السابعة وربما قبل ذلك - يبدأ الطفل في السؤال عن أسباب كل ما يراه حوله، وتصبح كلمة «لماذا» أكثر الكلمات ترددا على لسانه، وربما أضجر المحيطين به بتكرارها، وباستخدامها في السؤال عن أسباب ظواهر لا تحتاج إلى تعليل (كأن يسألك: «لماذا» عندما تقول له إنك شبعت). وفي هذه المرحلة بالذات تبدأ حصيلة المعرفة تتراكم في ذهن الطفل، ويكون ترديد هذا السؤال إيذانا بدخوله مرحلة استخدام التفكير العقلي، وإذن فالعلم مرتبط ارتباطا وثيقا بالبحث عن أسباب الظواهر، ومع ذلك فإن طبيعة هذا البحث عن الأسباب، ومعنى كلمة «السبب» ذاتها، لم تكن واضحة كل الوضوح في أذهان الناس، على الرغم من أنهم لا يكفون عن استخدامها في تفكيرهم العلمي، وربما في تفكيرهم اليومي أيضا.
فعند اليونانيين ظهر مفهوم معقد لفكرة «السبب» و«السببية»، على الرغم من اهتمامهم الشديد بهذا الموضوع وريادتهم له، وقد لخص فيلسوفهم الكبير «أرسطو» آراء اليونانيين السابقين عليه بالإضافة إلى آرائه الخاصة حول الموضوع، فذكر أن هناك أنواعا أربعة من الأسباب: (أ)
السبب المادي؛ كأن نقول عن الخشب الذي يصنع منه السرير إنه سبب له. (ب)
السبب الصوري؛ أي إن الهيئة أو الشكل الذي يتخذه السرير والذي يعطيه إياه صانعه هو أيضا سبب له. (ج)
Unknown page
السبب الفاعل؛ أي إن صانع السرير أو النجار هو سببه. (د)
السبب الغائي؛ أي إن الغاية من السرير - وهي استخدامه في النوم - سبب من أسبابه.
ومن الواضح أن هذا التحديد لمعاني كلمة «السبب» وأنواع الأسباب ينطوي على خلط شديد؛ إذ إن «المادة» التي يصنع منها الشيء ليست إلا أداة لا سببا، كما أن «الصورة» هي فكرة في الذهن، لا تنتج شيئا في العالم المحسوس بصورة مباشرة، أما الغاية فلا يأتي دورها إلا بعد أن يتم إيجاد الشيء أو الظاهرة بالفعل؛ فاستخدام السرير يحدث بعد صنع السرير، ومن هنا لم يكن من المعقول أن تكون هذه الغاية سببا، وهكذا يتبقى لدينا في النهاية نوع واحد من الأنواع الأربعة التي تحدث عنها أرسطو، هو السبب «الفاعل» وهو النوع الذي يمكن الاعتراف به.
والواقع أن «السبب الغائي» يستحق وقفة خاصة؛ إذ إنه كان من أهم عوامل تشويه التفكير في موضوع السببية، بل في العلم بأسره؛ ذلك لأن الأذهان قد اتجهت إلى البحث في كل ظاهرة عن «الغايات» المقصودة منها، فكانت النتيجة أنها تصورت الحوادث الطبيعية بل والعالم كله، كما لو كانت تستهدف «غايات»، وكأنها تسير في طريق يؤدي إلى تحقيق رغبات بشرية معينة أو إلى معاكسة هذه الرغبات، وكان من المستحيل أن يقوم علم حقيقي في ظل هذا التصور «الغائي» للطبيعة؛ لأنه يصرف الأنظار عن كشف الأسباب الحقيقية، ويوجهها نحو طبع الصورة البشرية على أحداث الطبيعة. وعلى أية حال فهذه مسألة عولجت بمزيد من التفصيل في موضع آخر من هذا الكتاب.
1
لذلك كان من الطبيعي أن تستبعد كل أنواع الأسباب الأخرى - وخاصة الأسباب الغائية - من مجال العلم الحديث عند بداية ظهوره؛ بحيث يقتصر البحث على «الأسباب الفاعلة»، وتظهر الطبيعة على أنها سلسلة متشابكة من الحوادث التي يؤثر كل منها في الأخريات ويتأثر بها، وترتبط فيما بينها برابطة السببية، وأصبح هدف العلم هو أن يكشف - بأساليب مقنعة للعقل - عن الأسباب المتحكمة في الظواهر؛ من أجل السيطرة عليها عقليا بالفهم والتعليل، وعمليا بالتشكيل والتحوير، وكان لتقدم العلوم الرياضية واستخدامها في التعبير عن قوانين العالم الطبيعي دور كبير في دعم فكرة السببية في أول عهد العلم الحديث؛ أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر،
2
إذ أصبح الاعتقاد سائدا بأن حوادث الطبيعة المادية تترابط فيما بينها برابطة لا تقل ضرورة عن تلك التي تجمع بين طرفي معادلة مثل 2 + 2 = 4، فإذا كانت هناك نار «فمن الضروري» أن تكون هناك حرارة، مثلما أنه إذا كان هناك مثلث «فمن الضروري» أن يكون مجموع زواياه قائمتين. وهكذا كان العلم المزدهر في ذلك العصر هو الفيزياء الميكانيكية، التي هي أكمل تعبير عن فكرة الترابط السببي بين ظواهر الطبيع؛ إذ إن العالم يعد عندئذ آلة ضخمة، تترابط أجزاؤها بقانون الفعل ورد الفعل، وتنتقل الحركة من جزء إلى آخر وإن ظل المجموع الكلي للحركة في الكون واحدا، ويصبح القانون المسيطر على كل شيء والذي يتوقف عليه مصير العلم هو قانون السببية. على أن العلماء كانوا يستخدمون فكرة السببية دون تحليل، فلم يفكر أحد منهم في إيضاح معنى «السبب » وطبيعة العلاقة التي تربط بين السبب وما ينتج عنه، وكان الاهتمام الكبير الذي أبدى بفكرة السببية في مطلع العصر الحديث - نتيجة لسيطرة النظرة الميكانيكية إلى العالم - هو الذي دعا أحد فلاسفة هذا العصر - وهو «ديفد هيوم»
David Hume - إلى القيام بتحليل فلسفي لمفهوم السببية، انتهى منه إلى نتيجة كانت لها من الناحية السببية أصداء عميقة؛ فقد انطلق هيوم من المفهوم الذي أوضحناه من قبل، والذي كان سائدا في العلم الميكانيكي؛ أي في أهم علوم عصره، وأعني به أن العلاقة بين السبب والنتيجة فيها من الضرورة بقدر ما في العلاقة بين المثلث ومجموع زواياه، وتبين له - من خلال تحليله الفلسفي - أن المسألة في حقيقتها على خلاف ذلك؛ فمن المستحيل أن تكون هناك ضرورة حتمية بين الحوادث الطبيعية ونتائجها؛ أي بين ارتفاع نسبة الرطوبة وسقوط المطر مثلا. صحيح أننا نقول: إن الأول سبب الثاني، ولكن هل يعني ذلك أن هناك قوة خفية في الحادث الأول تؤدي إلى وقوع الحادث الثاني؟ وهل تقوم الرطوبة بإسقاط المطر، مثلما نقوم نحن - بجهدنا البشري - بصنع أشياء؟ الواقع أن الأسباب الموجودة في الطبيعة لا تتضمن أية قوى تنتج شيئا، ولا توجد أية ضرورة تحتم سقوط المطر بعد ارتفاع نسبة الرطوبة، وكل ما في الأمر أننا «اعتدنا» أن نرى الظاهرتين تتعاقبان، فنشأ عن هذا التعاقب المتكرر ميل ذهني لدينا إلى الربط بينهما؛ بحيث إننا كلما رأينا الظاهرة الأولى توقعنا الثانية؛ فالخبرة والتجربة البشرية تكشف لنا عن أن الطبيعة لا تتضمن إلا أحداثا متعاقبة، ونحن الذين نربط بين هذه الحوادث المتعاقبة نتيجة التعود، بحيث يكون أصل الضرورة في عقولنا نحن التي يدفعها التعود إلى توقع شيء بعد شيء آخر. أما الطبيعة ذاتها فلا تتضمن حوادثها أي ارتباط ضروري من ذلك الذي نجده في الرياضيات.
وهكذا اعتقد «ديفيد هيوم» أن الأساس الأول للعلم - وهو فكرة السببية - بات مزعزعا نتيجة هذا التحليل الذي قام به، ولكن حقيقة الأمر هي أن هذا التحليل لا يمتد تأثيره إلا إلى ميدان التفكير الفلسفي فحسب، أما الممارسات العلمية فلا تتأثر به؛ ذلك لأن العالم يستطيع أن يمضي في طريقه دون أن يغير اتجاهه، سواء أكان معنى السببية هو الارتباط الضروري، أم كان معناها مجرد التعاقب؛ لأن هذه مسائل تتعلق بالجذور الفلسفية للمفاهيم العلمية، وما يهم العالم هو استخدام المفهوم على ما هو عليه، أما استخلاص معانيه وأسسه وجذوره، فتلك مهمة الفيلسوف وحده.
Unknown page
لذلك فإن العلم - عندما عدل المفهوم التقليدي للسببية فيما بعد - لم يفعل ذلك لأسباب فلسفية، أو نتيجة لنقد من النوع الذي قال به هيوم، وإنما قام بهذا التعديل لأسباب علمية خالصة؛ فقد تبين له أن هناك ظواهر كثيرة تبلغ من التعقيد حدا يستحيل معه أن نجد لها سببا واحدا، وإنما تشترك فيها مجموعة من العوامل، لكل منها دور في أحداث الظاهرة، فإذا كنا مثلا بصدد تعليل ظاهرة الإجرام كان في إمكاننا أن نجد مجموعة كبيرة من العوامل التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، فلو أخذنا مجموعة كبيرة من المجرمين؛ لوجدنا أن منهم من ارتكب جريمته لأسباب اجتماعية اقتصادية كالفقر، ومنهم من ارتكبها لأسباب متعلقة بالقيم كالمحافظة على الشرف أو الأخذ بالثأر، أو لأسباب عضوية وراثية كوجود اختلال معين في العدد أو في التركيب العقلي، أو لأسباب متعلقة بالبيئة والتربية وهلم جرا. كل من هذه العوامل له دوره في ظاهرة الجريمة، فهل يفيدنا أن نلجأ إلى فكرة السببية بمعناها المعتاد في هذه الحالة؟ من الواضح أن الظاهرة تبلغ من التعقيد حدا لا نستطيع معه أن ننسبها إلى سبب معين؛ ولذلك نلجأ إلى فكرة الارتباط الإحصائي لكي نبين النسبة التي يسهم بها كل عامل من العوامل السابقة في إحداث هذه الظاهرة، فنقول: إن نسبة (أو معامل) ارتباط العوامل الوراثية بارتكاب الجرائم هي كذا ... ومن مزايا هذه الطريقة أنها تمكننا من تحليل الظواهر شديدة التعقيد، وخاصة تلك التي تحدث في مجال العلوم الإنسانية، حيث تتعدد عوامل الظاهرة الواحدة وتتشابك على نحو يستحيل فيه استخدام علاقة السببية المباشرة، كما أن من مزاياها أنها تتيح المقارنة - بطريقة رقمية دقيقة - بين هذه العوامل، بحيث نستخلص مثلا أن العوامل المكتسبة أقوى تأثيرا في ظاهرة الإجرام من العوامل الوراثية ... إلخ.
والمهم أن العلم في الوقت الحالي يبحث عن بدائل لفكرة السببية - بمفهومها التقليدي - في المجالات التي لا يتسع فيها هذا المفهوم للتعبير عن العلاقات بين الظواهر تعبيرا دقيقا، ولكن من المهم أن نذكر على الدوام أن هذا لا يعني «إلغاء» فكرة السببية، بل يعني «توسيعها»؛ ففي المجالات التي تكون العلاقات فيها مباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه - كالعلاقة بين جرثومة معينة ومرض معين - تظل فكرة السببية مستخدمة، وتظل لها فائدتها الكبرى في العلم، والتطور الذي حدث في هذا الصدد مشابه للتطور الذي يحدث في النظريات العلمية ذاتها في أحيان كثيرة؛ حيث لا يؤدي ظهور النظرية الجديدة إلى إلغاء القديمة، بل يوسع نطاق تطبيقها ويمتد بها إلى مجالات لم تكن النظرية القديمة قادرة على استيعابها. ومن المؤكد أن التوسيع المستمر لنطاق البحث العلمي، والكشف الدائم عن مجالات جديدة أو عن أبعاد جديدة للمجالات المعروفة من قبل، يجعل فكرة السببية - بمعنى العلاقة المباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه - غير كافية للتعبير عن كل متطلبات العلم، وإن ظل لها دورها في مجالات محددة. (4) الشمولية واليقين
المعرفة العلمية معرفة شاملة، بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية، وحتى لو كانت هذه المعرفة تبدأ من التجربة اليومية المألوفة، مثل سقوط جسم ثقيل على الأرض، فإنها لا تكتفي بتقرير هذه الواقعة على النحو الذي نشاهدها عليه، وإنما تعرضها من خلال مفاهيم ذات طابع أعم، مثل فكرة الجاذبية والكتلة والسرعة والزمن ... إلخ، بحيث لا تعود القضية العلمية تتحدث عن سقوط هذا الجسم بالذات، أو حتى عن مجموعة الأجسام المماثلة له، بل عن سقوط الجسم عموما، وبذلك تتحول التجربة الفردية الخاصة - على يد العلم - إلى قضية عامة أو قانون شامل، على أن شمولية العلم لا تسري على الظواهر التي يبحثها فحسب، بل على العقول التي تتلقى العلم أيضا؛ فالحقيقة تفرض نفسها على الجميع بمجرد ظهورها، ولا يعود فيها مجال للخلاف بين فرد وآخر؛ أي إن العلم شامل بمعنى أن قضاياه تنطبق على جميع الظواهر التي يبحثها، وبمعنى أن هذه القضية تصدق في نظر أي عقل يلم بها.
وهنا يظهر الاختلاف واضحا بين العمل العلمي والعمل الفني أو الشعري؛ ذلك لأن الموضوع الذي يتناوله هذا العمل الأخير هو بطبيعته موضوع فردي، وحتى لو كان يتناول قضية عامة - مثل أزمة الإنسان - فإن الفنان أو الشاعر يعالج هذه القضية العامة من خلال شخصية فردية ومواقف محسوسة وملموسة. ومن ناحية أخرى فإن العمل الفني يظل على الدوام مرتبطا بصاحبه وبالأصل الذي نشأ منه ارتباطا عضويا، بحيث لا يفهم أحدهما فهما تاما بدون الآخر. وهكذا يتعرف الخبير في الموسيقى أو الشعر على مؤلف القطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية من خلال إنتاجه ذاته، وكل من العمل وصاحبه يحيلنا على الدوام إلى الآخر. أما العمل العلمي فلا يوجد ارتباط عضوي بينه وبين جميع العوامل والظروف الشخصية المتعلقة بكيفية نشأته والشخص الذي ظهر على يديه ... إلخ. ومن هنا كانت الحقيقة العلمية «لا شخصية
impersonal » على عكس العمل الفني، وكان صدق هذه الحقيقة غير متوقف على ظروف المكان والزمان الذي تنشأ فيه إلا من حيث تعبيرها عن مستوى العلم في مرحلة معينة من تطوره فحسب. أما العمل الفني فإن الظروف الفردية والشخصية لمبدع هذا العمل تقوم فيه بدور يستحيل تجاهله إذا شئنا أن نفهم هذا العمل ونتذوقه من جميع جوانبه.
وعلى ذلك فإن الحقيقة العلمية قابلة لأن تنقل إلى كل الناس الذين تتوافر لديهم القدرة العقلية على فهمها والاقتناع بها، أي إنها حقيقة عامة أو مشاع
public
تصبح بمجرد ظهورها ملكا للجميع، متجاوزة بذلك النطاق الفردي لمكتشفها والظروف الشخصية التي ظهرت فيها، وهذه الصفة هي التي تجعل الحقيقة العلمية «يقينية».
والواقع أن «اليقين» في العلم مرتبط ارتباطا وثيقا بطابع «الشمول» الذي قلنا: إن القضايا العلمية تتسم به؛ إذ إن كل عقل لا بد أن يكون «على يقين» من تلك الحقيقة التي تفرض نفسها عليه بأدلة وبراهين لا يمكن تفنيدها. على أن كلمة «اليقين» ذاتها - بقدر ما تبدو واضحة للوهلة الأولى - يمكن أن تستخدم في الواقع بمعنيين متضادين، ينبغي أن نميز بينهما بوضوح حتى تتبين لنا طبيعة اليقين العلمي: (أ)
فهناك نوع من اليقين نستطيع أن نطلق عليه اسم «اليقين الذاتي»، وهو الشعور الداخلي لدى الفرد بأنه متأكد من شيء ما، هذا النوع من اليقين كثيرا ما يكون مضللا؛ إذ إن شعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية. وإنا لنلاحظ في تجربتنا العادية أن أكثر الناس «يقينا» هم عادة أكثرهم جهلا؛ فالشخص محدود الثقافة «موقن» بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة، وبصحة الإشاعة التي سمعها من صديقه، وبصحة الخرافة التي كانت تردد له في طفولته، وهو لا يقبل أية مناقشة في هذه الموضوعات؛ لأنها في نظره واضحة يقينية، وكلما ازداد نصيب المرء من العلم تضاءل مجال الأمور التي يتحدث فيها «عن يقين»، وازداد استخدامه لألفاظ مثل «من المحتمل» و«من المرجح» و«أغلب الظن» ... إلخ. بل إننا نجد بعض العلماء يسرفون في استخدام هذه التعبيرات الأخيرة في كتاباتهم إلى حد لا نكاد نجد معه تعبيرا جازما أو يقينيا واحدا في كل ما يكتبون؛ إذ ممارستهم الطويلة للعمل العلمي، وإدراكهم أن الحقائق العلمية في تغير مستمر، وأن ما كان بالأمس أمرا مؤكدا قد أصبح أمرا مشكوكا فيه، وقد يصبح غدا أمرا باطلا؛ كل ذلك يدفعهم إلى الحذر من استخدام اللغة القاطعة التي تعبر عن يقين نهائي.
Unknown page
أما في أساليب التفكير العادية فإن اليقين يعتمد - كما قلنا - على الشعور الداخلي للشخص نفسه بأنه واثق من شيء معين، وهذه الثقة قد تكون ناتجة عن أن الفكرة التي يرددها تخدم مصالحه؛ فإذا سمع الموظف إشاعة تقول إن الحكومة ستصرف علاوة للموظفين، رددها للآخرين باعتبارها خبرا «يقينيا». أو قد تكون الثقة ناتجة عن عدم الاطلاع على وجهة النظر المضادة، فيؤكد الفرد شيئا بصفة قاطعة؛ لأن الفرصة لم تتح له كيما يعرف الرأي المخالف في الموضوع، وهذا أمر شائع في كثير من المناقشات السياسية، وخاصة في البلاد غير الديمقراطية؛ حيث يعرف المرء وجهة نظر حزبه أو بلاده ولا تتاح له معرفة أية وجهة نظر أخرى. كما أن هذا العامل قد يكون سببا في «يقين» من ينتمي إلى أي طائفة دينية بأن طائفته وحدها على حق، وكل الطوائف الأخرى على خطأ. (ب)
على أن العلم لا يمكن أن يرتكز على هذا النوع من اليقين النفسي الذي يختلف من فرد لآخر، والذي تتحكم فيه الظروف والمصالح والعوامل الذاتية، وإنما يكون اليقين فيه «موضوعيا»، بمعنى أنه يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل، ولا بد للوصول إلى هذا اليقين الموضوعي من هدم كل أنواع اليقين الذاتية الأخرى، فلا بد أن يزعزع العالم - كخطوة أولى في بحثه - ما رسخ في عقول الناس من أوهام وتحيزات عملت على تثبيتها عوامل غير موضوعية. وكثيرا ما كانت نقطة البداية المؤدية إلى كشف علمي هام هي التشكيك في يقين راسخ حتى عند العلماء أنفسهم، كما هي الحال عندما شكك بعض علماء الهندسة في المصادرة القائلة أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، ثم توصلوا من ذلك إلى هندسة جديدة هي الهندسة «اللاإقليدية» التي ترتكز عليها النظريات الحالية في الفيزياء. كذلك يؤدي أي كشف علمي هام إلى زعزعة اليقين الذي كان متوطدا من قبل في عقول البشر دون أن يفكر أحد في المساس به؛ أي إلى حلول يقين علمي موضوعي محل يقين ذاتي، كما حدث عند ظهور نظرية كبرنيكوس التي هدمت الاعتقاد «اليقين» القديم بأن الأرض ثابتة وبأنها هي مركز الكون.
ولكن إذا كان اليقين العلمي يعتمد على براهين وأدلة منطقية، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يقين ثابت أو نهائي. فالعلم لا يعترف بشيء اسمه الحقائق النهائية التي تسري على كل زمان ومكان، بل يعمل حسابا للتغير والتطور المستمر. أي إن اعتماد العلم على أدلة مقنعة للعقل بصورة قاطعة لا يعني أن الحقائق تعلو على التغير، بل إن المقصود من ذلك أن البرهان العلمي يقنع كل من يستطيع فهم هذا البرهان في ضوء حالة العلم في عصر معين. أما أن تتحول القضية العلمية إلى حقيقة تفرض نفسها على الناس في جميع العصور، فهو شيء يتنافى مع طبيعة العلم ذاتها. (5) الدقة والتجويد
في حياتنا المعتادة نستخدم في أحيان كثيرة عبارات تتسم بالغموض وتبتعد عن الدقة، كأن يقول شخص: «قلبي يحدثني بأنه سيحدث كذا ...» وأمثال هذه التعبيرات ليست مرفوضة في الأحاديث اليومية المألوفة، بل إنها قد تؤدي فيها وظيفة عامة، هي الإيحاء بشيء معين دون تحديد دقيق له، أما في العلم فمن غير المقبول أن تترك عبارة واحدة دون تحديد دقيق، أو تستخدم قضية يشوبها الغموض أو الالتباس، بل إنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يجزم بشيء ما على نحو قاطع، وإنما يظل هذا الشيء «احتماليا» في ضوء أحدث معرفة وصل إليها العلم. حتى في هذه الحالات يعتبر العلم عن هذا «الاحتمال» بدقة؛ أي بنسبة رياضية محددة، وبذلك فإنه يحدد بدقة درجة عدم الدقة، إذا جاز لنا أن نستخدم تعبيرا فيه مثل هذه المفارقة. والوسيلة التي يلجأ إليها العلم من أجل تحقيق صفة الدقة هذه هي استخدام لغة الرياضيات. وبالفعل يتبين لنا من دراسة تطور العلم أنه كلما انتقل إلى مرحلة أدق، أصبح من المحتم عليه أن يستخدم الصيغ الرياضية على نطاق أوسع. وبالعكس تظل العلوم غير دقيقة ما دامت تعبر عن قضاياها باللغة المادية، ومن هنا كنا نجد بعض مؤرخي العلم يفرقون في تاريخ أي علم بين مرحلتين؛ المرحلة قبل العلمية
pre-scientific
التي يستخدم فيها لغة الحديث المعتادة. والمرحلة العلمية
scientific
التي يتوصل فيها إلى استخدام اللغة والأساليب الرياضية. والمثل الواضح على ذلك علم الطبيعة؛ فمنذ العصور القديمة كانت هناك محاولات لدراسة الطبيعة على أسس علمية، ولكن كان يعيب هذه المحاولات اعتمادها على لغة «كيفية»؛ أي على الكلام عن الظواهر الطبيعية من خلال صفاتها التي تبدو للحواس المعتادة كالحار والبارد والثقيل والخفيف، أو من خلال الصفات التي ينسبها إليها العقل الفلسفي كالمادة والصورة والقوة والفعل، وخلال ذلك كله لم يكن هناك علم طبيعي بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ولم يبدأ ظهور هذا العلم إلا على أيدي أقطاب الفيزياء في أوائل العصر الحديث وعلى رأسهم جاليليو؛ إذ استطاع هؤلاء الأقطاب أن يطبقوا الرياضيات على البحث الطبيعي، ويطبقوا لغة الكم في التعبير عن الظواهر الطبيعية. وبالمثل ظلت الكيمياء تستخدم اللغة الكيفية طويلا، وتجمعت لديها خلال ذلك كمية لا بأس بها من المعلومات، وخاصة في الوقت الذي كان فيه الكيمائيون القدامى يبحثون بلا جدوى عن وسائل تحويل المعادن الرخيصة (كالنحاس) إلى ذهب، فخلال فترة «الهوس» الطويلة هذه عرفت أشياء كثيرة عن خواص الأجسام وتفاعلاتها، ولكن هذه المعرفة كانت خبرات متوارثة أو تجارب عشوائية ولم تكن علما؛ لأنها لم تكن تستخدم إلا لغة الكيف، ولم تبدأ الكيمياء دخول المرحلة العلمية إلا في القرن الثامن عشر عندما طبقت فيها المناهج الكمية، واستخدمت في التعبير عن حقائقها النسب والمعادلات الرياضية.
أما في مجال العلوم الإنسانية، فيمكن القول أن النزاع لم يبت فيه بعد بين أنصار التعبير الكيفي والتعبير الكمي عن الظواهر البشرية؛ إذ لا تزال توجد حتى يومنا هذا مدارس تؤكد أن الظاهرة الإنسانية مختلفة - من حيث المبدأ - عن الظاهرة الطبيعية؛ ومن ثم فإن أساليب التعبير عن الثانية لا تصلح للأولى، وإنما يجب أن نحتفظ للإنسان بمكانته الخاصة، ونعترف بطبيعته شديدة التعقيد، فلا نفرق في تبسيطها باستخدام لغة الرياضيات، وفضلا عن ذلك فإن الإنسان كائن فريد، وأهم ما في أي فرد هو العناصر التي يختلف فيها عن الآخرين، لا تلك التي يشترك فيها معهم. ومن هنا كان استخدام لغة الرياضيات يعني إزالة أهم مميزات الإنسان، واستبقاء أقل الأشياء أهمية، أعني تلك العناصر المشتركة التي تقبل التعبير عنها بلغة عددية، وفي مقابل ذلك يؤكد غيرهم أن مسار المنهج العلمي ينبغي أن يكون واحدا في جميع المجالات، وأن الدراسة الفردية للإنسان تعود بنا إلى عهد التعبير الفلسفي أو الفني أو الشعري عن مشاكله، على حين أننا إذا أردنا أن ننتقل إلى المرحلة العلمية في دراسة الإنسان فلا بد أن نتبع نفس الأساليب التي اتبعت بنجاح في بقية العلوم، مع عمل حساب الفوارق المميزة بين موضوع الدراسة الإنسانية وموضوع الدراسة الطبيعية. ويمكن القول أن هذا الرأي هو الذي ترجح كفته حاليا في ميدان العلوم الإنسانية، وإن كانت هناك مدارس لا يمكن تجاهلها ما زالت متمسكة بالرأي الأول.
والرياضة بطبيعتها علم مجرد؛ أي إنه لا يتحدث عن أشياء ملموسة، فحين نقول: إن 3 + 2 = 5 يكون المقصود من هذا أية ثلاثة أشياء محددة، وإنما المقصود هو العلاقة المجردة بين حدود معينة، بغض النظر تماما عما إذا كانت هذه الأرقام تعبر عن بشر أو فاكهة أو كتب ... إلخ. وتلك حقيقة يعرفها تلميذ المدرسة الابتدائية، الذي نعوده التجريد منذ مرحلة مبكرة من عمره، بعد أن يكون قد بدأ يلم بحقائق الحساب البسيطة في بداية مرحلته التعليمية بصورة ملموسة، عندما نقدم إليه فكرة الجمع والطرح عن طريق «البلي الملون» الذي نجمعه أو نطرحه على أسلاك حديدية. ففترة التعليم من خلال أمثلة ملموسة كهذه لا تستمر طويلا، وسرعان ما يصبح من الضروري أن نعوده كيف يتعامل مع الرقم «ثلاثة» ناسيا أنه يعبر عن ثلاث بليات أو ثلاث برتقالات، وعندما ينتقل إلى المرحلة التعليمية التالية، نعوده على مزيد من التجريد حين نقدم إليه حقائق الرياضة في صورة رمزية جبرية، فيعرف أن المعادلة س + ص = ص + س تظل صحيحة مهما كانت القيم العددية للحرفين س وص، أي إن التجريد هنا أصبح يسري على الأرقام ذاتها.
Unknown page
ومن هنا كان التجريد صفة ملازمة للعلم: سواء تم ذلك التجريد عن طريق الرياضة (وهو الأغلب) أو عن طريق أي نوع آخر من الرموز أو الأشكال، فحين يتحدث عالم الفلك مثلا عن المدار البيضاوي لكوكب معين، لا يعني بذلك أن هذا الكوكب يرسم وراءه مدارا محددا في السماء، وإنما يعني ذلك الخط الذي نتصور - بناء على تتبع حركة الكواكب - أنه يسير فيه. وحين يتحدث عالم الجغرافيا عن خط الاستواء أو خط جرينتش لا يقصد خطا عرضيا أو طوليا مرسوما على صفحة الكرة الأرضية، بل يقصد خطا تخيليا نرمز به إلى الأماكن والمواقع على سطح هذه الأرض، وهذه الخطوط ومعها مختلف الرموز التي نستخدمها في العلم هي عالم مصطنع يخلقه العالم، ولا وجود له في الطبيعة، بل إن وجوده ذهني فحسب.
هذا العالم المصطنع الذي نستحدثه في أبحاثنا العلمية وتلك التجريدات العقلية التي نفهم من خلالها الظواهر الطبيعية، تباعد بيننا وبين عالم التجربة اليومية بالتدريج، ولو تتبعنا مسار العلم لوجدنا أن نصيب هذه التجربة المألوفة يتضاءل فيه على الدوام، على حين يزداد العلم إيغالا في عالم الرموز والتجريدات الذي خلقه بنفسه، ويصبح القدر الأكبر من التعامل الذي يقوم به العالم هو تعامله مع تلك الكيانات الفعلية التي استحدثها لكي يفهم بواسطتها الظواهر. ومن هنا كان ذلك الاتهام الذي وجهه البعض إلى العلم بأنه يفصلنا عن منابع الحياة العينية الملموسة، ويقيم عالما مصطنعا أشبه بالهيكل العظمي الذي خلا من اللحم والدم والحيوية، ويكتفي بالعلاقات المجردة بين الظواهر، وهي دائما علاقات خارجية لا تنفذ أبدا إلى صميم الواقع، ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذا الاتهام ما دمنا قد رددنا عليه في موضع آخر،
3
ولكن الأمر الذي نود أن نوجه إليه نظر القارئ هو أن تطور العلم نحو التجريد كان أمرا تحتمه مصلحة العلم ذاته، وبالتالي يحتمه تقدم المعرفة وتقدم الإنسان؛ فاستخدام الرموز الرياضية ولغة الكم يساعد - كما قلنا - على التعبير عن حقائق العلم بمزيد من الدقة؛ إذ إن الفرق هائل - من حيث الدقة - بين قولنا: إن الحديد ساخن كما - كان يقول القدماء بمن فيهم من العلماء حتى أوائل العصر الحديث - وبين قولنا: إن درجة حرارة الحديد 350 درجة مئوية مثلا. وفضلا عن ذلك فإن هذا التحديد الكمي يسمح بالمقارنة بين الظواهر؛ إذ تتحول الألوان مثلا من صفات كيفية إلى أرقام تعبر عن موجات ضوئية معينة، فيسهل المقارنة بينها، على حين أن النظرية الكيفية تقيم بين كل لون وآخر حواجز لا يمكن عبورها، وأخيرا فإن التعبير الكمي يتيح لنا أن نتخطى النطاق المحدد للحواس البشرية أو لقدراتنا بوجه عام. فهناك أصوات أعلى وأصوات أكثر انخفاضا مما تستطيع الأذن البشرية سماعه، وهذه الأصوات يمكن تحديد ذبذباتها كميا، وإن لم يكن من الممكن التعبير عنها باللغة الكيفية المألوفة، كذلك فإن درجات الحرارة التي يتسنى لنا تحملها هي درجات محدودة، وإذا ارتفعت الحرارة عن درجة معينة (ولتكن 50 مئوية مثلا) قلنا عن الجسم: إنه ساخن، ولأننا لا نستطيع أن نلمسه فإن الساخن بدرجة 60 لا يختلف - في ضوء النظرة الكيفية - عن الساخن بدرجة 600، ولكن التحديد الكمي والرياضي هو الذي يمكنا - مع الاستعانة بأجهزة القياس المرتبطة به - من تحديد الدرجات التي تعجز الحواس البشرية عن التعبير عنها، كما يعبر عن الفوارق الجزئية الضئيلة التي لا تستطيع حواسنا العادية تمييزها.
ولنذكر أخيرا - في صدد صفة التجريد هذه - أن هذه الصفة - التي يبدو أنها تباعد بين العلم وبين الحي الملموس - هي التي تكسب الإنسان مزيدا من السيطرة على هذا الواقع، وتتيح له فهما أفضل لقوانينه؛ فالعلم المعاصر الذي تبدو كتبه وأبحاثه كما لو كانت تعيش متقوقعة في عالمها الخاص المليء بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية. هذا العلم هو الذي يتمكن - عن طريق هذه الرموز المجردة ذاتها - من أن يقدم إلينا في كل يوم كشفا واختراعا جديدا يجعلنا نسيطر على نحو أفضل على ظروف معيشتنا، ويرفع مستوى حياتنا اليومية ذاتها بلا انقطاع، وتلك هي الصفة الفريدة حقا في العلم؛ أن طريقته في السيطرة على العالم الملموس والتغلغل فيه هي أن يبتعد عنه ويجرده من صفاته العينية المألوفة.
الفصل الثاني
عقبات في طريق التفكير العلمي
العلم ظاهرة متأخرة في تاريخ البشرية، وسواء أكنا من القائلين بأن العلم - بمعناه الصحيح - ظهر منذ أربعة قرون في عصر النهضة الأوروبية، أو بأنه يرجع إلى العصر اليوناني القديم حين اهتدى الإنسان - لأول مرة - إلى منهج البرهان النظري والمنطقي على قضاياه، أو حتى إلى الحضارات الشرقية الأقدم عهدا التي تركت لنا تراثا يدل على وجود معارف متراكمة لديها تستحق اسم العلم. أقول: إننا سواء أكنا من القائلين بهذا الرأي أو ذاك، فلا بد لنا من الاعتراف بأن البشرية عاشت قبل ذلك عشرات الألوف من السنين دون أن يتكشف نشاطها عن تلك الظاهرة التي نطلق عليها اسم العلم، ولو كنا ممن يتقيدون بالمعنى الدقيق لكلمة العلم، ويشترطون لكي تكون المعرفة علما أن تكون قد اكتسبت مناهج منضبطة تجمع بين الملاحظة الدقيقة والفرض العقلي والتجريب التطبيقي، وتصطنع الرياضة لغة للتعبير عن قوانينها؛ لوجب علينا عندئذ أن نشبه البشرية بإنسان عاش سبعين سنة من عمره أميا، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلا في اليومين الأخيرين من حياته!
بل إننا نستطيع أن نقول إن البشرية - منظورا إليها ككل - ما زالت بعيدة عن اكتساب جميع سمات التفكير العلمي، وما زال هذا التفكير يقتصر فيها على مجتمعات معينة، وحتى في هذه المجتمعات يتعرض العلم لتشويهات عديدة قد تظهر حتى بين المتخصصين فيه.
فهل يعني ذلك أن العقل الإنساني ظل خلال هذا التاريخ الطويل خاملا؟ من المؤكد أن الوعي والتفكير العقلي والنشاط الروحي لم تتوقف لحظة واحدة طوال تاريخ الإنسان، بل إنها تكاد تكون مرادفة لهذا التاريخ؛ فمنذ أبعد العصور أنتج الإنسان فنونا كان بعضها رفيعا، كما أنتج أشعارا وحكما، وعرف العقائد والشرائع وكون لنفسه نظما اجتماعية وأخلاقية، أي إن عقله يعمل بلا انقطاع، فلماذا إذن لم ينتج العلم إلا في وقت متأخر؟
Unknown page
لقد آثر الإنسان - طوال الجزء الأكبر من تاريخه - ألا يواجه الواقع مواجهة مباشرة، وأن يستعيض عنه بأخيلته أو صوره الذاتية، وهذا أمر لا يصعب فهمه؛ إذ إن المواجهة المباشرة للواقع فيها صعوبة ومشقة، وتحتاج منه إلى بذل جهد كبير، وعليه أن يروض ذاته على اطراح ميولها الخاصة جانبا، وقبول الظواهر على ما هي عليه، ثم استخلاص القانون الكامن من وراء هذه الظواهر، وهو أمر يقتضي مستوى عاليا من التجريد. وهكذا يمكن القول: إن اتجاه الإنسان نحو العلم ينطوي على قدر كبير من التضحية؛ التضحية بالراحة والهدوء والاستسلام للخيال السهل الطليق، كما ينطوي على عادات عقلية فيها قدر كبير من الصرامة والقسوة على النفس. ولقد قال البعض: إن العلم لم يبدأ إلا مع «الرياضة»، وأحسب أن هذه العبارة تغدو أبلغ وأدق في التعبير عن البداية الحقيقية للحلم لو فهمنا لفظ «الرياضة» هذا، لا بمعنى أنه علم الأرقام والكم فحسب، بل أيضا بالمعنى النفسي والأخلاقي؛ أي بمعنى رياضة «الروح أو النفس» على اتباع نهج شاق من أجل فهم الظواهر بالعقل والمنطق الدقيق.
وبعبارة أخرى فإن العلم يظهر منذ اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون، ومثل هذا القرار ليس عقليا فحسب، بل هو بالإضافة إلى ذلك - وربما «قبل» ذلك - قرار معنوي وأخلاقي، ولا بد للعقل البشري أن يكون قد تجاوز مرحلة الطفولة - التي نصور فيها كل شيء وفقا لأمانينا - إلى مرحلة النضج التي تتيح لنا أن نعلو على الخلط بين الواقع والحلم أو الأمنية، وهذا مستوى لا يصل إليه الإنسان إلا في مرحلة متأخرة من تطوره.
أما قبل هذه المرحلة فكان من الطبيعي أن يستعيض الإنسان عن العلم بالحلم، دون أن يدري أنه يحلم. وكان من الطبيعي أن تظل البشرية كلها - طوال ألوف عديدة من السنين وفي جميع أرجاء الأرض بلا استثناء - مبتعدة عن رؤية الواقع وفهمه على ما هو عليه. وخلال هذه الفترة «الحالمة» كان الأدب والفن هما المظهر الرئيسي لنشاط الإنسان الروحي. وفي الآداب والفنون يهتم الإنسان بمشاعره الذاتية أكثر مما يهتم بالعالم المحيط به، وإذا اتجه إلى هذا العالم الخارجي فإنما يتجه إليه من خلال أحاسيسه الخاصة وميوله الذاتية، فلا يرى إلا مرآة تنعكس عليها انفعالاته وعواطفه.
بل إننا نستطيع أن نقول إن الفلسفة ذاتها - حين سارت في طريقها الخاص بوصفها نشاطا عقليا خالصا عند اليونانيين - كانت تهتم باتساق بنائها الداخلي، وبتماسك التركيب العقلي الذي يكونه الفيلسوف أكثر مما تهتم بالعالم الواقعي، وهذه سمة يمكن استنتاجها بوضوح مما عرضناه من قبل عن الصفات المميزة للعلم النظري (المختلط بالفلسفة) عند اليونانيين، وحين كانت الفلسفة تتحدث عن عالم الواقع كانت في معظم الأحيان تصفه بأنه خداع، بل تعد الحواس خداعة؛ لأنها تختص بإدراك عالم مادي من طبيعته ألا يكون موضوعا لمعرفة صحيحة.
وهكذا ظل الإنسان طويلا يستعيض عن العلم بخيالاته وانفعالاته وحدسه وأفكاره المجردة، ولم يصطنع منهجا يتيح له الاتصال المباشر بالواقع عن طريق الجمع بين العقل والتجربة إلا في مرحلة متأخرة من تاريخه، فلا بد إذن أن عقبات أساسية حالت دون تحقيق هذا الاتصال المباشر بين الإنسان والعالم عن طريق العلم، ولا بد أن الإنسان قد بذل جهودا كبيرة حتى استطاع أن يسيطر على عقله؛ ومن ثم يسيطر على العالم، ولا بد أن تاريخ النشاط الروحي والعقلي للإنسان كان تاريخا للأخطاء والأوهام التي تغلب عليها الإنسان بمشقة بقدر ما كان تاريخا لحقائق اكتسبت بالتدريج، فما هي هذه العقبات التي أخرت ظهور العلم، والتي لا تزال تشوه صورة المعرفة العلمية حتى يومنا هذا عند فئات كثيرة من البشر؟ (1) الأسطورة والخرافة
ظلت الأسطورة تحتل المكان الذي يشغله العلم الآن طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.
وترجع أسباب انتشار الفكر الأسطوري إلى أنه كان يقدم - في إطار بدائي - تفسيرا متكاملا للعالم؛ فالأساطير القديمة تعبر عن نظرة الشعوب التي اعتنقتها إلى الحياة والطبيعة والعالم، وتقدم تفسيرا يتلاءم مع مستوى هذه الشعوب ويرضيها إرضاء تاما، وهي - فضلا عن ذلك - تجمع بين الطبيعة والإنسان في وحدة واحدة، يزول فيها الحد الفاصل بين هذا وذاك، بحيث يبدو العالم متلائما مع غايات الإنسان محققا لأمانيه، وهي - كما قلنا منذ قليل - سمة رئيسية من سمات الفكر غير الناضج في عصور طفولة البشرية.
ومن الصعب أن يضع المرء حدا فاصلا دقيقا بين الأسطورة والخرافة، ولكن لو شئنا الدقة لقلنا: إن التفكير الأسطوري هو تفكير العصور التي لم يكن العلم قد ظهر فيها بعد، أو لم يكن قد انتشر إلى الحد الذي يجعل منه قوة مؤثرة في الحياة وفي طريقة معرفة الإنسان للعالم؛ فالأسطورة - كما قلنا - كانت تقوم بوظيفة مماثلة لتلك التي أصبح يقوم بها العلم بعد ذلك، وكانت هي الوسيلة الطبيعية لتفسير الظواهر في العصر السابق على ظهور العلم، أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، أو يلجأ - في عصر العلم - إلى أساليب سابقة على هذا العصر، وقد لا يكون هذا التحديد للفارق بين لفظي: «الأسطوري» و«الخرافي» دقيقا كل الدقة، ولكنه يفيد على أية حال في التمييز بين هذين اللفظين اللذين يختلطان - في كثير من الأحيان - في أذهان الناس. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك فارقا آخر، هو أن الأسطورة غالبا ما تكون تفسيرا «متكاملا» للعالم أو لمجموعة من ظواهره، على حين أن الخرافة «جزئية» تتعلق بظاهرة أو حادثة واحدة. ففي العصور البدائية والقديمة كانت الأسطورة تمثل نظاما كاملا في النظر إلى العالم والإنسان، وكان هذا النظام يتسم - في كثير من الأحيان - بالاتساق والتماسك الداخلي، أما الخرافات فتتعلق بالتفاصيل، وهي قد تكون متعارضة أو متناقضة فيما بينها؛ لأن أحدا لا يحاول أن يوفق بين الخرافات المختلفة ويكون منها نظاما أو نسقا مترابطا، ومع ذلك فمن الواجب أن نعترف بأن اللفظين يستخدمان في أحيان كثيرة بمعنى واحد أو بمعنيين متقاربين، وإن كانت الدقة العلمية توجب التمييز بينهما.
وأهم مبدأ ترتكز عليه الأسطورة هو المبدأ الذي يعرف باسم «حيوية الطبيعة»
Animism ، والمقصود بهذا المبدأ هو أن التفكير الأسطوري يقوم أساسا على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة؛ بحيث تسلك هذه الظواهر كما لو كانت كائنات حية تحس وتنفعل وتتعاطف أو تتنافر مع الإنسان. ولو فكرنا مليا في أية أسطورة فسوف نجدها تعتمد على هذا المبدأ اعتمادا أساسيا؛ فأسطورة إيزيس وأوزوريس - التي كان المصريون القدماء يفسرون بها فيضان النيل - هي إضفاء لطابع الحياة ولانفعالات الأحياء على ظاهرة طبيعية هي الفيضان، وأسطورة خلق العالم على يد سلسلة الآلهة التي تبدأ من زيوس - عند اليونانيين - تقوم على هذا المبدأ نفسه؛ إذ يكون لكل جزء من الطبيعة إله خاص به، ويسلك هذا الإله سلوكا مشابها لسلوك البشر، وقل مثل هذا عن أية أسطورة عند أي شعب قديم أو بدائي.
Unknown page
ولكي ندرك مدى الاختلاف بين هذه النظرة الأسطورية إلى العالم وبين النظرة العلمية الحديثة، ينبغي أن نشير إلى أن مطلب العلم - في الوقت الحاضر - هو المطلب المضاد؛ فعلى حين أن الأسطورة تفسر غير الحي عن طريق الحي؛ فإن العلم يسعى إلى تفسير الحي عن طريق غير الحي؛ أي إن العلم يحاول أن يجد لظواهر الحياة تفسيرا من خلال عمليات فيزيائية وكيميائية، وقد يتفاوت نصيبه في النجاح من مجال إلى آخر، ولكن ما يهمنا هو الهدف الذي يقف على النقيض من هدف التفسير الأسطوري للظواهر.
ولقد كان من الطبيعي أن يسود هذا النوع من التفسير الأسطوري في عصور طفولة البشرية؛ إذ إن أول ما يتوقع من الإنسان حين يحاول أن يفهم العالم المحيط به هو أن يفهمه في ضوء الحالات التي يمر بها هو ذاته؛ لأن المشاعر والانفعالات هي أمور نحس بها في أنفسنا مباشرة، ولا تحتاج إلى تعليم أو تدريب خاص، ومن هنا فقد كان طبيعيا أن يصبغ الإنسان - في أول عهده بالمعرفة - ظواهر الطبيعة بصبغة تلك الأحاسيس والخبرات التي يشعر بها في نفسه شعورا مباشرا، فيتصورها كما لو كانت تنفعل وتفرح وتغضب وتحب وتكره مثله. وهكذا علل البشر كسوف الشمس في إطار التفسير الأسطوري بأن الشمس غاضبة أو بأنها «مكسوفة» (كما تغطي المرأة وجهها حين «تنكسف»)، وما زال لأمثال هذه التفسيرات وجوده في مجتمعاتنا الشرقية حتى اليوم.
ومن الجدير بالذكر أن مبدأ «حيوية الطبيعة» - الذي قلنا إن الفكر الأسطوري كله يرتكز عليه - ظل عقبة في طريق العلم في أوروبا ذاتها حتى القرن الثامن عشر على الأقل إن لم يكن بعد ذلك؛ فقد كانت ظاهرة الكهرباء تعد دليلا على وجود مبدأ حيوي يتغلغل في الأجسام غير الحية، كذلك كانت المغناطيسية تعد مظهرا لوجود الحياة في الطبيعة،
1
بل إن بعض علماء أوروبا المشهورين ظلوا - حتى القرن الثامن عشر - يقولون بإمكان الاهتداء إلى ذكور وإناث في المعادن، وكان ذلك يبعث في نفوسهم أملا كبيرا في أن يأتي اليوم الذي يكتشف فيه الذهب المذكر والذهب المؤنث، حتى يمكن تحقيق «التكاثر» في هذا المعدن النفيس! بل إن كفاح العالم الفرنسي الكبير «باستير»
ضد مبدأ التولد التلقائي
generation spontanée
وهو المبدأ الذي كان يعتقد وفقا له أن الكائنات الحية الدقيقة - كالديدان وغيرها - تتولد في بعض الأجسام الطبيعية «تلقائيا» دون أن تكون قد تولدت عن كائنات حية مماثلة. أقول: إن هذا الكفاح المرير الذي خاضه «باستر» ضد أكبر علماء عصره يدل على أن بقايا مبدأ «حيوية الطبيعة» ظلت راسخة في أذهان العلماء الأوروبيين حتى وقت متأخر من القرن التاسع عشر، ولا يعني ذلك أن العلم الأوروبي كان متخلفا أو متوقفا عند مرحلة بدائية، بل إن هناك كشوفا عظيمة كانت تتحقق منذ القرن السابع عشر، وكل ما تعنيه هو أن كشف الحقائق العلمية يتم - في كثير من الأحيان - في إطار تكتنفه كثير من عناصر الخطأ.
ولعل من أوضح الأدلة على أن الفكر الأسطوري ظل محتفظا بمكانته فترة أطول مما ينبغي: استمرار ذلك النوع من التعليل المسمى بالتعليل «الغائي»
Teleological
Unknown page
للظواهر، أعني تفسير ظواهر الطبيعة من خلال «الغايات» التي تحققها هذه الظواهر للبشر، فنحن نتصور - مثلا - أن الشمس تطلع كل صباح لكي تدفئ أجسامنا، وأن القمر والنجوم تظهر كل مساء لكي تنير أو تهدي التائهين منا في الليل. ونحن نعتقد أن المطر ينزل لكي يروي الزرع، وأن رقبة الزرافة طويلة لكي تستطيع أن تصل إلى أوراق الأشجار الحالية وتتغذى بها. وهكذا نتصور أن للحوادث الطبيعية أغراضا وغايات، ونعتقد أن التفسير الحقيقي لهذه الحوادث إنما يكمن في تلك الأغراض والغايات.
وإذا كان مبدأ «حيوية الطبيعة» - أي وصف الطبيعة بصفات الكائنات الحية ولا سيما الإنسان - هو - كما قلنا من قبل - المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الأسطوري، فمن السهل أن ندرك أن فكرة «الغائية» في تفسير الطبيعة إنما هي تطبيق مباشر لهذا المبدأ أو امتداد له؛ ذلك لأن الغايات تقوم بدور أساسي في عالم الإنسان، وهي في هذا العالم تؤدي وظيفة طبيعية لا يستطيع أحد أن يزعم بأنها تتعارض مع العلم؛ فالإنسان يوجه سلوكه بالفعل نحو غايات معينة؛ أي إنه يستذكر دروسه لكي ينجح، ويطهو الطعام لكي يأكل، ويخرج إلى الشارع لكي يتنزه. ولو سألت هذا الشخص في الحالات السابقة: لماذا ذاكرت؟ أو لماذا خرجت ... إلخ؟ لكان الجواب الطبيعي: لكي أفعل كذا. أي إن التعليل الطبيعي لتصرفاتنا - في هذه الحالات - يأتي عن طريق الإشارة إلى الغاية منها. ومن هنا كان للغائية دور أساسي في المجال البشري، وكان من الممكن تحليل كثير من أفعال الإنسان عن طريق الغايات المقصودة منها.
ولكن الخطأ الذي وقع فيه المفكرون والعلماء أنفسهم أحيانا - خلال عصور طويلة ماضية - هو أنهم نقلوا هذه الفكرة بحذافيرها من مجال الإنسان إلى مجال الطبيعة، وتصوروا أن الحوادث الطبيعية يمكن تعليلها بغاياتها، قياسا على ما يحدث في عالم الإنسان. وهكذا فإنك إذا سألت: لماذا يسقط المطر؟ كان رد أنصار التفكير الغائي هو: لكي يروي الزرع. وإذا سألت: لماذا يحدث الزلزال أو الفيضان؟ كان الرد: لكي يعاقب أناسا ظالمين. وهكذا يتصور هؤلاء أن مسلك الطبيعة مماثل لمسالك الإنسان، فيقعون بذلك في شرك التفكير الأسطوري.
والواقع أن الطبيعة لا تعرف «غايات» بالمعنى الذي نفهم به نحن هذا اللفظ، بل إن حوادثها تحكمها الضرورة فحسب، ولا يحدث فيها شيء - كسقوط المطر أو وقوع فيضان ... إلخ - إلا إذا توافرت الأسباب الطبيعية المؤدية إليه، وعندما تتوافر هذه الأسباب يكون حدوث الظاهرة أمرا حتميا. أما الغايات فإننا نحن الذين نخلقها، ونستغل من أجلها حوادث الطبيعة؛ فنحن قد وجدنا المطر بالفعل ثم اكتشفنا بالتجربة فائدته في ري الزرع، فخلقنا هذه الغاية له، أما المطر ذاته فكان سيسقط سواء روينا به زرعنا أم لم نروه، وقس على ذلك بقية الحالات.
والدليل الواضح على إخفاق التعليل الغائي للظواهر الطبيعية، هو أن هذا التعليل كثيرا ما يتخبط ويتناقض؛ ففي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن المطر يسقط من أجل ري زراعته، يرى البعض الآخر أنه يسقط لكي يروي ظمأه أو ظمأ ماشيته، ويرى غيرهم أنه يسقط لكي يصنع بركة يستحم فيها، بينما يرى صاحب الكوخ الهش أن سقوط المطر نقمة عليه، وحتى الفيضان أو الزلزال - الذي يبدو أنه لا يمكن أن يفسر إلا بأنه نقمة - لا يصيب الأشرار وحدهم، وإنما تضيع فيه أرواح بريئة كما تضيع فيه أرواح آثمة، بل إن الأرواح البريئة - كما في حالة الأطفال والمسنين مثلا - ربما كانت أكثر تعرضا للضياع فيه من الأرواح الآثمة ... هذا فضلا عن أن حادثا مؤلما كهذا لا يخلو من النفع لبعض الناس، كمتعهدي نقل الموتى مثلا! وهكذا تتباين الغايات التي يمكننا أن ننسبها إلى الظاهرة الواحدة حسب مصالحنا ووجهات نظرنا الخاصة، ويتضح لنا أن تفسير ظواهر الطبيعة على أساس غايات مستمدة من المجال البشري هو تفسير باطل لا يخلو من التخبط والتناقض؛ ولذا لم يكن من المستغرب أن يتخلى التفكير العلمي عن فكرة «الغائية» ويعدها امتدادا للطريقة الأسطورية في فهم العالم، وإن يكن التفسير الغائي للظواهر أشد خفاء وأصعب تفنيدا من التفسير الأسطوري المباشر.
وهكذا أصبح العلم يقتصر - في فهمه للظواهر الطبيعية - على الأسباب التي تؤدي إلى حدوث هذه الظواهر؛ أي على ما يطلق عليه اسم «العلل أو الأسباب الفاعلة»، وهي الشروط الضرورية التي لا يحدث الشيء إلا إذا توافرت، ولا بد إذا توافرت من أن يحدث الشيء. وهذا النوع من الأسباب يتعلق بالمقدمات التي تمهد لحدوث الظاهرة، والتي تسبقها في الزمان، أي إن الماضي هو الذي يتحكم في الحاضر في حالة الظواهر الطبيعية، أما في حالة الظواهر البشرية - التي يمكن أن يكون للغايات وجود فيها - فإن «المستقبل» أيضا، بالإضافة إلى الماضي، يمكن أن يكون سببا للأحداث؛ فالإنسان لا يتصرف بناء على سوابق ماضية فحسب، بل يتصرف أيضا لأنه يخطط لهدف أو لمشروع في المستقبل، ولكن هذه صفة ينفرد بها الإنسان ولا تعرفها الطبيعة، وربما كانت هي التي أعطت الإنسان مركزه الفريد في الكون.
على أنه إذا جاز لنا أن نقول إن الفكر الأسطوري - في مجمله - قد اختفى باختفاء العصر الذي كانت فيه الأسطورة تحل محل العلم، فإن الفكر الخرافي ظل يعايش العلم فترة طويلة، وما زال يمارس تأثيره على عقول الناس حتى يومنا هذا. ولقد عاشت البشرية أمدا طويلا وهي حائرة بين الخرافة والعلم؛ لأن الخط الفاصل بينهما لم يكن في البداية واضحا كما هو اليوم، وخلال هذه الفترة كانت الأمور مختلطة ومتداخلة، وكان كثير من العلماء يجمعون بين عناصر من الخرافة وعناصر من البحث العلمي في مركب واحد لا يشعرون بأنه ينطوي على أي تنافر.
ولنضرب لذلك مثلا من ميدان التنجيم وعلم الفلك؛ فممارسة التنجيم كانت تتطلب معرفة واسعة بالحقائق الفلكية، و«الأبراج» التي يقول المنجمون إنهم يعرفون بها الطالع هي أشبه ما تكون بخريطة كبرى للسماء، تضم كثيرا من المعلومات الفلكية الصحيحة. واسم التنجيم ذاته يفترض معرفة بالنجوم، ومن ثم كان تداخله مع علم الفلك، بل إن كبار الفلكيين كانوا في الوقت ذاته منجمين، وهذا ينطبق على العصور القديمة والعصور الوسطى الإسلامية والأوروبية، بل وعلى أوائل العصر الحديث أيضا. فحتى كبلر ذاته - أعني ذلك العالم الألماني العظيم الذي حدد المدارات البيضاوية للكواكب واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلكية الرياضية - كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد أن ممارسته له تتعارض على أي نحو مع عمله العلمي الدقيق. بل إن السعي إلى جعل التنجيم والتنبؤ بالطالع أدق ربما كان واحدا من أهم الأسباب التي حفزت العلماء على الاشتغال بعلم الفلك، والتي جعلت هذا العلم - الذي يتناول ظواهر تبدو بعيدة كل البعد عن اهتمام الإنسان على هذه الأرض - يصبح واحدا من أقدم العلوم البشرية عهدا ومن أدقها منهجا، ولولا أن الحكام كانوا يحرصون على معرفة طالعها، ويستشيرون المنجمين في قراراتهم الهامة لما أولوا علم الفلك ذلك الاهتمام وقدموا إليه ذلك التشجيع الذي أدى إلى نهوضه منذ وقت مبكر.
ولدينا مثل آخر في ظاهرة السحر، فقد تداخلت الممارسات السحرية مع الممارسات العلمية وقتا طويلا، وبالرغم من أن السحر كان مبنيا على معتقدات خرافية لا صلة لها بالعلم، فقد كان السحرة يلجئون، في كثير من الأحيان، إلى التعامل مع مواد الطبيعة وعناصرها على نحو يؤدي بهم إلى الكشف عن كثير من أسرارها، مما دعا بعض مؤرخي العلم إلى النظر إلى السحر بوصفه ممهدا للعلم التجريبي ولعلوم الكيمياء والأحياء بوجه خاص. ومع ذلك فقد نشبت معركة حامية بين العلم والسحر في مطلع العصر الأوروبي الحديث، ولم يكن رجال الكنيسة بمعزل عن هذه المعركة، وإن كانوا قد وقفوا موقفا معاديا للطرفين معا؛ فالسحرة في نظرهم تتقمصهم أرواح شريرة؛ ومن ثم كان من الواجب حرقهم. أما العلماء فهم ينادون بتعاليم مضادة لما تقول به الكنيسة، ومن ثم فمن الواجب اضطهادهم، وفي بعض الأحيان كان العلماء يتهمون بالسحر؛ حتى تكون إدانتهم أيسر، وبالفعل راح عدد غير قليل من الباحثين في العلوم الحديثة ضحية الاتهام بالسحر.
على أن هذا التداخل والاختلاط بين النظرة الخرافية والنظرة العلمية لم يدم وقتا طويلا، بل إن معالم النظرتين قد أخذت تتضح بالتدريج، وبدأت الطريقة العلمية في النظر إلى الأمور تثبت تفوقها الساحق على الطريقة الخرافية؛ وذلك لسببين؛ أولهما أن فهم قوانين الطبيعة من خلال العلم يتيح للإنسان سيطرة حقيقية على ظواهرها، ويمكنه من تغيير مجرى حوادثها لصالحه، على حين أن النظرة الخرافية تجعله يقف من الطبيعة موقفا سلبيا عاجزا، وحين بدأت ثمار التطبيقات العلمية تصبح متاحة للجميع، وأثبت العلم - بطريقة ملموسة - قدرته على السيطرة على الطبيعة بطريقة لا يحلم بها الساحر ذاته، لم يعد هناك مبرر لبقاء الطريقة السحرية الخرافية.
Unknown page
أما السبب الثاني فهو أن العلم قد أثبت أن نتائجه مضمونة يمكن التنبؤ بها، على حين أن نتيجة السحر الخرافية غير مضمونة على الدوام، فحين يدرس العالم ظاهرة معينة ويتوصل إلى العوامل المتحكمة فيها يستطيع أن يضمن استخدامها لصالح الإنسان بطريقة معلومة مقدما، أما إذا واجه هذه الظاهرة عن طريق أحجبة أو تعاويذ سحرية، فقد يصل إلى النتيجة المطلوبة مرة، ولا يصل إليها عشرات المرات، والأدهى من ذلك أنه لن يكون قادرا حتى على التنبؤ بالحالة التي سيكون سحره فيها فعالا، وسط عشرات الحالات التي يعجز فيها هذا السحر. وهكذا آثر الإنسان العلم؛ لأنه اكتسب ثقة في نتائجه، ولم يعد الناس يلجئون إلى الخرافات - في معظم الأحيان - إلا في الحالات التي لا يكون العلم فيها قد أحكم قبضته على الظواهر، كما في حالة الإصابة بمرض عضال لم يستطع العلم بعد أن يكتشف علاجا له.
والواقع أن هذه الحقيقة الأخيرة تشير إلى سمة هامة من سمات التفكير الخرافي؛ فقد ذكرنا أن نتائج السحر أو الخرافة غير مضمونة، وأنها في مقابل كل مرة تنجح فيها تخفق عشرات المرات، ومع ذلك فإن من أهم أسباب استمرار هذا اللون من التفكير: اتجاه العقل البشري إلى التعميم السريع، حيث يؤمن بفاعلية السحر أو الخرافة بناء على نجاح أمثلة قليلة جدا (وهو قطعا نجاح تحقق بالصدفة)، دون أن يختبر الحالات الكثيرة الأخرى التي أخفق فيها هذا الأسلوب؛ فنحن نقول عن فلان أو فلانة (وغالبا ما تكون «فلانة»): إن أحلامها لا تخيب، وإن لديها القدرة على رؤية حوادث مقبلة في الأحلام؛ لمجرد أنه حدث مرة أو مرتين أن تحقق شيء رأته في حلم، ولو سلمنا بأن هذا حدث (مع أنها ربما كانت قد روت هذا الحلم - بحسن نية - «بعد» وقوع الحادث، بحيث يبدو لها أنها حلمت به، وربما لم تكن تذكر بدقة ما حدث في الحلم، وربما كانت مشغولة بهذا الحادث مدة طويلة وتتوقع حدوثه لوجود مقدمات تدل عليه). فلنتذكر أننا نسقط من حسابنا ألوف الأحلام التي حلمت بها صاحبة «الرؤية التي لا تخيب»، والتي لم يتحقق منها شيء، وكل ما يعلق في ذهننا هو تلك الأحلام القليلة التي «تصادف» أنها تحققت.
ولما كان التركيز ينصب على الحالات القليلة التي تحققت، فإن الناس «يعممون» الحكم بحيث ينطبق على «جميع الحالات»، وعلى هذا النحو تنمو لدى الناس وتنتشر أسطورة صاحبة الرؤية الصادقة أو بصيرة عراف يستشف المستقبل ... إلخ.
والواقع أن ظاهرة الفكر الخرافي أعقد من أن تكون مجرد بقية من بقايا عصور ماضية، يستطيع العلم في مسيرته الظافرة أن يكتسحها ويمحو جميع آثارها؛ ذلك لأن الفكر الخرافي يظل متأصلا في أذهان كثير من الناس حتى في صميم عصر العلم، ويظل منتشرا بين الناس حتى في أكثر المجتمعات تمسكا بالتنظيمات العلمية. فالعلم والخرافة - وإن كانا ينتميان إلى عصرين مختلفين - يظلان متعايشين في نفوس البشر أمدا طويلا، وكأنهما طبقتان جيولوجيتان متراصتان الواحدة فوق الأخرى في الجبل الواحد، وكل منهما ترجع إلى زمن مختلف،
2
بل إن الشخص الذي نال من التعليم حظا رفيعا قد يظل متمسكا بالفكر الخرافي في كثير من جوانب حياته التي لا يمسها العلم مساسا مباشرا، وهكذا لا يكون اتباعه للمنهج العلمي في المعمل أو المختبر أو جمعه حصيلة ضخمة من المعلومات العلمية؛ لا يكون ذلك عاصما لذهنه من أن يؤمن في جانب من جوانبه بالخرافات، ويرضى بتفسير للظواهر لا علاقة له - من قريب أو بعيد - بالمنهج العلمي الذي يجيد استخدامه.
وهكذا نجد في أكثر المجتمعات تقدما بقايا من التعلق بالخرافة تتمثل في إعطاء مكان الصدارة - في كثير من الصحف - للحوادث التي تبدو خارقة للطبيعة، وفي استمرار ظهور أعمدة صحفية مثل «حظك هذا اليوم»، أو قراءة الطالع من الأبراج، أو التشاؤم من الرقم 13، أو انتشار تعبيرات تحمل معنى خرافيا مثل: «امسك الخشب». إلى آخر هذه المظاهر التي تدل على أن التفكير الخرافي ما زال - في عصر الصعود إلى القمر - متشبثا بكثير من مواقعه.
ولقد ظهرت تعليلات متعددة ومتباينة الاتجاه تفسر استمرار تيار اللامعقول في مساره الخفي تحت سطح العقلانية الظاهرة للمجتمع الحديث، وإصرار الغيبيات على عدم الاختفاء من حياة الإنسان العصري، وربما كانت التعليلات النفسية أكثرها انتشارا، فهنالك من يقولون: إن الأحلام في حياة الإنسان مصدر دائم للخرافة؛ إذ إن الصور الخيالية - غير المترابطة وغير الواقعية - التي تظهر في الأحلام يمكن أن تختلط بالواقع، وتكتسب في حياة الناس طابعا متجسدا يتخذ شكل الخرافة، وربما كان الأصل الأول لكثير من الخرافات راجعا إلى وجود شخصيات مريضة لديها استعداد أكبر للخلط بين الحلم والواقع، ولتأكيد الوجود الفعلي لأشباح وأرواح تراءت لها بإلحاح في منامها. وقد ركزت مدرسة التحليل النفسي عند فرويد جهودها - في هذا الميدان - في بحث تأثير اللاشعور في رؤية الإنسان للواقع، وأسهمت بذلك في استكشاف أسباب استمرار التفكير الخرافي في عصر ينظم الناس حياتهم فيه على أساس من العلم؛ ذلك لأن الخرافة - في ضوء التحليل النفسي - لا تظهر بوصفها شيئا ماضيا لم يعد له في حياة الإنسان مكان، بل تبدو جزءا من التكوين النفسي للإنسان يظل كامنا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروف تصعد به إلى السطح الخارجي.
على أن التعليل المستمد من مجال علم النفس والتحليل النفسي بوجه خاص ربما لم يكن كافيا إلا لإيضاح جانب واحد من جوانب مشكلة استمرار الفكر الخرافي في المجتمع الحديث، فحتى لو سلمنا بالإيضاح الذي تقدمه مدرسة التحليل النفسي، فسيظل علينا أن نعرف تلك الظروف التي تبعث الخرافة من أعماق اللاشعور إلى مستوى التفكير أو السلوك الواعي، ولا بد أن تكون هذه الظروف منتمية إلى طبيعة المجتمع، ونوع القيم السائدة فيه، والعوامل الاجتماعية التي تتحكم في تحديد هذه القيم.
وفي اعتقادي أن الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة واستمرارها، وهذا الشعور يتخذ أشكالا تختلف باختلاف البيئة والعصر، ولكن نتيجته دائما واحدة؛ هي أن يلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قوى لا عقلية تساعده على التخلص من المشكلات التي يواجهها تخلصا وهميا، بدلا من أن تساعده على حلها أو حتى مواجهتها بطريقة واقعية.
Unknown page
ومن الممكن القول: إن شعور الإنسان بالعجز كان يتخذ في العصور القديمة شكل العجز عن الفهم، والقصور في معرفة العالم المحيط به؛ ولذا كان يعلل الظواهر التي لا يفهمها تعليلات خرافية. أما في العصر الحديث - بعد أن توصل الإنسان إلى معرفة تتيح له إجابات علمية عن الأسئلة الأساسية التي كان يعجز من قبل عن فهمها - فإن المسألة لم تعد تتعلق بالعجز عن الفهم أو المعرفة، بل أصبح العجز يتمثل في عدم القدرة على التحكم الواعي في مسار المجتمع، وفي القوى التي تسيطر عليه؛ أي إنه أصبح عجزا اجتماعيا، وهذا ما يعلل استمرار ظهور الفكر الخرافي في مجتمعات لا يمكن القول إن الجهل مخيم عليها، أو إن الفقر يطمس عقول الناس فيها. ففي كثير من البلاد الأوروبية - وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص - تنتشر مظاهر واضحة للتفكير الخرافي، تتمثل في «قراءة الطالع» التي تحدث أحيانا عن طريق أجهزة إلكترونية معقدة (وهو مظهر واضح لتعايش العلم والخرافة معا: الجهاز علمي متقدم، والهدف من استخدامه خرافي متخلف). كما تتمثل في وجود جماعات تمارس أنواعا من السحر (السحر الأسود) والطقوس الغريبة في قلب أغنى المجتمعات الصناعية. والتعليل المعقول لذلك هو أن الناس - برغم ما توافر لهم من معرفة وعلم وما يتمتعون به من مستوى عال للمعيشة - يعجزون عن فهم القوى التي تتحكم في مسار حياتهم، وينظرون إلى المستقبل نظرة قاتمة، ويتصورون أن العالم تشيع فيه قوى شريرة وحتمية كئيبة تفرض على الناس أن يعيشوا في توتر وخوف دائم من المصير المجهول، وهي قوى لا يمكن محاربتها إلا بقوى أخرى من نفس نوعها.
على أن الأمر الذي ينبغي أن نؤكده - في هذا الصدد - هو أن ظاهرة استمرار الفكر الخرافي بأشكال مختلفة - في المجتمعات الصناعية المتقدمة - لا تشكل مع ذلك خطرا داهما على المسار العام لهذه المجتمعات، بل إنها تظل على الدوام ظاهرة هامشية؛ فنوع الحياة التي تسود المجتمع الصناعي، حيث يحسب كل شيء وينظم بدقة وانضباط، وحيث لا يسمح أسلوب الإنتاج السائد بأن تظل هناك عناصر غير محسوبة أو غير متوقعة، وحيث تخضع الحياة اليومية ذاتها لنظام محدد لا مجال فيه للاستثناءات أو الانحرافات. أقول: إن نوع الحياة هذا يشكل ضمانا مؤكدا يعصم المجتمع - في مجموعه - من أضرار التفكير الخرافي مهما كانت درجة انتشاره على مستوى الأفراد أو الجماعات المنعزلة؛ ففي مثل هذه المجتمعات يظل المجرى العام بحياة خاضعا للعقلانية والترشيد والتخطيط المدروس، أما الميول الخرافية فتتخذ شكلا فرديا لا يؤثر على هذا المسار العام.
بل إن من الممكن القول - بمعنى معين - أن الحياة الصناعية المخططة الدقيقة هي ذاتها التي تفرض على مجتمعاتها - من آن لآخر - اللجوء إلى ألوان من التفكير الخرافي. فانتشار الخرافات في هذه البلاد هو في أساسه «رد فعل» على العلم المتغلغل في صميم كيان المجتمع، ومحاولة للتخلص من قبضة تلك العقلانية المحكمة التي تمسك بجميع جوانب حياة الناس، عن طريق بعث عناصر لا عقلية من مكمنها اللاشعوري. إنه تعبير عن تمرد الشعوب الخاضعة للعقل على هذا العقل نفسه، ورغبتها في الخروج عنه، وإن كان ذلك لا يتم إلا بصورة مؤقتة؛ لأنها في النهاية تعود إليه، ولا تستطيع أن تتخلص منه بعد أن أصبحت كل جوانب حياتها تنظم وفقا له. إنها قفزة مؤقتة إلى الماضي البعيد عبر الحاضر، وربما كانت هذه العودة تساعدهم على تحمل الضغط والتوتر الذي تجلبه لهم الحياة الصناعية بإيقاعها السريع ونظمها الحتمية الصارمة. وهكذا يكون التفكير الخرافي - في هذه الحالة - منبثقا من قلب التفكير العلمي والعقلي، ولا يفهم إلا في إطاره. بل إن العودة إلى الماضي السحيق هي في هذه الحالة نتاج للمجتمع الصناعي ذاته؛ إذ إنها تعبير عن الرغبة في «التغيير»، وعدم القدرة على الاستقرار طويلا على حالة واحدة. وهذه الرغبة في التغيير هي ذاتها جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ فمن سمات هذه الحياة أنها تغير إيقاعها بسرعة، وتجدد نفسها باستمرار وترفض الجمود والاستقرار، بل إن الرغبة في التغيير تمتد عندها حتى إلى القيم الأخلاقية والاجتماعية ذاتها؛ ولذلك كان الابتعاد عن العقل والعلم - في ظاهرة الفكر الخرافي - يتم في حالة المجتمعات الصناعية المتقدمة في إطار عصر العقل والعلم واستجابة لمقتضياته. وهو وضع تبدو فيه مفارقة واضحة، ولكنه يعبر بالفعل عن وضع الفكر الخرافي في المجتمعات المعاصرة المتقدمة.
ولقد حرصنا على تأكيد هذه الحقيقة لكي نوضح - بصورة قاطعة - الاختلاف الأساسي بين وضع العالم الشرقي عموما والعربي بوجه خاص، ووضع العالم الصناعي المتقدم بالنسبة إلى موضوع التفكير الخرافي؛ ذلك لأن هناك كثيرين في بلادنا العربية يحاولون التخفيف من تأثير هذه الظاهرة - أعني ظاهرة انتشار التفكير الخرافي في بلادنا - عن طريق الإشارة إلى وجود ظواهر مماثلة في البلاد المتقدمة. ومثل هذه المحاولة للتهوين من شأن الفكر الخرافي والتخفيف من خطره على مجتمعاتنا يعيبها أنها تقف عند حدود السطح الخارجي للظواهر ولا تتغلغل في أعماقها؛ إذ يبدو ظاهريا أن الوضع متشابه في الحالتين (وإن كان مقدار انتشار الخرافات عندنا أعظم بمراحل منه في البلاد المتقدمة)، ولكن الحقيقة أن دلالة الظاهرة مختلفة في الحالتين تمام الاختلاف.
ففي حالة مجتمعاتنا يتخذ التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل، ويمثل هذا العداء امتدادا واستمرارا لتاريخ طويل كان العلم يحارب فيه معركة شاقة لكي يثبت أقدامه في المجتمع، وإذا كان قد بدا خلال فترة قصيرة أن العلم تمكن من تأكيد ذاته في مجتمعنا العربي، فمن المؤكد أن ذلك لم يحدث على مستوى المجتمع كله، وأن العداء للعلم كان هو الغالب في بقية الفترات في تاريخنا. وهكذا فإن انتشار الخرافة يمثل - في حالتنا - تعبيرا عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب. والفرق واضح بين هذا الأسلوب في الفكر الخرافي وبين أسلوب تلك المجتمعات التي مرت بتجربة التفكير العقلي حتى أعلى مراتبها، والتي يحاول بعض أفرادها أن يرتدوا عن هذه التجربة «من موقع الاندماج فيها» لا من موقع الجهل بها أو الخوف منها أو العجز عن تحقيقها؛ أي إن الفرق واضح بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلت سائدة طوال ألوف السنين دون أن يرغب المجتمع في تغييرها أو يجرؤ عليه، وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرا - محدود النطاق - عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدا طويلا على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحالة هي التفكير العقلي الرشيد.
وتلك مسألة نجد لزاما علينا أن ننبه إليها؛ لأن بعض كتابنا - الواسعي الانتشار للأسف الشديد - يرددون نفس الحجج التي يقول بها أنصار التفكير اللاعلمي في الغرب؛ لكي يبرروا بها ابتعادنا - نحن الشرقيين - عن التفكير العلمي وعدم ثقتنا في قدرات العقل، وهذا خطأ كبير ومغالطة أكبر؛ إذ إن دوافعنا في الابتعاد عن التفكير العلمي تختلف كل الاختلاف عن دوافع مجتمع مارس هذا التفكير قرونا عديدة، في الوقت الذي لا نزال فيه نحن نكافح من أجل الدخول لأول مرة في عصر العلم الحديث.
على أننا ينبغي أن نعترف بأن أنصار الخرافة - سواء في بلادنا أم في خارجها - لا يقتصرون على تأكيد هذا النوع «المضاد للعلم» من الخرافات؛ فهناك نوع آخر يدعي الانتساب إلى العلم، ويستند على شواهد يزعم أنها علمية، ويتظاهر أنصاره بأنهم يتبعون مناهج علمية في التحقق منه، ومن هذا القبيل الاعتقاد بوجود قوى خارقة لدى بعض البشر، كالاستشفاف عن بعد
telepathy ، أو الأشكال المختلفة لما يسمى بالحاسة السادسة أو غيرها. وربما وصل الحماس بالبعض إلى حد تأكيد قدرة «العلم» على إثبات «تحضير الأرواح»، وهو للأسف أمر ليس بعيدا عن المألوف بين بعض المشتغلين بالعلم، وكأنهم أصبحوا واثقين من أن الروح «شيء»، وأن هذا الشيء يمكن «تحضيره»؛ أي يمكنه أن يذهب ويجيء، وأن هذا الشيء الذي يذهب ويجيء يستطيع أن «يتكلم»، أو يؤثر في أشياء «مادية» كتحريك أكواب أو إسقاط منضدة. وهذا كله يستحيل لو لم تكن الروح بدورها شيئا «ماديا»، مع أن هذا يتناقض أساسا مع تعريف الروح.
والمهم في الأمر أن هؤلاء الذين يتمسحون بالعلم لتأكيد هذه الخرافات يلجئون إلى أساليب لا تتوافر فيها شروط التجربة العلمية على الإطلاق؛ فالملاحظات التي يعتمدون عليها قليلة غير قابلة للتكرار، مع أن من أهم شروط التجربة في العلم أن يكون من الممكن تكرارها أمام أي عدد من المشاهدين وفي مختلف الظروف، وسواء أكان هؤلاء المشاهدون من المقتنعين أم من غير المقتنعين. ومن المعروف أن شهود هذا النوع من التجارب هم في الأغلب من النوع الذي يتوافر لديه مقدما استعداد لتصديق نتائجها. هذا فضلا عن أن التجارب تتم دائما في جو لا يسمح بالرؤية الواضحة؛ إذ إن الضوء دائما خافت، ولونه أحمر (وهو أكثر الألوان تعتيما للبصر)، والجو العام يجعل الإيحاء بأي شيء ممكنا.
أما إذا ووجه أنصار هذه الخرافات ذات المظهر «العلمي» بحجج قوية تثبت ابتعاد الأساليب التي يلجئون إليها عن أصول المنهج العلمي الصحيح؛ فإنهم يلجئون إلى سهم آخر في جعبتهم، وهو أن منهج العلم الحالي محدود، وأن العلم أصبح الآن يتقبل أشياء كثيرة كان يرفضها من قبل، وأنه - بالتالي - يمكن أن يعترف بهذه الظواهر الخارقة للطبيعة في المستقبل، ومثل هذه الطريقة في التفكير تفتح الباب - كما هو واضح - لكل الخزعبلات المخرفة؛ إذ يستطيع أي دجال أن يؤكد أن العلم إذا لم يكن يقبلها الآن فسوف يقبلها في المستقبل. وواقع الأمر أننا لا نملك إلا هذا المنهج الذي أثبت أنه أفضل ما لدينا من أدوات المعرفة، وأنه مهما كان قاصرا عن بلوغ كثير من الحقائق، فإنه هو أضمن الوسائل لبلوغ «الحقيقة» ذاتها. وإلى أن يتوصل العلم ذاته إلى مناهج وأساليب أخرى أدق، فليس من حق أحد أن يتذرع بالتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه في المستقبل؛ لكي يفرض علينا خرافاته ويربطها زورا بعجلة التقدم العلمي.
Unknown page
فإذا أخفقت محاولات ربط الخرافة بالعلم، فإن أنصارها يلجئون إلى آخر أسلحتهم وأخطرها على التفكير الشعبي، وهو الربط بين الخرافة والدين. وهكذا تراهم يستغلون وجود بعض الحقائق الدينية الغيبية - كالروح مثلا - ووجود بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن السحر والحسد ... إلخ؛ لكي يدافعوا بحرارة عن حقيقة الظواهر الخرافية، مؤكدين أن الدين نفسه يدعمها. ولقد قلت إن هذا السلاح أخطر الأسلحة جميعا؛ لأنه أولا يستغل عمق الإيمان الديني من أجل تأكيد الفكر الخرافي، ولأنه يضع الدين - بلا مبرر - في مواجهة العلم، ويضع عقول الناس في مواجهة الاثنين معا، فتقف حائرة بين عقيدة متأصلة فيها، وبين منهج علمي تثبت صحته على أرض الواقع العلمي في كل لحظة.
وفي اعتقادي أنه ليس هناك ما هو أضر بقضية الدين من هذا الربط بينه وبين الخرافة، ولقد حاولت الكنيسة المسيحية في الغرب - منذ عصر النهضة - أن تسلك هذا الطريق المحفوف بالخطر، فكانت النتيجة هي ما نراه اليوم من انصراف الجماهير في الغرب عن عقيدتها بأعداد كبيرة. والواقع أن الكنيسة كانت في ذلك الحين تواجه تجربة جديدة كل الجدة ، فلم يكن من المستغرب أن ترتكب خطأ مهاجمة العلم بحجة أنه يتعارض مع نصوص دينية (كما في حالة قضية دوران الأرض و«ارتفاع» السماوات مثلا)، ولم يكن من المستغرب أيضا أن تضطهد كثيرا من العلماء اضطهادا معنويا وجسديا، ولكن الحصيلة النهائية لهذا كله كانت انتصار الحقيقة العلمية، واضطرار الكنيسة إلى التراجع عن مواقعها واحدا تلو الآخر، حتى أصبحت تدافع اليوم عن كثير من الأمور التي كان القول بها فيما مضى كافيا لاضطهاد صاحبها على يد الكنيسة ذاتها، ومع كل هذا التراجع فقد خسرت مواقع كثيرة، وأخذ تأثيرها على الأجيال الجديدة يتضاءل باستمرار.
أما نحن هنا في العالم العربي فلسنا مضطرين - على الإطلاق - إلى أن نسلك هذا السبيل المحفوف بالخطر؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ فنحن أولا لسنا أول من يمر بهذه التجربة، بل إن أمامنا تجربة الغرب في موضوع العلاقة بين الدين والخرافة، أو العلاقة بين الدين والعداء للعلم؛ لكي نستخلص منها ما شئنا من العبر. ونحن ثانيا أصحاب دين فسره مفكروه وفلاسفته في صدر الإسلام تفسيرا لا يتعارض مطلقا مع البحث العلمي، بل يدفع الفكر والعلم إلى الانطلاق. ونحن ثالثا نعيش في عصر أصبح فيه الأخذ بالأسلوب العلمي في الحياة مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المجتمع، فلماذا إذن يحاول الكثيرون أن يعيدوا التجربة المريرة للكنيسة الغربية مع الخرافة وضد العلم؟ ولماذا لا تتكاتف الجهود من أجل دعم وتأكيد التفسير الديني الذي يحارب الخرافة ويؤيد العلم؟ هذه مجرد أسئلة أطرحها وأنا لا أملك إلا الدهشة والاستنكار للتراجع المستمر إلى الخلف الذي تتسم به مناقشاتنا لهذا الموضوع في أيامنا هذه؛ فمن المؤسف أننا كنا نناقش هذه الموضوعات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مستوى أعلى بكثير من مناقشتنا لها في هذه الأيام، بعد أن أصبحت صدورنا أضيق واتهاماتنا للمفكرين تلقى جزافا واحترامنا بعضنا لآراء بعض مفقودا. ويبدو أن البعض يصرون على أن يعيدوا محنة الفكر العلمي في عصر النهضة الأوروبية مرة أخرى في بلادنا، ولكن الأمل معقود على أن تسود الحكمة ويغلب التعقل، فندرك أن طريق العلم لا رجوع فيه إلى الوراء، وأن الدفاع عن الخرافة تمسحا بالدين لن يضر قضية العلم كثيرا، ولكنه يسيء إلى قضية الدين إساءة بالغة. (2) الخضوع للسلطة
السلطة هي المصدر الذي لا يناقش، والذي نخضع له بناء على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية، وبأن معرفته تسمو على معرفتنا.
والخضوع للسلطة أسلوب مريح في حل المشكلات، ولكنه أسلوب ينم عن العجز والافتقار إلى الروح الخلاقة. ومن هنا فإن العصور التي كانت السلطة فيها هي المرجع الأخير في شئون العلم والفكر كانت عصورا متخلفة خلت من كل إبداع، ومن هنا أيضا فإن عصور النهضة والتقدم كانت تجد لزاما عليها أن تحارب السلطة العقلية السائدة بقوة، ممهدة الأرض بذلك للابتكار والتجديد.
وأشهر أمثلة السلطة الفكرية والعلمية في التاريخ الثقافي هي شخصية أرسطو؛ فقد ظل هذا الفيلسوف اليوناني الكبير يمثل المصدر الأساسي للمعرفة - في شتى نواحيها - طوال العصور الوسطى الأوروبية؛ أي طوال أكثر من ألف وخمسمائة عام، كذلك كانت كثير من قضاياه تؤخذ بلا مناقشة في العالم الإسلامي؛ حيث كان يعد «المعلم الأول»، وإن كان بعض العلماء الإسلاميين قد تحرروا من سلطته في نواح معينة، ولا سيما في ميدان العلم التجريبي.
والأمر الذي يلفت النظر في ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل أرسطو، أن هذا الخضوع كان يتخذ شكل التمجيد - بل التقديس - لشخصية هذا الفيلسوف، ومع ذلك فقد جنى هذا التقديس على أرسطو جناية لا تغتفر؛ إذ إنه جمده وجعله صنما معبودا، وهو أمر لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهده لاستنكره أشد الاستنكار؛ إذ إن الفيلسوف الحق - وأرسطو كان بالقطع فيلسوفا حقا - لا يقبل أن يتخذ تفكيره - مهما بلغ عمقه - وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية. بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون في عدم تقديسه وفي تجاوزه؛ لأن هذا التجاوز يدل على أنه أدى رسالته في إثارة عقولنا إلى التفكير المستقل على الوجه الأكمل. ومن ناحية أخرى فإن العصور الوسطى لم تأخذ من أرسطو «روح» منهجه التجريبي - الذي حاول الفيلسوف أن يطوره في المرحلة الأخيرة من حياته - بل أخذت منه «نتائج» أبحاثه، واعتبرتها الكلمة الأخيرة في ميدانها، فضاعفت بذلك من جنايتها على تفكيره.
وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل - في بداية العصر الحديث - قاسيا، وهكذا وجدنا فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت يبدآن فلسفتهما بنقد الطريقة الأرسطية التي تقيدت بها العصور الوسطى تقيدا تاما، ويؤكدان أن التحرر من قبضة هذا الفيلسوف هو الخطوة الأولى في طريق بلوغ الحقيقة. وفي ميدان العلم خاض جاليليو معركة عنيفة ضد سلطة أرسطو؛ إذ إن هذه السلطة كانت تساند النظرة القديمة إلى العالم بوصفه متمركزا حول الأرض، كما كانت تقول بنظرية في الحركة مبنية على أسس ميتافيزيقية، وكان لا بد من هدمها لكي يرتكز علم الميكانيكا الحديث على أسس علمية سليمة. وهكذا أخذ جاليليو يتعقب آراء أرسطو في الطبيعة واحدا بعد الآخر، ويثبت - بمنهجه العلمي الدقيق - بطلانها، وبذلك كان تفكيره العلمي في واقع الأمر من أقوى العوامل التي أدت إلى هدم سلطة أرسطو في مطلع العصر الحديث.
وفي استطاعتنا أن نستخلص من هذا المثل - أعني تقديس العصور الوسطى لآراء أرسطو وتفنيد الفلاسفة والعلماء في بداية العصر الحديث لها - أهم عناصر السلطة من حيث هي عقبة تقف في وجه التفكير العلمي، وأهم الدعامات التي ترتكز عليها.
3 (2-1) القدم
Unknown page